سورة الشعراء 026 - الدرس (13): تفسير الأيات (192 – 194)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الشعراء 026 - الدرس (13): تفسير الأيات (192 – 194)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 163 - أنا عند ظن عبدي بي           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 16 - متى تصبح القدس عاصمة الخلافة - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - فضل الدعاء           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 397 - سورة المائدة 028 - 032           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 24 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 15 - معاملةالأسرى في الإسلام - د. راغب السرجاني         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الشّعراء

New Page 1

تفسـير القرآن الكريم ـ سـورة الشّعراء - (الآيات: 192 - 194)

23/10/2011 13:46:00

سورة الشعراء (026)
الدرس (13)
تفسير الآيات: (192 – 194)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
        الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً ، وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً ، وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
إعادة وتذكير :
       أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثالث عشر من سورة الشُّعراء ، في الدرس الماضي أَنْهَيْنا سابع قِصَّة من قصص سورة الشُعراء ، وقبل أن ترِدَ هذه القِصص تِباعًا بدأ ربّنا سبحانه وتعالى السورة بِقَوله الكريم :
 
﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾
[ سورة الشعراء ]
       وبعد أن انتَهَتْ هذه القصص ، قال الله عز وجل :
 
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[ سورة الشعراء ]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ
       الشيء يكتَسِبُ قيمتهُ من نِسْبتِهِ فإذا رأيْتَ كِتابًا مؤلِّفُهُ فلان ، فقيمة الكتاب مِن قيمة فلان ، كلَّما ارْتَفَعَ المقام العِلمي ، وكلّما تألَّق اسم المؤلِّف ، كلّما كان الكتاب أعظم قيمةً ، فما قولك بِكِتابٍ أُضيف إلى خالق الكون ؟ فضل كلام الله على كلام عباده كَفضْل الله على عباده ، فأنت أحيانًا تشتري الكتاب لِسَبب واحد ، هو أنّ فلانًا مؤلِّفهُ ، فكيف إذ كنتَ أمام كتاب من عند خالق السماوات والأرض ؟ قال تعالى :
 
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[ سورة الشعراء ]
فائدة القصص السبع الوارد في سورة الشعراء :
1 - المكذب مصيره الهلاك :
        هذه القصص السَّبع ؛ ماذا أفادَتْنا ؟ أفادتْنا أنّ كلَّ مَن يكفر ، وكلّ من يكذِّب ، وإن كل من يتحدَّى الخالق مصيرهُ الهلاك والدَّمار ، بِشَكل أو بآخر ما الذي أهْلَكَ المُكَذِّبين ؟ جَهلُهم بالله عز وجل ، وهذا الذي أقوله كلّ يوم .
2 – الجهل أعدى أعداء الإنسان :
إنَّ أعدى أعداء الإنسان هو الجهل ، لأنَّ فِطرة الإنسان فطرة مركوز فيها حب الخير ، مركوز فيها الإيمان بالله ، مركوز فيها الانضِباط على أمره ، مركوز فيها التوكّل عليه ، فحينما يؤمن الإنسان بالله عز وجل تَهدأُ نفسُه ، وتطْمئنّ وتستقر وتسْعَد ، وترْضى ، فالفِطرة تُعينك على الإيمان بالله ، وعقلك يُعينك على الإيمان بالله عز وجل ، والكون يُعينك على الإيمان بالله ، والكتاب يُعينك على الإيمان بالله عز وجل ، والأبواب التي فتحها الله عز وجل تُعينُكَ على التَّقرّب إليه ، ما الذي يحول بينك وبين أن تكون سعيدًا في الدنيا والآخرة ؟ إنَّه الجهْل ، لذلك سأرْوِي لكم بعض أقوال العلماء فيما يتعلّق بالعِلم .
3 العلم أساس الإيمان :
       يقول أحد العلماء : العِلم إنْ لم يصْحب السالك من أوَّل قدَمٍ يضَعُهُ في الطريق إلى آخر قدَمٍ ينتهي إليه ، فَسُلوكُهُ على غير الطريق ! وهو مَقطوع عليه طريق الوُصول إلى الله عز وجل ، ومَسْدود عليه سبيل الهُدَى ، فالشيء الوحيد الذي اعْتَمَدَهُ القرآن الكريم كَقِيمة يتفاضل بها العِباد ؛ وهو العِلم ، قال تعالى :
 
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾
[ سورة الزمر ]
     الشيء الوحيد الذي أمرنا الله أنْ نزْداد منه هو العِلم ، قال تعالى :
 
﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
[ سورة طه ]
     إذا أردْت الدنيا فَعَلَيك بالعِلْم ، وإذا أردْت الآخرة فَعَلَيك بالعلم ، وإذا أردْتهما معًا فعليك بالعِلْم ، والعِلم لا يُعْطيك بعضهُ إلا إذا أعْطَيْتَهُ كلَّك ، فإذا أعْطَيْتَهُ بعضك لم يُعطِكَ شيئًا ، ويظلّ المرء عالمًا ما طلب العِلْم ، فإذا ظنَّ أنَّه قد عَلِمَ فقد جَهِلَ ! لا ينْهَ عن العِلْم كما قال بعض العلماء إلا قُطَّاعُ الطُرق ، ونُوَّابُ إبليس !! هذا الذي ينْهاك عن أنْ تفْهَمَ القرآن ، وعن أن تفْهَمَ سنّة النبي العدنان ، هذا الذي يصْرفُكَ عن طلب عِلْم لا خير فيه ؛ لا ينْهَ عن العِلْم إلا قُطَّاعُ الطُرق ونُوَّابُ إبليس .
 
4 – كل الطرق مسدودة على الخَلق إلا طريق النبي عليه الصلاة والسلام :
يقول الإمام الجُنَيْد ـ رحمه الله تعالى ـ وكان من كِبار العلماء : " الطُّرق كلُّها مَسْدودة على الخلق إلا من اقْتَفى أثر النبي عليه الصلاة والسلام " .
       فالطريق التي رسمها النبي عليه الصلاة والسلام هي الوحيدة السالكة إلى الله تعالى ، فمن اقتفى أثر النبي فَطَريقُه سالكة إلى الله عز وجل ، ومن اقْتفى أثر أيِّ إنسانٍ آخر لا علاقة له بالنبي عليه الصلاة والسلام فطَرِيقُهُ مَسْدودة ونحن نُعَبِّرُ أحيانًا عن إخْفاق إنسانٍ ، وعن إحباط عمله ، وعن ضَعْف تَفكيره ، وعن خَيْبة أمله  فنقول : إنّه يَمشي في طريق مَسدود، إذا أردْتَ أن تمشي في طريق سالكة ، وإلى سعادة الدنيا والآخرة فاسْلُكَ سبيل النبي عليه الصلاة والسلام ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعَلَهُ قدْوةً حسنة ، وجعله أسوةً صالحة ، ومثَلاً أعلى .
      وقال عالمٌ آخر : " عِلْمُنا مُقيَّد بالكتاب والسنَّة " ، ومنضبط ، وفيه مقاييس صحيحة ، ففي العالم الإسلامي ملايين مَلايين المَقُولات من قصص وأفكار وعقائد ؛ كُلُّ هذه المقولات يجب أن تُقاسَ بِمِقْياس الكتاب والسنَّة وإلا فهي غير صحيحة ، وهذا مِقْياس دقيق ، يقول لك قائل : كذا وكذا فقُلْ له أين الدليل ؟ هل هناك دليل على قولك من الكتاب والسُنة ؟ إن كان كذلك فعلى العَيْن والرَّأس ، وإن كان هذا الكلام من عندك ويفْتقر إلى الدليل فلا شأن لي به ، ولا أُقيمهُ من أرضه ، عِلمُنا مُقيَّد بالكتاب والسنّة .
5 - لابد للمواقف والأعمال من ميزان :
      عالمٌ آخر يقول : من لم يَزِن أفعاله انزلق ، ولحقه الهوان ، لماذا وَقَفْت هذا الموقف ؟ ولماذا أعْطَيتَ ؟ ولماذا تبسَّمْتَ ؟ ولماذا منعْت ؟ ولماذا غضبْت ؟ ولماذا رضيت ؟ ولماذا وصَلْت ؟ ولماذا قطَعتَ ؟ الإنسان يقف مواقف كثيرة ؛ منها مواقف الرّضا ، ومواقف الغضب ، مواقف العَفْو ، ومواقف الثَّأْر ، ومواقف الاسْتِسْلام ، مواقف العَطاء ، ومواقف المَنْع ، مواقف المديح ، ومواقف الهِجاء ، هذه المواقف الكلاميّة والفِعْليّة والقلبيّة ؛ هذه المواقف يجب أن تزِنَها بِميزان ، من لم يَزِن أفْعالهُ وأحواله يتردَّى ؛ لماذا أنا خائف ؟ مع أنَّ الأمر بيَدِ الله ، إذًا في أحوالي خلل ، ولماذا أنا يائس ؟ مع أنّ الله سبحانه وتعالى بيَدِهُ كلّ شيء ، إذاً هذه الحال التي أُعاني منها فيها خلل ، مَنْ لمْ يَزِن أفعاله وأحواله في كلّ وقتٍ بالكتاب والسنَّة فلا يُعَدُ في ديوان الرِّجال ، فالرَّجُل هو الذي يزِنُ أفعاله ، ويزن أقواله ، ويَزِنُ أحواله في ضَوء الكتاب والسنَّة ، فإن جاءَتْ موافقةً لأوامر الله ، فهو على حق ، وإلا فليسَ اسمه في ديوان الرِّجال .
      ويقول عالمٌ آخر : " من عمِلَ عملاً من بلا اتِّباع سنَة فباطِلٌ عمله " ، أن تقول : فلان قال كذا ، من فلان ؟ هل فلانٌ معصوم ؟ هو غير معْصوم إن كنتَ ناقِلاً فالصِّحَّة ، وإن كنتَ مدَّعِيًّا فالدليل ! ! هذا الذي لا يقتفي أثر النبي عليه الصلاة والسلام فهو في باطلٍ ، وفي ضلال مبين .
6 – حسنُ الأدب والهيبة مع الله تعالى وبالاتباع لرسول الله :
      ويقول بعض العلماء : " الصُّحْبة مع الله عز وجل بِحُسْن الأدَب ، ودوام الهَيْبة والمراقبة " ، فأنت مع الله بِحُسْن الأدب ، ودوام الهَيبة والمراقبة ، وأنت مع رسول الله باتِّباع سنَّتِهِ ، وأنت مع الأولياء بالاحْتِرام والخِدْمة ، وأنت مع الأهل بِحُسْن الخُلق ، وأنت مع إخوتِكَ في الله بِدَوامِ البِشْر ما لم يكن إثْماً ، وأنت مع الجُهّال بالدُّعاء لهم ، وأنت مع النَّفْس بالمُخالفة ، وأنت مع الشَّيْطان بالعَدواة ، وخالف النَّفس والشيطان واعْصِهِما !
      ويقول عالمٌ آخر : " مَنْ رأيْتُموهُ يدَّعِي مع الله عز وجل حالةً تُخْرِجُه عن حدّ العِلْم الشَّرْعي فلا تقربوا منه " ، الله عز وجل جَعَلَ بين أيدينا ميزانًا دقيقًا ، لو تجاهلنا هذا الميزان وأهْمَلْناه ، وعطَّلناه ، لضاعَ الإسلام ، يجب أن يبْقى الإسلام كما بدأ ، وضمان بقائِهِ أن يمْشِيَ المسلمُ على خطٍّ صحيح ، وعلى منهَجٍ قويم وعلى مِقْياسٍ دقيق ، والمِقياس الدقيق هو الكتاب والسنَّة ، وكلّ باطنٍ يُخالف ظاهر الكتاب والسنَّة فهو باطل .
       وابن عطاء الله السَّكَنْدري يقول : " من ألْزَمَ نفْسهُ آداب السنَّة نوَّر الله قلبهُ بِنُور المعرفة" ، ولا مقام أشْرف من مقام متابعة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ؛ في حِلِه وترْحاله ، وفي زواجه ، وفي غضَبِهِ ورِضاه ، وفي رحمته وتواضعه وكرَمِهِ ، في إقْباله على الناس وفي محبَّتِهِم له ، وفي حَضَره ، وفي شَجاعَتِهِ ، ولا مقامَ لِبَني البشر أشْرف من مقام مُتابعة الحبيب عليه الصلاة والسلام ؛ في أوامِرِهِ ونواهِيه وأفعاله وأخلاقه وأقواله وإقراره .
7 – معرفة طريق الحق وسلوك جادتها :
      من علِمَ طريق الحق سَهُل عليه سُلوكهُ ، فالطريق إلى الله طريق مُسْعِدَة ، ولكن أوَّل شيءٍ فيها أن تعرف معالِمَها ، كيف تمشي فيها وأنت لا تعرفها ؟ لابد أن تعرف أنَّ هذا العمل يوصِلُ إلى الله ، وأنَّ معرفة كلام الله تعالى توصِلُ إليه ، وأنّ قِراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تَجعلُكَ أمام المَثَل الأعلى الذي ينْبغي أن تقْتَدِيَ به ، وأنَّ إنْفاق المال يُقَرِّب إلى الله تعالى ، وأنَّ غضّ البصر عن محارِمِ الله يُؤدِّي إلى رِضاء الله عز وجل ، فلا يمكن أن تسْلُكَ الطريق قبل أن تعرفهُ ، لذلك معرفة الطريق إلى الله فرْضُ عَين على كلّ إنسان ، كيف تمشي في الطريق وأنت لا تعرفُه ، يجب أن تعرف الطريق إلى الله ، من علِمَ طريق الحق سَهُل عليه سُلوكهُ :
(( وصدَقة السّرّ تُطْفِئُ غضَب الربّ )) .
(الجامع الصغير عن أبي سعيد بسند صحيح)
 (( وباكِروا في الصَّدَقة فإنّ البلاء لا يتخطَّاها )) .
(الجامع الصغير عن أنس بسند ضعيف)
وفي الحديث :
(( اتَقِ الله حيثما كنت ، وأتْبِع السيِّئة الحسنة تمْحُها ، وخالق الناس بِخُلقٍ حسن )) .
( الترمذي عن أبي ذر )
فإذا عرفْتَ كيف تُعالجُ نفْسَك ؟ وكيف تُقبِلُ على ربّك ؟ وكيف تتلافى أخطاءَكَ ؟ وكيف تتُوبُ من ذنْبِك ؟ كيف يرْضى الله عنك ؟ وكيف لا يرْضى ؟ هذا شيءٌ مهمّ جدًّا ؛ هو فرْضٌ عَيْن ، وشيءٌ خطير ومصيريّ في حياة الإنسان : مَنْ علِمَ طريق الحق سَهُل عليه السُلوك فيه ، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أحواله وأقواله وأفعاله .
8 - ضوابط حال الإنسان :
      الآن هذه الأحوال التي يُحِسُّها الإنسان ، التي يشْعر بها ، يجب أن يكون لها ضابط ، وإلا قد تودي بِصَاحِبها إلى الهلاك ، فيقُول أحد العلماء : أفضَلُ الأحوال ما قارنَهُ العِلم ، فالحال من دون العِلم كالمُحَرّك من دون مِقْوَد ‌‍! فهذه المرْكَبة مصيرها إلى الهلاك ، فلا بدّ أن يكون التَوْجيهُ صحيحًا حتَى نسْتفيد من دَفْع الحال ، الحال يدفَع ، والعِلم يُوَجِّه ، فإذا كان الدافِعُ قَويًّا ، والتَوجيه مُخِلاًّ ، أوْدى بِصاحِبِه إلى الهَلاك ، إذا كان التوجيه صائباً ، وليس هناك دافِع ، بَقيَ الإنسان في أرضِه ، فلا بدّ من دافِعٍ ، ولا بدّ  مُوَجِّه ، العِلْم هو المُوَجِّه ، والحال هو الدافع .
      ويقول بعض العلماء : كلّ حالٍ لا يكون عن نتيجة عِلْمٍ فإنَّ ضَرَرَهُ على صاحِبِه أكثرُ مِن نَفْعِهِ ، فالحال الذي لا يكون نتيجة معرفةٍ بالله ، ونتيجة اسْتِقامة على أمره ، فالحال نتيجة طبيعيَّة لما بُذِلَ في سبيل الله تعالى ، فإذا  لم يكن الحال نتيجةً طبيعيَّة وتاجًا تُتَوَّج به الأعمال الصالحة ، والانضِباط التامّ فإنَّ هذا الحال خَطِرٌ على صاحِبِه .
      والعِلم الحقيقيّ ما قام به الدليل ، والعِلْم النافِع ما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم ، وعِلْمٌ من دون دليل لا قيمة له ، وهذا هَذَيان وتخْريف ، فإلقاء الكلام على عواهِنِه ، وهو كلام غير مسؤول ، وكلامٌ لا ينفعُ ، ولا يُجْدي ، عِلمٌ من دون دليل ، وما كلّ عِلْمٍ بِنافِعٍ ، والعِلْم النافِع ما جاءنا عن النبي عليه الصلاة والسلام ، والعلم ما قام عليه الدليل، والعِلْم النافِع ما جاءنا عن النبي عليه الصلاة والسلام .
      ويقول بعضهم : العِلم خير من الحال ، فالحال فُقاعَة صابون تأتي وتذهب ولا ضابِطَ لها ، ولكنَّ العِلْم حِصْنٌ حصين .
      يا بنيّ : قال الإمام علي كرَّم الله وجْهه : << العِلْم خير من المال ، لأنَّ العلم يحْرُسك ، وأنت تحرْسُ المال ، والمال تنْقصُه النَّفَقَة ، والعِلم يزْكو على الإنفاق ، يا كُمَيل : ماتَ خُزَّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقِيَ الدَّهر ، أعْيانهم مفقودة ، وأمْثالهم في القلوب موجودة >> .
      فالعِلْم خير من الحال ، والعلم حاكم ، والحال محْكومٌ عليه ، والعِلم قائِد ، والحال مَقود ، العلم هادٍ ، والحال تابِع ، والعلم آمر وناهٍ ، والحال منفِّذٌ قابل ، الحال سيْف إن لم يصْحَبْهُ العِلم فهُوَ مِخراقٌ في يد لاعِب ، فالحال من دون عِلم خطير جدًّا ، ومِخْراقٌ في يد لاعِب ، فهؤلاء الذين لا يعْتدُون بالعِلم ، ولا يتأثَرون به ، ولا يُقيمون له وزْنًا ؛ هؤلاء خطيرون في أقوالهم وأفعالهم ، والحال مرْكب لا يُجارى ، ومركب سريع ، فإن لم يصْحَبْهُ عِلمٌ ألقى صاحبَهُ في المهالك .
      والحال كالمال يُؤتاهُ البرّ والفاجر ، فإن لم يصْحَبْهُ نور العِلم كان وبالاً على صاحبِه ، ما أريد مِن كلّ هذه الأقوال إلا أن أُرسِّخَ فِكرةً أساسيّة: أنَّ أعْدى أعداء الإنسان هو الجَهل ، الذي يُردي الإنسان ، ويهْلِكُهُ ، ويُشْقيه هو جهلهُ ، لذا طلب العِلْم فريضة على كلّ مسلِم أيْ على كلّ شَخصٍ مسْلمٍ ذكرًا كان أو أنثى ، وعلى كلّ من اتَّصَف بالإسلام ذُكورًا وإناثًا .
      نَفْعُ الحال لا يتَعَدَى صاحِبَهُ ، النبي عليه الصلاة والسلام رأى إنسانًا يُصَلِّي في النَّهار ، فسأله عليه الصلاة والسلام : من يُطْعِمُكَ ؟ قال: أخي ، قال : أخوك أعبد منك ! لأنّ الحال ينفعُ صاحبَهُ فقط ، لكنَّه جاءهُ رجل يشْكو شريكَهُ فقال عليه الصلاة والسلام : لعلَّكَ تُرْزَقُ به ! لأنَّ شريكهُ كان في طلب العِلْم ، فالذي يطلب العِلْم يطلبُه لِمَجْموع البشر ، بين أن تنتفِعَ وحدَك وبين أن تُصبِحَ أمَّة ، وبين أن تكون فرْدًا وحيدًا بِعِبادتك ، وبين أن تُصبِحَ أمَّةً بِعِلْمِكَ ، لذلك طلب العِلْم فريضة على كلّ مسلم ، فَنَفْعُ الحال لا يتعدَّى صاحبهُ ، ونفْعُ العِلم كالغَيْث يقَعُ على التِّلال والوِهاد ، يقَعُ على الآكام وبطون الأوْدِيَة ، وعلى منابت الشَّجر ، يُغيث كلّ شيء ، العِلم هادٍ ، والحال الصحيح مهْتدًى به ، وهو تَرِكَة الأنبياء ، وإنّ الأنبياء لم يُوَرِثوا دِرْهمًا ولا دينارًا ، ولكن ورَّثُوا هذا العِلْم ، فمن أخذ منه بِنَصيب  فقد أخذَ بِحَظِّ وافر ، واللهُ عز وجل أعطى الملك لِمَن لا يحِبَّه وأعطى المال لِمَن لا يحِبّه ، قال تعالى :
 
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾
[ سورة القصص ]
      ولكنَّ الذي يُحِبُّهُ ماذا أعطاهُ ؟ أعطاه الحكمة والعلم ، قال تعالى :
 
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
[ سورة القصص ]
9 - العلم أعظم الضوابط لحال الإنسان :
       العلم حياة القلوب ، نور البصائر ، وشفاء الصُّدور ، ورياض العقول ، ولذّة الأرواح ، وأُنْس المسْتَوْحِشِين ، ودليل المُتَحَيِّرين ، وهو الميزان الذي توزَنُ به الأقوال والأعمال والأفعال ، وهو الحاكم المفرِّق بين الشكّ واليقين ، والغيّ والرَّّشاد ، والهدى والضَّلال ، به يُعْرف الله عز وجل ، وبِهِ يُعْبَد ، وبِهُ يُذكر ، ويُحمَدُ ، ويُمجَّد ، كلّ هذا بالعِلم ، لذلك حُضور مَجلسُ عِلْم حَتْمٌ واجب على كلّ مُسلِم ، لا أحد يتعلَّم من دون مجلسٍ عِلم ؟ لا بدَّ مِن مَوْرِدٍ لك ، لا بدّ من وقتٍ تُخَصِّصُه لِطَلب العِلم ، بِرَبِّكم هل في الأرض كلِّها إنسان أصبحَ يحْمِلُ دكتوراه من دون أن يذْهب إلى الجامعة ؟ ومن دون أن يفْتَحَ كِتابًا ؟ ومن دون أن يقرأ ؟ ومن دون أن يقتَطِعَ من وقْتِهِ الثَّمين ما يطلب به العلم ؟ هذا الذي يتمنَّى أن ينال كلّ شيءٍ من دون شيء لا ينال شيئًا ! هذا إنسان حالم ، وإنسانٌ تائِه وإنسان ليس ذكِيًّا ، وكلّ شيء له ثَمَن ، وكلّ درجة لها جُهْد ، بِالعلْم اهتَدى إلى الله السالكون ، وبالعلم وصَلَ إليه الواصِلون ، بالعِلم دخَل عليه القاصِدون ، بالعلم تُعْرف الشرائِع والأحكام ، بالعِلم يتميَز الحلال من الحرام ، وبالعِلم توصَل الأرحام، العلم إمام ، والعمل مأموم ، وهو قائِد والعمل تابِع ، وهو الصاحب في الغربة ، كما قال عليه الصلاة والسلام والمحدِّث في الخَلوة والأنيس في الوحشة ، والكاشف عن الشُّبهة ، وهو الغِنَى الذي لا فقْر بعده، ولا غنى دونه .
     فهؤلاء الأقوام قوم عادٍ وثمود ، وأصحاب الأيْكة ، هؤلاء دمَّرهم الله عز وجل بِجَهلهم ، مُذاكرة العِلم تسبيح ، والبحث عنه جِهاد ، وطلبُهُ قُرْبة إلى الله عز وجل ، وبذْلُهُ صَدَقة ، ومُدارستُه تعْدِل الصِّيام والقِيام ، والحاجة إليه أعظم من الحاجة إلى الطَّعام والشَّراب .
      الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال : " الناس إلى العِلم أحْوَجُ منهم إلى الطَّعام والشَّراب ، لأنَّ الرّجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرَّةً أو مرَّتين، وحاجتُه إلى العِلم بِعَدد أنْفاسِهِ " .
      والإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول : " طلب العِلم أفضلُ من صلاة النافلة ".
      والإمام مالك كان عنده رجل اسمه ابن وهب فقال ابن وهب : كنتُ بين يدي مالك فوضَعْتُ ألواحي ، وقُمْتُ أُصَلِّي ، فقال الإمام مالك : " ما الذي قُمْتَ إليه ؟ إنَّ الذي قمت إليه ليس بِأفضل من الذي قمتَ عنه ! " هذا كلام الإمام مالك .
      والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم استدلَّ بأهل العِلم على أجلّ مَشْهود ؛ ألا وهو وحدانِيَّتُهُ ، قال تعالى :
 
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
[ سورة آل عمران ]
       الله سبحانه وتعالى لا يسْتشْهِدُ إلا بِشُهودٍ عُدول ، وهذه شهادة من الله عز وجل لأولي العلم على أنَّهم عُدول ، ولأنّ شهادتهم قَرَنَها مع شهادته ، ومع شهادة ملائكته ، ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وتأويل المفسدين)) .
أنت بين مُغالٍ وبين مُبْطِل ، قال تعالى :
 
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ﴾
[ سورة النِّساء ]
       وحَسْبُ من يطلب العِلم شرفًا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا ، وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ )) .
[ رواه أبو داود ]
       كلّ هذه الأقوال ، وهذه الآيات وهذه الأحاديث من أجْل أن يكون طلب العلم شُغْلكم الشاغل ، والشيء الأوّل في حياتكم ، لأنَّ أساس المصائب والنَّكبات ، والشَّقاء هو الجهل ، والعالِم كما قال عليه الصلاة والسلام يسْتغفر له من في السماوات والأرض حتى الحِيتان في البحر ، وحتَّى النّمل في الجحر ، وإنَّ الله وملائكته يُصَلُّون على مُعَلِّمي الناس الخير ، وحسْبُ النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه قد أُمِرَ مِن قِبَل ربّ العِزَّة أنْ يزداد عِلْمًا ، قال تعالى :
 
﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾
[ سورة طه ]
       فهذه الأقوال والأحاديث والآيات أردْتُ من خلالها أنَّ هؤلاء الأقوام الذين دُمِّروا وصُعِقُوا ، وأهْلكهم الله عز وجل ، إنَّما أُهْلكوا بِسَبب تكذيبهم ، وما تكذيبهم إلا بِسَبب جَهلهم ، وما جهلهم إلا أكبر أعدائهم .
       أمَّا الآياتُ الكريمة التي ختمَ الله بها هذه السورة الكريمة ، فهي تبدأ من قول ربّنا سبحانه وتعالى في آخر سورة الشّعراء :
 
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[ سورة الشعراء ]
وَإِنَّه لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ
       فالتنزيل إذاً هو هذا القرآن ، وهذا الدستور ، وهذا المنهج ، وهذه القواعد التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، قال تعالى :
 
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[ سورة البقرة ]
       وقال تعالى :
 
﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾
[ سورة طه ]
       قال تعالى :
 
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[ سورة الشعراء ]
       عندنا في اللُّغة الإنزال ، وعندنا التَّنزيل ، الإنزال يعني أنَّ الشيء الذي نزَلَ ، نزَلَ دُفْعةً واحدة ، وأما التّنزيل فيعني أنَّ الشيء الذي نَزَلَ نزَلَ بالتَدْريج ، قال تعالى:
 
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[ سورة الشعراء ]
        نزل هذا القرآن بِحَسب الوقائِع ، وبِحَسب المناسبات والظُّروف والحِكَم البالغة ، فجاء تحريم الخمر بالتَّدريج ، وجاءتْ الأحكام الشّرعِيَّة عَقِبَ الآيات الكَوْنِيَة ، حِكْمةٌ ما بعدها حِكمة ، ورحمة ما بعدها رحمة ، قال تعالى :
 
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
      ثمَّ يقول تعالى :
 
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوح الْأَمِينُ ﴾
( سورة الشعراء )
جبريل الروح الأمين :
      الرُّوح الأمين هو ملك الوحي سيّدنا جِبريل ، لماذا اخْتار الله من بين صِفاته كلّها أنَّه أمين ، لأنَّ هذا تشْريع الله عز وجل ، ولو أنَّ جِبريل زاد أو أنْقَصَ ، أو بدَّل ، أو غيَّر ، أو حرَّف بِدافِع النِسْيان ، أو بِدافِع العَمْد ، أو بِدافِعِ الخطأ ، صار التَّشْويه في الشَّرْع ، لذلك أخصّ صِفات سيّدنا جِبريل أنْ يكون أمينًا ، حتَّى سُمِيَ أمينَ وحيِ السَّماءِ ، فهذا الذي نزل على النبي عليه الصلاة والسلام هوَ هو مِن دون زيادة ، ومن دون نقصان ، ولا زَيْف ، ولا تعديل ، أو تبْديل ، لا بِدافِعٍ بريء ، ولا عن نِسْيانٍ ، ولا عن خطأٍ ، قال تعالى :
 
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾
( سورة الشعراء )
لماذا نزل القرآن ؟
      ولكنّ الشيء الذي يَلفتُ النَظر لماذا نزل ؟ مع أنَّ الله تعالى في كلّ مكان ؟
ربّنا سبحانه وتعالى وصَفَ نفْسهُ بأنَّه العليّ العظيم علو مكانة ، والكبير المُتعال ، ووصف نفسه بأنَّه رفيع الدَّرجات ، وبأنه القاهر فوق عِباده ، فَكُلّ شيءٍ يخرجُ من عنده إلى موطن الخلق والتَّقدير لا بدّ أن ينزل ، الله سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾
( سورة الأعراف )
       وقال تعالى :
 
﴿ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾
( سورة الزمر )
      وقال تعالى :
 
﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
[ سورة الحديد ]
      قال تعالى :
 
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
[ سورة البقرة ]
      قال تعالى :
 
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾
[ سورة الحجر ]
      لأنّه عليّ عظيم ، ولأنه رفيع الدَّرجات ، ولأنَّه قاهِرٌ فوق عِباده ، ولأنَه الكبير المُتعال ، فكُلّ شيء انتقل من عند الله إلى الخلْق والتَّقدير لا بد أن ينزل اسْتِنادًا إلى هذه الآية ، وهذا هو معنى قول الله عز وجل :
 
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾
[ سورة الشعراء ]
      ثمَ يقول تعالى :
 
﴿عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾
[ سورة الشعراء ]
معاني قلب النبي العدنان الذي نزل عليه القرآن :
       وأما نُزول هذا القرآن العظيم على قلب النبي عليه الصلاة والسلام ، ففي هذا معانٍ كثيرة :
1 - قلب الإدراك :
من هذه المعاني : أنّ القلب المقصود في هذه الآية هو قَلْب الإدراك والشُّعور ، فليس المقصود المِضخَّة العضليّة التي تضخّ الدَّم إلى أطراف الجِسم ، فإن المضخة قلب الجسد ، ولكن المقصود بهذا القلب قلبُ النَّفس ، فالله سبحانه وتعالى يقول كما في الأثر : " عبدي طهَّرت منظر الخلق سِنين أفلا طهَّرْت منظري ساعة ؟ " فالقلب هو الإدراك والشُّعور ، موطن الإدراك والشُّعور في النَفس ، والدليل قوله تعالى :
 
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ﴾
( سورة الأعراف )
       والدليل قوله تعالى :
 
﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾
( سورة الزمر )
2 - القلب له المكان الأول في الإنسان :
       هناك كلمة عن القلب لا بد أن أُسْمِعَكم إيَّاها ؛ القلب في الإنسان له المكان الأوَّل ، وعليه المعوَّل في كل الأمور ، ولا عجَب فهو القائد ، والجوارح جُنود له وخَدَم ، وهو الآمر الناهي ، والأعضاء أتباع له وحشَم ، وحسْبُكَ فيه قول الله تعالى :
 
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
( سورة ق )
3 - القلب حقيقة الإنسان :   
   والقلب حقيقة الإنسان ، ومن عجيب أمر الله تعالى فيه أنَّه جعَلَ بِبَقاء قلب الجسد وصِحَّته وانتِظام عمله حياةَ الجسد ونشاطه ، وجَعَل بِطَهارة قلب النَّفس وسلامته ، حياةَ الروح وازْدِهارها ، والقلب هو الجانب المُدْركُ من الإنسان ، وهو المخاطب ، وهو المُطالب ، وهو المُعاتَب ، وهو محلّ العِلم والتَّقْوى ، والإخلاص والذِّكْرى والحبّ والبغْض ، والوساوِس والخَطَرات ، وهو موضِعُ الإيمان والكُفْر والإنابة والإصرار والطمأنينة والاضْطراب ، والقلب هو العالِم بالله ، والمتقرّب إلى الله ، وهو المقبول عند الله إذا سَلِم من غير الله ، وهو المحجوب عن الله إذا استغرق بغير الله ، وهو الذي يسعد بالقُرب من الله ، ويشْقى بالبُعد عنه القلب منظر الرب ، ولا يُفلحُ الإنسان ولا يفوز إلا إذا زكَّاه ، ولا يخيب ولا يشْقى إلا إذا دنَّسهُ ودسَّاه ، لذلك سيّدنا عمر رضي الله عنه كان يقول : " تعاهَد قلبَك " ، والله سبحانه وتعالى يقول :
 
 
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
[ سورة الشعراء ]
      قال تعالى :
 
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾
[ سورة الشعراء ]
      الصحابة الكرام كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا نزل الوحي لا يرَونَ شيئًا ، النبي عليه الصلاة والسلام لم يتلق الوحي عن طريق الحواس ، فالإنزال تمّ مباشرة على قلبه صلى الله عليه وسلم ، لو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام تلقَّى الوحي عن طريق السمع والبصر لسَمِع سيّدنا جبريلَ أصحابُه الذين هم حوله ، أو لرأوْهُ ، ولكنّ هذا الإنزال تمَّ على القلب مباشرةً ، قال تعالى :
 
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾
[ سورة الشعراء ]
4 - القلب هو الجانب الملائكي :
      قال بعض العلماء : القلب هو الجانب الملائكي في النبي عليه الصلاة والسلام ، يتلقَّى به الحق ، واللِّسان هو الجانب البشري من النبي وهو الذي يُلقي به الحق ، يتلقَّى بِقَلبه ، ويُلْقي بِلِسانه ، وبعضهم قال : نزل به الروح الأمين على قلبك ، أي لأنَه طاهر ومُقدَّس نزل على قلبه صلى الله عليه وسلّم ، لذلك سيّدنا جبريل جاء وصْفُهُ بِكَلِمَتَين ؛ مرَّةً روح القدس ، ومرَّةً الروح الأمين ، وفي كِلا المعنيَيْن الأمانة والقُدْسِيَّة ، وهما الأداء والانْضِباط والحفظ الثَّبات .
5 – القلبُ أعجَب خَلْق الله :    
كلمة عن القلب أُنهي بها الدَرس ، لعلَّك إن فتَّشْتَ عن أعْجَب ما خلق الله تعالى في السماء والأرض ، لم تَجِد أعْجَب ، ولا أرْوَعَ ، ولا أدَقَّ ، ولا أجْمَلَ من قلب الإنسان ، تصلحُ أوتارهُ فيَفيضُ رحمةً ، وشفقةً ، وحُبًّا ، وحنانًا ومعانٍ لِطافًا ، وشُعورًا رقيقًا ، حتَّى يتجاوزَ في سُمُوِّه الملائكة المُقَرَّبين وتفْسُدُ أوتارهُ ، فيَنْضَحَ قسْوَةً ، ولؤْمًا ، وسوءً حتَّى يهْوي إلى أسفل السافلين ، حوى على دِقَّتِهِ كُنْه العالم ، فما أدقَّهُ ، وما أجلَّه ، وما أصغرهُ وأعظمه ، يكبرُ القلب ولا نرى كِبره ، فيتضاءلُ أمامه كلّ كبير ، ويصْغر ولا نرى صغَره فيتعاظم عليه كلّ حقير ! اتَّحَدَ شَكل القلب واخْتلفَتْ معانيه ، فقلْبٌ كالجَوهر الكريم صفا لونُه ، وراق ماؤُه ، وقلبٌ كالصَّخر قويّ متين ، ينفَعُ ولا يلْمعُ ، وقلبُ هواء خفّ وزْنهُ وحال لونه ، يموت القلب ، لِمَ قال ربّنا عز وجل :
 
﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾
[ سورة فاطر ]
       فالكفار قلوبهم ميِّتة ، يموت القلب ثمَّ يحيا ، ويحيا ثمَّ يموت ، ويرْتَفِعُ إلى الأوْج ، ويهبط إلى الحضيض ، وبينما هو يُسامي النُّجوم رِفْعةً ، إذا هو يلامس القاع ضِعَةً .
وجوب سَعَة صدر الداعي إلى الله :
       يا أيّها الإخوة الأكارم ، إنّ أعظم بُنات العالم قد امْتازوا بِكِبَرِ القلب ، فالذي يدْعو إلى الله يجب أن يكون قلبهُ كبيرًا ، يتَّسِعُ لكل شيء ، يتَّسِعُ لأخطاء الناس وتجاوُزِهم ، وتطاوُلهم ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى شرَّفَهُ بِهذه الدَّعْوَة ، ومن كان قلبهُ صغيرًا لا يتَّسِعُ إلى الخلْق فهذا ليس أهلاً أن يدْعو إلى الحق ، فالأنبياء العِظام تميَّزوا بِكَبر قلوبهم ، لذلك لِتَبقَ هذه الآية تَرِنُّ في أسماعِكم ، قال تعالى :
 
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾
( سورة الشعراء )
       هذا القرآن الكريم كما أراده الله هو بين أيدينا ، لأنَ الذي نقلهُ نقله بِأمانة لا حدود لها ، سمَّاهُ الله الأمين ، ونزل به الروح الأمين على القلب مباشرةً ، فلا سمْعَ ولا بصَرَ ، قال تعالى :
 
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾
[ سورة الشعراء ]
       وإن شاء الله تعالى في الدرس القادم نتحدَّث عن الإنذار الذي هو صفة النبي عليه الصلاة والسلام ، ونتحدَّث عن هذا اللِّسان العربيّ المبين الذي شرَّفنا الله به ، فهناك أُمَمٌ كثيرة تغبِطُنا على هذه اللغة التي نتكلَّم بها إنَها لغة القرآن ، لذلك قال سيدنا عمر رضي الله عنه :
(( تعلَّموا العربيّة فإنَّها من الدِّين )) .
( ورد في الأثر )
      إنّ جزْءًا من دينِكَ أن تتعلَم اللغة العربيّة ، لأنَّك بها تفْهم كلامه ، وإذا فَهِمْت كلامه صَلُح عملُك ، وإذا صلحَ عملك سَعِدْت في الدنيا والآخرة ، ولذلك يكون تعلّم اللغة العربيّة شرطًا أساسيًا لتعلّم كتاب الله بل هو شرطٌ أساسي .
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب