سورة الذاريات 051 - الدرس (2): تفسير الأيات (15 – 19) - قيمة الإنسان عند ربه تتعلق بعلمه و عمله

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الذاريات 051 - الدرس (2): تفسير الأيات (15 – 19) - قيمة الإنسان عند ربه تتعلق بعلمه و عمله

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الذاريات

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الذاريات ـ الآيات: (15 - 19) - قيمة الإنسان عند ربه تتعلق بعلمه و عمله

24/06/2013 18:12:00

سورة الذاريات (051)
الدرس (2)
تفسير الآية: (15-19)
قيمة الإنسان عند ربه تتعلق بعلمه و عمله
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً  وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني من سورة الذاريات ، ومع قوله تعالى في الآية الخامسة عشرة :
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾
 [سورة الذاريات ]
 
    التوازن في القرآن الكريم :
 
قلتُ لكم في درس سابق هذا الكتاب هو كتاب الله عز وجل ،  كِتاب هِدايةٍ ورشاد ، لذلك فيه توازن ، ليس القصْد أن يُقسَّم تقسيماً موضوعياً لكنّ القصْد أن يكون هناك توجيه لهذه النفس إلى الله عز وجل ، فحينما تأتي مشاهد مِن عذاب أهل الكُفْر تأتي مشاهد من نعيم أهل الإيمان ، فبعد أن ورَدَ في هذه السورة عن هؤلاء الذين ينحرفون (الخراصون) الذين هم في غمرة ساهون قال تعالى :
 
﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ *يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾
 [سورة الذاريات ]
من هم المُتَّقون ؟ الذين أطاعوا الله عز وجل ، يعني إنسان فيه شَهوات ، وله منهج ، وله طَبع ، وهناك تكليف ، وفي الأعمّ الأغلب التكليف يُخالف الطَّبع ، الطَّبع أن تنام والتَّكليف أن تصلي ، والطَّبع أن تأخذ ، و التكليف أن تُعطي ، والطبع أن تنظر ، والتكليف أن تغضّ البصر ، فهذا الذي قرأ القرآن وعرف منهج الله عز وجل ، وضَبَط شَهواته ، وضَبَط جوارحه ، ضبط كسبه للمال ، ضبط إنفاقه للمال وفق منهج الله ، وطلب العلم ، وعرف الحُكم الشَّرعي ، وصاحبَ أهل الإيمان ، وابْتَعَد عن أهل الفُسق والفُجور ، وجعل دَخْلهُ حلالاً ،  جعل إنفاقه وفق منهج الله ، هذا الذي صاحب المؤمنين ، دعا إلى الله ،  وعمل صالحًا ، أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، هذا الذي اتَّقى الله عز وجل ، اتَّقى أن يُغْضِبَهُ ، اتَّقى أن يُسْخِطَهُ ، واتَّقى أن يعصيه ، اتَّقى عذابه في الدنيا ، واتَّقى عذابه في الآخرة ، هؤلاء المتَّقون في جنَّات وعيون .
  
 خطأ الإنسان الكبير أن ينظر إلى أهل الدنيا فقط :
 
من الخطأ الفادِح أن تنظر إلى الدنيا على حِدَة ، فإن نَظَرتَ إليها على حِدة ، تجد الكافر أحياناً غنياً جداً ، وقويّاً ولا يعْبأ بِكُلّ هذه القِيَم التي تدَّعيها ، ولا بهذه القيود التي قيَّدْت نفْسَكَ بها ، فإذا نظَرْت للدنيا فقط تقَع في حَيْرة ، ولكن إذا ضَمَمْت الآخرة إلى الدنيا لا تقع في حَيرة ، يعني مثلاً  إنسان يُهَرِّب مادّة مُخَدِّرة ، تقول : يا أخي على الكيلو بِخَمسمئة ألف ! لكن اُنْظر لمَّا يقع بِيَد العدالة ، ويُحْكم بالسِّجن المؤبد ، فإذا جمعت هذا بِذاك وجَدْت أنَّه غبيّ ، أما إذا نظرت فقط للخمسمئة ألف يصير أذكى منك ، كل تعبك لا يلحق به ، شغل سنة لا يلاحق شغل ساعة عنده ،  فَمِن الخطأ الفادِح أن تنظر إلى أهل الدنيا في الدنيا فقط ، فهذا خطأ كبير ، فالله عز وجل قال :
 
                                   ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾
 [سورة آل عمران]
  
  العاقل من يجمع الآخرة مع الدنيا :
 
قد تُعْجِبُكَ أجسامهم ، قد تُعْجِبُكَ أموالهم ، وقد تُعْجِبك بيوتهم ، ومركباتهم ، وأماكن اصْطِيافهم :
                            ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾
 [سورة آل عمران]
في أيِّ دِراسَةٍ ، وفي أيِّ موازنة ، وفي أيّ بحث ، وفي أيّ تَمْحيص ، اِجْمَع الآخرة مع الدنيا ، ترى الكافر كُتلة غباء لأنَّه ضيَّع الآخرة الأبدِيَّة بِسَنواتٍ معدودة ، وترى المؤمن المُقيَّد والخائف والمُستقيم ، هذه حرام  ، هذه لا ترضي الله ، هذه فيها شبهة ، دائماً خائف ، دائماً قلق ، دائماً يتقصد طاعة الله عز وجل ،  ترى هذا المؤمن الذي يبدو لك أنه محروم ، ليس محروماً أبداً ، هو يبْحث عن رحمة الله عز وجل ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
 [سورة الزخرف]
خالق الكون ، أعددت لعبادي الصالحين  ما لا عَينٌ رأَتْ ، ولا أُذُن سَمِعَت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيا أيُّها الأخوة الكرام ، إذا أردْتَ أن تنظر إلى أهل الدنيا ينبغي أن تُضيف الآخرة إلى الدنيا ، إذا أضفت الآخرة  قال تعالى :
                                       ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾
[سورة الذاريات]
 
العبرة بالخواتيم :
   
لكنَّ الله تعالى قال :
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾
 [سورة البروج]
وقال تعالى :
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾
 [سورة الانفطار]
فلو أن شَخصاً ركب أفْخر مركبة ، ولكن يؤخذ لِيُشْنَق وآخر يمشي على قَدَمين ، ويتَّجه نحو تملّك قصْر كبير ، فإذا التقيا في الطريق فهنيئًا لِمَن ؟‍العِبرة بالخواتم ، العبرة بالعاقبة ، بالمصير ، لذا قال تعالى  :
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾
 
 [سورة الذاريات]
  
 المؤمن يسعى دائماً لمرضاة ربه :
 
هذا الذي قال لك : إنّ هذا حرام لا أفْعَلُه وهذا لا أفعلهُ لِشُبهة فيه ، وهذا لا يرضي الله عز وجل ، وهذا الذي يضَعُ المال تحت قَدَمِهِ ، إذا كان فيه شبهة ، وهذا الذي يسعى لمرضاة الله تعالى ولو تجشَّم المتاعب ، قال تعالى :
 
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾
 
[سورة الذاريات]
هذا كلام رب العالمين ، ولذلك قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
 [سورة القصص]
  
 الإنسان المستقيم مصيره يختلف تماماً عن الإنسان المتفلّت :
 
أَيُعْقَل أن يكون هذا المُطيع المستقيم الخائف الذي يتقصَّى أمر الله عز وجل ، ويسْعى إلى تطبيقه أن يكون مصير هذا الإنسان كَمَصير المتفلِّت ؟! إذا لا معنى للدين إطلاقاً عندئذ ،  قال تعالى :
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
 [سورة الجاثية]
قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾
 [سورة السجدة]
قال تعالى :
                                       ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾
 [سورة القلم]
  
 الأحمق من انصرف عن الآخرة إلى الدنيا :
 
قال تعالى :
 
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾
 
[سورة الذاريات]
فالله تعالى حينما يُعِدُّ لهذا الإنسان حياةً أبَدِيّة لا تنتهي ، مُفْعمةً بالسَّعادة ، أليس من الغباء الشِّديد أن ينصرِفَ الإنسان إلى الدنيا ويستغني عن هذه الحياة التي وعد الله بها المؤمنين والحياة الدنيا ساعات ؟ قال تعالى:
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾
[سورة المؤمنون]
 
ترك الإنسان سدى يتناقض مع كمال الله عز وجل:
 
قال تعالى :
                                       ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾
 [سورة القيامة]
أن تأخذ المال الذي تُريد ، وأن تلتقي مع منتريد ، وأن تستعلي ، وأن تسْتكبر ، وأن تَقْهر الناس وتنتهي الحياة هكذا بِبَساطة ؟ ولا شيء بعد الموت ! هذا شيءٌ يتناقض مع كمال الله عز وجل ، ويتناقض مع فلْسفة الوُجود ، قال تعالى :
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
 [سورة الروم]
  
  استقامة الإنسان تتعلق بأن كل شيء يفعله سوف يحاسب عليه :
 
﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾
 [سورة طه]
هذه الآية أيها الأخوة ، كحديث ذاك الأعرابي الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام عِظْني ولا تُطِلْ ، فتلا عليه قوله تعالى :
                    ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
 [سورة الزلزلة]
فقال كُفيت ، اكتفى هذا الأعرابي بآية واحدة ، اكتفى ، مثقال ذرة ، ولو ابْتَسَمْت ابْتِسامةً في غَير موضِعِها ، فيها سخرية ، مسجلة ، وسوف تحاسب عليها :
                               ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
فإذا الإنسان أيْقَنَ من هذه الآية ، أيها الأخوة ، إذا أيقن أن كل شيء يفعله سوف يحاسب عليه ، مهما بدا لك صغيراً ، مهما بدا لك تافهاً ، عندئِذٍ يستقيم الإنسان  .
  
  النظر إلى وجه الله الكريم من أعظم الإكرام يوم القيامة :
 
ثمّ يقول تعالى :
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾
 
[سورة الذاريات]
هم في طَوْر الإكرام ، مضَى طَوْرُ العمل ، ومضَتْ حياة التكليف ، والآن حياة التَّشريف ، ومضَتْ حياة الكَدح والجُهْد ، والسعي ، ومكابدة المشاق وحمْل النَّفس على غير ما تريد ابتِغاء مرْضاة الله ، هذه الحياة انتهت ، بقيت حياة التَّكريم ، فالإنسان قد يقول لك درسْتُ ثلاثة وثلاثين سنة ، انتهتْ الدِّراسة نال الدكتوراه ، وعُيِّن في منْصِب رفيع ، وهو الآن طَوْر التَّكريم ، المكتب الفخْم والأوامر ، والموظفين ، والسيارات ،  والبيوت الفخمة ،  مثلاً كل هذا التَّعب ، الآن جاء دور الإكرام ، قال تعالى :
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾
 
 [سورة الذاريات]
من إكرام ، لهم ما يشاءون فيها ، نِظام الجنّة أساسه أنَّ كلّ شيء يَخْطُر في بالِكَ تَجِدُهُ أمامك من طعامٍ وشرابٍ ، وفواكه ، وفوق كلّ هذه المُتَع السامِية رِضوان الله عز وجل  وفوق كلّ هذا النَّظر إلى وجه الله الكريم ، في حياةٍ مُتَجَدِّدة ومُتنامِيَة ومُتصاعِدة إلى ما شاء الله ، وهذه الحياة الآخرة هي التي يسْعى إليها المؤمن .
  
  الخلق عند الله سواسيّة يوم القيامة :
 
قال تعالى :
 
                                  ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾
 
 [سورة الذاريات]
الإنسان أحياناً إن وجَدَ شيئًا عظيماً يسأل ما ثَمَنُهُ ؟ إن وجَدَ سيارة فارهة يقول : كم قيمتها ؟ وإن وجد بيتًا فخمًا يقول : بِكَم اشْتراه صاحِبُهُ ؟ فهذا السؤال الفِطري ، قال تعالى :
           ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾
 
 [سورة الذاريات]
بالمناسبة ، لا يوجد شيء وعد الله به المؤمن إلا وفي يَدَيْه ثمنُهُ ، إلهٌ عادِل والخلق عند الله سواسِيَة كأسنان المِشْط ، ولا فضْل لِعَربيّ على أعْجميّ إلا بالتَّقوى وسَلمان مِنَّا آل البيت ، ونِعْم العبد صُهَيب .
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
 [سورة المسد]
 
عدم وجود أي فضل لشخص على آخر إلا بالطاعة :
   
هذا  الدِّين ، الدِّين كما قال تعالى :
 
                               ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
 [سورة الحجرات]
والدِّين لا امْتِياز لِشَخص على إنسان إلا بالطاعة ، وكلّ التَّقْييمات التي أحْدثها الإنسان عند الله باطلة ، لا الغنيّ يرْفَعُهُ عند الله  غِناه ، ولا الفقير يخْفضه فقْرُهُ ، ولا الصحيح ترفعُهُ صِحَّتُهُ ، ولا السَّقيم يخفضهُ مرضُهُ ، صحيح سقيم غني فقير وسيم دميم كبير صغير ؛ من أسرة ذات نسب ، من أسرة غير منسوبة ،  هذه القِيَم التي أحدثها الإنسان في تقييم بني البشر، لا أساس لها عند الله أبداً ، قال تعالى :
                               ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
 
 [سورة الحجرات]
  
أعظم قيمة للإنسان عند ربه تكون بالعلم والعمل :
 
أحدهم في غفلة سريعة ، وفي سَبْق لِسانٍ ، وزلّة لِسان قال لِسَيِّدنا بلال : يا بن السَّوداء...." فقال عليه الصلاة والسلام : إنك امرؤ فيك جاهلية ، عظمة هذا الدِّين أنّ الخلق كلّهم سواسِيَة كأسنان المشط ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم :
(( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ))
[رواه مسلم عن أبي هريرة ]
يُمكن أن يكون الحاجب عند المدير العام يكون الحاجب أقرب إلى الله من المدير العام ، ممكن ، ممكن أن يكون أقرب إلى الجنة ، باستقامته وخوفه من الله عز وجل  ، فهذا المبدأ يُعطي الإنسان دَفْعًا قَوِيًّاً ، كُنْ ابن من شِئْت ، ومن أيّ منطقة ولدت ، ومن أيّ أب  ، من أي  أمّ ، ومن أيّ أسرة  ، ومن أي قبيلة ، من أي عشيرة ، ومن أيّ بلد أو إقليم ، ومن أيّ عصر ، من أي مصْر ، بأي شكل ،  يروي كُتَّاب التاريخ أنَّ أحَدَ التابعين كان قصِير القامَة ، أسْمر اللَّوْن ، أحْنفَ الرِّجل ، مائِلَ الذّقن ، ناتئ الوَجْنتَيْن ، غائِرَ العَيْنَيْن ، وليس شيءٌ من قُبْح المَنظر إلا وهو آخِذٌ منه بنصيب ، وكان مع ذلك سيّد قومِهِ ، إن غَضِبَ غضِبَ لِغَضْبَتِهِ مئة ألف سيْف لا يسألونه فيما غضِب ، وكان إذا عَلِمَ أنَّ الماء يُفْسِدُ مروءَتَهُ ما شَرِبَهُ ، بأيّ شَكل ، وسيم جداً ، أقل وسامة ، أقل وسامة بكثير ، دميم ، بأي شكل ،  الصحابة الكرام ، أنواع منوعة ، في أجسامهم ، أحد الصحابة كان يقف فالرياح كشفت عن ساقه ، ساقه دقيقة جداً ، فضَحك بعض الصحابة من دقة ساقه ، فقال عليه الصلاة والسلام : أتعجبون من دقة ساق فلان ، هي والله عند الله كجبل أحد ، فكلها عنعنات جاهلية ، أنا في قدر فلان ، أبو لهب عم النبي ، لا أسرة ، ولا أم ، ولا أب ، بلا جهة الفلانية ، بالعصر الفلاني ، فأيّ قيمة وضَعها الناس ، عند الله تعالى باطلة  إلا قيمتي العِلم والعمل لقوله تعالى :
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
 [سورة الزمر]
  
  على الإنسان ألاّ يفتخر بشيء لم يرد في القرآن الكريم :
 
القيمة الثانية ، قوله تعالى :
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
 [سورة الأحقاف]
فهذه نصيحةٌ عميقة ؛ إذا أردْتَ أن ترقى عند الله جميعُ القِيَم الأرضية ضَعها تحت قَدَمِك ، وابْحَث عن قيمتي العِلم والعمل ، وانتهى الأمر ،  قال :
كُن ابن مَن شئْت واكتَسِب أدباً              يُغنيك محمودُهُ عن النَّسَب
*     *      *
لا تفْتَخِر بِشَيء لم يرِد في القرآن الكريم ، إذا قلتَ : أنا أقرأ القرآن فهذا جيّد ، وأحفظُهُ هذا أجوَد ، وأفهمهُ وأُطبِّقُهُ وأُعلِّمُهُ جيد ، خيركم من تعلم القرآن وعلمه  ، أما إن قلتَ أنا أملِكُ من المال كذا وكذا ، قال تعالى :
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾
 [سورة القصص]
 
الافتخار ليس من خلق المؤمن :
   
أعطاهُ المال الوفير الذي تَعْجزُ عن حَمْل مفاتحِهِ سبعة رِجال أشِدَّاء أقوياء ، ومع ذلك هو لا يحبه ، أنا أحتل العمل الفلاني ، عمل حساس ، من خلاله معي قدرة على التحكم بمصير الآخرين ،  فالله أعطى الملك لِفرعون وهو لا يحبّه وأعطاه لِسُليمان وهو يحبّه ، ليس له علاقة ،  أعطاه لِمَن يحبّ ولِمَن لا يحب ، إذاً ليس مقياساً ، لا تفتخر بمقياس غير صحيح  ،  افتخر بالعلم والعمل الصالح ، إن أردت أن تفتخر ، والافتخار ليس من خلق المؤمن ، لذلك قال تعالى :
 
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾
 [سورة الذاريات]
 يعني مِن أرْوَع ما في كتاب الله الصِّفات المطلقة ؛ مُحْسِن إذاً مُحْسِنٌ بِماذا ؟ مُحْسِنٌ بِعمله ؟ بعمله ، وبِحِرفِتِه ؟ بحرفته ، وبِزَواجِهِ ؟ بزواجه ، وبِأُبوَّتِهِ ؟ بأبوته ، وبِبُنُوَّتِه ؟ ببنوتهِ، ومحسِنٌ مع جيرانه؟ مع جيرانه ، مع أقربائه ، مع أصدقائه  ، مع زبائنه ، ومع مَن هم أدنى منه ، و مع من هم أعلى منه ، ومُحْسِن حتَّى في علاقته بِجِسْمِهِ ، حتى في علاقتِهِ بأهْلِهِ ، وحتَّى في صَنْعَتِهِ .
  
  إتقان عمل الإنسان جزء من دينه :
 
النبي عليه الصلاة والسلام أثناء دفن أحد الصحابة ترك فرْجةً فقال عليه الصلاة والسلام  : هذه لا تؤذي الميّت ولكنها تؤذي الحيّ إن الله يحب من العبد إذا عَمِل عملاً أن يُتْقِنَهُ ، إتْقانُ العمل جزءٌ أساسي من الدِّين ، إتقان العمل يورِثُكَ العِزَّة ، قال تعالى :
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
 [سورة يونس]
تستمِدُّ عِزَّتَكَ ومكانَتَك مِن إتْقان عَمَلِك ، وكلّ واحد من إخواننا الكرام ،  بِأيّ حِرْفة إذا أتقنها له شأن ، تَجِدُهُ مُحْترَم ومُبجَّل وعزيز ، أما إذا أهْمَل وأساء يأتيه اللَّوْم مِن كُلّ جانب ، ثمَّ يُسْحَبُ اللَّوْم إلى دينه ، ثمَّ إلى مُقدَّساته ، فإذا أردْتَ أن يعْتزّ الإسلام بِكَ أتقنَ عملك .
فالناس يعجبون دائماً بالعمل المتقن ، فالطبيب المسلم ينبغي أن يكون أعلى طبيب ، والمُحامي المسلم أعلى مُحامي ،  محامي ذو مبدأ لا يأخذ القضايا الباطلة ، والمهندس كذلك ، والتاجِر والصانِع ، فكلّ إنسان له حِرْفة ينبغي أن يكون في قِمَّتها ليتناسب مع دينه ،  لأنَّ إتقان العمل جزء من الدِّين .
  
  على الإنسان أن يكون محسناً في كل شيء :
 
إذاً :
           ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾
 
 [سورة الذاريات]
 يجب أن نفْهم الإحسان بِأوْسَع معانيه ، الإحسان في كل شيء ، يذبح الحيوان  ، وإنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء :
(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ))
[ رواه النسائي عن شداد بن أوس]
في شأنك كُلِّه ينبغي أن تكون مُحسِناً ، أحياناً الإنسان في حرفته يخطئ مع السرعة يُسيء ، يأتيه اللَّوْم من كلّ جانب  ، إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ، ثمّ الإحسان تعرِفُهُ بالفِطرة ، إذا كنت تاجراً ،  وقد ورد بالأثر :
(( إنَّ أطْيَبَ الكَسْب كَسْبُ التُّجار ، الذين إذا حدَّثوا لم يَكذِبوا ، وإذا وَعَدوا لم يُخلِفُوا ، وإذا ائْتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشْتَروا لم يُذمّوا ، وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا كان لهم
 
لم يُعَسِّروا ، وإذا كان عليهم لم يُمْطِلوا ))
أحسن في التجارة ، أحسن في الصناعة ، ضع المواد الجيدة .
  
  المحسن يتلقى من ربه سكينة وطمأنينة على إحسانه :
 
أخٌ كريم لا أنسى كلمته ، يعمل في صِناعة غِذائِيَّة قال لي : هؤلاء أطفال المسلمين ، أشتري لهم المواد الأوليَّة مِن أعلى مُستوى ، يدفع ثمن هذه القطعة من الحلوى مبلغاً أخذه من أبيه ، وقد تعب هذا الأب حتى جنى هذا المبلغ من المال ، أعطى لابنه هذا المبلغ الصغير ، ليشتري به حلوى ، ينبغي أن نضع له في الحلوى أعلى المواد المغذية النافعة ، غير المسرطنة ، غير الكيميائية ، إذا الإنسان أحسن فيما بينه وبين الله ، الله عز وجل يدافع عنه فيما بينه وبين الناس .
ميزة المؤمن أنه لا يتعامل مع الخلق ، يتعامل مع الحق ، فإذا رَضِيَ الله عنه حُلَّتْ كلّ مُشْكِلاته ، ولمَّا الإنسان يقْصِد أن يُرْضي مَخلوقاً ويَعْصي خالقه يسْخَطُ الله عنه ، ويُسْخِطُ عنه الناس ، أما إذا أردْت أن ترضي الله عز وجل ، رضِيَ  الله عنك ، وأرْضى الناس عنك ، وكلمة مُحْسِن (أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الكلمة في قلوبنا) لأنَّ رحمة الله قريب من المحسنين ؛ المحسن يتلقى رحمات الله ،  سكينة وطمأنينة وثقة بالنفس ، التفاؤل ، معنويات عالية ،  وتوفيق بالعمل ، وتوفيق بِبَيْتِهِ وزواجِه وبأولاده ، محسن ،  فلذلك الإنسان عليه أن يُحْسِن وعلى الله الباقي .
 
العمل الصالح ثمن الجنة :
 
أُخاطِب الآن أصحاب الحِرَف جميعاً ، وأصحاب الوظائف جميعاً ، وأصحاب الأعمال جميعاً ضَعْ إتْقان العمل أمامك ، والمادّة وراء ظهْرك ، تأتيك المادَّة وزيادة ، أما إذا وَضَعتَ المادّة أمامك ، والإتقان خلفك ، تفقد سمعتك ، وتفقد المال معاً ،  في أي حرفة ، ضع الإتقان أولاً ، خِدمة المسلمين أوَّلاً ، وقد كان السَّلف الصالح إذا فتَحَ الواحِد منهم باب محله التجاري  يقول : نَوَيْتُ خِدمة المسلمين ، وكلّ واحِدٍ مِنَّا يُمكن أن ينقلب  عملَهُ  ببساطة إلى عِبادة وأنت في مَتْجَرِكَ ، و أنت في معْمَلِكَ ، وأنت في مكتبك ، و أنت في حِرْفَتِك ، فيكفي أنَّك عرفْت الله وعرفْت أنَّك في الدنيا من أجل  العمل الصالح ، وعرفت أن العمل الصالح ثمن الجنة ، وعرفت أنّ كلّ هؤلاء الناس عباد الله وعِياله ، فإذا أحْسنت إليهم تقرَّبت إلى الله عز وجل ، وحينها يختلف الوضع اختلافاً كلياً ، تنطلق الآن لا من كسب مادي ، ولا من جميع للثروة ، ولا من تيه وفجر على من حولك ، لا ،  تنطلق من  إرْضاء الله عز وجل .
  
أي عمل يبتغي به الإنسان وجه ربه ينقلب إلى عبادة :
 
قال العلماء : أيّ عمل إذا كان في الأصل مَشْروعاً ، وسلكت به الطرق المشروعة ،  وابْتَغَيْتَ به كِفاية نفْسك ، وأهلك ، وخِدمة المسلمين ، ولم يشْغَلْك عن فرْضٍ ، و لا عن واجِبٍ ، ولا عن طلب عِلمٍ ، انْقلبَ هذا العمل إلى عِبادة ، وأنت في متجرك تعبد الله ، وأنت في قاعة التدريس تعبد الله ، وأنت في مكتبك تعبد الله ، وأنت في معملك تعبد الله ،  فالدِّين يتَغَلْغَل في كلّ كيان الإنسان ، وفي كلّ مناحي  الحياة ، وفي  كل الأوقات ، وفي كل المناحي مكاناً ،  وفي كل الأوقات زماناً ، وفي كل كيان الإنسان عمقاً ، في الزمان والمكان والعمق ، يعني إذا كنت في  نُّزْهة فأنت في عبادة الهدف أن تدخل على أهلك السُّرور ، وإذا اشْتَريْت ثِياباً لِتَرتديها فأنت في عِبادة ، إنك تهدف أن تظهر أمام الناس وأنت محسوب على المسلمين ، بمظهر لائق ، فالله تعالى قال :
           ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾
 
 [سورة الذاريات]
  
من صفات إتقان العمل الصدق والإمانة وإنجاز الوعد :
 
أصحاب الحِرف أحياناً يسيؤون إساءة بالغة ، الحياديون لا مع المؤمنين ولا مع غير المؤمنين ، هؤلاء إذا جاء إنسان له مظهر ديني ، وعمل عندهم في البيت عملاً ، وأساء ، هؤلاء الحياديون يبتعدون عن الدين مسافات بعيدة جداً ، فالقضيَّة خطيرة جدًّاً ، أنت حينما تسيء ومعروف عند الناس أنك مؤمن وصاحب دين وتصلي ولك مظهر ديني ، فإذا أسأت جررت إلى دينك النفور ، سحبت إلى الدين كل الإساءة ، وأنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يُؤْتينَّ مِن قِبَلِك ، أعْطِ وعْداً دقيقاً ، واذْكُر المواصفات الصحيحة ، وضِّح السِّعر والشُّروط ، ولا تدع الأمر في جهالة لأنّ الجهالة تُفضي إلى المنازعة .
إنَّ هذا الدِّين قد ارْتَضَيْتُهُ لِنَفسي ولا يُصْلِحُهُ إلا السَّخاءُ وحُسْنِ الخلق ، فأكرموه بهما ما صَحِبْتُموه ، فأقلّ مظْهر من مظاهر الدِّين أن تُصلِّي في المسْجِد ، وأكبر مظْهر أن تُتْقِنَ عملك وتكون صادِقاً ، وأن تكون أميناً ، وأن تكون وفِيًّاً بالوعد ، أن تُنْجِز العهد ، وأن تكون متواضعاً ، المظهر الصالح للدِّين هذا ، لأنّ سيّدنا جعفر لما أجاب النَّجاشي عن حقيقة الدِّين ما قال له كنا نصلي ونصوم ، قال : كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونسيء الجوار ، ونقطع الرحم ، ونسفك الدماء ، حتى بعث الله فينا رجلاً ، ما قال يصلي ، قال : نعرف أمانته ، وصدقه ، وعفافه ، ونسبه ، فدعانا إلى الله لنعبده ، ونوحده ، ونخلع  ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، هذا الدين ،  فالدِّين مجموعة قِيَم أخلاقيَّة .
 
المؤمن لا يُسَخِّر القِيَم ولا يسْخَر منها  :
   
لذلك لما تقلَّص الدِّين وانْكَمشَ ، حتى أصْبَحَ رُكَيْعاتٍ تؤدَّى جوفاء ، وطقوساً تمارس من دون معنى  انتهى الدين ، و الآن لا بدّ لهذا الدِّين أن يُجدَّد :
 (( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ))
[رواه مسلم عن أبي هريرة]
كيف يُجَدَّد ؟ بالعمل ، حدَّثني أخٌ مِن إخواننا الكِرام أنَّه وقف موقفًا أخلاقيًّاً وفيه مؤاثرة ، الذي يرْأسُهُ في العمل علِمَ هذه المؤاثرة ، وهذا الموقف الأخلاقي ، قال لي : والله ما دَعَوتُهُ إلى المسجد أبداً إلا أنَّه في الدرس القادم وجَدْتُهُ بين الأخوة المصلين ، ما قلت له ولا كلمة ، تعال إلى المسجد ، رأى موقفاً أخلاقياً ، موقفا يلفت النظر ، لم يفعله أحد ممن حوله ، بدافع دينه فعله ، فرأى هذا الإنسان بين صفوف المصلين في الدرس القادم ، هكذا يمكن أن تدعو إلى الله وأنت ساكت  ، ولا كلمة ، استقامة ، صدق ، رجل يبيع مواداً غذائية وله درس في مسجد ، قال له : هل عندك بيض ؟ فقال : نعم ، فقال الزبون : هل هو طازج ؟ فقال الأخ : له أربعة أيام ، ولكن جاري قد أحضر الآن البيض ، هذا أبلغ من آلاف المحاضرات ، الكلمة الصادقة أبلغ من ألف محاضرة في الدين ، ونحن نريد مسلمين من هذا الطِّراز ، صادق لا يكذب ، وأمين لا يخون ، لا يحيف ، لا يمشي مخاتلة ، ولا يَحتال ، وله وجْه واحِد ، سره كظاهره ، وسريرتُهُ كظاهره ، وجلْوتُهُ كَخَلْوَتِهِ ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، والدنيا كلَّها تحت قَدَمِهِ ، إذا جرته إلى معصية ، هذا المؤمن ، لا يُسَخِّر القِيَم ولا يسْخَر منها  ، هناك من يسخر من القيم ، هناك من يسخرها لمآربه ، يركب القيمة ،  يدَّعي أنَّه صالح و أنه يسعى للخير ، فهو يطوف على الناس من أجل أن تعمّر الأرض مسجداً وأخذ أقلّ سِعر ، فصاحب الأرض باعهُ إيَّاها بِثَمن رمزي ، فلمَّا تملَّكها أنشأ بيتاً وسكنَهُ ، فهناك مَن يسَخِّر القِيَم ، وهناك من يسْخر منها .
  
 الكلمة الصادقة سلاح المؤمن :
 
أيها الأخوة ، الآن فيما أرى أنّ المُمَارسات التي تُناقض الأقوال سبَّبَتْ في أن يكْفر الناس بالكلمة ، فالكلمة لم تعُد لها قيمة ، لأنّ هناك من يقول كلاماً مَعْسولاً ، وله فِعلٌ آخر ، وهذا التناقض بين الأقوال والأفعال ، سبب للناس جهلهم بالكلمة ، وإذا أردنا إحياء هذه الثقة بالكلمة لاحْتجنا إلى العمل الذي يُؤكِّد القَول ، لذلك نحن لا نريد إنساناً عباداته صارخة  ، أحيانا تجد المسجد مليء ، نريد إنساناً أعماله صارخة ، نزاهته صارخة ، واستقامته صارخة ، والتِزامه صارخ ، وبيته إسلامي ، وعمله إسلامي ، ودَخْلُهُ إسلامي ، وإنفاقهُ مضبوط ، ولا يكذب ، هذا الشَّخص يُعيد الثِّقة الِقُدْسيَّة الكلمة ، فالأنبياء جاءوا بالكلمة وهذا الإسلام الذي عمّ الخافقين ، بماذا جاء الإسلام ؟ جاء بالتكنولوجيا ؟ لا ، لم يأت بشيء لا جاء بطائرة ، ولا جاء بغواصة ، ولا ببارجة ، ولا بأجهزة اتصال ، ولا بكمبيوتر ، ولكن جاء بالكلمة الصادقة ، الكلمة الصادقة سلاح الأنبياء .
فإذا عاملْت المؤمن يجب أن تعتقد أنَّ موتهُ أهْوَنُ عليه من أن لا يَفِيَ بِعَهده  طبعاً من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدَّثهم فلم يكذبهم ، و وعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته ، هذا  المؤمن ، وبِقدر ما تكون أخلاقياً يلْتفّ الناس حولك ، وبقدر ما تكون أخلاقياً يتَّبعك الناس في سَيْرك الصحيح .
   
هداية الناس أعظم عمل على الإطلاق :
 
أعظم عمل على الإطلاق (دققوا في هذا الكلام) فيه تجارات رابحة ، فيه معامل إنتاجها غزير جداً ، وبضاعة مباعة لسنتين قادمتين ، فهناك شركات متعددة الجنسيات ، هذه شركة كمبيوتر لبيع الأجهزة ، اشْترت شركة ثانية ، والثانية حجمها بالنسبة للأولى كالذبابة إلى الفيل ، وثمن الذبابة ثلاثمئة ألف مليون دولار ، فكم هو الحجم المالي للشركة الكبيرة ؟ فقد  يكون لك شركات رابحة جداً ، وأعمال كبيرة جداً ، و دَخل فلكي ، وإنفاق فلكي ومكانة عليَّة ، ولكنّ أعظم عمل على الإطلاق فيما ذكرهُ الصادق المصدوق ، قال يا علي : لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها .
بعض البلاد الصِّناعيَّة كاليابان عندها مئة مليار دولار كل سنة فائض هي في حَيرةٍ كيف تُنفقُهُ ، ليس له مكان استثمار ، مئة مليار كل سنة ، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ،  بكلمة الطيِّبة ، بمعاملة طيبة ، بصبر ، بتأن ، بلقاء ، اثنين ، ثلاثة ، يعني الإنسان إذا عرف يتكلم ، يتكلم ، إذا لم يعرف ، يعطي شريطاً ، إذا لم يعرف لا هذه ولا هذه يكون محسناً ، وإنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسَعوهم بأخلاقكم ، فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس ، الرواية الأولى ، خير لك من حمر النعم ، الثانية ، خير لك من الدنيا وما فيها .
  
مقام الإنسان عند ربه متعلق بعمله :
 
الإنسان بعمله ، وجد شخصاً عنده أخلاقا عالية ، يوجد حياء ، يوجد أدب  ، عنده قِيَم  ، يجب أن يطْمَعَ في هِدايته أن يطمع في ضمه إلى مجموع المؤمنين  ، بالكلمة الطيبة  ، بالخِدمة  الصادقة ، والمنطق القوي ، بالحجة الدامغة  ، بالمعاملة الطيبة ، بالنزاهة ، أنت بِإمكانك أن تجلب الناس ، وأن تحملهم على طاعة الله تعالى ، وإذا سخَّرك الله لأُناسٍ طيِّبين فهذه من أعظم النِّعم ، أن يستخدمك الله في الحق ، وكلما ألتقي بأخ كريم له عمل طيب ، أطمئنه بهذه الكلمة ، إذا أردْت أن تعرف مقامك فانْظر فيما اسْتَعملك ، فهناك الطبال ، والمغني ، وهناك شخص أعماله خسيسة ، وهناك من يقوم الليل بالدشّ  ، قيام ليل إلى الساعة الرابعة ، بالوحل يعيش ، بالمجاري ،  وهناك من يقرأ القرآن ويدعو الله ويُصلي ، فإذا أردت أن تعرف مقامك ، فانظر فيما استعملك .
 
المؤمن الحق من يسعى لخدمة الخلق و الدعوة إلى الله :
 
لذلك أيها الأخوة ، لا يوجد إنسان في قلبه ذرّة إيمان إلا وهذا الإيمان يُعَبِّر عن ذاته بِذاته ، بحركة نحو خدمة الخلق ، لا يوجد مؤمن سلبي ، المؤمن في قلبه غَيرة  ، في قلبه حبّ للآخرين ، في قلبه غيرة على دينهم ، وعلى آخرتهم ، وعلى سعادتهم ، فكل إنسان في قلبه إيمان ، الإيمان يعبر عن ذاته بخدمة الخلق ، يعبر عن ذاته بالدعوة إلى الله ،  ويسعى لِسعادة إخوانه ، الإيمان يعبر عن ذاته بالأمر بالمعروف ، و يعبر عن ذاته بالنهي عن المنكر ، لا أمر بالمعروف ، ولا نهي عن المنكر ، ولا إنفاق المال ، ولا إعمار مسجد ، ولا إعمار ميتم ، ولا خدمة ، ولا صدقة ، ولا شيء ، وكان همّه بيْتُهُ ، وترتيب بيته ،  ونزهاته ، وانْغِماسه في الملذَّات ، وعلى الدنيا السلام ،  فهذا الإنسان إيمانه مهزوز ، هذا إذا قلنا فيه إيمان ، والأرجح أنه  بعيد عن الإيمان . قال تعالى :
           ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾
 
 [سورة الذاريات]
   
  على الإنسان أن يقول الحق وأنْ يعمل له :
 
فنحن نريد إحساناً ، المؤمن عمله متقن ، وعدهُ صحيح ، ولا يكذب أبداً ، المؤمن لا يكذب ، قل الحق ولا تأخذك في الله لومة لائم ، قال لي أخ : عندي قطعة لسيارة ، بقيت عنده خمس ، ست سنوات ، من جرد لجرد لجرد ، وغالية ، حقها عشرون أو ثلاثون ألفاً ، لشاحنة كبيرة ، جاءه زبون ، لما قال له أريد هذه القطعة ، كأنه عبء جبل أزيح عنه ، ذهب لإحضارها ، قال له أصلية ؟ قال وأنا على السلم ، وقعت في صراع لأنها ليست أصلية ، قال له ليست أصلية ، قال له هاتها ، بكلمة أصبح البيع حلالاً ، وبكلمة أصبح حراماً ، فلا تأخذك في الله لومة لائم ، فالذي يقول لك : إن لم نكذب لا نعيش ، هذه لا آية ولا حديث أساساً ، هذا كلام الشيطان ، اُصدق تعيش ، وتربح ،  والله تعالى يرفعُ شأنكَ ،  فقط كلمة ، إما أن ترفعك وإما أن تخفضك ، وكلما  توهَّمت أنَّه بالكذب رُزِق  فأنت مع الشيطان  لا سمح الله ، الرِّزق مع الحق ، ومع الصدق .
مطعم كان يبيع خموراً ، وأحد الأخوة أقْنعَهُ مراراً  حتَّى أقْلع عن بيع الخمر ، وإذا قلت لكم أن غلته أصبحت خمسة  أضعاف لا أبالغ ، عشرة  أضعاف لا أبالغ  ، يوجد محل بشمال سورية ، كاتب على المحل ، ممنوع شرب الخمر بأمر الرب ، والرزق على الله ، تأتيه الساعة العاشرة ، لا تجد  مكاناً عنده ، الساعة التاسعة ، لا يوجد لحم ، الثانية عشر ، الواحدة ، الثانية ، الثالثة ، الرابعة ، أبداً ، دائماً يوجد عنده ناس ، صار غير المسلمين يضع اللوحة نفسها ، غير المسلمين ، ممنوع شرب الخمر بأمر الرب ، والرزق على الله ، لكن لا زبائن ،  لذا عليك أن تتيقَّن أنّ الحق هو الذي ينبغي أن تعمل له  ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .
  
  الإنسان الأحمق من يأكل أموال الناس بالباطل :
 
الوقفة كانت عند كلمة محسنين :
           ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾
 
 [سورة الذاريات]
هل أنبئكم من هو الغبي ؟ الغبي كلّ الغبي هو الذي يُسيء للخلق ، ويظنّ نفسه ذكيّاً وشاطراً ، وغشَّ الناس ولم يدروا ، وجمع ثروة ضَخمة ، أحد طلابي قديماً له خال صاحب دار سينما جمَّع ثروة طائلة ، القصة وهذه سنة الخامسة والستين ، كان معه خمسة ملايين ليرة ، وأصيب بمرض خطير (سرطان بدمه) ، قال لي دخلت عليه وهو يبكي ، فلما سأله عن سبب بكائه ، قال له :  أنا جمعت هذا المال لأستمتع به ، و هاأنذا سأموت في مقتبل حياتي ، طبعاً إذا أنت جمعت المال على حساب أخلاق الشباب لن تهنأ به ،  كل إنسان يسيء ، يأكل مال الناس بالباطل ، بالغش ، بالاحتيال ، بقوته ، بهيمنته ، بذكائه ، بإمكانياته ، يأخذ ما ليس له ، والقضية مشت ، وانطلت على الناس ، هو أغبى الأغبياء .
  
 الذكي والعاقل من يستقيم على أمر الله :
 
الذي يأخذ ما ليس له ، لا بدّ أن يدْفع الثَّمَن باهظاً في الدنيا قبل الآخرة ، لذلك الذكي والعاقل هو الذي يستقيم ، إذا انطلق الإنسان من حبه لذاته ، إذا انطلق الإنسان من إفراطه في حبه لذاته يستقيم ، قال تعالى :
 
                                          ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
 [سورة الحجر]
وقال تعالى :
                    ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
 [سورة الزلزلة]
  
 الإحسان يأتي من اتصال الإنسان بالله عز وجل :
 
الكل محسوب ، إذاً هذا الإحسان مِن أين جاءهم ؟ النفسية العالية ، حبّ الخير ،  والإنصاف ، والغيرة ، و العِفَّة ، العِفَّة والغيرة والإنصاف وإتقان العمل والصِّدق والأمانة ، هذه الفضائلالنبيلة جداً ؛ مِن أين ؟ من اتِّصالهم بالله عز وجل ، ولأنّ الله تعالى مَنْبَعُ الكمال ، وأنت بِقَدر اتِّصالك بالله تكون كاملاً قال تعالى :
 
﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾
 [سورة الذاريات]
علاقة رائعة جداً ، بِقَدر ما أنت مُتَّصِل بالله بقَدْر ما أنت كامل ، و بقَدر بُعدك يوجد نقصك ، انقطاع تام ، نقص تام .
  
كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ : آية لها عدة معان :
  
1 ـ هؤلاء الذين قاموا الليل نومهم عبادة لله عز وجل :
قال تعالى :
 
﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
 [سورة الذاريات]
العلماء تساءلوا حول هذه الآية ، إذاً : كانوا كثيراً من الليل ما يسجدون ،  لماذا ذَكَر الله تعالى نومهم ، ولم يذكر تهجّدهم ؟ أي حسب المنطق البشري ، كانوا كثيرا ًمن الليل ما يتهجدون ، قال لك : كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، الهجوع نوم خفيف ، لذا قال العلماء إن في هذه الآية إشارة إلى أن هؤلاء الذين قاموا الليل نومهم عبادة لله عز وجل ،أي استلقى حتى يستأنف ، نوم المؤمن عبادة ، وكأنه يعبد الله عز وجل .
2 ـ يستغفرون الله على أنهم لم يستطيعوا أن يكونوا في الطموح الذي يُريدونه :
  شيء ثان :
 
﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
 
 [سورة الذاريات] 
ويستغفرون الله عز وجل لأنَّهم  هجعوا من شِدَّة تعلّقهم بالله عز وجل ، يستغفرون الله على هجوعهم ، وأيضا يستغفرون الله عز وجل على أنهم  لم يستطيعوا أن يكونوا في الطموح الذي يُريدونه ، وما من واحد من المؤمنين وأنا متأكد ، إلا ويطمح في مرتبة هو دونها ، يقول لك: يا ليتني أنفق مالي كله ، لكن مضطر ، يا ليتني أقرأ الكتب التالية ولكن لا يوجد وقت ، ويا ليتني أخدم الناس خدمة جيدة ، دائماً المؤمن نيَّتُهُ خير من عمله ، دائماً ،  فهم يستغفرون الله عز وجل على أنَّ أعمالهم لم تكن في مستوى طموحاتهم أو لأنَّهم هجعوا قليلاً .
  
  الاستغفار والانفاق أساس إيمان الإنسان :
 
أيها الأخوة  ، مركز الثِّقل في هذه الآيات الإحسان ، الإحسان سببه الاتِّصال بالله تعالى ، قال تعالى :
﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
 
 [سورة الذاريات]
الآن الصلاة عبادة ، والصوم عبادة ، لكن لا يكلّف ، يتوضأ ويصلي ويقرأ القرآن  ولكن مِصْداقيَّتُهُ في الإيمان بالإنفاق ، قال تعالى :
 
                                    ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
 [سورة الذاريات]
الله عز وجل قال في آية أخرى :
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
 [سورة آل عمران]
  
إنفاق المال علامة حب الإنسان لربه وسعيه إلى الآخرة :
 
المتّقون لهم آلاف الصِّفات ، ربنا عز وجل  بدأ بِصِفة أساسيَّة ، قال تعالى :
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
 [سورة آل عمران]
وما سُمِّيَت الصَّدَقة صدقةً إلا لأنَّها تؤكِّد صِدْق إيمان صاحبها ، لأنّ الحقيقة المال مُحَبَّب ، وطبعك يقتضي أن تأخذ المال ، أما إنفاقه غير محبب ، خلاف الطبع ، فعلامة إيمانك  بالله ، وعلامة حبّك له ، وعلامة سعيك للآخرة ،  هي إنفاق المال :
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾
 
إنفاق المال في سبيل الله أشرف طريق على الإطلاق :
   
الإنسان حينما يعلم أنّ الدِّرهم الذي ينفقه في الدنيا يراه كأُحدٍ يوم القيامة يدهش ، فالمال تنفقه في طرقٍ شتّى إلا أنّ أشرف طريق أن تنفقهُ في سبيل الله تعالى ، وإنفاق المال له أهداف لا يعلمها إلا الله ، فهناك من يجبره المال ، إنسان يتزوّج ، لما قدمت لإنسان مبلغاًً من المال تزوج به ، لما تزوج جبر خاطر فتاة ، أهل الفتاة كلهم فرحوا ، البنت جاء نصيبها ، الذي أعطى المبلغ للشاب ، والشاب اتخذ قراراً بالزواج ، كل إنسان فرح .
مرة دخلت بيتاً ، كان الأب مصاباً بمرض ، وإنسانة كريمة دفعت قيمة العملية الجراحية ، وجدت أولاده يرقصون من الفرح بعد نجاح العملية ، فهذه التي دفعت المبلغ من المال في سبيل أن ترضي الله عز وجل ، كم من إنسان سعد بهذا المبلغ  ؟ فلو يعلم الأغنياء أنَّ الأموال التي بأيديهم بإمكانهم أن يصِلوا بها إلى أعلى درجات الجنة .
  
 إنفاق الإنسان للمال له أجر لا يعلمه إلا الله :
 
إخواننا الكرام : هذه حقيقة أريد أن أقولها لكم ، كلّ إنسان بما آتاه الله يمكن أن يتفوّق ، فالذي تعلَّم يُعَلِّم ، تفوق ، هذا ليس معه مال ، والذي كان غنياً ًّبإنفاق ماله قد يصل إلى المرتبة التي وصل إليها العالم ، هذا بماله ، وهذا بعلمه ،  يوجد إنسان قوي بإنصافه ، وخدمة الناس ، إحقاق الحق ، إزهاق الباطل ، ونصر المظلوم ، يرقى ، إنسان قدم المال والمال شقيق الروح ، وإنسان قدَّم العِلم  ، إنسان قدم خدمة ، وآخر ربَّى ولداً صالحاً ينفع الناس من بعده ، إذا أتقنت عملك تدخل الجنة ،  كنتَ أباً كاملاً أو ابناً كاملاً ، أو تاجراً نصوحاً ، صانعاً متقناً ، أو مزارعاً خيّراً ، فلا يوجد عمل يستعصي على أن تتَّخذِهُ سلَّماً إلى الله عز وجل ، وإلى مرضاة الله ، فليس الدعاة وحدهم ذهبوا بالخير ، كل إنسان ينفق ماله له  عند الله أجر لا يعلمه إلا الله ، الحياة تعاون .
ممكن الطبيب بِطِبِّه والمهندس بِهَندسته والداعية بِدَعوته والمُحسن بإحسانه ، أقرب مثل المسجد من عمَّره كان له أجر ، ومن صلى فيه إماماً له أجر ، والذي خطب فيه له أجر ، ومن درَّس فيه له أجر ، فكلهم من عُمَّار المساجد .
  
كل إنسان يرقى عند الله بما آتاه :
 
لا تظن أنه يوجد عمل هو العمل الوحيد الجيد ، كل إنسان باختصاصه يمكن أن يصل إلى أعلى مرتبة ، باختصاصه إذا أتقنه ونوى بِه خدمة المسلمين ، فالغني بماله يرقى ، والعلم بعلمه يرقى ، والقوي بقوته يرقى ، والصانع بصنعته يرقى ، وكل إنسان يرقى بما آتاه الله ، أبلغ كلمة :
 
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
 
 [سورة البقرة]
كنت مرّة بِحفل إنهاء كتاب الله حفظًا ، فالذي كان عريف الحفل ، شكر الطلاب  الذين أقبلوا على حفظ القرآن وتجويده ،  كلام طيب ،  وشكر الذين قاموا بِتَدريسهم خلال عام بأكمله ، شيء جميل ،  وشكر الذين استمعوا إليهم وأعطوهم العلامات والدرجات ،  ولكن الذي أشْعرني بقيمة المال ، طبعاً هناك بعض الأشخاص قدموا جوائز مجزية ، عمرة لكل حافظ قرآن كريم على حسابه ، أناس قدموا عشرة آلاف لكل حافظ قرآن كريم ، لفت نظري في عريف الحفل أنَّه قال : والذين قدَّموا أموالهم ابْتغاء مرضاة الله ، والمال شقيق الروح ،  ليسوا أقلّ أجراً من هؤلاء ، ترقى بمالك ، ترقى بعلمك ، ترقى بعملك ، ترقى بأي شيء ، أي شيء أعطاك الله إياه ترقى به ،  فالباب مفتوح أمامك .
  
رحمة الله تشمل كل إنسان بما أقامه الله :
 
إذا الإنسان آتاه الله اختصاص هندسة ، والله شيء جميل ، طبعاً اختصاص هذا ، إنسان آتاه الله طباً ، يطبب المسلمين ، بتواضع ، بأدب ، دون ابتزاز لأموالهم ، دون تضخيم لمشاكلهم ، من دون طعن بالآخرين ، مع رعاية تامة ، مع متابعة ، شيء جميل ،   وكلٌّ شخص يقدر أن  يدخل الجنَّة من أوسع أبوابها ، باختصاصه ، وعمله ، فرحمة الله ليسَت محصورة بفِئة واحدة ، إياك أن تظن هذا ، رحمة الله واسعة ، وكل واحد فيما أقامك الله ، بإمكانك أن تصل إلى أعلى درجات الجنة ، فما أقامك الله عز وجل ،  وهذه حقيقة أساسية ، وبالطريقة هذه تجد أن الحياة تعاون .
أنت قدمت لقمة طيبة ونظيفة وصادقة لهؤلاء المسلمين ، لك أجر ، بهذه الطريقة صار الإنسان يتعلم ، ومجال عمله اختصاصه ، باختصاصه يرقى عند الله عز وجل .
  
الزكاة فرض على كل مسلم ومسلمة :
 
إذاً الله تعالى يقول :
﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
 [سورة الذاريات]
هناك إشارة لطيفة ، يوجد آية أخرى :
 
﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾
 [سورة المعارج]
قالوا هذه خاصّة بالزكاة ، أما وفي أموالهم حق من دون معلوم ففي الصدقة ، وفي المال حق سوى الزكاة .
 
عدم دفع الزكاة يؤدي إلى محق المال و إتلافه :
 
قال تعالى :
﴿وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
 [سورة البقرة]
هذه غير هذه ، الزكاة فرض ، فأنت ممكن أن تدفع مثلاً (للتشبيه والتمثيل) الضريبة ، وبهذه الضريبة تتلافى المصادرة ، والمضاعفة ، والجزاء ، هذه فرض ، أما كونك مواطن صالح ممكن أن تقدم مستوصف ، هذا غير الضريبة ، هذا يرقى بك كثيراً ، يعني بالمفهوم المدني ، كذلك إن أدَّيتَ زكاة مالك نجَوت من محق المال وإتلافه .
  
إنفاق المال يرقى بالإنسان عند ربه :
  
 أما حينما تنفق فوق الزكاة على الفقراء والمساكين حباً في الله عز وجل هذا ترقى به أكثر :
﴿وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ﴾
  
مهمّة الإنسان أن يبحث عن الإنسان المتعفف الذي لا يسأل :
  
فالعلماء قالوا هذه الآية فيها إشارة إلى الصدقات لا إلى الزكاة ، الزكاة :
﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾
 
أما في هذه الآية :
﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
 
السائل الذي يسأل ، والمحروم هو المتعفّف والذي لا يسأل فيحرم ، فأنت مهمتك أن تبحث عن هذا الذي لا يسأل ، عن هذا الند المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا ً، مهمتك الكبرى الآن أن تبحث عن هؤلاء وما أكثرهم ، لا أقول وتعرض عن الذين لا يسألون لكن الذي يسأل يعني أقل مرتبة من الذي لا يسأل :
 
 
 
﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
 
وفي درس آخر إن شاء الله تعالى ، ننتقل إلى قوله تعالى :
 
﴿وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾
 [سورة الذاريات]
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب