سورة الصف (061)
الدرس (1)
الآيات: (1- 4)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الأول من سورة الصف .
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
1 ـ معنى التسبيح :
( سَبَّحَ ) كما يقول العلماء : نَزَّهَ ومَجَّدَ ، وبعض المفسرين يضيفون إلى التنزيه والتمجيد الخضوع ، لأن الإنسان حينما يعظم الله عزَّ وجل لابدَّ من أن يخضع له ، بل إن الخضوع له علامة تعظيمه ، فمن عَظَّمَهُ بلسانه ، ولم يخضع لأمره فما عظّمه حقيقةً ، فمعنى سبّح أي نزَّهه عن كل نقص ، ومجده ، ونسب له كل كمال ، ثم خضع له ، هذا معنى : سَبَّحَ بالمعنى الدقيق : نزه ومجد وخضع ، بل إن الخضوع علامة التنزيه والتعظيم ، فمن ادعى أنه يسبَّح الله عزَّ وجل ، ولم يخضع لأمره ففي تسبيحه خلل ، أو في تسبيحه كذب ، لأن الله سبحانه وتعالى أهل التقوى وأهل المغفرة .
2 ـ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أما السماوات والأرض فهو مصطلحٌ القرآني يعني الكون ، والكون يعني ما سوى الله ، وكل المخلوقات تُنَزِّهُ ، وتمجد ، وتخضع لله عزَّ وجل ، أما الإنسان فقد أُعطي حرية الاختيار :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
(سورة الأحزاب : الآية 72)
الإنسان مخلوق مكرَّم مخيَّر :
الإنسان مخيَّر ، لذلك يخضع أو لا يخضع ، وبقية المخلوقات خاضعةً حكماً لله عزَّ وجل ، أما الإنسان فقد أعطي حرية الاختيار ، فلما قبِل حمل الأمانة كرَّمه الله عزَّ وجل :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾
( سورة الجاثية : الآية 13)
فالإنسان مخلوقٌ ، والإنسان مخلوقٌ مكرَّم ، والإنسان مخلوقٌ مكلَّف ، مخلوق أوَّل :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
المخلوق المُكَرَّم .
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾
( سورة الإسراء )
إذا كان هناك ألف نوع من الورود والأزهار هذه لمن ؟ هذه لا تؤكل ، ولكنها يستمتع بمنظرها وبرائحتها ، لمَن خُلقت ؟ أنواع الفواكه التي لا تعد ولا تحصى لمن خُلقت ؟ هذه الأرض التي هي أمينةٌ على كل حاجاتنا لمن خُلقت ؟ هذا معنى :
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾
والإنسان هو المخلوق المُكَلَّف ، لقوله تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
( سورة الذاريات )
فكل ما في الكون بسماواته وأرضه يسبِّح لله تسبيح تنزيه ، وتسبيح تمجيد ، وتسبيح خضوع إلا الإنسان ، الذي هو سيِّدُ المخلوقات ، الذي سخرت له السماوات والأرض ، هذا الإنسان أعطي حرية الاختيار ، فإما أن يؤدي الأمانة التي حملها ، وإما أن يخون الأمانة ، وهو حينما قبل حمل الأمانة لم يكن ظلوما جهولا :
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾
( سورة الأحزاب )
هل كان ظلوما جهولا بحمل الأمانة ؟ الجواب : لا ، أما حينما حملها وخانها :
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾
حينما قبِلها لم يكن ظلوماً جهولاً ، بل كان طموحاً ، فلم خانها كان ظلوماً جهولاً .
أيها الإخوة الكرام ، مما يلفت النظر في القرآن الكريم قوله تعالى :
﴿ إِنْ هُمْ ﴾
الكفار .
﴿ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾
( سورة الفرقان : الآية 44)
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
لقد حار المفسرون في معنى قوله تعالى :
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾
أي بهائم ، يعيشون ليأكلوا ، يأكلون ويتمتَّعون كما تأكل الأنعام .
ما معنى قوله تعالى :
﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾
لأن أشد الوحوش شراسةً تنتهي وحشيته حينما يملأ بطنه ، فإذا ملأ بطنه لا يعتدي على أحد ، فقد تمر أمام الوحش الكاسر فيكون أضعف الحيوانات ، حينما يكون شبعان لا يعتدي على أحد ، أما الإنسان لو وفرت له كل حاجاته ، حينما يبتعد عن الله عزَّ وجل يستطيل على خلقه حتى يغدو الشر عنده هدفاً ، فهذه القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما ، وقتلت ثلاثمئة ألف إنسان في أربع ثوانٍ ، هذه وحشيةٌ ما بعدها وحشية ، الأسلحة الجرثومية ، الأسلحة الكيماوية ، الأسلحة النووية ، الآن هناك أسلحة إذا أُلقيت قنبلة على مدينة لا تقتل إلا البشر ، وتبقى الأبنية كما هي ، من أجل أن نأخذ المدينة غنيمةً كما هي دون هدمِها ، فحينما يبتعد الإنسان عن الله عزَّ وجل يغدو شرَّ مخلوقٍ على وجه الأرض .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾
لكن :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾
( سورة البينة )
فالإنسان إما أن يكون فوق الملائكة المقرَّبين ، وإما أن يكون في أسفل السافلين .
﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾
أي أن وحشية الإنسان تفوق أشدَّ الوحوش شراسةً ، هذا إذا ابتعد عن الله .
ومعنى :
﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾
أن الحيوان حينما يموت ينتهي عنده كل شيء ، لا حساب ولا عذاب ، ولكن الإنسان حينما يموت تبدأ متاعبه ، فهو محاسبٌ عن كل كلمة ، وعن كل حركة ، وعن كل ابتسامة ، وعن كل وصل ، وعن كل قَطْع ، وعن كل غضب ، وعن كل رضا ، وعن كل عطاء ، وعن كل منع ، أضل من الحيوانات لأنهم مكلَّفون وسيحاسبون ، أضل من الحيوانات لأن وحشية الإنسان تفوق حاجاته التي يحتاجها .
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
3 ـ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
عزيزٌ ؛ لا يُنال جانبه ، عزيزٌ فردٌ لا شريك له ، عزيزٌ يستحيل أن تحيط به ، عزيزٌ يحتاجه كل شيء في كل شيء ، فردٌ لا شريك له ، يحتاجه كل شيء في كل شيء ، لا يحاطُ به ، بعيدُ المَنال .
حكيم ؛ كل شيءٍ وقع أراده الله ، وكل شيءٍ أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق .
ليس هناك شر مطلق :
أيها الإخوة ، دققوا فيما سأقول : الشر المطلق ؛ أي أن الشر للشر لا وجود له في الكون ، بل إن الشر المطلق يتناقض مع وجود الله ، إما أن تؤمن بأن لهذا الكون إلهاً رحيماً ، حكيماً ، عادلاً ، وإما أن تؤمن بالشر المُطْلَق ، الشر موجود ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ )) .
[ مسلم عن علي ]
الشر ليس إيجابياً ، فحينما تضع مادة سُكَّرِيَّة في محرِّك سيارة يصيبه الخلل ، وتحتاج إلى أن إصلاحه من جديد ، وأن تدفع ثلاثين ألف ليرة لكمية سكر وضعت في المحرك ، السكر مادة أساسية ، مادة مفيدة جداً ، ونحن في أمسِّ الحاجة إليها ، والمحرك مادة أساسية في حياتنا ، من أين جاء الشر ؟ من سوء الاستعمال ، النفط مادة أساسية ، ضع قطرتين منه في الطعام ، انتهى الطعام ، وتلقيه في القمامة ، النفط مادة أساسية ، والطعام مادة أساسية ، فالشر لا وجود له إلا بشكلٍ طارئ من سوء الاستعمال ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ )) .
إن مركبة صُنِعَتْ في أرقى معمل ، وفيها كل وسائل الراحة ، وفيها جمال ، وفيها أناقة ، فيها قوة ومتانة ، أما حينما يقودها إنسان ثمل سكران ، وينزل بها في الوادي ، وتصبح بشكل لا يحتمل ، هذا شر ، مَن خلق هذا الشر ؟ سوء استعمال ، أن يقود إنسان سيارة وهو سكران ، هذه هي النهاية ، ولا يوجد معمل في الأرض يصنعها هكذا ، المعامل تصنع سيارة جميلة متماسكة أنيقة .. أما حينما ترى السيارة قد تدهورت ، ولها منظر لا يحتمل ليس هناك في العالم معمل صنعها بهذه الطريقة ، حينما أسيء استخدامها كانت بهذا الشكل ، فأصل الشر من مخالفة منهج الله ، ومخالفة التعليمات .
أوضح مثلٍ : ثلاث مواد بيضاء مسحوقة ، السكر والملح ومسحوق التنظيف ، لو وضعت السُكَّر في الطبخ فإنه لا يؤكل ، لو وضعت الملح في الحلويات لم تُؤكل ، لو وضعت مسحوق التنظيف فيهما فكلاهما لا يُؤكلان ، هذه ثلاث مواد أساسية ، إذاً من أين جاء الشر ؟ من سوء الاستعمال ، من الجهل ، وما من مصيبةٍ في الأرض إلا بسبب خروجٍ عن منهج الله ، وما من خروجٍ عن منهج الله إلا بسبب الجهل ، انتهى الأمر ، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام منزِّهاً ربَّه :
(( وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ )) .
أما إذا قلت في عقائد المسلم : آمنت بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره و شره ، معنى ذلك هذا هو الشر النسبي الذي نراه نحن شراً ، وهو خيرٌ مطلق :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾
( سورة النور : الآية 11)
الشَّرُّ مُوظَّفٌ للخير :
الحقيقة أن كل شرٍ تتصوره شراً هو خيرٌ مطلق ، لكن شر بالنسبة لإنسان محدود الأُفُق ، فلو ركِب مؤمنٌ مركبةً تدهورت به فأصيب بجرح عميق في وسط جسمه ، وكسر في حوضه ، الطبيب يجري عملية جراحية لترميم الوسط ، وهو يفتح البطن وصل إلى الكُلية ، فرأى فيها ورماً خبيثاً في بدايته ، وهذا الورم الخبيث لا يأخذ أبعاده إلا بعد عشر سنوات ، وهو قاتل ، أما في بداياته فعلاجه سهلٌ جداً ، لأن الكُلية لو استئصل نصفها لبقي الإنسان حيًّا ، فيما يبدو أنه وقع حادث ، أما حينما أردنا أن نضمِّدَ الجراح ، وأن ننظف الجراح وصلنا إلى الكلية ، فإذا فيها ورمٌ خبيث ، استئصل ، فنجا هذا الإنسان من هذا المرض القاتل ، فهذا الحادث خير أم شر ؟ ظهر أنه خير ، ويمكن أن تقيس هذا على كل المصائب ، كإنسان عنده مزرعة يمكن أن يضمنها بخمسمئة ألف ، أتاها يوم الحصاد فإذا هي خاويةٌ على عروشها :
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19)فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾
( سورة القلم )
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(26)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27)قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28)قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾
( سورة القلم )
قال تعالى :
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾
( سورة القلم : الآية 33 )
بسبب هذه الخسارة الكبيرة رجعوا إلى الله ، وتابوا إليه ، واصطلحوا معه ، فلما اصطلحوا معه عوَّضهم عن خسارتهم أضعافاً مضاعفة ، فهذا المحصول المدمَّر خير أم شر ؟ إنه خير ، يجب أن نؤمن أن الشر الذي يفعله الإنسان يوظِّفُهُ الله عزَّ وجل للخير المطلق .
ذهبت امرأة لتفحص صدرها في مستشفى ، الموظَّف أهمل ، فأعطى قريبها نتيجة امرأة ثانية مصابة بالسل ، أليس هذا خطأ كبيرا ؟ أن تقدِّم لإنسان صحيح ما يفيد أنه مريض بمرض عضال ؟ هذه المرأة بقيت تبكي ، وتبكي إلى أن هُدِيَتْ إلى أن تصطلح مع الله ، وأن تتوب إليه ، وأن تعود إليه ، وأن تؤدي الصلوات ، وأن تتحجَّب ، ثم تبيَّن أن الخطأ من الموظف ، وهي سليمة الصدر ليس فيها فيها شيء ، فهذا الخطأ الذي فعله الموظَّف خطأ وشر ؟ كيف وظفه الله عزَّ وجل للخير ؟ كل أخطاء البشر توظَّف للخير ، لو سألتموني : ما الدليل ؟ قال تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
( سورة الأنعام )
قال تعالى :
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾
( سورة القصص )
شرير ..
﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ ﴾
( سورة القصص )
هذا الشر ؛ شر فرعون وظفه الله عزَّ وجل لخير المستضعفين :
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5)وَنُمَكِّنَ لَهُمْ ﴾
( سورة القصص )
فإذا رجعوا ، واصطلحوا مكَّناهم ، وقوَّيناهم على فرعون ليتوب ثانيةً على أيديهم .
﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
( سورة القصص )
هذه سنة الله في خلقه .
" إذا عصاني من يعرفني سلَّطت عليه من لا يعرفني " .
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129) ﴾
بشكلٍ ملَّخص : الشر المطلق لا وجود له في الكون ، بل إن الشر المطلق يتناقض مع وجود الله .
الشرُّ النسبي والشر المطلق :
ما الشر المطلق ؟ النسبي أن تأتي بالمبضع ، وأن تفتح البطن ، وأن يخرج الدم غزيراً ، وأن تغلق هذه الأوعية والشرايين ، وأن تصل إلى الزائدة فتستأصلها ، لأنه لابدَّ من استئصالها ، إن آلامها لا تحتمل ، وتصبح عندئذٍ خطراً على حياة الإنسان ، فتح البطن ، وانهمار الدم ، واستئصال الزائدة ، شرٌ مطلقٌ أم نسبي ؟ نسبي ، أما لو جاء إنسان ، وبقر بطن إنسان بلا سبب ، نقول : هذا الشر مطلق ، بالمعنى التوضيحي ، فحينما أفتح البطن لأستأصل ورماً خبيثاً ، أو لأستأصل زائدةً ملتهبة ، فتح البطن لا يسمى شراً ، يسمى شرًّا نسبيًّا موظفًا للخير ، أما حينما أفعل الشر للشر فهذا اسمه الشر المطلق ، وهذا لا وجود له في الكون ، لأنه يتناقض مع وجود الله ، هكذا الإيمان ، لذلك :
﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾
( سورة آل عمران : الآية 154 )
بعض المؤمنين يظن بالله غير الحق ظن الجاهلية ، الله جلَّ جلاله كماله مطلق :
﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
هذا الكلام حول كلمة الحكيم ، أي الشيء المناسب ، في الوقت المناسب ، بالقدر المناسب ، بالأسلوب المناسب ، ومعنى الحكيم : أن كل شيءٍ وقع لابدَّ من أن يقع ، ولو لم يقع لكان نقصاً في حكمة الله ، من هنا قال بعض الأئمة : " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، أو " ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني " ، وحسن الظن بالله ثمن الجنة ، ونحن في الدنيا ، و فيها شر ، وهذا الشر نسبي ، وهذا الشر موظَّف للخير ، قال تعالى :
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
( سورة السجدة )
أيها الإخوة الكرام ، لو أحصيت المؤمنين في الأرض ، ولا أبالغ لوجدت تسعة أعشارهم اصطلحوا مع الله على إثر مصيبةٍ نزلت بهم ، فهل تُعَدُّ المصيبة شراً ؟
أعرف رجلاً سمعت قصته في قطرٍ آخر ، هو رجل متفلِّت ، منغمس في المعاصي كلها ، لم يُدْخِل الآخرة في حساباته إطلاقاً ، عنده بنتٌ صغيرة أخذت جزءًا من عقله من شدة حبه لها ، أصيبت بمرضٍ خبيثٍ في دمها ، انقلبت حياته جحيماً ، لم يدَعْ طبيباً إلا وعالجها على يديه ، لم يدع بلداً إلا وذهب إليه ، إلى أن اضطر إلى بيع بيته ، والسفر إلى بلدٍ أجنبي بُغْيَةَ معالجتها ، فجأةً خطر في باله لعل الله يشفيها لهم إذا تاب هو وزوجته ، فاتفق مع زوجته على التوبة لله عزَّ وجل ، بدءا يصليان ، وحجّب زوجته ، واصطلحا مع الله ، وهذا المرض تراجع شيئاً فشيئاً إلى أن عوفيت ابنته تماماً ، فهذا الإنسان كان متفلتاً ، كان شارداً ، كان في طريق جهنم ، كان هالكاً في الدنيا والآخرة ، هذا المرض العُضال الذي أصاب ابنته أعاده إلى الله ، وحمله على التوبة ، وجعله يصطلح مع الله ، وذاق طعم القُرب ، فهل يعد هذا المرض شراً مطلقاً أم شراً نسبياً ؟ شر نسبي .
فيا أيها الإخوة ، حينما قال الله عزَّ وجل تعقيباً على قصة أصحاب الجنة :
﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28)قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾
( سورة القلم )
قال تعالى :
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾
( سورة القلم : الآية 33 )
هذه طبيعته ، وهذه بواعثه ، وهذه أهدافه ، العذاب من أجل الخير المُطْلَق ، العذاب شرٌ نسبي من أجل الخير المطلق ، لكن لو أن أبا شدّد على ابنه في سنيّ الدراسة ، إلى أن نال أعلى الشهادات ، وعاش حياةً كريمةً مريحةً ذات دخلٍ كبير ، ألا يترحَّم هذا الابن على أبيه ملايين المرات على أنه ضربه في سن الدراسة ، وضيَّق عليه ، وألزمه البيت ، وتابع دراسته ، وهكذا ، فلذلك الشر المطلق لا وجود له ، والشر النسبي موظفٌ للخير المطلق ، هذا معنى ( حكيم ) .
إذاً :
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
الآن الخطاب للمؤمنين :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
( سورة الصف )
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
1 ـ البيان من خصائص الإنسان :
ذكرت لكم من قبل أن الجماد شيء يشغل حَيِّزاً له وزن ، وله طول وعرض وارتفاع ، أبعاد ثلاثة ، وله وزن ، ويشغل حيزاً ، هذا هو الجماد ، أما النبات فهو شيءٌ له أبعاد ثلاثة ، ويشغل حيزاً ، لكنه ينمو ، هذا هو الفرق الأول ، الحيوان شيءٌ له أبعاد ثلاثة ووزن ، وينمو ، ويتحرَّك ، الإنسان شيءٌ يشغل حيزاً ، وله أبعادٌ ثلاثة ، وله وزن ، وينمو ، ويتحرَّك ، ويفكر ، وينْطِق ، الله عزَّ وجل اختص الإنسان بالبيان ، قال تعالى :
﴿ الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الْإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
( سورة الرحمن )
علَّمه البيان .. ينطق ، يعبر عن مشاعره ، يعبر عن أفكاره ، يعبر عن حاجاته ، بلسانه أو بقلمه ، ويستمع إلى أفكار الآخرين ومشاعرهم بأذنه ، أو يبصرهم بعينه ، يسمع أو يقرأ ، ينطق أو يكتب ، هذه هي اللغة .. القدرة على التعبير عن الأفكار والمشاعر تعبيراً شفهياً وكتابياً ، والقدرة على فهم كلام الآخرين فهماً شفهياً وفهماً مكتوباً ، هذه هي اللغة ، هذه اللغة مما اختص الله بها بني البشر :
﴿ الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الْإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَان ﴾
تصوَّر مجتمعا ليس فيه لغة ، وأردنا أن نمنع التجول ، كيف نوصِل لهم ذلك ؟ تحتاج لكل مواطن إلى شرطي يدفعه إلى البيت ، أما البلاغ فيُلْقى في خمس ثوان لا تجد في البلاد إنساناً يمشي ، أداة اتصال راقية جداً ، أما اللغة المكتوبة فهي أرقى بكثير ، اللغة المقروءة نستفيد منها في قراءاتنا ، أما المكتوبة فتنقل الثقافة من جيل إلى جيل ، فالإمام القُرْطُبي مات قبل ألف عام ، وتفسيره بين أيدينا ، والغزالي ألف كتابه إحياء علوم الدين ، هو مات قبل أقلّ من ذلك ، وكتابه الإحياء بين أيدنا ، هؤلاء العلماء الكبار الذي تركوا آثارا كبيرة جداً ، آثارهم بين أيدينا نستفيد منها ، فبالكتابة تنتقل المعارف والثقافات من جيلٍ إلى جيل ، وبالترجمة من تنتقل أمةٍ إلى أمة ، وهناك كتب عالمية أُلِّفَت باللغة الإنكليزية مترجمة إلى معظم لغات العالم ، وتدرَّس في كل الجامعات ، لذلك قال الله عزَّ وجل :
﴿ الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الْإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَان ﴾
2 ـ قد تكون اللغة أداة تدمير :
من أخص خصائص الإنسان اللغة ، فما أصل اللغة ؟ أن تعبِّر بها عن واقع ، فإن لم تعبر بها عن واقع فقد خنت هذه الأمانة ، كما لو أوهمت إنساناً بشيءٍ لا وجود له ، هذا هو الكذب ، فكما أن اللغة من أخص خصائص الإنسان ، ومن أرقى وسائل البيان ، في الوقت نفسه تنقلب اللغة إلى أبشع أداةٍ للتضليل ، والغُرْمِ بالغُنْمِ ، كما أنها ميزةٌ رائعة لبني الإنسان يتواصلون بها في أفكارهم ، ومشاعرهم ، وفي ثقافاتهم ، ومعارفهم ، في الوقت نفسه حينما لا تفعل ما لا تقول تكون أكبر ضالٍ مضلًٍ في بني البشر ، تقول شيئاً وتفعل غيره .
3 ـ الأنبياء جاءوا بالكلمة :
بماذا جاء الأنبياء ؟ الأنبياء جاءوا بالكلمة ، الآن هناك حضارات مادية ، يقولون لك : صواريخ ، وأقمار صناعية ، وقنابل عنقودية ، وقنابل ذكية ، وأسلحة كيماوية ، وأسلحة جرثومية ، وقنبلة نووية ، وحاملات نفط تحمل مليون طن ، فالحضارة المادية جاءت بمنجزات مُذهِلَة ، نقلوا الصورة ، ونقلوا الرسالة ، ونقلوا عبر الأقمار الصناعية ، وصار العالم كلَّه قرية صغيرة ، وطائرات عملاقة تحمل ستمئة وخمسين راكبا ، أو سبعمئة راكب ، وصار شيئا لا يكاد يُصدَّق .
الأنبياء الذين هم رُسُل الله عزَّ وجل بماذا جاءوا ؟ جاءوا بالكلمة ، كلمةٌ أسعدت الأمم ، كلمة نقلت رعاة الغنم فصاروا قادة الأمم ، وأساس الكلمة الصدق ، أن تعبِّر عن واقع ، فإن لم تُعَبِّر عن واقع فقد أصبحت الكلمة ضالَّةً مضلَّة ، لذلك الآية دقيقة جداً :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
4 ـ الكذب يتناقض مع هوّية الإنسان :
إن قلت عن شيءٍ فعلته في الماضي ، ولم تفعله فهذا كَذِب ، وإن قلت عن شيءٍ ستفعله في المستقبل ، ولم تفعله فهذا إخْلاف ، فالكذب في الماضي ، والإخلاف في المستقبل ، إن قلت كلاماً ينطبق على الواقع فهذا صدق إخباري ، وإن قلت كلاماً فعلته في المستقبل فهذا صدقٌ إخلاصي ، أي أنت قلت : أفعل كذا وفعلت كذا ، أنت مخلصٌ لكلمتك ، إذاً موضوع :
﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
كما قال عليه الصلاة والسلام :
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ )) .
الكذب يتناقض مع هوّية الإنسان ، كَرَّمه باللغة ، واللغة ينبغي أن تعبِّر عن واقع ، أن تعبِّر عن واقعٍ ماضٍ أو مستقبلٍ ، فإن لم تعبِّر عن ذلك فهو الكذب ، وهو من أسوأ خصائص الإنسان .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
لذلك في الأرض آلاف الكُتَّاب الأخلاقيين ، وآلاف المصلحين الاجتماعيين ، وآلاف المربين ، وفي الأرض أنبياء أرسلهم الله للأمم ، لماذا فعل لأنبياء ما يُشْبِه المعجزات ، ولم يفعل كل المصلحين ما فعله نبيٌّ واحد ؟ لأن النبي فعل ما قاله ، ولا تجدُ مسافةً بين أقواله وأفعاله ..
﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ
1 ـ المقت :
المقت أيها الإخوة ليس هو البغضاء ، إنه أشدُّ أنواع البغضاء ، أي إذا لم يفعل الإنسان ما قاله بلسانه مَقَتَهُ الله أشد المقت ، لأنه تعامل مع أوهام ، كان من الممكن أن يتعامل مع وقائع ، ومع أشياء دسمة ، وأشياء نافعة ، إنسان اكتفى أن يقول : أنا معي ألف مليون ، وليس معه ثمن رغيف خبز ، فرح بهذه الكلمات الفارغة ، هذه لا تسمن ولا تغني من جوع ، أما إذا عمل عملاً حقيقياً ، وشَكَّل ثروة كبيرة فإن هذا شيءٌ آخر ، فالذي يتعامل مع الكلمات الفارغة الجوفاء الكاذبة المزوّرة ، هذا إنسان وقع في وهمٍ كبير ، وقع في وهمٍ أنه مؤمن ، وهو ليس كذلك ، هذا من أخطر ما يُصيب الإنسان ؛ أن يعيش في أفكار بعيدة عن الواقع ، واقعه شيء وأفكاره شيءٌ آخر ، وحينما يمتهن الإنسان الفِكر ، ويتعامل مع القيم لفظاً ، ويتعامل مع الخُلُق الكريم َعْرَضاً وبياناً ، وهو ليس كذلك فإنه وقع في شرِّ عمله ، لذلك ربّنا عزَّ وجل يَمْقُتُ هذا الإنسان أشدَّ المقت ..
﴿ كَبُرَ ﴾
من يقول هذا الكلام ؟ ربُّنا .
﴿ كَبُرَ ﴾
2 ـ كَبُرَ مَقْتًا
لا تنسوا أن العظيم إذا وصف شيئاً بأنه عظيم فهو من العظَمة ممّا لا يُوصف ، فإذا قال لك طفل : معي مبلغ كبير ، فإنك تقدِّر أن معه مئة ليرة ، أما إذا قال لك أحد أكبر أغنياء العالم : أنا عندي ثروة عظيمة ، فتقدَّرها بعشرات ألوف الملايين ، طفل قال لك : معي مبلغ عظيم ، وأحد أغنى أغنياء العالم قال لك : عندي ثروةٌ عظيمة ، فإنك تفهم ( العظيم ) من طفل مئة ليرة ، ومن هذا الثري بعشرات ألوف الملايين ، فربنا عزَّ وجل يقول :
﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
" ابن آدم ، عظ نفسك ، فإن وعظتها فعظ غيرك ، وإلا فاستح منّي " .
إيَّاك أيها الداعية أن يخالف فعلُك قولَك :
أحد الدعاة نصح شخصا فقال له : " احذر أن يراك المدعو على خلاف ما تدعوه " ، لأن أيّة دعوةٍ إلى أية فكرةٍ لا تنجح إلا إذا كان فيها مصداقية ، وإذا فقد الإنسان المصداقية انتهى ، وسقط في الوحل وتحت الأقدام ، وقد يكون فصيحاً ، وطليق اللسان ، ومنطقياً ، وأفكاره جيدة جداً ، وعرضه رائع ، وأدلَّته قوية ، أما إذا كشف المدعو أن هذا المتكلِّم المتفقه الذي يعبِّر عن أدقّ المشاعر والأفكار ليس في مستوى دعوته ، لم يجد المصداقية في دعوته ، سقط هذا المتكلم في الوحل ، فكل إنسان يَدَّعي الحق ، لكن المحك هو العمل ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
إن الإنسان يحاسب نفسه ، بل إن المؤمن قريب من الله عزَّ وجل ، وقد يشعر أحياناً إذا فعل شيئاً نهى عنه في حديث له ، فكأن الله عزَّ وجل يعاتبه ويقول : يا عبدي ، هل أنت كذلك ؟! أنت الذي قلت للناس : افعلوا كذا وكذا ، أنت كذلك ؟! ألا تستحي منّي ؟ لذلك يرى أهل النار يوم القيامة في النار إنساناً له شهرةٌ واسعة في حقل العلم ، وقد بُقِرَ بطنه ، وأخرجت أمعاؤه وأقتابه ، فعن عثمان بن عفان قال سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ ، فَيَقُولُونَ : أَيْ فُلَانُ ، مَا شَأْنُكَ ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا
بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ )) .
[ متفق عليه ]
أخطر شيء في الدعوة إلى الله أن تنقلب إلى حرفة مثل أية حرفة أخرى ، هناك أساليب ومعلومات وأفكار ، والإنسان يستقبل الناس ، ويُقنِعهم ، أما هو فبعيدٌ بعداً شديداً عما يدعو إليه ، من هنا كان هذا الدعاء : " اللهمَّ إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علَّمتني منّي ، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أتزيّن للناس بشيءٍ يشينني عندك ، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سِواك ، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أكون عبرةً لأحدٍ من خلقك " .
لا أكون عبرة ، لا أتزيّن للناس بشيء يشينني عندك ، لا أتكلَّم كلام فيه رضاك ألتمس به أحداً سِواك ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ(4) ﴾
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ
1 ـ نعم للوحدة لا للتفرقة :
نستنبط من هذه الآية أن الله يحبُّنا أن نكون متعاونين ، متكاتفين ، أن نكون صفًّا واحداً ، ألاّ نكون متفرِّقين متناحرين ، متباغضين ، متحاسدين ، مختلفين ، والشيء الذي يعصر القلب هو أن أعداءنا على خمسة بالمئة من القواسم المشتركة لكنهم يتعاونون ، ونحن المسلمين على خمسة وتسعين بالمئة من القواسم المشتركة ولا نتعاون ، وهذا أكبر ما يؤلم المسلمين ، كتابنا واحد ، نبيّنا واحد ، سنَّتنا واحدة ، معتقداتنا واحدة ، آلامنا واحدة ، آمالنا واحدة ، لغتنا واحدة ، أهدافنا واحدة ، مع ذلك لا نتعاون كما ينبغي ، والأعداء الأَلِدَّاء على خمسة بالمئة من نقاط الاشتراك ويتعاونون ، والأمر الإلهي :
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
( سورة المائدة : آية 2)
والآن لا يصلح أمر هذه الأمَّة إلا بالتعاون ، والتضامن ، والتكاتف والتآزُر ، ورحم الله الإمام الشافعي فإنه يقول : " نتعاون فيما اتفقنا ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا " .
سمعت تعليقا من أخ كريم على هذه المقولة ، قال لي : أنا أقترح .. طبعاً ليست منه ، ولكن قرأها لعالمٍ جليل .. أن نقول : " نتعاون فيما اتفقنا ، وينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا " ، نتعاون ، ونتناصح بالحكمة والموعظة الحسنة ، هذه الآية الكريمة :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾
2 ـ وجوب لزوم الجماعة :
يحبُّنا الله أن نكون متعاونين غير مختلفين ، متعاونين بكل مشاعرنا وقلوبنا .
لذلك قال النبي الكريم :
عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ )) .
[ الترمذي ]
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ :
(( ... عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ ... )) .
[ الترمذي ]
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ ، يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ )) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ )) .
[ مسلم]
عن جُنْدَب بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ ... )) .
[ مسلم]
ليس من صلَّى الفجر في وقته ، بل في جماعة ، في أقرب المساجد إليه .. فهو في ذمَّة الله حتى يُمسي ، ومن صلَّى العشاء في جماعة فهو في ذمَّة الله حتى يًصبِح .
فما قولكم بالمؤمنين إذا كانوا في قتال ، وفي خط المواجهة الأول ، وفي ساعات الالتحام مع العدو ، ودخل وقت الظهر ، عليهم أن يصلُّوا جماعةً ، في القرآن تفصيل لصلاة الجماعة في أثناء الحرب ، فإذا كنا في أثناء الحرب ينبغي أن نُصَلِّي جماعةً ، فما القول في أيام السلم والطمأنينة ؟
الإنسان الذي لا يصلِّي جماعة ، وليس له جماعةٌ ينضمُّ إليها يتعاون معها ، يستقي من علمها ، يهتدي بفتواها ، إنه إنسان ضائع ، الإنسان قوي مع أخوه ، الأجانب يقولون : واحد زائد واحد يساوي ثلاثة ، أحياناً رجلان اثنان ينتج عنهما أفكار أكثر من عشرة ..
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ﴾
( سورة سبأ : آية 46 )
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾
3 ـ النبي بيّن لنا سبيل التعاون وحذّرنا من سبل التفرقة :
لذلك كل ما من شأنه أن يقوي هذه العلاقة فقد أمر به النبي عليه الصلاة والسلام ، فأمر بإفشاء السلام ، وأمر بتلبية الدعوة ، وأمر بعيادة المريض ، وأمر بالتهنئة إذا أصابه خير ، أمر بالتعزية ، أمر بتشيّيع الجنازة ، أمر بالعطف والإحسان ، أمر بإكرام اليتيم ، فكل ما من شأنه أن يقوي العلاقة بين المؤمنين أمر النبي به ، وكل ما من شأنه أن يُبعِد فيما بينهم نهى النبي عنه ، فنهى عن الغيبة لأنها تُمزِّق المجتمع ، ونهى عن النميمة ، ونهى عن السخرية ، ونهى عن المحاكاة والتقليد ، ونهى عن اللمز والغمز ، وكل ما من شأنه أن يُضْعِفَ العلاقة بين المؤمنين نهى النبي عنه .
لو جمعنا بعض الأحاديث :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ ، التَّقْوَى
هَاهُنَا ، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ ، وَمَالُهُ ، وَعِرْضُهُ )) .
[ مسلم ]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ )) .
[ مسلم ]
فهذه الأحاديث حوالي المائتين تقريباً ، كل ما من شأنه أن يقوِّي العلاقة بين المؤمنين أمر النبي به ، كل ما من شأنه أن يضعِف العلاقة ..
﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾
سيدنا عمر وسيدنا الصدِّيق رضي الله عنهما بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام صار هناك خلاف حول الخلافة ، سيدنا الصديق قال لعمر رضي الله عنه : << يا عمر ، مُدَّ يدك لأُبايعك ، أبو بكر أقوى ، وأفضل ، وأقدم ، فيما أذكر يقول سيدنا عمر : أي أرضٍ تقلِّني ، وأيّ سماءٍ تظلّني إذا كنت أميراً على قومٍ فيهم أبو بكر >> .. هذه فوق طاقتي ، لا أحتملها .. فقال له الصديق : << أنت أقوى منّي يا عمر ، فقال له عمر : أنت أفضل مني ، عندئذٍ قال عمر : قوّتي إلى فضلك >> .
الحقيقة أن التعاون حضارة ، والتنافس همجية ، وهذا كلما ارتقى الإنسان .. فعلى مستوى البيع والشراء إذا تنافس الباعة فلا يربح الكل ، الكل يفلّس .. التنافس هَمَجِيَّة ، أما التعاون فحضارة .
أيها الإخوة ... حينما قال الله عزَّ وجل :
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
( سورة النور )
فوائد اجتماعية :
ماذا نستفيد من كلمة ( جميعا ) ؟ أي حينما يتوب المؤمنون جميعاً نقطف ثمار الإيمان جماعةً ، إذا كنت تعيش بين إخوة مؤمنين فيمكن أن تتعامل معهم كلهم براحة من دون خوف ، وإذا لم يوجد فيهم إيمان واستقامة صار كل تعامل مع واحد منهم معركة ، تخاف أن يقنصك ، تخاف أن يغدر بك ، كل شيء فيه لغْم ، كل شيء قد ينفجر أمامك ، حياة الإنسان مع أناس بعيدين عن الله عزَّ وجل حياة مخيفة جداً ، أما وأنت بين إخوانك المؤمنين فإنهم لا يكذِبون ، فلا تجد كذبا ولا غدرا ولا خيانة ولا إيذاء .. والمسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه ولا يحقره ولا يؤذيه ولا يكذِبه .. ومالك حرامٌ عليه ، عرضك حرامٌ عليه ، دمك حرامٌ عليه .
أنت تعيش بين مؤمنين طيّبين ، عندما يكون الإنسان مع جماعة مؤمنة يرتاح ، حتى لو تعاملوا فيما بينهم مادّياً أحدهم لا يأخذ إلا حقَّه ، أما أهل الدنيا فيأخذون ما لهم ، وما ليس لهم ، الجماعة رحمة ، كذلك أخوك المؤمن ينصحك وتنصحه ، يأخذ بيدك وتأخذ بيده ، يعطيك وتعطيه ، إذا كان الجار العادي فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( أتدرون ما حقُّ الجار ؟ إذا استعان بك أعنته ، وإذا استنصرك نصرته ، وإذا استقرضك أقرضته ، وإذا أصابه خيرٌ هَنَّأته ، وإذا أصابته مصيبةٌ عَزَّيته ، وإذا مرضَ عدته ، وإذا مات شيّعته ،
ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، وإذا اشتريت فاكهةً فأهدِ له منها ، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا ، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده ، ولا تؤذِه بقتار قدرك إلا أن تغرف له
منها )) .
[ وردفي الأثر ]
هذا الجار العادي ، فحياة المؤمنين في سعادة كبيرة جداً ، في تعاون ، في صدق ، في حب ، أحياناً الإنسان يجلس مع إخوانه عشرة ساعات ولا يمل ، توجد مليون نقطة مشتركة ، أفكار مشتركة ، مبادئ مشتركة ، قِيَم مشتركة ، أهداف مشتركة ، أخلاق مشتركة ، طُموحات مشتركة ، آداب مشتركة ، فلذلك قال النبي :
(( الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ )) .
[ أحمد عن النعمان بن بشير ]
وهناك مجتمعات أخرى تعينك على المعصية ، وتشدُّك إلى الدنيا .
نختم الدرس بقول النبي عليه الصلاة والسلام ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا ، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ )) .
[ الترمذي ]
انضم للمؤمنين تَسْعَد بهم ، وكن مع المؤمنين لأن الله عزَّ وجل أمرك بأمر قطعي الدلالة فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
(سورة التوبة )
أي من أجل أن تستطيعوا أن تتقوا الله كونوا مع الصادقين ، أنت بحاجة إلى بيئة مؤمنة ، لأنه مهما تكن الأفكار دقيقة وعالية فإن البيئة لها أثر خطير جداً ، فيجب أن تكون لك بيئة طيّبة ، بيئة طاهرة ، بيئة مؤمنة ، بيئة راقية .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
(سورة التوبة )
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾
( سورة الكهف )
المؤمنون إذا ذهبوا في نُزهة فهي جنَّة ، يذكرون الله عزَّ وجل ، يتعاونون ، لو جلسوا في جلسة حَفَّتهم الملائكة ، ونزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وذكرهم الله في من عنده .
والمؤمن إذا سهر مع إخوانه يسعد بهم ، وإذا سافر معهم يسعد بهم ، وإذا شاركهم يسعد بهم ، فلذلك :
(( الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ )) .
[ أحمد عن النعمان بن بشير ]
(( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا ، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ )) .
[ الترمذي عن أبي سعيد الخدري]
هذا كلُّه مستنبط من قوله تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾
عندما كان النبي الكريم في غزوة من الغزوات سأل عن أحد الصحابة ، فغمز أحدهم أنه سرَّه النظر إلى عطفيه ، وسرُّه بستانه ، فهو في ظلٍّ ظليل .. أي إنه آثر مصالحه الدنيوية على أن يغزو معك .. النبي سكت ، فجاء رجل وقال : " والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيرا ، والله يا رسول الله لقد تخلَّف عنك أناسٌ لو علموا أنك تلقى عدّواً ما تخلَّفوا عنك ، وما نحن بأشد حباً لك منهم " ، فتبسَّم النبي ، وسُرّ من هذا الموقف .
دافع عن أخيك ، ولا تكن عونا للشيطان عليه ، كن عوناً له على الشيطان ، إذا أخطأ أخوك فاستره ، ودافع عنه ، النبي قال :
(( التمس لأخيك عذراً ولو سبعين مرَّة )) .
[ ورد في الأثر ]
يروى عن قاضٍ من كِبار القضاة دخلت عليه امرأةٌ ، يبدو أنه ظهر منها صوت بَشِع ، فتألَّمت ألماً شديداً ، وقالت لأختها : إنه سمعنا ، عندما وصلت إليه قال لها : ما اسمك يا أختي ؟ فقالت له اسمها ، فقال لها : لم أسمع ، ارفعي صوتك ، فرفعت ، فقال لها : لم أسمع لأنني ضعيف السمع ، فقالت لها : انظري إنه لم يسمعنا .
إن الإنسان كلَّما ارتقى لا يكون قنَّاصا ، عيّابا ، همَّازا ، لَمَّازا ، يبحث عن العيوب ، المؤمن يبحث عن الكمال ، فكل واحد فيه كمال وفيه نقص ، المؤمن الراقي يبحث عن النواحي الإيجابية ، لذلك النبي لم يواجه أحد بما يكره ، كان يقول على المنبر :
(( مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا )) .
[ مسلم عن أنس ]
يكون الواحد قد فعلها فلم يسمّ أسماء ..
مرَّة كان أصحابه مدعّوين ، وهو معهم فظهرت رائحة ، أذَّن العصر ، فقاموا إلى الصلاة ، هم جميعاً صلَّوا الظهر ، والآن أذَّن العصر ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( كل من أكل لحم جزور فليتوضأ )) .
[ ورد في الأثر ]
الأكل كان لحم جزور ، فقالوا : كلَّنا أكلنا ، فقال : كلكم يتوضَّأ " .. من أجل أن يضيع هذا الذي انتقض وضوءه ، لا تحمِّروا الوجوه ، هذا معنى :
﴿ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾
الآن تجد خلافات على مستوى أسرة واحدة ، الإخوة متحاربون ، الأصهار متحاربون ، أولاد العم متحاربون ، الشركاء متحاربون ، ما هذه الحياة ؟ الشيطان دخل فيها ، أما المؤمنون فهم متعاونين ، متآزرون ، متكاتفون ، متضامنون ، متناصحون ..
(( المؤمنون بعضهم لبعضٍ نصحة متوادُّون ولو ابتعدت منازلهم ، والمنافقون بعضهم لبعضٍ غششةً متحاسدون ولو اقتربت منازلهم )) .
﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ﴾
في آية واحدة أو في آيتين الله عزَّ وجل أعلمنا من يكره ومن يحبّ ، يكره الذي يقول ما لا يفعل ، ويحب المتعاون مع إخوانه المؤمنين ، الذي يلتمس لهم العذر :
(( التمس لأخيك عذراً ولو سبعين مرَّة )) .
إن شاء الله في درسٍ قادم نتابع الآيات :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
والحمد لله رب العالمين
