سورة النجم 053 - الدرس (7): تفسير الأيات (39 – 41) - عدل الله المطلق يوم القيامة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة النجم 053 - الدرس (7): تفسير الأيات (39 – 41) - عدل الله المطلق يوم القيامة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - بئس الضجيع - الشيخ توفيق الصايغ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - ضوابط التفاؤل - د. أحمد السيد           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 17 - موعد تحرير فلسطين - د. راغب السرجاني           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية - 438 - شد الرحال للأقصى - الشيخ محمد ماهر مسودة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 398 - سورة المائدة 032 - 033           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 163 - أنا عند ظن عبدي بي         

الشيخ/

New Page 1

     سورة النجم

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة النجم ـ الآيات: (39 - 41) - عدل الله المطلق يوم القيامة

25/08/2013 18:19:00

سورة النجم (053)
 
الدرس (7)
 
تفسير الآيات: (39-41)
 
عدل الله المطلق يوم القيامة
 
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً  وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون : مع الدرس السابع من سورة النَجم ، ومع الآية التاسعة والثلاثين .
 
مكانة الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح : 
 
قال تعالى  :
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
هذه الآية أيها الأخوة أصلٌ من أصول الدين ، أي أن الإنسان لا يمكن أن ينالَ ثواب عملٍ لم يفعله ، كما أنه لا يمكن أن يُنتقص من عمله عملٌ فعله ، فلا إضافة تضاف إلى عمله و لا ينقص من عمله شيء ، ولو أن الله سبحانه وتعالى (فرضاً) قال : وللإنسان ما سعى ، فقد نفهم من هذا الكلام أن له ما سعى ، وله ما لم يسعَ ، أما حينما جاءت هذه الآية بصيغة القصرِ ..
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
 
فهذا يعني أنه لا يمكن أن يناله شيءٌ من ثواب الآخرين ولا من أعمال الآخرين ، كما أنه لا يُنتَقَص لا من عمله ولا من ثوابه ، بل عمله وحده يُحاسَب عليه ، ومكانته عند الله بحجم عمله الصالح ، ليس له إلا ما سعى .
 
فعل الخيرات صدقة جارية بعد موت الإنسان : 
 
لذلك فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى استنبط من هذه الآية أن الميِّت لا يصله إلا ثواب عملٍ عمله في حياته ، وحينما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مُسْلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه :
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )) .
( صحيح عند ابن خزيمة عن أبي هريرة)
والثلاثة من سعيه قبل أن يموت ، صدقةٍ جارية ، أنشأ مَيْتَماً مثلاً ، أو أنشأ معهداً شرعياً ، أو أنشأ مستشفى خيرياً  ، أو أنشأ وقفًا ، أو أنشأ بناء لحلِّ مشكلات الناس ، الأوقاف التي كانت من قبل دليل رغبة الناس الصادقة في فعل الخيرات ، فهذه هي الصدقة الجارية ، ساهم في بناء مسجد ، أو في بناء مستوصف خيري ، أو في بناء مستشفى خيري ، أو في بناء جمعية خيرية ، أسس مشروعاً خيرياً ، أسَّس عملاً خيرياً ، (( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ .. )) شقَّ نهراً ، أقام جسراً ، أنشأ مدرسة ..
((....وعلمٍ يُنْتًفعُ به))تعلَّم وعلَّم وترك أثراً ، فألَّف تفسيراً ، أو كتاباً في الحديث ، الإمام النووي ترك آثاراً طيّبة جداً ، العلماء الكبار ، هؤلاء المجتهدون الأربعة وسواهم ،
 
المفسِّرون ، المحدِّثون ، علماء الحديث ، علماء الفقه ، علماء التفسير ، علماء العقيدة ، حتى علماء الفرائض ، وعلماء  التجويد ، كل هؤلاء تركوا علماً يُنْتَفَع به .
 
العمل الصالح ، الصدقة الجارية ، الولد الصالح : من سعي الإنسان قبل أن يموت : 
 
 الإمام الغزالي مثلاً ترك كتاب الإحياء ، كان يضمُّ درسه أربعمئة عمامة ، فلَّما توفي انفضَّ المجلس ، فماذا بقي من الغزالي ؟ بقي كتاب الإحياء ، مضى عليه ألف عامٍ ينتفع به المسلمون والعلماء ، والخطباء والمعلِّمون ، فإذا تركت أثراً علمياً ؛ كتابَ تفسيرٍ ، كتاباً في الحديث ، كتاباً في الفقه ، كتاباً في العقيدة ، كتاباً في السيرة انتفع الناس به ، قرؤوه في كل الأقطار والأمصار ، هذا من الصدقة الجارية ، علمٍ يُنتَفع به ، أو ربَّيت ولداً وهيأته ليكون داعيةً إلى الله عزَّ وجل ، علَّمته العلم الشرعي ، لكن الآباء الآن يضنون بأبنائهم أن يعلِّموهم العلم الشرعي ، يريده طبيباً ، ولو كُشِفَ له الغِطاء أن هذا الابن إذا علَّمته العلم الشرعي وهيّأته ليكون داعيةً فكل هؤلاء الذين يهتدون على يديه في صحيفة الأب ، لكن هذه الحقيقة تغيب عن كثيرٍ من الآباء ، حبَّذا لو أنَّ كل أب اختار من أولاده النجيب المتفوِّق الألمعي وعلَّمه العلم الشرعي ، وسلَّكه طريق الإيمان ليكون داعيةً ، فكل أعماله في صحيفة الأب ، فهذا الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم يقول :
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )) .
( صحيح عند ابن خزيمة عن أبي هريرة )
هذه الثلاثة من سعي الإنسان قبل أن يموت ، والله سبحانه وتعالى يقول  :
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
 
كل إنسان ينال جزاء عمله يوم القيامة :
 
إياك أن تتوهَّم أنه يمكن أن ينالك من سعي الآخرين شيءٌ ، حتى إن الأب (دققوا فيما سأقول) إذا كان على غير المنهجٍ القويم ولم يعمل لآخرته إطلاقاً ، وجاءه ولدٌ صالحٌ ، وكان هذا الأب على خلافٍ معه طوال حياته ، وكان يمنعه من طلب العلم الشرعي ، وكان لا يرضى عن سلوكه ، فلو أن هذا الابن أصبح أكبر داعيةٍ في الأرض فلن ينال الأب منه شيئًا ، لماذا ؟ لأنه ما أراده كذلك ، ولم يُسهِم في تكوينه كذلك ، فالقضية دقيقة الدلالة جداً ..
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
 
      
لا يُضاف لك شيء لم تفعله ، كما أنه لا يُحذَف شيءٌ مما فعلته ، عملك تنال جزاءه جزاءً وفاقًا،وفاقَ النية الطيبة وحجم العمل .
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
 
كل عملٍ للميت نصيب فيه قبل موته يصل إليه :
 
إلا أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال  :
((أسرع الدعاء إجابةً دعوة أخٍ لأخيه بظهر الغيب ))
وتوجد رواية ثانية :
((دعوة الأخُ لأخيه بظهر الغيب لا تُرد ))
كيف ؟ أيضاً هذه الدعوة من سعي الإنسان،فلو أنك كنت محسناً لأخيك وغمرته بإحسانك ، فلمَّا غبت عنه وألَمّ بك مكروه دعا لك ، لماذا دعا لك ؟ لأنه تذكَّر إحسانك إليه فدعا لك ، حتى حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ((دعوة الأخُ لأخيه بظهر الغيب لا تُرد )) ، علَّله بعض العلماء : أن الإنسان لا يتذكَّر أخاه إلا إذا كان محسناً له ، فإذا أحسنت إلى أخيك ، وألمّ بك مكروه ، ودعا لك بظهر الغيب فإن دعوته لا تُرد ، وهذه الدعوة ثمرة من ثمار عملك الصالح .
كما أن الصدقة تصل إلى الميت بعد موته لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن هذا ووضَّحه ، ولولا أن هذا الميِّت ترك أثراً طيّباً في تربية أولاده ، وفي معاونة إخوانه ، وفي مواساة أحبابه لما تذكَّروه بعد موته وأنفقوا هذه الصدقة على روحه ، فالصدقات تصل ، والدعاء يصل ، وكل عملٍ للميت نصيب فيه قبل موته يصل إليه ، وهذا ينطلق من قوله تعالى :
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
    
تربية الأولاد التربية الصالحة من أعظم الأعمال عند الله : 
 
أيها الأخوة الأكارم: هذا حديثٌ دقيق المعنى ، من أدقِّ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، اعمل عملاً يستمّر أثره بعد الموت ، هذا العمل لا ينقطع ثوابه ، والإنسان في قبره تأتيه الخيرات ، هذا الولد الذي ربَّيته ، الذي سهرت في تربيته ، الذي جعلته معك رفيقاً ، الذي أخذته إلى المسجد ، علَّمته القرآن ، جَهدتَ في تربيته وتوجيهه ، بذلت من مالك من أجل إكرامه، زوّجته ، هذا الابن الذي ساهمت في تكوينه وتكوين إيمانه ذخرٌ لك من بعدك ، لذلك تربية الأولاد التربية الصالحة تُعدُّ من أعظم الأعمال عند الله عزَّ وجل ، لماذا ؟ لأن ثوابها لا ينقطع بالموت ، أيّ عملٍ صالح إذا فعلته ينتهي عند الموت إلا تربية الأولاد ..
(( من كن له ثلاث بنات فعالهن وآواهن وكفهن ، وجبت له الجنة . قلنا : وبنتين ؟ قال : ' وبنتين ' . قلنا : وواحدة ؟ قال : ' وواحدة ))
( أخرجه الطبراني عن أبي هريرة )
أي : إذا إنسان رزقه اللهُ فتاةً فربَّاها تربيةً إسلامية ، عرَّفها أمر دينها ، عرَّفها بكتاب الله ، جعلها زوجةً صالحةً تقيةً ورعةً مطواعةً لزوجها ، اختار لها الزوج المؤمن الذي يحفظ لها دينها ، هذه الفتاة تأخذ بيد أبيها إلى الجنَّة ، هؤلاء الفتيات ذكرهنَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام  فقال :
(( إنهنَّ المؤنسات الغاليات ))
( رواه أحمد و الطبراني عن عقبة بن عامر )
لماذا ؟ لأن كل فتاةٍ في البيت (دققوا فيما سأقول) يمكن أن تكون سبباً في دخولك الجنَّة ، كل فتاةً إن ربَّيتها تربيةً إسلامية ، إن ربيتها على العفاف ، إن ربيتها على طاعة الله ، إن حجبت مفاتنها عن الأجنبي وبقيت للمحارم ، إن اخترت لها زوجاً مؤمناً يحفظ لها دينها ، يتابع طريق إيمانها ، هذه الفتاة سببٌ لدخولك الجنَّة .
      
العلم أثره باق وثمرته لا تنقطع : 
 
أيها الأخوة : تربية الأولاد والعلم الذي يُنتفع به ، أثرُهما باقٍ ، وثمرهما لا ينقطع أبداً إن شاء الله ، مرَّةً قرأت تفسير آيةٍ في كتاب تفسير ألَّفه صاحبه قبل ألف عام ، لفت نظري دقَّة هذا التفسير فجعلته موضوع خطبةٍ وألقيتها على الإخوة الكرام ، شعرت أن أثراً كبيراً تركته في الناس ، تذكَّرت هذا المفسِّر الذي كتب هذا التفسير قبل ألف عام ، فمن هذه الخطبة جاءه الخير ، وذُكر بالخير ، لا تجد إنساناً يترك أثراً علمياً ؛ كتاب تفسير مثلاً ، أو كتاب حديث ، أو كتاب فقه ، أو كتاباً في العقيدة ، أو كتاباً في فروع الدين ، أو كتاباً في الآيات الكونية ، لا يوجد إنسان يترك أثراً علمياً ويموت ، إلا وكلُّ مَن قرأ هذا الكتاب ، وكل من انتفع بهذا الكتاب ، وكل من اقتبس من هذا الكتاب ، وكل من ضمَّن في دعوته وفي خطبه مما في هذا الكتاب فهو في صحيفة المؤلِّف إلى يوم القيامة .
فالإنسان إذا كان عاقلاً يبحث عن عملٍ يدوم ، يبحث عن عملٍ كأني أقول يلغي موته ، سيدنا علي يقول : " يا بني العلم خير من المال ، لأنَّ العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تنقِصُه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ، يا بني مات خُزَّانِ المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة " . يجب أن تحدِّث نفسك بطلب العلم ، ويجب أن تُعَلِّم بعد أن تحصِّل العلم ، لأن خيركم كما قال النبي الكريم :
(( خيركم من تعلم القرآن و علمه )) .
( البخاري عن عثمان)
 
الصدقة الجارية في صحيفة الإنسان إلى يوم القيامة :
 
ينبغي أن تدع أثراً ، ولو رسالة صغيرة ، ولو بحثاً صغيراً ، ولو تركت أثراً في أولادك ، أحياناً ألتقي مع بعض الأخوة الطيّبين ، كلَّما ذكر أباه ترحَّم عليه ، ويقول : أبي علَّمنا أن نصلي الفجر في المسجد ، أبي علَّمنا ألاّ نكذب،أبي علَّمنا أن نتواءم بعد وفاته ، أبي علمنا أن نحسن للناس ، أبي علمنا أن نكون صادقين ، كل أعمال هذا الابن في صحيفة أبيه ، أنت أمام أبواب لا يعلم إلا الله خيراتها ؛ تربية الأولاد ، وطلب العلم ، وتعليم العلم ، وترك أثراً علمياً ، وصدقةٍ جارية ، بناء مسجد .
أناكنت أقول حينما تأتيني لجان من المساجد الأخرى للتبرُّع ، أقول : كل من صلى في هذا المسجد ، وكل درس يعقد في هذا المسجد ، وكل دمعةٍ تنهمر من عين مصلٍ في هذا المسجد ، وكل توبةٍ تعقد في هذا المسجد في صحيفة من بناه إلى يوم القيامة ، فالصدقة الجارية ، أحياناً مسجد،وأحياناً معهد شرعي ، هناك معاهد شرعية الآن تعدُّ مفخرة ، تضم آلاف الطُلاَّب ، ماذا يُعَلَّمون ؟ يُعَلَّمون الكتاب والسنَّة ، والفقه والتفسير ، والآداب الإسلامية والعقيدة الصحيحة ، فإذا الإنسان ساهم ببناء مسجد ، أو بترميم مسجد ، أو بتأمين مرافق المسجد ؛ من نحو : تكبير الصوت ، الإضاءة ، التدفئة ، التكيّيف ، الفرش ، ساهم بالتدريس في المسجد ، ساهم بدعم هذا المسجد ، كل هؤلاء لهم عند الله أجرهم ، هذه الصدقة الجارية ؛ مسجد ، مستشفى خيري ، مستوصف خيري ، معهد شرعي ، مرفق عام مفيد جداً.
 
على الإنسان أن يترك أثراً من عمل الصالح ينفعه بعد موته :
 
هؤلاء الأجداد المرجة في دمشق هذه أرضٌ وقفية ، أوقفها أصحابها للدوّاب المريضة كي ترعى وتستريح ، هناك أوقاف في الشام لا يعلهما إلا الله كلها تنطلق من أعمال الخير ، العصر ونية هي وقف ، فكل طفلٍ أو خادمٍ انكسر معه إناءٌ وله سيدٌ قاسٍ يأتي إلى هذا المكان فيأخذ الإناء الجديد ويعطيهم أثراً من القديم ، كم مشكلة حُلت بهذه الطريقة ؟ وكانت هناك بمارستانات قديماً ، مستوصفات خيرية مجَّانية ، طعام مجاني للفقراء ، سبحان الله كان السلف الصالح همُّهم الوحيد خدمة الخلق ، والتقرُّب إلى الله عزَّ وجل ، الآن همّه الفيلاّ ومسبح فيها ، ومركبة فاخرة ، وقضاء إجازة في أنحاء العالم ، همه المتعة فيموت صفر اليدين ، كان الأجداد همهم العمل الصالح ، همهم تركُ أثر ، والأبواب مفتوحة أيها الأخوة ، بإمكانك أن تطلب العلم ، بإمكانك أن تحفظ كتاب الله ، بإمكانك أن تتعلَّم علم التجويد ، بإمكانك أن تعلِّم التجويد ، بإمكانك أن تعلِّم ما علَّمك الله ، وهكذا تكون قد تركت أثراً علمياً ، ألِّف كتاباً صغيراً إذا كنت من أهل التأليف ، اترك أثراً علميًّاً ، اترك أثراً فكريًّاً ، اترك أثراً اقتصادياً ، أثراً من عمل الصالح ترجو ثوابه عند الله سبحانه .
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )) .
( صحيح عند ابن خزيمة عن أبي هريرة)
 
أعظم عملٍ على الإطلاق الاستقامة و الدعوة إلى الله :
 
هل بيننا شخص ليس له ابن ؟ فهذا الابن يجب أن تفكر تفكيراً ملياً أن تجعله داعيةً ، وعلى الله رزقه ، وتأتي الدنيا وهي راغمة ، حينما جُعِلَ الصف العاشر في التعليم الشرعي خاص بالمتفوقين أعرض الناس عنه ووضعوا أولادهم في التعليم العام ، فلماذا لا تجعل ابنك يدرس العلم الشرعي ؟ لمَ لا تجعله داعيةً ينفع الناس بعلمه ، لمَ لا تجعل كل دعوته في صحيفتك ؟ هذا هو العمل العظيم ، فالأعمال كثيرة جداً ، وربنا عزَّ وجل قال :
 
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
 (سورة فصلت (
خالق الكون يقول لك : إن أعظم عملٍ عندي على الإطلاق أن تستقيم على أمري وأن تدعو لي . أكرِّر قوله تعالى ثانية علَّه ينفذ أثره إلى قلوب الآباء :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
 
 
عدم وصول الإنسان إلى الجنة إلا بعمله الصالح : 
 
يحب أن تفكِّر جديّاً ، فهذه المساجد من يتولَّى أمرها ؟ كيف ينقرض العلم ؟ بموت العلماء ، والشيء المؤلم أنه كلَّما توفي عالم ليس هناك من يخلفه،فبموته انهدم ركنٌ من أركان الأمَّة ، فلابدَّ من أن نهيئ دعاة إلى الله يخلفون السلف ، وفي القطر أربعة آلاف مسجد ، فمن لهذه المسجد ؟ كلها تحتاج لخطباء صحيحة عقيدتهم ، مستقيمي السلوك ، نيري الذهن، مثقَّفين ثقافة عالية لكي يتركوا أثراً في الناس ، فلذلك لابدَّ لكل إنسان أن يفكر تفكيراً جديًّاً : كيف أدعو إلى الله ؟ إما من خلالك شخصياً أو من خلال أولادك ، فلماذا لا تتمنّى إلا أن يكون ابنك طبيباً ؟ آلافٌ مؤلَّفةٌ يحلّون محلّ ابنك في هذه الحرفة ، لماذا لا تتمنّى ابنك إلا أن يكون مهندساً ؟ لمَاذا لا تتمنى أن يكون ابنك داعيةً إلى الله عزَّ وجل ؟ لِمَ لَمْ تهيئه منذ صغره ليكون عالماً ؟ وهذا كله في صحيفتك ، فلذلك إما أن تدعو أنت مباشرةً ، أو من خلال أولادك ، أو أن تدعم إنسانًا يدعو إلى الله عزَّ وجل ، وهذا بإمكاناتك ، لأن الحياة تحتاج إلى دعم في مختلف مناحيها ، فلذلك :
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾
فهذه الآية أصل من أصول العقيدة ، فكثير من الأفكار والقصص الخرافية توهم أن الإنسان بكلمة أو بدفعة من عالِم صار من أهل جنة ، هذا كله كلام لا معنى له ، لن تصل إلى الجنة إلا بعملك الصالح .
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
 (سورة النحل (
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ..
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
 (سورة الأحقاف : آية " 19 " )
 
الداعية إلى الله عمله في صحيفة أبيه إن رباه على ذلك :
 
 فيا أيها الأخوة الكرام : هذا الحديث الشريف هو محور هذا الدرس :
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ .... )) .
( صحيح عند ابن خزيمة عن أبي هريرة)
 
اختر من بين أولادك النجيب المتفوق ، الألمعي وقل : هذا سيكون داعيةً إن شاء الله ، أدخله المعاهد الشرعية ، والحمد لله عندنا معاهد شرعية كثيرة ، والشهادة التي ينالها طالب المعهد الشرعي تعادل الشهادة العامَّة تماماً ، الذي يحمل ثانوية شرعية يدخل أي فرع في الجامعة ، طبعاً الفرع الأدبي ، فهناك تعادل الشهادات والحمد لله ، وهناك دعم للتعليم الشرعي وهذا من فضل الله عزَّ وجل ، فرصة ، فكل واحد يفكر أن يعلِّم ابنه التعليم الشرعي ، أن يجعله عالِماً ، أن يجعله داعيةً ، هذه المساجد تحتاج إلى خطباء ، تحتاج إلى علماء ، تحتاج إلى مدرِّسين ، فعندما يفكر الإنسان تفكيراً جيداً بأن يجعل ابنه داعيةً إلى الله عزَّ وجل وفق المنهج الصحيح ، وفق العقيدة الصحيحة ، وفق الأسلوب التربوي الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلَّم فهو عندئذٍ يكون ممن تنطبق عليه هذه الآية :
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
 
النية وراء كل عمل صالح : 
 
ذكرت فكرة وسأعيدها مرَّة ثانية : لو أنَّ أباً أنجب ولداً وهذا الابن تديَّن تديّناً صحيحاً ولم يكن الأب راضياً عن تديّنه ، يريده أن يكون في عمل آخر وله شأن آخر ، لو أن هذا الابن أصبح أعلم العُلماء ، وأكبر الدعاة لا ينال الأبَ من ابنه شيء ، لأنه لم ينوِ ولم يرِدْ منه ذلك ، أراده إنسانًا متفلِّتًا ، فالعبرة هي النية :
(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى...))
( متفق عليه عن عمر بن الخطاب )
إذا دخل الوالدُ إلى بيته ورأى أولاده وبناته وقلَّب النظر فيهم ، فإن كان الولد ذكراً فإنه يمكن أن يكون أحد أكبر أسباب سعادتك الأبدية إذا عرَّفته بالله ، وإذا حملته على طاعة الله ، وإذا هيَّأته ليكون عالماً ، أو  ليكون داعيةً ، أو ليكون عضواً نافعاً في المجتمع ، ثم هناك أبوابٌ لا تعدُّ ولا تُحصى للصدقة الجارية ، وإن كان الولد بنتاً و أحسنتَ تربيتها كانت من المؤنسات الغاليات و أخذت بيدك إلى الجنة .
هذه المساجد التي تفتخر بها دمشق من بناها ؟ من ساهم في بنائها ؟ من ساهم في تأسيسها ؟ من عَمَرَها بالصلاة وبالتدريس والخطبة ؟ فهؤلاء جميعاً شركاء في الأجر ، والولد الصالح الذي يدعو لك من بعدك ، والصدقة الجارية ، والعلم الذي يُنتَفع به كل أولئك في صحيفتك إن شاء الله .
 
 الحد الأدنى أن تدعو إلى الله في حدود ما تعلم :
 
الإنسان أحياناً ولا أبالغفيما أقول : فأنت إن حضرت مجلس علم والدرس ساعة أليس في الدرس آية تركت أثراً في نفسك ؟ حضرت خطبة ، وإنك تحضر الدروس والخطب من عشرين سنة ، ولكن ألم تجد آية واحدة تركت أثراً عميقاً في نفسك ؟ ألا يوجد حديث شريف هزَّ أعماقك ؟ ألا توجد قصَّة لصحابي جليل غيّرت مجرى حياتك ؟ ألا تستطيع أن تنقل هذه الآية ، أو ذاك الحديث ، أو تلك القصَّة إلى الآخرين ؟ بأسلوبك المتواضع ، ولو بلغتك العامّية ، لمن حولك ، هل هناك إنسان ليس حوله أشخاص ؟ هل تجد إنسانًا لا يلتقي مع أقربائه في الأسبوع عدة مرَّات ؟ في سهرة ، أو خِطبة ، أو لقاء عائلي ، أو عقد قِران ، وأحياناً مواساة في حزن ، وعيادة مريض ، أو وليمة ، أو سفر ، أو نزهة ، فكل إنسان يعيش في مجتمع من الأهل والأصدقاء والجوار ، في هذه اللقاءات ماذا تقول وبِمَ تتحدث ؟ عن أي شيء تتكلَّم في هذه اللقاءات ؟ ألا ينبغي أن تحدِّثهم عما فهمته من كتاب الله ؟ ألا ينبغي أن تحدثهم عما فهمته من كلام رسول الله ؟ ألا ينبغي أن تحدثهم عن بعض مواقف الصحابة وما أكثرها و ما أجلّها  ؟ فأنت داعية بهذه الطريقة ، أنا لا أكلِّفك أن تكون العالِم الوحيد ، وحيد عصره ، ووحيد زمانه ، في حدود ما تعلم أنت داعية ، قد لا يصل الأمر إلى أن تكون من العلماء الكبار اللامعين ، أنت سمعت آية واحدة ، حديثاً واحداً ، قصَّة واحدة ، أليس بالإمكان أن تعيدها لمن حولك ؟ لأقربائك ، لأولادك ، لإخوانك ، لزملائك ، لمن معك في العمل ، لشركائك ، لأولاد أخوتك ، أنت عايش مع الناس ، لمَاذا لا تجعل كل لقاءاتك مع الآخرين لقاءات دعوة إلى الله ؟ لقاءات تذكير ، لقاءات تعريف بالله عزَّ وجل ، أنت طالب علم ، أنت معدودٌ على أهلك أنك طالب علم فأين علمك ؟ وأين حديثك عن الله عزَّ وجل ؟
 
أبواب الجنة مفتحة أمام الإنسان :
 
      ولعلَّك أنْ تنقل تفسير آيةٍ واحدةٍ تنقذ بها إنساناً ، هذا الإنسان هو وأهله ، وأولاده ، وذرِّيّته إلى يوم القيامة في صحيفتك ، ما قولك الملاحظ  أنَّ هناك إخوانًا يتوهَّمون أن حضور الدرس هو كل شيء ، والله حضور الدرس وحده ليس بشيء ، إلا في حالة واحدة وهي أن تنطلق منه إلى فعل كل شيء ، حضور الدرس من أجل أن تخرج للعمل ، فالنبيُّ عليه الصلاة والسلام يعلّمنا أنَّ أحدنا إذا دخل بيت الله عليه أنْ يدعو فيقول : ((اللهمَّ إني أسألك أن تفتح لي أبواب رحمتك)) ، فإذا جلست بعد ذلك في مجلس علم تشعر بالتجلّي ، تشعر بالسكينة ، بالراحة النفسية ، بالغذاء الروحي ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا خرج من المسجد قال : (( اللهمَّ افتح لي أبواب فضلِك )) إنه يريد عملاً يجسِّد هذا الفهم ، يريد عملاً صالحاً يجسِّد هذا الفهم لكتاب الله ، فالإنسان مفتَّحةٌ أمامه أبوابٌ كثيرةٌ ، ابنتك باب للجنَّة ، وبنتان فلَكَ بابان ، ثلاث بنات ، هل راقبت أهلك في الصلاة في البيت ؟ أين قوله تعالى :
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾
 (سورة طه)
 
على الإنسان أن يحدّث نفسه بالأعمال الصالحة التي تستمر بعد موته :
 
خروج بناتك هل راقبته ؟ راقب صلاة بناتك ، راقب تصرفات بناتك عند خروجهن أو في البيت ، هل هو خروج شرعي أم هناك مفاتن ظاهرة ؟ وأنت مسؤول ، شيء ثالث : هل راقبت حديث بناتك ؟ فيه غيبة ، فيه نميمة ، فيه كِبْر ، فيه استعلاء ، فيه كلام فارغ ، فيه حديث لا يرضي الله عزَّ وجل ، يجب أن تلاحظ الحديث ، وأن تلاحظ الصلاة ، وأن تلاحظ الخروج ، فإذا ربيت ابنتك تربيةً إسلامية ، ثم جاءها الخُطَّاب فاخترت من بينهم المؤمن ، فإن هذه الفتاة في صحيفتك إلى يوم القيامة ، وهي أحد أسباب دخولك الجنة .
كذلك ابنك إذا علَّمته ، إذا كان معك في المسجد ، إذا نشأ على حضور مجالس العلم ، إذا نشأ يألف بيوت الله عزَّ وجل دائماً ، إذا جلست معهالساعات الطِوال تسأله وتجيبه ، وتعلِّمه وتوجِّهه ، هذا ابن ، إذا خرج مؤمناً صادقاً كان حقًّاً قرة عين ، إذاً البنت باب ، والابن باب ، فإذا حضرت مجلس علم وسجَّلت بعض النِقاط وجعلتها منهجك طوال الأسبوع فهذا نهج حميد ، فمثلاً في هذه الجمعة فسَّرنا قوله تعالى  :
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
 
ألا يمكن أن تعيد جزءاً من معانيها ؟ بلقاء ، باثنين ، بثلاثة ، بعملك ، بسهرتك مع أحد إخوانك ، في سهرةٍ ، في عشاءٍ ، في وليمةٍ ، في لقاءٍ مع الجيران ، في عقد قِران ، ألا يمكنك إعادته ؟ صرت داعية ، فالإنسان يجب أن يُحَدِّث نفسه بالعمل الصالح الذي يستمر بعد موته .
 
أعظم الأعمال هي الأعمال التي تستمر بعد الموت :
 
بالمناسبة فإن أعظم الأعمال هي الأعمال التي تستمر بعد الموت ، وأفدحُ الأعمال شناعة هي الأعمال التي يموت صاحبها ولا ينتهي الإثم الذي تركه ، أسَّس ملهى تُقام فيه كل المعاصي والآثام وبعد الافتتاح بجمعة مات ، هذه ليست صدقة جارية بل هو إثمٌ جارٍ إلى يوم القيامة ، فالعبرة أن تعمل عملاً يُخَلِّد ذكرك بعد الموت ، الآن نحن الحاضرين ، في الأعم الأغلب بعد مئة سنة لن يكون واحد على قيد الحياة ، وهناك طقم بشري ثانٍ يأتي ، في الأسواق ، في البيوت ، الله جعلنا خلائف يخلف بعضنا بعضاً ، معنى هذا نحن زائلون ، فماذا يبقى ؟ العمل الصالح هو الذي يبقى ، هو الذي يرفعنا عند الله عزَّ وجل ، لكن ماذا أكلنا ؟ ماذا شربنا ؟ أين سكنَّا ؟ كم هي مساحة البيت ؟ تزيين البيت ، هذا كله زائل ، فالعلماء الكبار ، والمصلحون الكبار ، والقادة الكبار تركوا بصمات واضحة في الحياة .
 
العلماء والقادة الكبار تركوا بصمات واضحة في الحياة :
 
     مَن منَّا لا يذكر سيدنا صلاح الدين الأيوبي ؟ كيف ردَّ أوروبا بأكملها ، وحرَّر هذه البلاد من الغزاة الأجانب ؟ مَن منَّا لا يذكر سيدنا عمر بن الخطَّاب ؟ وهؤلاء الصحابة الكرام ، هؤلاء الذين تركوا بصمات واضحة في المجتمعات ، فكل إنسان بحسب إمكاناته يمكن أن يدعبصمة ، ذات مرَّة قال لي أخ : أنا أستيقظ قبل الفجر دائماً ، وقال : إنّ والدي عوَّدني على ذلك ، فكان يأخذني معه إلى المسجد قبل الفجر لنصلي قيام الليل ونصلي الفجر حاضراً ، واستمر هذا ديدنه وشأنه حتى سن متأخِّرة ، وكان يترحَّم على والده ، فأنت من الممكن أن تعمل عملاً طيّباً يبقى ذكره لك إلى يوم القيامة .
 
 من يطلب العلم ولو مشافهة يترك علماً نافعاً يجازى عليه :
 
ملخَّص هذه الآية : قد يتوهَّم أحدكم أنه لا ينجو أو لا يرقى عند الله إلا إذا كان من أعلام العلماء ، لا ، أبداً ، إذا حضرت مجلس علم وفهمت آية ونقلتها للآخرين نقلاً صحيحًا ، وهؤلاء الآخرون استفادوا منها وغيَّروا سلوكهم فأنت ممن تنطبق عليه هذه الآية ، تركت علماً نافعاً يُنتَفع به ، فالأمور تكبر وتصغر ، تتوسَّع وتضيق ، فالحد الأدنى أن تدعو إلى الله في حدود ما تعلم ، ومَن تعرف فلن تجد أحداً إلاّ وحوله أقارب ، أقرباؤك الخُلَّص ، إخوانك ، أصدقاؤك ، جيرانك ، زملاؤك ، فأنت حينما تطلب العلم مشافهةً وتنقله مشافهةً في حدود ما تعلم ، وفي حدود من تعرف ، فقد تركت علماً نافعاً ، وقد يقول الذي نقلت له هذه الآية يوماً وهو يقصدك بقوله : جزاه الله خيراً ، فبسبب هذه الآية أقلعتُ عن تلك المعصية ، بسبب هذه الآية بدأتُ أصلي في الجماعة ، بسبب هذه الآية فعلت كذا وكذا ، فهذه واحدة ولكنها ترجح كفة الميزان .
 
على كل إنسان أن يبحث عن عمل صالح ينفعه بعد موته :
 
أحياناً الإنسان لا يُحسِن النقل ولكنه يعطي شريطًا ، وهذا الشريط فيه خير كبير ، وبهذه الطريقة أيضاً أنت نقلت العلم ، وانتُفِعَ به وفي صحيفتك ، ولك أجرٌ كبير ، فنشر العلم النافع باب واسع جداً ، بإمكان كل مَن حضر هذا الدرس أنْ يكون له نصيب منه ((.. أو علمٍ يُنتَفَعُ به .. )) إنسان ساهم بتنظيف مسجد وهو فقير وليس معه شيء ، لنا إخوان (جزاهم الله خيراً) نظَّفوا هذا السجاد ، واشتغلوا فيه شهراً حتى صار  نظيفاً ، فخدمة بيت الله خدمة عظيمة جداً ، فالإنسان يقدر أنْ يساهم بتنظيف المسجد مثلاً ، أو بتأمين مرافق المسجد أحياناً ، أو تصليح كهربائه ، وتأمين التدفئة ، وتأمين التهوية ، وتكبير الصوت ، فهذه صدقة جارية في صحيفتك ، أجرينا توسعة فساهمت فيها فهذا في صحيفتك ، فابحث عن عمل ينفعك بعد الموت .
أو : ((...ولدٍ صالحٍ )) ، الذي عنده ابن ، الذي عنده أخ صغير أخذه معه إلى المسجد ، قدَّم له هدية ، حبَّب إليه المسجد ، عامله معاملة خاصة فقرّبه مِن ربِّه ، فعندما يحضر الطفل إلى بيت الله المرة تلو الأخرى فإنه يألف بيوت الله ، ويألف الحق ، ويألف تطبيق الحق ، فهذا شيء رائع جداً ، وأعود فأكرر هذا الحديث محور درسنا ، وهو حديث صحيح رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال :
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )) .
( صحيح عند ابن خزيمة عن أبي هريرة)
هذا هو العمل الطيّب .
 
مجالات الصدقة الجارية واسعة جداً :
 
مثلاً : الكهرباء انقطعت فجأةً فبعض الأخوة هيئوا لنا مولِّدة وعلى الفور اشتغلت واتصل التيار ، فهذا في صحيفته إلى يوم القيامة ، والدرس قائم فنحن نحتاج إلى تكبير صوت وإلى إضاءة ، فالذي ساهم بتأمين مولِّدة له أجر ، وهذه صدقة جارية،والذي ساهم بفرش المسجد ، والذي ساهم بالتدفئة المركزية ، والذي ساهم ببعض الأشياء الأساسية في المسجد ، فكم شخصٍ صَلّى تحت هذه الخيم ، الشمس حادَّة ، والذي ساهم فيها له أجر  .
أيها الأخوة : الصدقة الجارية مجالاتها رحبة واسعة جداً ، فبإمكان كل واحدمنَّا أن تكون له صدقة جارية ، وكذلك الولد الصالح ففي كلِّ تقريبا فيه أولاد وبنات ، ولِيعلِّمْ كل واحد منَّا ابنته وابنه صلاحهما ، ويضبط سلوكهما وخروجهما ، وحديثهما ، يربيهما تربية صالحة وبذلك يكون قد ساهم بولدٍ صالحٍ أو ابنة صالحة يدعوان له ، وكذلك العلم يُنتَفع به فتعلَّمْ وعلِّمْه ..
 
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
 
 
وقوف الإنسان يوم القيامة ليرى عمله أمام جميع الخلائق :
 
إيَّاك أن تتوهَّم أن شيئاً تناله من دون أن تفعله ، أو أنَّ شيئاً من عملك يُنتَقَصُ منه ، أبداً ، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، لكن الإنسان أحياناً في الدنيا يكون في عمل عظيم فنُعَتِّم عليه ، وفي عمل صغير ننفخ فيه،شأن بعض الناس يتصّف بحسب أهوائه ، مثل قريب جداً : أحياناً تكون امرأة لها ابنة ومتزوِّجة ، فأعمال ابنتها الصغيرة تُضَخَّم ، وتُضخَّم ، وتُضَخَّم ، وتثني عليها في المحافل وعلى ذكائها ، وعلى كونها زوجة صالحة ، وعلى تربيتها لأولادها ، وأعمال زوجة ابنها أحياناً في التعتيم ، مهما فعلت يُعتَّم عليها ، وهذا مثل مأخوذ من واقعنا الاجتماعي ، فالإنسان في الدنيا بحسب أهوائه يبرز أو يعتِّم ، لكن الله سبحانه وتعالى لعدله ولكرمه يبيِّن أنّ هذا السعي سوف يُرى ..
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾
هذا السعي سوف يشهده الناس جميعاً ، سوف يقف الإنسان يوم القيامة ليُرى عمله أمام الخلق قاطبةً ، في هذا الوقت يعدُّ العمل الصالح مفخرةً لصاحبه ، ويعدُّ العمل السيئ وصمة عارٍ على جبين صاحبه ..
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾
)سورة آل عمران : آية " 106 " )
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾
 (سورة الصافات )
 
العمل الصالح مفخرة لصاحبه والعمل السيء عار على صاحبه :
 
 لذلك الآية الثانية متمِّمة ..
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾
 
ليس هناك تعتيم ، ولا تضخيم ، عملك الصالح بحجمه الحقيقي ، بنواياه الطيِّبة سوف يبرز للخلق قاطبةً ، لذلك مرَّة قام أحد من حول النبي عليه الصلاة والسلام  فقال : " يا رسول الله إني نؤوم " (أنام عن الصلاة) فسيدنا عمر غضب وقال : " ويحك لقد فضحت نفسك " ، فقال النبي الكريم :
(( مه يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة ))
(رواه الطبراني عن الفضل بن عباس )
فإذا أخطأ الإنسان بين خمسة أشخاص أهون مِن أن يخطئ بين ألف شخص ، أو بين مليون شخص ، وأحياناً الإنسان يغلط في حديثه لأجهزة الإعلام غلطة فيتناقلها الناس في كل بِقاع الأرض ، فكيف يوم القيامة إذا أخطأ خطأً عرض على الخلق قاطبةً ؟
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾
 
سيقف الأنبياء ، سيقف العلماء ، سيقف الدُعاة ، سيقف المدَّعون ، سيقف المجرمون ، كلٌ بحسب عمله ..
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾
 
العدل المطلق يوم القيامة :
 
الإنسان أحياناً بذكاءٍ وطلاقة لسانٍ وقوَّة بيان يقلب الحقَّ إلى باطل والباطل إلى حقّ ، لكنه يوم القيامة كيف يكون شأنه ، يقول الله عزَّ وجل ؟ :
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾
) سورة يس : آية " 65 " )
 فالآية الثانية خطيرة جداً ..
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾
 
المرحلة الثالثة  :
﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾
عدلٌ مطلق ..
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
 (سورة الزلزلة)
  
﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾
 
 المؤمن حقّه عند الله محفوظ يوم القيامة :
 
الحركات والسكنات والنيات والتطلعات والصراعات كلّها مسجَّلة ، لذلك فالإنسان إذا أيقن من خلال هذه الآيات الثلاث أن الأحوال كلها مكشوفة وهو مجزيٌّ بها فإنه يحتاط لنفسه .
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾
 
إذًا : فاعلم أنّ هذه الآيات الثلاث أصل من أصول الدين ، فلا تتوهَّم أن يأتيك ثواب عمل لم تفعله ، ولا تخف أن يُنتقص من عملك الصالح الذي تبتغي به وجه الله عزَّ وجل ، وأن هذا العمل بحجمه الحقيقي وبخلفيته الصحيحة (النية التي وراءه) سوف يبدو للملأ قاطبةً يوم القيامة ، والمرحلة الثالثة : سوف تنال جزاءه كاملاً دون نقصٍ ودون ظلمٍ ، فالمؤمن حقّه عند الله محفوظ ، فإذا كان الله هو الذي يسجِّل عليك ، وهو الذي سيُظهِر عملك ، وهو الذي سيكافئك إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، فماذا نفعل ؟ إذاً لابدَّ من عملٍ صالحٍ يبقى بعد الموت ، لابدَّ من صدقةٍ جارية ، لابدَّ من علمٍ يُنتَفعُ به ، لابدِّ من ولدٍ صالحٍ يدعو له.
 
الوقت والمال أثمن شيء يملكه الإنسان في حياته :
 
كل بيت فيه أولاد ، وكل إنسان بإمكانه أن يسمع الدرس ويبلِّغه ، وكل إنسان يقدر أن يترك أثراً في مسجد ، أو في مشروع خيري ، لو بجهده مثلاً ، فأحياناً يقدِّم خدمة  فيقول لك : أنا سوف أنظِّف المسجد في الجهة الفلانية ، هذا قدَّم شيئًا ، هذه صدقة جارية ، فالإنسان عليه ألاّ يضن بوقته ولا بماله لأن هذا الذي يبقى ، والذي نستمتع به في حياتنا هو الذي يذهب ، هذا الذي يبقى وذاك الذي يذهب .
كان موضوع درسنا اليوم ثلاث آيات ، هي  :
 
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾
 
وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى :
 
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾
 
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب