تفسير سورة النور (024)
الدرس (2)
تفسير الآيات (1 – 2)
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة ، والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سبب تسمية سورة النور :
أيها الإخوة المؤمنون مع الدرس الثاني من سورة النور ، أولا : لماذا سميت هذه السورة سورة النور ؟ بعضهم يقول : لأن ما فيها من أحكام تشريعية ، وما فيها من آداب خلقية ، وما فيها من أصول أسرية تعدُّ بمثابة النور الذي يلقى على حياة المجتمع ، فمجتمع بلا آداب ، و بلا حدود ، و بلا أحكام ، وبلا معاملات وفق الحق والكمال هو مجتمع في ظلام :
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [.]
[سورة البقرة : الآية 257]
يخرجهم من الظلمات إلى النور بهذه الأحكام التشريعية ، بالأحكام المتعلقة بالنساء ، بأحكام الزواج ، بأحكام الطلاق ، بأحكام حسن المعاملة ، بآداب المجتمع ، بالآداب التي يجب أن تكون بين أفراد الأسرة ، فلذلك سميت هذه السورة سورة النور لأن أحكامها التشريعية ، وآدابها الخلقية بمثابة النور الذي يضيء جنبات حياتنا الاجتماعية .
محور سورة النور : الأسرة والقيم الأخلاقية :
الشيء الآخر ، هذه السورة تتجه إلى الأسرة ، والأسرة هي نواة المجتمع ، فالمجتمع قائم على خلايا ، الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع ، لذلك أكثر أحكام هذه السورة تتجه إلى الأسرة ، وإلى حفظ الأنساب ، إلى الآداب ، وإلى التعفف ، إلى عقوبة الانحراف الخلقي ، وإلى عقوبة الخيانة الزوجية ، كأن هذه السورة تتجه إلى الأسرة ، والأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع.
أمر آخر ؛ هذه السورة بأكملها تتجه إلى ترسيخ القيم الخلقية في المجتمع ، فالمجتمع دون قيم خلقية مجتمع حيواني ، مجتمع بهيمي ، تتحكم فيه الغرائز ، والانفعالات السفلية ، تتحكم فيه النزوات ، مجتمع دون قيم خلقية هو مجتمع كالبهائم ، لذلك تتجه عناية هذه السورة إلى الأسرة تارة ، وإلى القيم الخلقية التي ينبغي أن تسود المجتمع تارة أخرى.
وهذا مثل نضربه للتوضيح : لو أن بيتا فخما بني على أحدث طراز ، وأثِّث بأفخر الأثاث ، وجهز بكل التجهيزات ، فيه كل الأدوات والآلات ، لكن لا يوجد في هذا البيت نوافذ ، وليس فيه إضاءة ، فما قيمة جمال بنائه ، وما قيمة جمال أثاثه ، وكيف يهتدي الإنسان إلى مداخله ومخارجه ، وإلى استعمال أدواته ، واقتناء أجهزته ، كل ما فيه من ميزات لا تعرف إلا بالنور ، لذلك خلق الله سبحانه وتعالى السماوات والأرض ، وأنزل الكتاب :
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [ .]
وقال عز وجل :
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [ .]
[سورة الكهف : الآية1]
فكأن الله سبحانه وتعالى بما أنزل علينا من تشريعات ، وبما أنزل علينا من كتب ، بما بعثه فينا من أنبياء ، ورسل ، والله سبحانه وتعالى نور السماوات والأرض ، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة :
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ .]
فالنور هو الحقيقة التي تصح بها حياتنا ، وهو من عند الله ، وليست هناك جهة غير الله يمكن أن تأخذ منها الحقيقة ، الحقيقة وحدها من الله عز وجل ، لأن الله نور السماوات والأرض ، فلذلك سميت هذه السورة سورة النور لأن فيها إضاءة لحياتنا .
في حياتنا شيء مباح ، وشيء ممنوع ، وآخر حرام ، أمرنا الله بغض البصر ، وبحفظ الفرج ، أمرنا بعدم الاختلاط ، وأمرنا بالزواج ، نهانا عن الزنى ، جعل للزنى حدا رادعا ، وحدا قاسيا ، فهذه التشريعات لحياتنا الاجتماعية بمثابة النور الذي يضيء جنبات هذه الحياة لذلك سميت هذه السورة سورة النور ، تتجه إلى الأسرة أولا ، وإلى ترسيخ القيم الخلقية ثانيا ، وهذا النور الذي سميت به هذه السورة مضاف إلى ذات الله عز وجل :
]اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[.
كل مشكلة وراءها معصية :
فما من مشكلةٍ تقع في المجتمع إلا وراءها معصية ، وما من معصية إلا وراءها جهل ، فالإنسان إذا آمن بالله عز وجل أخرجه من الظلمات إلى النور ، وقد وُصِفَ هذا القرآن مرات عديدة بأنه نور يمشي المؤمن بهداه ، قال تعالى :
]إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوِمُ[.
[ سورة الإسراء : الآية 9]
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((وَالصَّلاَةُ نُورٌ)) .
[مسلم ابن ماجه ، أحمد ، الدارمي ]
إنك إذا اتصلت بالله عز وجل قذف الله في قلبك النور ، فرأيت فيه الخير خيرا ، والشر شرا ، فكلمة هذه السورة ؛ سورة النور فيها من الضياء ، وفيها من النور ما يكشف به كل ملابسات الحياة التي نحياها .
شيء آخر ؛ لو أن مجموعة من القوارير فيها مواد مختلفة ، ولا تَعْرِفُ هذه المواد ، بعضها نافع ، وبعضها ضار ، بعضها عديم الجدوى ، وبعضها سامٌّ ، بعضها شديد السمية ، بعضها ثمين ، وبعضها رخيص ، قوارير متشابهة ، فيها مواد مختلفة ، فأنت إذا ألقيت عليها نورا كشافا عرفت بهذا النور كل عنصر مما يتألف ، وثمنَه ، واستعماله ، وفوائده ، ومضاره ، أو أنه ألصق على كل قارورة لوحة صغيرة تقول لك : هذا العنصر كذا وكذا ، وفوائده كذا وكذا ، واستعماله كذا وكذا، فالكتابة التي يمكن أن تكون على هذه القارورة كشاف ، فعندما يقول ربنا عز وجل : هذا حرام ، وهذا حلال ، وهذا نافع ، وهذا ضار :
]قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ[ .
( سورة النور الآية 30)
هذه الآية نور ، والأحكام الشرعية نور تهتدي به ، فحينما تغض بصرك عن محارم الله يلقي الله في قلبك حلاوة حتى تلقاه ، حينما تغض بصرك عن محارم الله يخلق الله مودة بينك وبين أهل بيتك ، حينما تغض بصرك عن محارم الله تشعر بالطهر ، تشعر بالسمو ، تشعر بالقدسية ، إذاً هذا الأمر الإلهي بمثابة النور الذي ملأ حياتك ضياء ، وبهجة ، وسرورا ، وسكينة ، وملأها اطمئنانا ، وسعادة ، فأيُّ حكم إلهي إذا طبقته كان بمثابة النور في الظلام ، هذا النور يبدد الظلام ، يذهب الترهات ، يذهب الأباطيل ، لهذا قال الله عز وجل ، وهاأنا أعيد الآية على مسامعكم مرة ثانية :
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ .]
( سورة البقرة : الآية 257)
فإذا قرأت هذه السورة ، وطبقت ما فيها خرجت من الظلمات إلى النور ، وإذا كان هناك اختلاط ، وكان هناك تجاوز لأحكام هذه السورة نشأت الخلافات الزوجية ، وانتهت بالطلاق ، وانتهت بضياع الأولاد ، وتشريدهم ، واختلاط الأنساب ، وقد تنشأ معها الجريمة إذا رافقَها عدوان ، فلذلك إذا طبقت أحكام هذه السورة كان النور الذي يشع من ثنياتها يبدد الظلام الذي يعيش فيه معظم الناس ، فبالنور تظهر قيمة البيت الفخم المؤثث بأثاث غال ، والمجهز بأجهزة متنوعة ، ولكن بلا نور ما قيمة هذا البيت ؟ قوارير فيها مواد مختلفة من دون لصائق ما قيمة هذه المواد ؟ لا تعرفها ولا تعرف كيف تستعملها ، أو تتجنب مضارها، وكيف تعرف فوائدها ، لذلك يعني تسمية هذه السورة ، أو كما يقولون : اسم على مسمى ، سورة النور ، إنك إذا قرأتها ، وتمعنت فيها ، ووقفت عند أحكامها ، وطبقتها شع النور في حياتك ، شع النور في بيتك ، ولا تنسوا أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال : << عَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ >> .
[سنن سعيد بن منصور، وذكره البيهقي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهد ]
وسوف ترون كيف أن فيها من التشريعات ، وفيها من الآداب ما لو طبق لأصبح بيت المسلم جنة على الأرض ، لو طبقت هذه الأحكام لأصبحت بيوت المسلمين جنات على وجه الأرض .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةٌ
كما قلنا في الدرس الماضي : إن هذه السورة ، هذه الآية الوحيدة التي فيها كلمة سورة :
﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
( سورة النور)
سورة النور سورة تربوية :
في هذه السورة موضوعات متنوعة ، ولكن يجمعها محور واحد ، هو نظام الأسرة ، الآداب الاجتماعية المتعلقة بالنساء ، القيم الخلقية المتعلقة بعلاقة الرجل بالمرأة ، الحدود المانعة ، والحدود الرادعة ، هذا كله يفهم من كلمة سورة ، وأن هذه الآيات العديدة التي تشملها سورة النور بمجملها تتمحور حول محور واحد ، ألا وهو علاقة الرجل بالمرأة ، وثانيا النظام الاجتماعي الذي ينبغي أن يكون سائدا في البيت .
هذه السورة يمكن أن تكون من نوع التربية ، التربية تعني التوجيهات المستمرة لنقل الإنسان من طور إلى طور ، فيها توجيهات إلهية تنقل المسلم من طور إلى طور ، هذا الكلام كله ينضوي تحت كلمة : ]سُورَةٌ[ .
أَنْزَلْنَاهَا
أما : ]أَنْزَلْنَاهَا[ ، فالإنزال يتم من شيء مرتفع إلى شيء منخفض ، فهذه التشريعات ليس مصدرها بني البشر ، ولكن مصدرها إله البشر ، هذه التشريعات أنزلت من السماء ، والإنسان لا يتقبل تشريعا إلا إذا كان من عند خالق الأرض والسماوات ، لأن الخالق هو المشرع ، فمثلاً إذا صنع معمل آلة ، فأيّة جهة مؤهلة أن تصدر تعليمات تشغيلها ؟ إنها الجهة الصانعة ، هذا في عالم الصناعة ، الجهة التي صنعت هذه الآلة وحدها مؤهلة أن تصدر نشرة فيها بيان طريقة استعمالها ، وطريقة صيانتها ، وطريقة أن يكون مردودها جيدا ، فالصانع هو المشرع ، ولأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق ، وهو العليم الخبير ، والحكيم العليم ، وهو اللطيف الخبير ، وهو القدير ، وهو الغني ، وهو السميع ، وهو البصير ، هو وحده سبحانه وتعالى يمكن أن يشرع لنا ما يمس علاقاتنا الاجتماعية ، هذا معنى أنزلناها :
]سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا[ .
وهذا يعني أن تطبيق هذه الأحكام ليس من قبيل الزيادة ، ولا من قبيل التجمل ، ليس من قبيل أنّ لك أن تأخذه ، ولك ألاّ تأخذه ، ليس هذا هو الموضوع .
ليس للعبد خيار أمام أحكام الله : وَفَرَضْنَاهَا
يعني أنه إن لم يطبق ما فيها من أحكام انقلبت حياة الإنسان إلى جحيم ، دمر البيت ، وفسد ، طلقت الزوجة ، وتشرد الأولاد ، وهذا يحدث يوميا ، ما من طلاق جرى ، تعسفيًّا كان أو غير تعسفي ، ما من فراق بين زوجين ، ما من أولاد قد شردوا إلا بسبب مخالفة لأحكام هذه السورة.
لذلك :
]وَفَرَضْنَاهَا[ .
هذا يعني أن الإنسان ليس له خيار ، لأنّ الله تعالى يقول :
] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[ .
( سورة الأحزاب :الآية 36)
أنت ليس لك خيار ، عندما يُنزّل ربنا عز وجل في قرآنه الكريم حكما تشريعيا ، أمرا ، نهيا ، فليس للمؤمن خيار ، الخيار قد انتهى ، أنت تختار أن تأكل هذا الطعام ، أو ذاك الطعام ، أنت هنا مخير ، أنت تختار أن تسكن في هذا الحي ، أو في ذاك الحي ، أن تقترن بهذه المرأة ، أو بتلك ، ولكن فيما أنزله الله من أحكام تشريعية ليس لك خيار ، لقول الله عز وجل :
]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[ .
( سورة الأحزاب :الآية 36)
يعني أن الله عز وجل أمرنا بغض البصر ، فلا يجوز أن نقول : هذا ممكن ، وهذا ليس ممكناً ، أو أن الزمان صعب ، والوقت معقد ، الفساد عمَّ ، والطريق مليء بالنساء الكاسيات العاريات ، هذا الكلام مرفوض ، لأن ربنا عز وجل قال :
]لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[ .
( سورة البقرة :الآية 285)
ولا يمكن أن يكون الأمر الإلهي إلا في إمكان كل أن إنسان يطبقه ، فلذلك :
]أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا[ .
لنفترض أنكَ قلت : تتوقف حياتي على شرب الماء ، فشرب الماء فرض ، تتوقف حياتي على تنفس الهواء ، فتنفس الهواء فرض ، تتوقف سعادتي في الدنيا ، والآخرة على تطبيق هذه الأحكام ، فهذه الأحكام هي فرض من قِبَل الله عز وجل ، لذلك :
]سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا[ .
الأوامر التي سوف تأتي في هذه السورة لا مجال للحل الوسط فيها ، فلما يقول بعض الصناع : لا يوجد في الآلة حل وسط ، إما أن تكون وفق ما صممت ، وإما أن تتوقف عن العمل ، كذلك الإنسان ؛ إما أن يطبق هذا التشريع بكل ما فيه ، بجمله وتفصيلاته ، أو أن تصبح حياته منكدة ، حياة فيها الشقاء ، وفيها الهلاك .
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
فيها أحكام تشريعية ، وفيها آيات تعرّف بذات الله سبحانه وتعالى ، وفيها آيات تشريعية ، وآيات كونية ، فالآيات التشريعية فَرَضْنَاهَا ، والآيات الكونية بيّناها ، فإذا عرفت الخالق طبقت أمره ، لذلك يجب أن تعرف الآمر قبل أن تعرف الأمر ، هكذا قال أصحاب النبي العدنان ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَلا أَجِدُ قَلْبِي يَعْقِلُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ قَلْبَكَ حُشِيَ الإِيمَانَ وَإِنَّ الإِيمَانَ يُعْطَى الْعَبْدَ قَبْلَ الْقُرْآنِ)) .
[أحمد]
فإذا تعلمت الشرع قبل أن تعرف الله عز وجل فإنك لن تطبقه ، بل تحتال عليه ، أما إذا عرفت الله أولا من خلال هذه الآيات الكونية ، إذا عرفته خشعت له ، فإذا خشعت له بحثت عن أمره، وطبقته بحذافيره ، وطبقته بإخلاص ودقة ، لذلك معرفة الله سبحانه وتعالى هي البداية .
هذا يؤكده الإمام الغزالي رضي الله عنه إذ يقول: "العلم بالله ، وبأمر الله ، وبخلق الله" ، فالعلم بالله أن تعرف الله سبحانه وتعالى ، وأن تعرف أسماءَه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، أن تعرف لماذا خلقك ؟ ولماذا أوجدك ؟ أن تعرف الغاية التي من أجلها أنت موجود على وجه الأرض ، أن تعرف أن الله سبحانه وتعالى حسيب لَمْ يخلق الإنسان سدى ، لم يخلقه عبثا قال عز وجل :
]أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ[ .
( سورة المؤمنون :الآية 115)
وقال :
]أَيَحْسِبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى[ .
( سورة القيامة :الآية 36)
فهذا الذي يعصي الله بالتأكيد لا يعرفه ، قد يعرف أمره ونهيه ، وقد يتبحر في أمره ونهيه ، وقد ينال في ذلك أعلى الشهادات ، هذا عالم بأمر الله ، وليس عالماً بالله ، لأنّ علامة العالم بالله أنه يخشاه ، لقول مَسْرُوقٍ :
<< كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ >> .
[سنن الدارمي ، والطبراني في الأوسط مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام بلفظ : كفى ...أعجب برأيه]
وعلامة الذي يعرف أمر الله أنه يعرفه إذا سألته عن قضية في المواريث ، في أحكام التجويد ، في أحكام الطلاق ، في أحكام البيوع ، هذه موضوعات كلها تحتاج إلى دراسة ، وإلى حفظ ، وإلى تذكر ، وإلى أداء امتحان ، وتحفظ ، وتؤلف فيها كتب كثيرة جدا ، ولكنك إذا عرفت الله أطعته ، وإذا عرفت هذه الأحكام حفظتها ، ولا يغنيك هذا عن معرفة الله ، فإذا عرفت الله فتعلم بعدها كل شيء ، لأن كل شئ بعد معرفة الله كالصفر أمام الواحد ، معرفة الله وحدها هي الأساس ، فإذا عرفت بعض الأحكام التفصيلية فهذا صفر أمام الواحد ، صاروا 10 ، إذا علمت أحكام المواريث 10 أحكام البيوع 100 صاروا ، أحكام النكاح 1000 صاروا ، إذا عرفت أصول الفقه 10000 صاروا ، إذا عرفت هذه الأشياء الإسلامية الدقيقة فهو علم أضيف إلى ذخيرتك ، فإذا عرفت كل هذه العلوم ، ولم تعرف الله عز وجل فهذه كلها أصفار ، لا يوجد فيها واحد ، لأن أصل الدين معرفته كما يقول الإمام علي كرم الله وجهه (أصل الدين معرفته) ، وفي الأثر يقول تعالى :
((اْبَن آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي ، فَإِذَا وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)) .
[تفسير القرطبي ]
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ولأن التدين عند الإنسان بالفطرة أحيانا تأتي الشهوات ، وتأتي الدنيا ، وما فيها من متاعب تطمس هذه الفطرة ، فهذه الآيات للتذكرة ، فكل إنسان يعرف الله عز وجل بالفطرة ، فإذا انطمست هذه الفطرة احتاج إلى مذكِّرات ، لو أن الإنسان كان صافيا ، كان بعيدا عن كل مشكلة ، بعيدا عن كل قضية ، عن كل همٍّ ، عن كل إغراء ، وعن كل ضغط ، لو ابتعد عن وُحُولِ الحياة ، تستيقظ فيه الفطرة ، فطرته تدعوه إلى الإيمان بالله عز وجل ، وإلى طاعته ، فهذه النفس لا تسعد إلا إذا أَوَت إلى الله ، قال تعالى :
]وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[ .
( سورة طه :الآية 124)
وقال سبحانه :
]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[ .
( سورة النحل :الآية 97 )
فلذلك لا يسعد الإنسان إلا بالله عز وجل : ]لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ ، لأن الفطرة طيبة ،
]فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[ .
( سورة الروم :الآية 30 )
فالإنسان فطرته سامية ، لذلك إذا تحدث الأجانب عن بعض الانحرافات الخلقية يقولون : إن هذه الانحرافات تسبب شعورا بالكآبة ، فعلا ! لماذا ؟ لأن هذا الشعور بالكآبة هو تحرك الضمير ، تحرك الفطرة العالية ، الحق حق ، والباطل باطل ، في كل مكان ، وفي كل زمان .
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة النور )
حكمة إيداع الشهوة في الإنسان :
طبعا ربنا سبحانه وتعالى حينما أودع فينا هذه الشهوة أودعها لحكمة بالغة ، وهذه الشهوة لا يمكن أن توصف بأنها شريرة ولا خيِّرة ، إنها حيادية ، قوة دافعة تدفعك إلى شيء ما ، سبحانه وتعالى أودع في نفس كل إنسان حب النساء ، والعكس بالعكس .
]زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا[ .
( سورة آل عمران :الآية 14)
فهذه الشهوة إنما أودعها الله في الإنسان ليرقى بها إلى الله ، كيف ترقى قطعة الخشب إلى الله ، فهي لا تحب ، ولا تكره ، ولا تغضب ، لكن الإنسان بما فيه من شهوات إذا ضبطها ارتقى إلى الله عز وجل ، إذا مرَّت امرأة سافرة ، وغضضت بصرك عنها فعلت هذا من أجل من ؟ من أجل الواحد الديان ، فلأن هذا الأمر تميل نفسك إليه ، وإرادتك ألزمتك أن تغض البصر عنها ، من هنا ارتقيت إلى الله شاكرا ، فالشهوة في الأصل لا يمكن أن تسمى شريرة ، الله سبحانه وتعالى أودع فينا هذه الشهوة من أجل أن تنشأ الأسرة ، فإذا وجدت سيارة قد تدهورت في قاع الوادي هل تقول : يا أخي هذا المعمل هو الذي فعل هذا الحادث ؟ لا ! المعمل صنع هذه السيارة من أجل أن تركبها ، وتنتقل بها من مكان إلى آخر ، أما هذا السائق الذي قادها مخمورا ، ونزل بها في الوادي فهو الذي أساء ، فهل توصف هذه السيارة بأنها شريرة ، إن صانعها قد صنعها من أجل أن تكون في خدمتك ، كذلك الشهوات إنما أودعها الله في الإنسان لترقى به ، لا لتهلكه ، فإذا أساء استخدامها يهلك نفسه .
مثلٌ من واقع الناس :
شئ بسيط جدا ، 3 مساحيق بيضاء ، سكر ، وملح ، ومنظف ، فإذا وضعت السكر في الشاي فهذا عمل خير ، تشرب الشاي ، وتحمد الله عليه ، وإذا وضعت الملح في الطبخ تأكل الطعام ، وتحمد الله عليه ، وإذا غسلت الصحون بهذا المسحوق تحمد الله على هذه النعمة نعمة الصابون ، فإذا وضعت هذا المسحوق التنظيفي في الطبخة ألقيتها في سلة المهملات ، وإذا وضعت الملح في الشاي لفظت هذا الشاي ، ما هو الشر ؟ حينما تسيء استخدام هذه المواد ، الشر هو إساءة الاستخدام ، المواد كلها خيرة ، فحينما تتزوج ، وتنجب الأولاد ، ويكبر الأولاد ، وترى أن هذه الأسرة أصبحت عشاً إسلامياً فيه السعادة ، والسرور ، والطمأنينة والوفاء ، والمحبة ، والأنس تشعر أن الحياة الزوجية فيها أنس ، وربنا عز وجل كر أنّ من آياته الشمس والقمر ، ومن آياته الليل والنهار ، آياته كثيرة جدا :
]وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[ .
( سورة الروم :الآية 21)
فربنا سبحانه وتعالى حينما أودع في الإنسان هذه الشهوة من أجل أن تنشأ الأسرة ، وهي اللبنة الأُولى في المجتمع ، لا من أجل الزنى ، ولا من أجل السفاح ، أو من أجل دور اللهو ، ولا من أجل الأفلام الساقطة ، هذا كله خلاف الأصول ، وهذه كلها قنوات قذرة ، وهناك قناة نظيفة واحدة ، هي قناة الزواج .
فهذه الشهوة التي أودعها الله في الإنسان جعل لها قناة نظيفة طاهرة خيرة مسعدة تأنس بها ، وما سوى هذه القناة فالقنوات كلها قذرة.
]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[ .
لابد لكل تشريع من مؤيِّد عقابي ردعي :
تحدثت في الدرس الماضي عن أن التشريع لا قيمة له إلا إذا دعم بمؤيد ، أي بعقاب ، فالإنسان من طبيعته التفلت ، وحينما يعرف أنه إذا زنى فلابد أن يلقى في ساحة عامة ، وأن يجلد على مرأى من الناس مائة جلدة ، فإنه يعد للمليون قبل أن يزني ، وفي الحديث :
((إِنَّ اللهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لاَ يَزَعُ بِالْقُرْآنِ)) .
أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن ، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع .
[تفسير ابن كثير(3/60)]
فلو أن ربنا سبحانه وتعالى قال : الزاني فاجلدوه مئة جلدة لشمل هذا الحكم الزانية على طريقة القرآن الكريم في كل الآيات ، ولكن هنا لئلا يتوهم بعضهم أن الزاني هو وحده المعاقب ، بينما الزانية لم يكن دورها إيجابيا ، فإن الزانية جرمها في الزنى لا يقل عن جرم الزاني ، لذلك فإن ربنا سبحانه وتعالى لو قال من باب التأكيد : الزاني فاجلدوه مئة جلدة ، لانطبق هذا الحكم على الزانية ، ولكن لئلا نقع في التباس ، لئلا يفهم من هذا الحكم أن المرأة إذا زنت فلا شيء عليها فإنه سبحانه وتعالى يقول :
]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ .
لكن هناك آية في سورة النساء قال الله فيها :
تنبيه مهمٌّ : هذا حد للزنا منسوخٌ :
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيل[ . ]
( سورة النساء :الآية 15)
هذه الآية في سورة النساء كان مضمونها أن المرأة إذا زنت يجب أن تحبس في البيت حتى يتوفاها الله ، ويجب أن تؤذى بالكلام ، هذا الحكم نسخ بهذه الآية ، لماذا نسخ ؟ لأن ربنا عز وجل حكيم ، الأشياء التي كانت مستحكمة في الجاهلية كالخمر ، والزنى جاء تحريمها تدريجيا ، لأن النقلة المفاجئة قد تسبب صعقاً ، وهذا تعليم لنا ، الزنى كان متفشيا في الحياة الجاهلية ، بل إن الزانية كانت تضع على بيتها علامة تفتخر بها ، بل إن الرجال كانوا يشتركون في امرأة واحدة زواجا ، فكان هناك فوضى في العلاقات الزوجية ، لذلك فإنه سبحانه وتعالى بدأ بهذا التعذير ، أن تحبس المرأة الزانية في البيت حتى يتوفاها الموت ، فلما نزلت هذه الآية نسخت تلك الآية ، وهذا النسخ معناه التدريج في التشريع ، كيف ؟ إن الله سبحانه وتعالى قال :
]وَلاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى[ .
( سورة النساء :الآية 43)
ثم جاء التحريم القطعي ، كيف كان التدريج في تحريم الخمر ، كذلك كان التدريج في حد الزنى ، من تعزير بمثابة حبس في البيت حتى الموت ، إلى الجلد مائة جلدة ، على كل هذا حد الزاني الحر ، لأن للزنى إذا اقترفه العبد حكم آخر ، وحد الزاني الحر البالغ البكر أيْ غير المحصن ، غير المتزوج حده وحد الزانية الحرة البالغة البكر مائة جلدة ، فلو فرضنا أننا أردنا أن نبحث عن أسباب مخففة لهذا الزاني الحر ، البالغ ، العاقل ، البكر ، لو أردنا أن نبحث له عن بعض المخففات لوجدناه بدافع الشهوة ، بدافع الحرمان ، بدافع الضغط ، لذلك حده مائة جلدة ، لكن هذا الزاني المحصن الذي أكرمه الله بزوجة فما عذره ؟ ليس له عذر ، ضغط الشهوة لا أصل له ، فهذا الشيء محقق عنده ، ولكنه الفساد في الأرض ، ولكنه إفساد العلاقات الزوجية ، ولكنه تضييع للأنساب ، وانتهاك الحرمات ، ولكنه العدوان على زوج هذه المرأة ، العدوان على زوجها ، والعدوان عليها بأن جعلها زانية ، والعدوان على أولادها بالتشريد ، والعدوان على نفسه بجريمة الزنا ، إن هذا الزاني المحصن ثبت في السنة أن حده الرجم حتى الموت ، وبعضهم يستنبط من قوله تعالى :
]إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا[ .
( سورة المائدة :الآية 33)
حتى الموت .