:الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم ؛ رحمن في ذاته ، رحيم في أفعاله
في درس سابق قلت لكم : إن كلمة "رب" تقتضي العلم ، وتقتضي الخبرة ، وتقتضي الغنى ، وتقتضي الإشراف الدائم ، وتقتضي الحكمة ، وتقتضي الرحمة ، لا بد أن يكون رب العالمين قوياً ، وغنياً ، وحكيماً ، وعليماً ، وخبيراً ، ورحيماً ، وقيوماً ، دائم الإشراف ، لا يُسمى المربي ناجحاً إذا غاب عن الذي يربيه ، لا يُسمى المعلم ناجحاً إذا تغيب عن الطلاب ، لا بد أن يكون رب العالمين قوياً ، وغنياً ، وقديراً ، وحكيماً ، ورحيماً ، ودائم الإشراف ، وقيوماً ، الحمد لله رب العالمين .
كلمة "رب" فيها عطاء ، ربنا عز جل ما قال : الحمد للإله ، ما قال : الحمد للخالق ، بل قال : الحمد لله رب العالمين ، أي أن لك رباً ، ذات مرةٍ سمعت في الطريق رجلاً يقول وهو في حالة غضب : مَنْ ليس له أب ليس له رب ؟ تأثرت بهذه الكلمة ، قد ينشأ أحدنا يتيماً ولا أب له ، لكن الله موجود .
وإذا العناية لاحظتك جفونها نم فالمخاوف كلهن أمان
***
إذا أعطاك فمـن يمنعــه ثم من يعطي إذا ما منعك
***
كن مع الله تر الله معــك واترك الكل وحاذر طمعك
***
﴿الحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) ﴾ .
الرحمن في ذاته ، الرحيم في أفعاله ، ذاته رحيمة ، هناك تطابق كامل بين أفعاله وبين ذاته ، أحياناً تكون هناك مسافة بين الإنسان وبين أفعاله وبين نفسيته ، هناك مسافة بين أفعاله وبين نفسيته ، قد يفعل عملاً فيه رحمة ولكن قلبه قاس كالحجر ، الظروف اضطرته لذلك ، ذكاؤه أرشده لذلك ، لكن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم ؛ رحمن في ذاته ، رحيم في أفعاله .
الرحمن يعذب أما الرحيم لا يعذب :
قال سبحانه حكاية سيدنا إبراهيم :
﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45) ﴾ .
(سورة مريم)
الرحمن يعذب أما الرحيم لا يعذب ، انظر إلى دقة الآية السابقة ، ربنا عز وجل رحمن في ذاته ، تقتضي رحمته أن يسوق لعبده بعض الشدائد ، هذه الشدائد تُسمى شدائد ، أما الرحمة فهي رخاء ، لذلك قال ربنا عز وجل :
﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)﴾ .
(سورة الأنعام)
انظر الإعجاز أي تقتضي رحمته ألا يرد بأسه عن المجرم ، قال تعالى :
﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45) ﴾ .
(سورة مريم)
الرحيـم صفة أفعاله ، أما الرحمن صفة ذاته ، ماذا بقي ؟ هو الإله ، وهو الرب ، وهو الرحمن الرحيم ، والرحمن الرحيم اسم جامع لأسماء الله الحسنى ، فقوته من رحمته ، ولطفه من رحمته ، وبطشه من رحمته ، وأفعاله نابعة من رحمته ، لذلك هناك أسماء جامعة ، الرحيم من الأسماء الجامعة .
إذا جاء يوم الدين فلا اختيار لك وكل شيء أصبح ملكاً لله وحده :
لكن :
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ﴾ .
لو عقلنا معناها لارتعدت فرائصنا ، أنتم الآن مخيرون ما دام في القلب حياة ، ما دام القلب ينبض فأنت مخير ، كل شيء ممكن الآن ، الإصلاح ممكن ، والتوبة ممكنة ، قال تعالى :
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82) ﴾ .
(سورة طه)
لكن :
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ﴾ .
إذا جاء يوم الدين فلا اختيار لك ، هذه الأمانة التي أودعها الله فيك ، هذا التكليف وهذا الاختيار الذي منحك الله إياه ، هذا الكون الذي وهبه الله لك ، هذا العقل والفكر الذي ميزك الله به كله انتهى ، ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ﴾ ، وهو في الدنيا مالك ، وأنت مختار ، لكنه في الآخرة ملك كل شيء ، وملك اختيارك ، إذاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً يوم الدين ، يوم الجزاء ، الدنيا دار عمل ، والآخرة دار جزاء ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به)) .
[ أخرجه الشيرازي والبيهقي عن جابر ]
افعل ما شئت ، أعط أولا تعط ، اعدل أو اظلم ، أحسن أو لا تحسن ، اعملوا ما شئتم فإن يوم الدين هو يوم الجزاء ، عاملت زوجتك بالإحسان ، فهو لك ، وإن أسأت فعليك ، أنفقت مالك في سبيل الله فهو لك ، لم تنفق فمغبة البخل عليك .
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286) ﴾ .
(سورة البقرة)
وقال :
﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) ﴾ .
(سورة الروم )
الآية التالية تحض على العمل الصالح :
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ﴾ .
إذا جاء ملك الموت انتهى كل شيء ، الاختيار انتهى ، والأمانة انتهت ، والشهوات نزعت ، والكون طوي ، والفكر تعطل ، كل شيء انتهى ، يوم الدين يوم الجزاء والله مالكه ، أما الآن فأنت تملك الاختيار ، مخير أن تتوب أو لا تتوب ، أن تسيء أو تحسن ، لكن يوم الدين ينتهي فيه الاختيار ، كأن هذه الآية تحضك على العمل الصالح ، فإياك أن تصل إلى هذا اليوم وليس لك عمل صالح تلقى الله به ، لذلك :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) ﴾ .
(سورة آل عمران)
يوم الدين يوم جزاء ، نحن الآن في يوم عمل ، في العام الدراسي مثلاً ، الطالب يأتي للمدرسة ، يحب أن يدرس أو لا يدرس ، يجتهد أو لا يجتهد ، يراجع أو لا يراجع ، يذاكر أو لا يذاكر ، يكتب وظائفه أو لا يكتبها أو ينقلها من رفاقه ، يستطيع لأنه مخير ، لكن إذا قُرع جرس الامتحان في آخر العام وطرحت الأسئلة هذا اليوم يوم الجزاء ، وفي الامتحان يكرم المرء أو يهان ، أما في أثناء العام الدراسي فلا إهانة للكسول ، معه مهلة ، أُعطي فرصة ، ونحن الآن كذلك ، الآن نحن في فرصة ، أنت حر ، تحب أن تأتي إلى هذا المجلس أو لا تأتي ، هناك من يسهر وراء جهاز لهو ، يقول لك : والله هذه المحطة أمتع ، لكن تلك المحطة ناشفة وبرامجها هزيلة ، اليوم دار عمل ، لكن الآخرة دار جزاء ، قالوا : الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف ، في الآخرة انتهى الاختيار وانتهى التكليف ، انتهت كلمة حرام وحلال ، أنت في جنة عرضها السماوات والأرض ، لا غض بصر في الآخرة ، ولا استيقاظ لصلاة الصبح باكراً ، وليس هناك بذل مال ، ولا مشي في الشمس ، ولا حر ، في جنة عرضها السماوات والأرض .
:جزاء المؤمن يوم الدين كما وردت في بعض آيات الذكر الحكيم
قال ربنا عز وجل :
﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) ﴾ .
(سورة يس)
هنيئاً لهم ، هذا الوقت :
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ﴾ .
(سورة الصافات)
وقال :
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) ﴾ .
(سورة المطففين)
وقال :
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) ﴾ .
(سورة الذاريات)
وقال :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) ﴾.
(سورة الحاقة)
جمع القرآن في الفاتحة :
نحن الآن في دار عمل ، ويوم الدين دار جزاء وحساب ، أما إذا وصل الإنسان إلى يوم الدين فقد انتهى كل شيء ، انتهى اختياره ، وانتهت الفرص كلها ، أمّا الآن فالفرص كلها مفتحة ، أبواب الرحمة مفتحة ، أبواب التوبة مفتحة ، أبواب الاستقامة مفتحة ، أبواب العمل الصالح مفتحة ، لكن إذا جاء يوم الدين انتهى كل شيء ، انتهت حرية الاختيار ، انتهت الدنيا ، ليس التعامل هناك بالأموال بل بالحسنات والسيئات ، يؤخذ من حسنات المسيء ويعوض بها عما اغتصبه :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾ .
(سورة الشعراء)
بعد هذه المقدمة :
﴿الحَمدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ﴾
حينمـا قال النبي عليـه الصلاة والسلام :
(( جمـع القرآن في الفاتحة ))
[ورد في الأثر]
والله معه الحق ، لأن كل شيء في الفاتحة ، الألوهية ، والحمد ، والربوبية ، واسم الله الأعظم : ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ، والمصير الذي لا مفر منه ، ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ ، الآن موقفك المنطقي ؛ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ، لو أن الله عز وجل قال : نعبد إياك لاختلف الأمر ، إذا سبق المفعول به الفعل فهذا أسلوب الحصر ؛ أيْ نعبدك ولا نعبد أحداً معك ، لو قال : (نعبد إياك) شيء ، و(إياك نعبد) شيء آخر ، لذلك فإن أعلى مرتبة يبلغها الإنسان في الأرض أن يدرك أن حق العبادة لله وحده ، وأعلى مقام بلغه النبي أنه كان عبداً لله ، عبداً حقيقياً ، فتطابقَ اختياره مع أمر الله تماماً ، نحن أحياناً لا يتطابق اختيارنا مع أمر الله ، نطبق مثلاً تسعين بالمئة ، وهناك مثلاً عشرة بالمئة لم تطبقها في عملك ، فلست إذاً عبداً كاملاً ، أما العبودية الكاملة أن يكون اختيارك موافقاً مئة بالمئة لما أمر به الله عز وجل ، إذاً أنت عبد لله ، وإن لم تكن عبداً لله فلا بد أن تكون عبداً لشهواتك :
(( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ )) .
[ البخاري عن أبي هريرة ]
إن لم تكن عبداً لله فأنت عبد لشهوتك ، وإن لم تكن عبداً لشهوتك فأنت عبد لعبد من عبيد الله ، فأنت عبد لعبد لئيم ، كن للهِ عبداً فعبد الله حر .
العلة الكبرى لخلق الإنسان على وجه الأرض أن يعبد الله :
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ إن العبادة طاعة تامة ، مبنية على معرفة ، ومنتهية بسعادة ، التعريف الدقيق : طاعة تسبقها معرفة ، وتعقبها سعادة ، وإلا لما كانت لها هذه الأهمية ، قال تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾
(سورة الذاريات)
العلة الكبرى لخلق الإنسان على وجه الأرض أن يعبد الله ، أي أن يعرفه فيطيعه ويسعد بقربه ، ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ، لا نعبد إلا إياك ، قال تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾ .
(سورة الأنبياء)
التوحيد والعبودية لله عز وجل قال تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾ .
(سورة الأنبياء)
وقال :
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)﴾
(سورة طه)
والله هذه الآية تكفي ، الكافر عنده أمل طويل .
الركوع هو الإعلان عن الخضوع لله والسجود هو طلب العون منه :
قال تعالى :
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) ﴾
(سورة الكهف)
نهيٌ إلهيٌ عظيم جداً ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ ، قال تعالى :
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ﴾
لكن العبادة لله عز وجل تحتاج إلى عون من الله عز وجل ، فأنت في الركوع تعلن عن خضوعك لله ، وفي السجود تطلب العون منه ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( لكل سورة حظها من الركوع والسجود .))
[البيهقي عن أبي العالية]
تقول :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾
الأنبياء الصديقين ، الصالحين ، المؤمنين ، أهل العقل ، أهل اللب الطيب ، وذوي النفوس الزكية .
الفرق بين " المغضوب عليهم" و "الضالين" :
قال تعالى :
﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
هناك أناس عرفوا وعصوا هؤلاء الذين غضب الله عليهم ، وهناك أناس ما عرفوا الله عز وجل فهؤلاء هم الضالون :
﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
يقول لك الله عز وجل وكأنه يخاطبك في الصلاة :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) ﴾ .
(سورة النور)
في الركوع تقول : "سبحان ربي العظيم" ، أي خضوعاً لك يا رب بهذا الأمر ، أنا خاضع لك ، أنا مطيع لك ، في السجود تقول : "سبحان ربي الأعلى" ، يا ربي أعني على تنفيذ هذا الأمر ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( لكل سورة حظها من الركوع والسجود .))
[البيهقي عن أبي العالية]
آيات من الذكر الحكيم عن ضعف الإنسان :
كل آية تقرؤها في الصلاة لها ركوع خاص بحسب مضمونها ، ولها سجود خاص بحسب مضمونها ، تبدأ :
﴿الحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾
لا نعبد إلا إياك ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، لكننا ضعاف :
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28) ﴾ .
(سورة النساء)
وقال :
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) ﴾ .
(سورة يوسف)
إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك :
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ على عبادتك ، إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك .
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ﴾ .
عندئذ تتوجه إلى الله عز وجل :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
هؤلاء الناجحون ، هؤلاء المفلحون ، هؤلاء المؤمنون السعداء في الدارين ، الذين عرفوك ، وأطاعوك ، وتقربوا إليك ، وعقلوا عنك ، وسعدوا بقربك ، ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾من يطع الله ورسوله يحشره الله عز وجل مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
هؤلاء الذين عرفوا الله ، وحادوا عن شريعته ، سمعنا وعصينا ، هذا الذي يقول : نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان ، وثمة أدعية من صنع أحدهم : أمرتنا فما ائتمرنا ، ونهيتنا فارتكبنا ، ولا يسعنا إلا فضلك ، هؤلاء مغضوب عليهم .
﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
البطولة أن تقرأ الفاتحة وأنت متمثل لمعانيها :
عرفت الله وتعصيه ، قال رجل لابن الأدهم : ائذن لي بالمعصية ، قال : أشياء خمس إذا فعلتها لن تضرك المعصية ، قال : وما هي ؟ قال : إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن أرضه ، قال : وأين أسكن إذاً ؟ قال : فكيف إذاً تسكن أرضه وتعصيه ؟ قال : الثانية ؟ قال : إذا أردت أن تعصيه فاجهد ألا تأكل من رزقه ، قال : وماذا آكل إذاً ؟ قال : كيف إذاً تسكن أرضه ، وتأكل رزقه ، وتعصيه ؟ قال : هات الثالثة ، قال : إذا أردت أن تعصيه فاجتهد ألا يراك ، قال : وكيف لا يراني وهو رب العالمين ؟ قال : تسكن أرضه ، وتأكل رزقه ، وتعصيه ، ويراك ؟! لذلك :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
نختم هذا الدرس بقوله عليه الصلاة والسلام :
(( القرآن كله في الفاتحة ))
[ورد في الأثر]
تقرؤها في كل ركعة :
(( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )).
[متفق عليه عن عبادة بن الصامت]
البطولة أن تقرأ الفاتحة ، وأنت متمثل لمعانيها .
﴿ الحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
:الإنسان عندما يطيع الله عز وجل وهو مفتقر إليه يعينه على طاعته
عند إياك نعبد ، وإياك نستعين بدأ موقفك العملي ، ما دام الله سبحانه وتعالى رب العالمين ، وهو الرحمن الرحيم ، الذي لا إله إلا هو ، يُحمد على كل شيء ، فماذا تنتظر ؟!!
ألا أنبئكم بمعنى "لا حول ولا قوة إلا بالله" ، أي لا حول عن معصيته إلا به ، ولا قوة على طاعته إلا به ، أي ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ، في سورة سيدنا يوسف مثلاً ، قال تعالى :
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) ﴾ .
(سورة يوسف)
الإنسان عندما يطيع الله عز وجل وهو مفتقر إليه يعينه على طاعته ، فإذا اعتمد على نفسه أوكله الله إليها ، لذلك الإمام أحمد رضي الله عنه قَبْل أن تدركه المنية كان يقول : " كلا ليس بعدُ كلا ليس بعدُ ، فحار تلامذته في ذلك ، فلما تُوفي ـ رحمه الله ـ رآه بعض تلامذته في المنام ، فقال له يا سيدي : كنت تقول : كلا بعد كلا بعدُ ، فقال : يا بني جاءني الشيطان ، فقال : قد نجوت مني يا أحمد ، فقلت : كلا ليس بعد حتى تُنزع الروح من الجسد ، وأنا على الإيمان ، أما الآن ـ بعد الموت ـ فقد نجوت ."
ما دام الإنسان على قيد الحياة ، فمن الممكن أن يصيبه كبر ويقع في المعصية ، أو يصيبه اعتزاز ويقع في الشرك ، فـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ، ودائماً كن في افتقار إلى الله عز وجل .
القرآن خلاصةُ تكاليفه افعل ولا تفعل :
هل من الممكن أن يعبد نبي صنماً ؟ مستحيل ، ورد هذا في القرآن الكريم حينما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه فقال :
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) ﴾ .
(سورة إبراهيم)
معناها مفتقر ، معناها ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بعد أن عزمت على طاعة الله عز وجل ، وعزمت على الاستعانة به ، الآن التفصيلات ، يا رب :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
الآن تقرأ القرآن وهو الصراط المستقيم ، القرآن خلاصةُ تكاليفه : افعل ولا تفعل :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) ﴾ .
(سورة النور)
وقال :
﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (83) ﴾ .
(سورة البقرة)
وقال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) ﴾ .
معان موجزة لآيات الفاتحة :
تقول أنت :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ .
طبعاً "المغضوب عليهم" عرفوا وحرّفوا ، و"الضالين" ما عرفوا أصلاً ، الضالون كثيرون أما المغضوب عليهم أكثر ، أكثر المسلمين يعرف أن له رباً وفي الآخرة جنة ونار ، ومع ذلك يأكل حراماً ، ويطعم حراماً ، ولا يبالي بأمر الله ، ويعصي الله ، ويقول : نحن ضعاف ، نحن عبيد إحسان لا عبيد امتحان وهكذا ، هؤلاء مغضوب عليهم ، وأما الضالون فهم الذين ما عرفوا الله أصلاً ، وأما الذين أنعم الله عليهم فهم من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، هؤلاء الذين أنعم الله عليهم ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ .
في السورة حمد : ﴿الحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ .
وفيها مصير مخيف : ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾.
وفيها موقف عملي : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
وفيها تفصيلات : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ .
حمدت الله ، المسير ، الرحمن ، الرحيم ، وعلمت أن يوم الدين هو يوم الجزاء ، ولا اختيار لك ، ثم رجوت الله ، وأعلنت عن عبوديتك لله ، وعن استعانتك به ، ثم طلبت منه هدايتك للصراط المستقيم ، المنهج الصحيح ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾ ، كلمة آمين : أي استجب يا رب ، ثم تأتي الصلاة .
و الحمد لله رب العالمين