سورة الطور 052 - الدرس (3): تفسير الأيات (29 – 49) - الدعوة إلى الله فرض على كل مسلم

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الطور 052 - الدرس (3): تفسير الأيات (29 – 49) - الدعوة إلى الله فرض على كل مسلم

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الطّور

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الطور ـ الآيات: (29 - 49) - الدعوة إلى الله فرض على كل مسلم

17/08/2013 18:27:00

سورة الطور (052)
 
الدرس (3)
 
تفسير الآيات: (29-49)
 
الدعوة إلى الله فرض على كل مسلم
 
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام مع الدرس الثالث والأخير من سورة الطور ، ومع الآية التاسعة والعشرين .
 
أمر الله عز وجل للنبي الكريم بتذكير الناس مهما استخفوا بدعوته : 
 
قال تعالى :
 
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾
أولاً فذكِّر : أمرٌ من الله عز وجل للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فما مسوِّغ هذا الأمر ؟ أي مهما أساءوا إليك ، ومهما استخفوا بدعوتك ، ومهما عارضوك ، ومهما كذبوك ، أنت عليك أن تُذكِّر .
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾
 (سورة الغاشية : 21 ـ 22)
أنت لا تملكهم ، لكن ذكِّرهم ، ذكَّر ، أيْ : فعل أمر موجه للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يمكن أن ينسحب إلى المؤمنين ، وأنت أيها المؤمن فذكِّر ، ذكِّر مَن حولك ، الإنسان مهيأ للهدى ، مهما رأيته متلبساً بمعصية ، عليك أن تذكره ، لا تدري لعل كلمة تقع موقِعاً حسناً في قلبه ، لعل قضية تعالجها تفعل فيه فعل السحر ﴿ فذكر﴾ المؤمن يذكر  لذلك :
(( بلغوا عني ولو آية‏ ))
[أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو]
 
التدين فطرة في الإنسان يحتاج إلى تذكرة :
 
ذكرتُ اليوم أن الدعوة إلى الله تكون تارة فرض عين ، وتارة فرض كفاية ، فرض العين فيما أنت تعلم ، في حدود ما تعرف ، دون أن تزيد ، ما من إنسان مسلم إلا ويحضر خطبة الجمعة ، لأنها فرضٌ عيني على كل مسلم .
(( من ترك الجمعة ثلاث مرات ، تهاوناً بها ، طبع على قلبه ))
[أخرجه ابن ماجه عن عبيدة بْن سفيان الحضرمي]
إذًا لا بد من أن تلتزم خطبة الجمعة ، طيب ؛ في هذه الخطبة أليس فيها آية ؟ حديث ؟ حُكم ؟ موعظة ؟ لا بدّ أن يكون شيءٌ من ذلك ، لو أنك حفظت تفسير آية ، أو شرح حديث ، أو موقف صحابي ، وفي خلال الأسبوع في أي لقاء ، في أي اجتماع ، في سهرة ، في ندوة ، في سفر ، إن كنتَ في وليمة فذكر ، يريد القرآن الكريم أن يكون في حياتنا دعوة ، فالله عز وجل وجَّه النبي عليه الصلاة والسلام أن يذكِّر ، لكن كلمة (ذكر) ماذا تعني ؟ فأنت إذا رأيت منظراً ، ثم ذكّرت به ، ما معنى ذكرت به ؟ رأيته من قبل ، وهذا الكلام هو تذكرة ، يذكرك بشيءٍ رأيته ، وأغلب الظن  أن التدين فطرةٌ مودعة في الإنسان ، يحتاج إلى تذكرة ، النفس مصممة على الإيمان ، مصممة على أن تعرف الله ، تحتاج إلى تذكير . 
 
صلح الإنسان مع الله أساسه كلمة طيبة :
 
صدقوني أيها الإخوة : أن هناك حالات الاستجابة لدعوة من الإيمان والتوبة تلفت النظر ، إنسان غارق في كل المعاصي ، كلمة صادقة من إنسان صادق قلبته رأساً على عقب ، حملته على التوبة ، فلو استمعت إلى أيّ أخ  كيف تعرف إلى الله ، كيف تاب إلى الله ، كيف اصطلح مع الله ، فلا تعجب إنْ علمتَ أنَّ صلحه مع الله كان أساسه كلمة طيبة ، كلمة طيبة صادقة ، مخلصة ، قال لك : ذكِّر ، لك ابن ذكِّره ، لك أخ ذكِّره ، لك جار ذكِّره ، لك شريك ذكِّره ، صديق سفر ذكِّره :
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾
 (سورة الغاشية )
الله سبحانه يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يذكِّر ، وأنت يجب أن تقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام وتذكر ، نحن في شهر المولد ، والشام كلها احتفالات في عيد المولد ، شيء جميل جداً ، لكن الأجمل من ذلك  أن تقتدي برسول الله ، وأن تقتفي أثره ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل إدعاء حبه إلا بطاعة رسوله ، فالاحتمال بالمولد يعني اقتفاء أثره في دعوته وتجديد معانيها .
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
 (سورة آل عمران : 31)
 
من أراد بعمله وجه الله امتد أثر عمله لما بعد الموت :
 
من اتباع النبي عليه الصلاة والسلام أن تذكِّر ، أن يكون لك لسان صدق ، طبعاً ما من إنسان إلاَّ له أخ ، أو ابن ، أو جار ، أو قريب ، أو صاحب ، أو شريك ، إلاّ وله صاحبٌ عابر في سفر ، كل إنسان له اجتماع ، وسهرة ، ندوة ، ونزهة ، ووليمة ، وحفلة ، لك أقرباء ، ولك أصدقاء ، وهناك مناسبات كثيرة ، فحتَّى لا يكون الحديث عن الدنيا ، فذكِّر ، فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر أن يذكِّر ، وأنت كمؤمن أمرت أن تذكر ، لكن لما تذكِّر ، يجري اللهُ عز وجل على يديك الخير ، ويقدر على يديك هداية إنسان ، وهذه تجارة رابحة ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾
) سورة الصف : 10 ـ 11(
يعني دائماً هناك مواقف حسّاسة ؛ اجعل الموت هو الحد الفاصل ، أي عمل يستمر إلى ما بعد الموت ، هذا العمل العظيم ، هذا العمل الرابح ، هذا العمل المجدي ، هذا العمل الذي تسعد به ، هذا العمل الذي يدل على عقل راجح ، هذا العمل الذي ترقى به ، هذا العمل الذي تطمئن به و تطمئنّ إليه ، وأيّ عمل ينتهي عند الموت فهو للدنيا ، فلو أراد الإنسان بعمله المهني وجه الله ، وخدمة المسلمين ، وكفاية نفسه ، لامتد أثره إلى ما بعد الموت .
 
 النية محصلة إيمان الإنسان :
 
أما النية فقضية معقدة جداً ، النيةُ محصلة إيمانك ، النية محصلة توحيدك ، النية محصلة جهودك التي بذلتها في طريق الإيمان ، كلما كنت متفوقاً في الإيمان ، ارتقت نواياك ، إذا ارتقت نواياك ، صارت المباحات عند المؤمن عبادات ، صار عمله عبادة ، ظروف حياته مع أهله عبادة ، لقاؤه مع إخوانه عبادة :
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾
 
 (سورة الغاشية )
الله عز وجل  قال :
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾
 (سورة البقرة : 152(
(( قال الله عز وجل : لا يذكرني أحد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الرفيق الأعلى ))
[أخرجه الطبراني عن معاذ بن جبل]
إذاً : إذا قال الله عز وجل يا أيها النبي اتق الله ، أيْ ؛ أيها المؤمن اتق الله ، إذا قال الله عز وجل : وتوكل على الله ، أي ؛ أيها المؤمن توكل على الله ، وإذا قال الله عز وجل : فذكر يا محمد ، أنت أيضا أيها المؤمن ذكِّر ، فأنت يجب أن تذكر كفرض عين ، في حدود ما تعلم .
 
كل إنسان يحتاج إلى تذكرة صادقة مخلصة :
 والله عز وجل قال :
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾
 (سورة آل عمران : 104(
هذا فرض كفائي ، الأمة بحاجة إلى دعاة كبار ، إلى متخصصين ، إلى متبحرين ، هذا فرض كفاية ، أما فرض العين ، في حدود ما تعلم ، يجب أن تذكر في حدود ما تعلم ، دون أن تزيد على ما تعلم ، ذكِّر ، والإنسان إذا ذكّر ، وعُلِم الله منه الصدق ، فليس بعيداً أن يجري الله على يده الخير ، وكلمة (ذكّر) تعني أن الإنسان بفطرته وبأصل تكوينه مؤمن بالله ، لا يحتاج إلا إلى تذكرة .
فمثلاً إذا رأى إنسانٌ مدينة معينة ، كان قد سافر إليها ، ثم غاب عنها وأريناه صورتها ، لقال: نعم ، نعم زرتها وأعرفها ، فالإنسان يحتاج إلى تذكرة صادقة ، مخلصة منيبة .
 
دعوة الله النبي الكريم بأن يُذكر الناس رغم الاتهامات التي اتهموه بها :
 
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾
﴿الكاهن﴾ : هو الذي يتلقى عن الجن ، والشياطين أحياناً يؤذون الإنس ، فيصابون بالجنون ، الشيطان في هاتين الكلمتين قاسم مشترك ، إما أن الكاهن يتلقى عن الجن ، وإما أن شياطين الجن تؤذي هذا الإنسان فيصبح مجنوناً ، فالله سبحانه وتعالى يسلِّي رسوله أنْ يا محمد لو أنهم قالوا لك أنت كاهن فلا تيأس وذكِّر ، ولو قالوا : إنك لمجنون ، ذكِّر ، ولو قالوا : شاعر ، ذكِّر ، ولو قالوا : ساحر ، ذكِّر ، لذلك فالمؤمن لا تلين قناته ، ولا يغير مواقفه ، لأن هدفه الله عز وجل :
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾
 
لقد ضربت مثلاً ، لو كان معك خمسة كيلوات ذهب خالص ، والناس قالوا : هذا ليس بذهب ، هذا معدن خسيس ، فمن الرابح ؟ أنت الرابح ، ولو قالوا عن هذا المعدن ما قالوا ، أنت عندك خمسة كيلوات من الذهب الخالص ، هم يدّعون أنه معدن خسيس ، كلامهم لا يجعله خسيساً ، كلامهم لا يبدل ولا يغير الحقيقة ، لو كنت تملك المعدن الخسيس وبذكاء بارع أوهمت الناس أنه معدن نفيس ، فأنت الخاسر الوحيد ، يعني أنت الرابح إذا كان معك الذهب الخالص ، وأنت الخاسر إذا كان معك المعدن الخسيس ، لا إقناعك للناس بأن ما عندك من الذهب الخالص ، يجعله ذهباً خالصاً ولا اتهام الناس لك بأن ما عندك من معدن هو معدن خسيس يجعله خسيساً ، أنت الرابح ، وأنت الخاسر .
 
لا يقطف الإنسان ثمار الدين إلا إذا طبقه كله :
 
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾
 
فمثلاً إذا كان الإنسان يسكن في بيتٍ مريح جداً ، وقال أحدهم : هذا البيت صغير ، وهو في الحقيقة كبير ، فكلمة صغير تجعله صغيراً ، ولو كنتَ تأكل أطيب الطعام ، وقيل : لك هذا الطعام طعمه غير مستساغ ، هل هذه الكلمة تجعل الطعام غير مستساغ ؟ لا . فالكلام لا يصنع شيئاً ، الكلام يعبر عن حقيقة ، أو عن وهم ، الكلام الخبري ، يقال لصاحبه صادق أو كاذب ، فأنت حينما أمر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن تذكِّر فعليك أن تذكر :
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾
 
في الحقيقة إنّ الإنسان إذا قطف ثمار الدين ، لا يتأثر بأقوال الناس إطلاقاً ، لكن متى يتأثر ؟ يتأثر بتصغير الناس لشأنه ، يتأثر بتشكيك الناس في صدقه ، يتأثر بطعن الناس فيه ، إذاً لو يُوفَّق لقطف ثمار الدين ، وهذا يعني وجود خلل ، فمن خصائص هذا الدين أنه ينبغي أن تأخذه كله ، حتى تقطف ثماره ، إن أخذت بعضه ، قد لا تستفيد ، فلذلك : خذ بعضه وأتمم بعضه الآخر ، لا نقول لمن يأخذ بعض الدين : دع هذا البعض ، هذا كلام غير شرعي إطلاقاً ، بل نقول : أتمم أتمّ الله عليك .
 
اتهام الناس النبي الكريم بأنه كاهن أو مجنون أو شاعر :
 
﴿َذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ﴾
شاعر أيضاً ، في التصور الجاهلي له شيطان يوحي إليه ، ومن أقوال الأدباء : إنّ شياطين الشعر توحي للشعراء ، والشعراء حينما يبدعون تارة ، ويهبطون تارة أخرى ، فهذا الإبداع والتدني والهبوط سببه فيما يظنون ويتوهمون أن الشاعر جاءه شيطانه فأبدع ، فلما غاب عنه شيطانه أسفَّ وهبط ، فعند الشعراء وكل أصحاب الأعمال الفنية ساعة إبداع ، وساعة قصور ، والعرب بالجاهلية تصوروا أنّ لكل شاعر شيطانًا ، فإذا كان معه أبدع ، وإذا غاب عنه  قصر :
 
﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾
يعني يطاله الموتُ ويريحنا منه ، فجاء الجواب الإلهي :
﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾
وأنا أتربص بكم ، وسوف ترون لمن العاقبة ، ولمن المستقبل  .
 
من نشأ في طاعة الله تألق في آخر عمره : 
والله عز وجل يقول :
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
 (سورة الأعراف : 128(
(( إنما الأعمال بالخواتيم ))
[أخرجه أحمد والبخاري والطبراني في الكبير والدار قطني في الأفراد]
والعبرة لمن يضحك أخيراً ، والعاقل من يهتم بخريف عمره ، لا بمقتبل عمره ، قد يستوي الناس جميعاً في شبابهم ، أما التفاوت الكبير في خريف حياتهم ، من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة ، من لم ينشأ في طاعة الله ويشكل حياته تشكيلاً إسلامياً ، ربما تعب كثيراً في خريف عمره ، وأفضل شيء لدى الإنسان أنْ يطبِّق أوامر الله في سن مبكرة ، وعندئذ في الأعم الأغلب ، سيختار زوجة مسلمة صالحة ، وسيختار عملاً شريفاً ، فلو جاء إيمانه وصلحه مع الله متأخراً ، وقد شكل حياته تشكيلاً غير إسلامي ، فهناك يلقى متاعب لا تحصى ، لذلك هنيئًا لمن نشأ في طاعة الله ، فهذا له خريف عمر متألق .
 
العاقبة للمتقين :
 
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾
لو درسنا تاريخ الإسلام في بدايته ، أصحاب النبي الذين آزروه ، ونصروه وأيدوه ، وقاتلوا معه ، ووضعوا أرواحهم على أكفهم ، نصراً له ، فما مقامهم في ذاكرة التاريخ ؟ والذين عارضوه ، وكذبوه ، وائتمروا على قتله ، وإخراجه ، والتنكيل بأصحابه ، أين هؤلاء الذين عارضوه وكذبوه ؟ أين مقاماتهم التي تزار ؟ فهل رأى أحد منكم مقاماً لأبي جهل بمكة ؟ إنّهم في مزبلة التاريخ ، أما أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين نصروه ، وأيدوه ، في أعلى عليين ، في مقام رفيع ، فالعبرة للخاتمة ، العبرة لمن يضحك آخراً ، العاقبة للمتقين دائماً الإنسان عليه أن يضم الآخرة إلى الدنيا ، أو عليه أن يضم نهاية الحياة مع بدايتها ، أما إذا نظر إلى البداية قد يتوهم أن المتفلت أسعد من المنضبط ، وأن الغني الذي جعل غناه من مال حرام أسعد من الفقير الذي تورع عن المال الحرام ، أما إذا ضممت آخر الدنيا إلى أولها ، أو ضممت الآخرة إلى الدنيا اختلفت الموازين .
 
الخطأ الكبير الذي يرتكبه الناس موازنة حياة الكافر مع حياة المؤمن :
 
ذكرت مرة أن راكب دراجة يسير على طريق مستوٍ ، واجه طريقين ، طريقاً نازلاً ، معبداً ، تحفه الأشجار والورود ، والرياحين ، وطريقاً صاعداً وعراً ، فيه الصخور والأكمات ، وفيه المتاعب ، طبعاً راكب الدراجة يختار الطريق النازل ، ويبتعد عن الطريق الصاعد لو كان في نهاية الطريق الصاعد قصرٌ منيفٌ ، هو مِلكٌ لمَن يصله أوّلاً ، وفي نهاية الطريق النازلة حفرة سحيقة قد يدرك الموتُ مَن يصل إليها ، والآن نقول لك : اختر ، فالأمر مختلفٌ كليةً ، إذا ضممت الحفرة إلى الطريق المريحة ، وضممت القصر إلى الطريق الصاعد ، تختار الطريق الصاعد ، وهكذا الدنيا ، وهذه حقيقتها .
الخطأ الكبير الذي يرتكبه بعض الناس أنّهم يوازنون حياة الكفار مع حياة المؤمنين ، والحقيقة أنه ينبغي أن تضم إلى حياة الكفار مصيرهم ، وينبغي أن تضم إلى حياة المؤمنين مصيرهم الذي وعدهم الله به ، نظريا طبعاً ، لا على شخص معين ، إنسان انضبط ، خاف من الله ، تعرف إليه ، رجا قربه ،  رجا ثواب طاعته ، ضبط دخله ، ضبط إنفاقه ، ضبط جوارحه ، ضبط أولاده ، زوجته ، وكان في الدنيا قليلَ ذاتِ اليد كما يقولون ، والذي تفلت فأصبح غنياً ، لا توازن هذا بهذا ، إن أردت أن توازن ، ضُمَّ الآخرة إلى الدنيا ووازن ، ضم آخرة المنضبط إلى دنياه ووازن ، وضم آخرة المتفلت إلى دنياه ووازن ، لذلك قال سيدنا علي : الغنى والفقر بعد العرض على الله :
﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾
 
المؤمن خطه البياني صاعد :
 
لذلك فالله عز وجل أمر المؤمنين أن يقولوا للكافرين :
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾
 (سورة التوبة : 51(
هل في الآية بشارة ؟ نعم البشارة من كلمة ﴿ لنا﴾ ، ﴿ لنا﴾ تفيد التملك ، والشيء الثمين هو الذي يملك ، لكن تجد إنسانًا يملك عقرباً ، فيقول : أنا عندي خمسة عقارب ، الشيء الثمينُ هو الذي يملك ، تملك الذهب ، تملك الفضة ، تملك الجواهر ، اللآلئ ، الله عز وجل قال :
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
 (سورة البقرة : 286(
الشيء الثمين ، الخير ، الجيد لنفسك ، والوزر ، والإثم ، والعقاب عليها ، فحينما قال الله عز وجل :
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾
 
 (سورة التوبة : 51(
يعنى أنّ المؤمن خطه البياني صاعد ، ولو اقتضى التأجيل أحياناً ، أو اقتضت عوامل التربية أن ينزل هذا الخط ، لكن المحصلة النهائية أنّه صاعد ، ينزل ثم يصعد ، يتابع صعوده .
 
إذا أحب الله عبداً ضيق عليه ليحاسب نفسه على كل خطأ :
 
المؤمن مفتون ومبتلى ، والله عز وجل يحاسبه ، وربما حاسبه حساباً عسيراً ، لأنه مظنة صلاح ، الإنسان يحاسب المتفوق على خطأ طفيف .
(( إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه ))
[أخرجه الديلمي عن علي]
(( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ))
[أخرجه الترمذي والحاكم عن أنس]
(( ‏إذا أراد الله بعبد خيرا عاتبه في منامه ))
[أخرجه الديلمي عن أنس]
إذا أحب الله عبداً ضيق عليه .
(( قال النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أنزل الله جبريل في أحسن ما كان يأتيني في صورة فقال : إن الله تعالى يقرئك السلام يا محمد ، ويقول لك : إني أوحيت إلى الدنيا أن تمرري وتكدري وتضيقي وتشددي على أوليائي كي يحبوا لقائي ))
[أخرجه البيهقي عن قتادة بن النعمان  ]
أنت مخلوق للآخرة ؛ فإذا كنت في الدنيا مرتاحاً راحة تامة كرهت لقاء الله عز وجل ، الحكمة تظهر لك بعد حين :
﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾
 
الإنسان حينما يطغى لن يستجيب للحق :
 
لا تنتظر أن يأتي العقاب لمؤمن ، انتظر أن يأتي العقاب لغير المؤمن ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
 
 (سورة الجاثية : 21(
العرب أو قريش بالذات مشهورة في جاهليتها أن زعماءها كانوا أصحاب عقول راجحة ، فبيَّنَ الله عز وجل أنّ هذا التكذيب ، وذلك الرد ، وهذا الاتهام بأن النبي ساحر ، وشاعر ، وكاهن ، ومجنون ، فهذا الاتهام كلُّه من صنع عقولهم الراجحة ، أهكذا تأمرهم عقولهم ؟ قال سبحانه :
﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾
هل تستنبطون من هذه الآية شيئاً ؟ لماذا لم تأمرهم أحلامهم أن يؤمنوا ؟ أن يصدقوا ؟ أن يستسلموا ؟ أن يخضعوا ؟ قال :
﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾
 (سورة الذاريات : 53(
 
الطاغي يأبى عقله أن يعترف بالحق :
 
الإنسان إذا طغى ، اختلَّ توازنه النفسي ، فإذا اختلّ توازنه النفسي ، لا يستطيع أن يعيد هذا التوازن إلا برد الحق وعدم قبوله ، ولو قبل الحق وكان مخالفاً لتعليمات الحق ، يزداد اختلال توازنه ، أما حينما يتهم أهل الحق بالكذب ، أو بالجنون ، أو بالغيبيات ، هذا الاتهام يحقق له توازنه  لذلك فالإنسان حينما يطغى ، فلن يستجيب للحق .
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾
) سورة القصص : 50 (
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾
)سورة الماعون : 1 ـ 2(
هو نفسه .
لذلك لو أنهم لم يكونوا قوماً طاغين لأمرتهم أحلامهم بالإيمان بالله ورسوله ، لكن لأنهم قوم طاغون ، عقولهم أبت أن تعترف بالحق :
﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾
 
اتهام الكفار بأن القرآن الكريم ليس من عند الله بل هو كلام النبي :
 
وبعدُ ، فالله عز وجل خاطب الفطرة خطاباً رائعاً ، وافترض كلَّ الافتراضات ورد عليها :  
 
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
أيْ أنهم قالوا : هذا الكلام ليس كلام الله ، النبي جاء به من عنده ، افتراه على الله ، القرآن من صنع النبي عليه الصلاة والسلام ، كان عبقرياً فذاً فكتب كلاماً ، استحوذ على قلوب الناس به :
 
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
 
يعني أنّي لم أجد مثلاً أوضح لهذه الآية مما لو أَطلعت إنسانًا على قطعة ماس من أعلى مستوى ، ثم قال لك : هذه بلور ، كيف يقول عن الماس إنه بلور ؟ لأنه لا خبرة له إطلاقاً بهذا الموضوع ، ما قال هذه الكلمة إلا لأنه عديم الخبرة ، لو كان خبيراً ، لما قال عن هذا الماس الناصع إنّه بلور .
 
التوضيح ، التبيين ، والتنوير ،من لوازم الإله الكامل :
 
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾
 
أي اقرءوا القرآن ؟ لو وقفوا عند صياغته ، ونظمه ، وإعجازه ، ودقة أحكامه ، وتوافق أحكامه مع طبيعة النفس ، لو تأملوا هذا الكتاب ، لما قالوا تَقَوَّل ، ما من شيء في الإنسان أقبح من أن يمزق رسالة قبل أن يقرأها ، إنه موقف قبيح وغبي ، أن تمزق رسالة قبل أن تقرأها ، فهذا الذي يقول إنّ هذا الكلامَ كلامُ محمدٍ ، هل قرأ  القرآن ؟ هل تدبر آياته ؟ هل شاهد إعجازه ؟ إعجازه العلمي ، والتشريعي ، والتاريخي ، والبلاغي ، واللغوي ، والحسابي ، هل وضع يده على إعجاز القرآن الكريم ؟ ثم يقول تقَوَّل :
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
 
 
لأنهم ما آمنوا بأن لهذا الكون خالقاً عظيماً ، ولا يمكن يدع الناس من دون هدى.
فمثلاً هل تجد أباً يبقى ساكتًا ، وأولاده يتحركون بغير منهج ، ولا خطة ، ثمّ لا يتدخل ، أب يجلس ويرى ابنه الصغير يقترب من المدفأة ، ألا يتحرّك ؟ أيبقى ساكتًا ، يعني أنّ التوضيح ، والتبيين ، والتنوير ، كلُّ هذا من لوازم الإله الكامل ، الإله الكامل الذي خلق ، فأبدع ، لا بد أنه نوَّر الناس وهداهم إلى طريقة سعادتهم ، فلذلك ترى الإنسان حينما لا يؤمن ، ينكر أن يكون هذا الكلام كلام الله ، أما إذا آمن يرى أن هذا الكلام من لوازم الخالق ، ومن لوازم كمال الخالق أن ينذر ، وأن يحذر ، وأن يبين ، وأن يضع منهجاً لخلقه يهتدون بهديه  .
 
تحدي الله عز وجل  للناس جميعاً :
 
و هأنذا أضرب مثلاً ؛ شركة محترمة تصنع آلة بالغة التعقيد ، النشرة التي ترافق الآلة من أخطر ما يجب أنْ يُلازَم ، طريقة التشغيل والصيانة ، كيفية أداءِ الآلةِ عملَها بأعلى مستوى ، وأن تأخذ منها أعلى مردود ، فالشركة المحترمة لا ترسل الآلة إلا معها تعليمات ، أحياناً تلاحظ كثيراً من الآلات لها تعليمات بالغة الدقة و الوضوح ، فمأخذ الكهرباء مغلق ، ومختوم ، ومكتوب عليه 220 ، أو 110 ، لئلا تقع في غلط ، فكلما كان رقيٌّ في الصناعة ، كلما ارتقى التوجيه ، وكلما ارتفع مستوى الصناعة ارتفع مستوى التعليمات ، تعليمات دقيقة جداً ، مرة قال لي أخ أنّ هناك برنامج كمبيوتر عادي مؤلَّف ، 1100 صفحة ، كتاب تعليماته 1100 صفحة ، أيُعقل ذلك ؟ برنامج تعليماته وطرق تشغيله وميزاته بهذا الحجم ، فكلما ارتقت الصناعة ، ارتقتْ معها التعليمات ، فالله عز وجل هو الخالق المبدع ، من لوازم كماله أن ينزل على أنبيائه كتباً ، ومنهجاً ، ودستوراً ، وتوجيهاً ، إذاً :
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾
 
ولعل هذا أكبر دليل قطعيٍّ على أن هذا كلام الله هو إعجاز وَاللَّهُ عز وجل تحدى الناس جميعاً .
 
القرآن معجزة مستمرة إلى يوم القيامة :
 
 
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾
(سورة الإسراء : 88(
هذا الإعجاز ، يعني إذا قلت لي ما الدليل على أن هذا القرآن كلام الله ؟ أقول لك إعجازه ، والإعجاز يحتاج إلى تأمل ، وإلى تدبر طبعاً ، والمجال لا يتسع الآن لبيان ضروب الإعجاز ، ففيه إعجاز إخباري من غيب الماضي ، وإعجاز من غيب الحاضر ، وإعجاز من غيب المستقبل ، وفيه إعجاز علمي .
في القرآن الكريم إشارات و إيماءات عن طبيعة مستوى عصر النبي لا يمكن أن يصل إليها إلا بعد ألف عام أو أكثر ، وبعد قرونٍ طويلة ، وبعد مئات السنين  بعد 1500 عام ظهرت حقائق العلم التي تكشف إعجاز القرآن ، لذلك القرآن معجزة مستمرة ، إذا كانت معجزات الأنبياء حسية فهي كعود الثقاب تألقت مرة واحدة وانطفأت ، وأصبحت خبراً ، يصدقه من يصدقه ، ويكذبه من يكذبه ، لكنّ إعجاز القرآن مستمر إلى يوم القيامة ، كلما تقدم العلم كشف جانباً من إعجازه .
 
كل شيءٍ خلقه الله من زوجين :
 
﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾
) سورة الذاريات : 49(
من كل شيء ، ما كان أحد يعرف أن الجماد فيه ذرات ، وشحنتها موجبة تارة ، وسالبة تارة أخرى ، حتى الجماد تجد أنّ بين النواة وبين الكهارب تبايناً في الشحنات ، هناك شحنات موجبة ، وشحنات سالبة ، حتى النبات ، كله ذكر وأنثى ، والحيوان كذلك ، والإنسان كذلك :
﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾
 
) سورة الذاريات : 49(
الله عز وجل قال :
﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
 (سورة يس : 40(
كل شيءٍ خلقه الله يَسْبَح في فلك ، بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة ، نظام الكون قائم على ذرة تدور حول أخرى في مسار مغلق ، هذه الدورة ينتج عنها قوة نابذة تكافئ القوى الجاذبة ، ولولا ذلك لاجتمع الكون كله في كتلة واحدة ، هذه آية ثانية :
﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾
 (سورة النجم : 45 ـ 46(
الآن وبعد خمسة عشر قرناً أثبت العلم أنّ كون المولود ذكراً أو أنثى لا يتعلق بالبويضة إطلاقاً ، يتعلق بالحوين فقط ، يعني يتحدد جنس المولد من خصائص الحوين فقط :
﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾
 
 (سورة النجم : 45 ـ 46(
 
القرآن الكريم إعجاز علمي وتربوي وبلاغي :
 
كذلك :
﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾
 (سورة الحج : 27(
لِمَا لمْ يقل الله عز وجل من كل فج بعيد ، بل قال : من كل فج عميق ؟ لأننا نحن على كرة ، وكلما ابتعدنا عن إحدى نقاطها نشأ مع المسافة بعد ثالث ، عمق :
﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾
 
 (سورة الحج : 27(
لم يكنْ في عهد النبي ما يسمى بأشعة الليزر التي تقاس بها المسافات بدقة بالغة ، لكنهم قاسوا البُعْدَ بين الأرض والقمر على مستوى المليمترات بأشعة الليزر ، هذا طيب ومطمئن ، والآن ثبت أنّ أخفض نقطة في الأرض على الإطلاق غور فلسطين والمعركة التي جرت بين الفرس والروم كانت بحسب التاريخ في غور فلسطين قال تعالى :
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾
 (سورة الروم : 2 ـ 3(
﴿ في أدنى ﴾ يعني في أدنى مكان من الأرض ، ما كان أحد يعرف هذه الحقيقة ، إذًا إعجاز علمي ، وإعجاز فلكي ، وإعجاز تاريخي ، و إعجاز بلاغي ، وإعجاز تربوي ،  فلذلك :
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾
 
كل شيءٍ في الكون يحتاج إلى مُحدث :
 
الآن :
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾
 
طبعاً ؛ هذه الآية فسَّرها علماء العقيدة ؛ أنّ هناك في الكون واجبَ الوجودِ وهو اللهُ ، وممكنُ الوجود وهو الكونُ ، ومستحيلُ الوجود ، فأمَّا ممكن الوجود فلا يمكن أن يكون إلا بمحدث ، كل شيءٍ حديث يحتاج إلى محدث قديم ، الشيء الذي لم يكن قديماً يحتاج إلى من يوجده :
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾
العقل لا يقبل ، والفطرة تأبى :
﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾
كيف خلقوا أنفسهم ؟ يعني كانوا قبل أن يخلقوا ، كذلك لا يقبل العقلُ ذلك .
 
عدم قبول العقل بأن الإنسان خلق نفسه :
 
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾
 
طبعاً هذه الآية تشير إلى واجب الوجود ، وإلى ممكن الوجود ، وإلى مستحيل الوجود ، فوجود الإنسان كم حالة وكم افتراض يفترض لوجوده ؟ إما أنه خلق من غير شيء ، وهذا يرفضه العقل لأنه شيء حادث ، والحادث سبقه عدم ، وكل شيء سبقه عدم يحتاج إلى محدِث ، إذًا فذاك الافتراضُ مرفوضٌ :
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾
 
وإذا كان قد خلق نفسه ، فهو مخلوق قبل نفسه ، فكيف خُلق ؟ ثم خلق نفسه ؟‍‍‍! أيضاً العقل لا يقبل هذا.
 
عدم قدرة الإنسان على امتلاك خزائن السماء :
 
﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
هل يستطيع أحد الآن في عصر الكفر ، والإلحاد ، والتفلت ، والضلالات ، هل هناك جهة في الأرض تدّعي أنَّها خلقت الشمس ، أو القمر ؟ لا أحد يقول هذا ، من يستطيع أن يدعي أنه خلق السماوات والأرض ؟
﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ﴾
يعني إذا كانت السماء شحت بالأمطار فهل يمكن لأكبر لجنة في الأرض أنْ تعقد اجتماعاً هامًّاً وتتخذ قراراً بإنزال مطر ، وهو قرار موقع من الجميع ، ولا يطعن فيه أحدٌ ، لا تقدر ، هل عند الناس خزائن السماء ؟
 
الله تعالى وحده المسيطر على كل شيء :
 
الله عز وجل سلط على الناس الآن فيروس الإيدز ، العالم كله في حيرة ، 17مليون إنسان مصاب بالإيدز ، والسلسلة ليست هندسية بل انفجارية ، والعلم يعجز عن وضع مصلٍ لهذا الفيروس ، ثم اكتشفوا أن له سلالات ، إذا صرفوا ألوف الملايين لوضع مصل لهذا الفيروس هناك سلالة أخرى تحتاج إلى ألوف أخرى ، فلذلك على أي شيء يسيطر الإنسان ، هل يملك الإنسان أن يضمن عدم اهتزاز الأرض ، بسبع درجات على مقياس رختر حيث يصير كلُّ ما على الأرض أنقاضًا ، مثلاً : 5 رختر ، بناء 14 طابقاً صار أنقاضاً ، والزلازل موجودة في الأرض ، في آسيا ، وأوربا ، وإفريقيا ، والمغرب ، مدينة أغادير على الساحل الأطلسي بثوانٍ معدودة أصبحت تحت الأرض كلها ، فندق من30 طابقًا ، بقي منه الطابق الأخير ، وكأن هذا الطابق الأخير الذي عليه اسم الفندق صار شاهدة لهذا القبر .
﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾
 
أكبر محطة بترول في بحر الشمال ، قالوا عنها : إنّها مدينة ، مدينة أنشئوها في البحر ، مهبط طائرات ، ومكاتب ، حطَّمها موجٌ عاتٍ ، وناقلة نفط تحمل مليون طن قد يأتي موج كالجبال فيشطرها شطرين ، وباخرة (تيتانيك) قالوا عنها : إن القدر لا يستطيع أن يغرقها ، غرقت في أول رحلة لها ، ولها قصة مثيرة جداً .
 
الله سبحانه بيده تصريف كل شيء :
 
﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾
 
الآن في المغرب يوجد جفاف كبير جداً ، وجفاف قبل سنوات في أوربا ، وكذلك قبل سنوات كان عندنا جفاف ، وفي العالم مثلاً منطقة تموت من العطش ، أين المطر ؟ ليتّخذوا قرارًا بإنزال المطر ، منطقة تموت من الفيضانات :
﴿أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾
تملك الرياح ، إعصار واحد يدمر كل شيء  هناك أعاصير في أمريكا ، لا تبقي ولا تذر ، لقد كان هنا مدينة ثم تحوّلت كلها إلى أنقاض ، لا أشجار ولا أبنية ولا شيء بقي منها ، هل نملك تحريكَ الرياح أو تسكينها ؟
هبَّت عاصفة رياح واحدة قلعت 130 بيتًا زراعيًا في الساحل  ، عاصفة واحدة وفي وقت قصير ، وأحياناً صقيع يتلف النبات كله ، فهل نملك في تصريف الحرارة شيئًا ؟ قبل أعوام على الساحل بلغ سُمكُ الثلج  ثمانية سنتيمترات ، والدرجة 9 تحت الصفر ، عند سطح البحر ، إننا لا نملك أن نفعل شيئاً إزاءَ ذلك ، وليس لنا سلطان لا على الحرارة ، ولا على البرودة ، موجة حر واحدة مات بسببها 380 شخصًا ألمَّت بأمريكا  قبل أسابيع ، فالذي يملك الزمام والذي بيده تصريف كل ذلك هو الله سبحانه .
﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾
 
قد تأتي حشرة تقضي على كل المحصول ، ذبابة أحياناً ، قد تعجز كل الفئات العلمية أن تكافحها ، كالذبابة البيضاء ، فالإنسان ضعيف ، إذا اعترف بضعفه صار قوياً .
 
عدم قدرة الإنسان الاستماع إلى وحي السماء :
 
﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾
أأنتم تفرضون هذا الوحي ؟ هل عندكم طريقة لأخذ خبر السماء من غير هذا الطريق ، هل عندكم من يستمع إلى وحي السماء ؟
 
﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾
 
  ادعاء العرب في الجاهلية أن الملائكة هن بنات الله :
 
ثم إن العرب كانت تحتقر البنات في جاهليتهم ألم يقل الله عز وجل :
﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾
 (سورة التكوير : 8 ـ 9 (
فكان العرب في جاهليتهم ينسبون الملائكة ، ويتوهمون أنهم بنات الله .
﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾
 
ثم إن هذه الدعوة ، هل طالَبَ الأنبياءُ بأجر عليها ؟ فالإنسان عند طبيب ينقد الأجر ، وقد يؤدِّيه مسبقًا ، كذلك عند المحامي والمهندس ، ولا يجرؤ إنسان أن يدخل محلاًّ تجارياً أو عيادةَ طبيب ، أو مكتبَ محامٍ ، إلا ومعه المال المخصص لأدائه وإلاّ رُفِض ، لكنه يدخل المسجد من دون رسمِ دخول ، ومن دون رسم شهري ، ومن دون رسم اشتراك ، وليس على المحاضرة أجرةٌ مقابلةٌ ، لا شيء من هذا أبداً .
 
الإسلام لا يطالب الإنسان بشيء إلا بحسن العاقبة :
 
﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾
بينما الإنسان حين يعصي الله يؤدّي الكثير من النقود ، فمثلاً ليلة رأس السنة الميلادية على الشخص 1500 ليرة سورية لدخول الفندق ، ولا بدّ مِن أجر باهظ ليسمع لهو الحديث ، أجر باهظ بأرقام كلها خيالية ، فأجرة المغني خمسون ألف دولار ، وأثوابه من بلد أجنبي مثلاً ، لكن الإسلام لا يطالبك بشيء من هذا إطلاقاً ، وكلُّه من غير مقابل مع حُسن العاقبة .
 
الغيب بيد الله وحده :
 
﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾
هل مِن جهة أرضية تستطيع أن تكشف الغيب ؟ هذا الذي حصل في شرق العالم ، انهيار دول عظمى ، مَن كان يتنبأ بهذا ؟ والله لو تنبأ أحدٌ بهذا لأُدخل إلى مستشفى الأمراض العقلية ، لكن بعد حين هذه القلعة الشامخة من قلاع الكفر أصبحت كبيت العنكبوت ، من يتنبأ بهذا ؟
﴿أمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾
 
الكافر في قبضة الله لا يتحرك إلا بإذنه :
 
الكافر لا يصنع الكيد ، يقع عليه الكيد ، هو موضوع الكيد ليس صانع الكيد ، الله جل جلاله هو الذي يدبر ، أما الإنسان يُدبّر له  :
﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾
أي الكافر في قبضة الله ، أيْ إذا أراد أن يتحرك فبإذن الله ، لأنّ الله سمح له أن يتحرك ، وفي أية لحظة يمكن أنْ يقعَ في قبضة الله ، ولا يَلْوِي على شيء .
﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
 
سورة الطور الآية الوحيدة التي تطرح كل الشبهات و ترد عليها :
 
لا أعتقد أنّ في كتاب الله مجموعة آيات متتابعة تطرح كل الشبهات وترد عليها كلها مجتمعة كما جاء في هذه الآيات التي ضمَّتْها سورة الطور :
 
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ* أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ* أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
 
  العاقل من يعد العدة ليوم القيامة :
 
﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ﴾
 
قد يكون هذا الكسف الساقط بلاء كبير ، قالوا بسذاجة : سحاب مركوم .
﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾
دقق نظرك في هذه الآية :
﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾
 
العاقل يتهيأ لهذا اليوم ، يعد العدة له ، يعد له استقامة ، يعد له طاعة ، يعد له إنفاقاً ، يعد له شوقاً ، يعد له حباً ، هذا شأن العاقل ، لكنّ  الإنسان إذَا أنغمس في الدنيا ، وأعرض عن ذكر الله عز وجل حينما يأتي ملك الموت معلناً قرب أجله ، يصعق ! .
 
اهتمام الكافر بالدنيا لا ينفعه عندما يأتي ملك الموت :
 
﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ *يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾
كل تدبيرهم ، واهتمامهم بالدنيا ، وعنايتهم بها ، والعناية ببيوتهم  وأعمالهم ، وضبط أمورهم ، وتأمين أرصدة كبيرة جداً ، للمفاجآت ، كل هذا الذي أعدوه لشيخوختهم لا ينفعهم شيئاً عندما يأتي ملك الموت .
﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
هو عذاب في الدنيا ، أجل : لهم عذاب بالدنيا ، وعذاب بالآخرة .
 
المؤمن الحق في أعلى درجات العناية والحفظ والتأييد : 
 
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
هذه الآية خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، ولكل مؤمنٍ نصيبٌ منها على قدر إيمانه ، وعلى قدر استقامته ، وإخلاصه ، فالله عز وجل قال لسيدنا موسى :
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾
 (سورة طه(
﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾
 (سورة طه(
 
وقال للنبي عليه الصلاة والسلام :
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
يعني في أعلى درجات العناية ، أعلى درجات الحفظ ، والرعاية ، والتأييد ، والتوفيق وكل مؤمن مستقيم ، محب لله عز وجل ، يشعر أن الله معه ، وهو في محنته ، يشعر أن الله معه ، ولن يخيب ظنه ، ولن يسلمه لأحد ، ولا يتخلى عنه .
 
طاعة الله ثمنها التأييد و الرعاية و الحفظ :
 
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
قدم الطاعة فقط ، وانتهى الأمر ، قدم الطاعة وانتظر أن ينطبق مضمونُ هذه الآية أو بعضها عليك :
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
 
برعايتنا  هذا معنى قول الله عز وجل :
﴿أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾
 
قال العلماء : هذه معية خاصة ، معية بالتأييد ، والنصر ، والحفظ ، والتوفيق :
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾
 
فالحكم غيرُ واضحٍ ، إذْ لو كان واضحاً لمَا احتاج إلى صبر .
 
 امتحان الله لعبودية الإنسان ليعرف صدقه واستسلامه له :
 
قد يجلس المريضُ على كرسي طبيب الأسنان ، ويعلم علم اليقين أنّ هناك إبرة بنج ، وسوف تغرز لثّة أسنانه ، وهناك ألم محقق ، لأنه يعلم حقيقة ما سيجري ، والحكمة مما يجري ، لا يقال لهذا : اصبر ، لكنْ يقال لإنسان : اصبر إذا كان الحكُم غيرَ واضحٍ ، فاللَّهُ أحياناً يمتحن عبوديتنا له  بقدر غير واضح ، ولأنه غير واضح تظهر عبوديتنا واستسلامنا له  وصدقنا في محبته ، لذلك قال سيدنا علي : الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين :
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾
 
هذه مشيئة الله ، هكذا أراد الله ، هذا قرار الإله ، هذا حكم الله ، فالمؤمن الذي يعرف حكمة الله  ويعرف أن كل أفعاله سبحانه حكيمة يصبر .
 
على الإنسان أن يسبح ربه بكرة وأصيلاً :
 
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾
 
يعني إذا قمت من فراشك ، فسبِّح بحمد ربك ، وإذا قمت إلى عمل فسبِّح بحمد ربك ، وإذا أويت إلى الفراش فسبِّح بحمد ربك :
 
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾
 
وإذا استيقظت إلى صلاة الفجر فسبحه ، يعني سبحه ليلاً ونهاراً :
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب