سورة الحجرات 049 - الدرس (5): تفسير الأيات (12 – 13) - الغيبة و أضرارها

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الحجرات 049 - الدرس (5): تفسير الأيات (12 – 13) - الغيبة و أضرارها

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الحجرات

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الحجرات ـ الآيات: (12 - 13) - الغيبة و أضرارها

13/06/2013 18:05:00

سورة الحجرات (049)
الدرس : (5)
تفسير الآيات : (12-13)
الغيبة و أضرارها
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
  

بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً  وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 
أيها الأخوة المؤمنون ... مع الدرس الخامس من سورة الحجرات .
 
الغيبة ، والنميمة ، وسوء الظن ، من الأسس الكبرى التي تفتت المجتمع : 
 
مع الآية الثانية عشرة وهي قوله تعالى  :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
أيها الأخوة ... ربنا سبحانه وتعالى في هذه السورة يعلِّمنا الآداب الاجتماعية ، فالشيء الذي يفكِّك المجتمع ، ويمزِّقه ، ويضعفه هي الغيبة ، والنميمة ، وسوء الظَّن ، وهي من الأسس الكبرى التي تفُتُّ في عضد المجتمع .
 
 المؤمن الصادق لا يبني مواقفه وتصرّفاته إلا على حقيقة يقينية : 
 
أولاً :
     
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾
أي أن تتخذ قراراً على ظّنٍ غير ثابت ، فالإنسان يعطي ويمنع ، ويصل ويقطع ، ويغضب ويرضى ، فهذه المواقف إذا بُنِيَت على ظنٍ أو على وهْمٍ والطرفُ الآخرُ كان بريئًا تفتَّت المجتمع ، فالمؤمن الصادق لا يبني مواقفه وتصرُّفاته ، وصلته ومنعه ، وعطاءه ، ورضاه وغضبه إلا على حقيقةٍ يقينية ، وهذه الآية تؤكِّد الآية السابقة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
ما أروع الإنسان حينما يتحرَّك وفق منهجٍ علمي ، المقولات التي يستمع إليها لا تعدُّ ولا تُحصى ، فإشاعات ، وتخرُّصات ، وخرافات ، وافتراءات ، وأقاويل ، فالإنسان يُشحَن بآلاف المعلومات غير الصحيحة ، فالمؤمن الكامل لا يبني على هذه الأفكار غير الصحيحة ، وعلى هذه الظنون الكاذبة ، وعلى هذه الإشاعات الواهمة ، لا يبني قراراً ، لا يبني موقفًا ..
 
 من أكبر أكبر أسباب المجتمع وضعفه الظن الآثم :   
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾
 
أي حينما تظّنُّ بأخيك سوءاً وهو ليس كذلك وقعت في الإثم ، فما العلم ؟ العلم هو الوصف المُطابق للواقع مع الدليل ، هذا هو العلم ، فإذا كان وصفك لأخيك غير مطابق للواقع ولا يوجد معك دليل فهذا ظنٌّ آثم ، وهذا الظن الآثم يفتت المجتمع ، ويضعفه ، ويوهّنه ، فلو أن الإنسان عاهد الله عزَّ وجل على أن لا يقبل عن أخيه شيئاً إلا بدليلٍ قاطع ، وأن لا يرفض شيئاً إلا بدليلٍ قاطع لكنَّا في حالٍ غير هذا الحال ، فآلاف الدعاوى في قصر العدل ، وآلاف الأسر الممزَّقة أساسها كلمة لم تُقَل ، نُقِلَتْ ولم تُقَلْ ، إشاعة ، وظن سيِّئ ، وتصوّر خاطئ ، وتأمُّل كاذب ..
 
المؤمن لا يتعامل بالظنون إنما بالبينة الصادقة :
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾
 
كما قلت لكم من قبل : قذف محصنةٍ يهدم عمل مئة سنة ، فامرأةٌ محصنةٌ في إشاعة كاذبة ، والله سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغةٍ بالغة كان حديث الإفك الذي أصاب السيدة عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم (أمَّ المؤمنين) ، لماذا سمح الله لهذا الحديث أن يكون ؟ وهي أطهر من ماء السماء ؟ وهي أنقى من الثلج ؟ وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟ فالله سبحانه وتعالى سمح لهذا الحديث الكاذب أن ينتشر ثم جاءت تبرئة الله لها لتكون السيدة عائشة قدوةً وأسوةً لكل امرأةٍ جاءت من بعدها اتُهِمَتْ زوراً وبهتاناً ، فلذلك :
    
﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾
فما الفرق الجوهري بين الإنسان العالم والإنسان الجاهل ؟ العالِم لا يقبل إلا بالدليل ، بينما الجاهل فأيّة إشاعةٍ ، وأيّة فكرةٍ موهومةٍ ، وأيّ تصورٍ كاذبٍ يفشو بين الناس،هذا الخط العريض الخط غير المنضبط ، الغوغاء والدهماء هم سوقة الناس ، فهؤلاء يتعاملون بالظنون ، وبالإشاعات ، وبالأخبار الكاذبة ، وبالتخرُّصات ، أما المؤمن فلا يقبل إلا بالبيّنة الصادقة ..
 
المؤمن كلّما ارتقى في سلّم الإيمان تصبح تصرُّفاته موضوعية : 
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾
المؤمن كلَّما ارتقى في سُلَّم الإيمان تصير تصرُّفاته موضوعية وعلمية ، ولو جاءته ابنته ضَجِرَةً من زوجها لا يسمع منها إلا بحضور زوجها ، فلعلَّها هي الظالمة ، وهذا هو الموقف العلمي ، كم من إنسانٍ سمع من طرف واحد فحمل عليه بنفسه حملةً شعواء ، فلمَّا استمع من الطرف الآخر شعر بالندم الشديد ، وهذه آية قرآنية أصل في القرآن الكريم ..
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
 
وكذلك في قصَّة السيدة بلقيس ، ماذا قال سيدنا سليمان عندما جاءه الهُدْهُد ؟ قال :
                                 ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾
 (سورة النمل (
فلو أن المؤمنين تعاملوا بهذه الطريقة ، لا يقبلون شيئاً إلا بالدليل ، ولا يرفضون شيئاً إلا بالدليل ، تجربة متواضعة : لو أنك استمعت من طرفٍ واحد على حِدة لأمضى معك الساعات الطِوال يتحدَّث عن زيدٍ أو عبيد ، اجمعه مع زيد فهذا الحديث يُختَصَر إلى العُشر ، فالظن أن تبني موقفًا ، وأن تعطي وتمنع ، أن تصل و أن تقطع ، أن تغضب وأن ترضى لا وفق حقيقة بل وفق وهم ، والوهم فتَّت الأُسَر ، والظن الكاذب مزَّق الأسر أيضاً وشرَّد الأولاد ..
 
   من أساء الظن بأخيه كأنما أساء الظنّ بربّه :
 
      ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾
 
ولو فرضنا أن امرأة وقعت في جريمة الزنا فهل تُرجَم إلا بأربعة شهود رأوها عياناً ؟ هكذا الدين ، أما هذا الذي يطلق التهم جزافاً ، وينقل الرواياتٍ الكاذبة ، والإشاعات المغرضة ، والأقاويل السيئة دون تحقُّق ، ودون تبصُّر ، ودون دليل ، ودون علم ، فهذا يقع في إثمٍ كبير ، ومن أساء الظن بأخيه فكأنَّما أساء الظن بربّه ، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد مجتمع المؤمنين مجتمعاً متماسكاً ، مجتمعاً يحب بعضه بعضاً ، مجتمعاً قوياً  كالجسد الواحد، هذا لا يكون بسوء الظن ، ولا يكون بالتهم الكاذبة ، والأوهام ، والأضاليل ، والتسرّع في إطلاق الحكم ، وبأن تبني على وهمٍ سمعته موقفاً عنيفاً أو قاسياً ..
     
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾
 
تناقض السذاجة والغفلة مع الإيمان :
 
لماذا قال الله عزَّ وجل  :
    
﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾
 
لأن بعض الظن ليس بإثم ، فبعضه إثم وبعضه ليس بإثم،ورد في الأحاديث :
(( احترس من الناس بسوء الظن ))
(( وسوء الظن عصمة ))
(( والحزم سوء الظن ))
 فشخص لا تعرفه إطلاقاً قد يطلب منك شيئاً لا تقوى على تحمُّله ، تحقَّق من دون أن تُشعِرَه .. " لست بالخِب ولا الخبُّ يخدعُني " .. أي لست من الخبث بحيث أَخدع ، ولا من السذاجة بحيث أُخدع ، فشخص لا تعرفه ، وهل يدخل إنسان بيتًا لا يعرفه ؟ يجب أن تتأكَّد من صاحب هذا البيت ؟ لماذا دعاك ؟ دعاك عن طريق ابنه الصغير ، قد يكون هناك خداع في هذه الزيارة ، فالله عزَّ وجل قال :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾
 (سورة النساء : آية " 71 " )
ولذلك فالسذاجة أحياناً والغفلة تتناقض مع الإيمان ، وكما ورد في الأحاديث :
((المؤمن كيّسٌ فطنٌ حذِر ))
 
المؤمن ليس ساذجاً و لا بسيطاً :
 
أحياناً إنسان له دعوة أراد أعداؤه الكيد به ، فدعوه إلى بيت ولا يوجد فيه إلا طفلٌ صغير ، طبعاً دخل البيت هو وغلامٌ وحدهما ، والأب هيَّأ الترتيبات لاتِّهامه بفعل شنيع ، فبعض أنواع الظن عصمة ، وحزم ، واحتراس ، فالمؤمن ليس ساذجاً ، وليس بسيطاً ، ولا يُقاد لكل إنسان بلا تبصُّر، ولا توهُّم ، ولا تحقُّق ، ولا دليل ، وبعض الظن إثم ، أي بعضه من الحزم ، وبعضه من العصمة ، ومن الاحتراس ، ومن الإثم ، فكيف نفرِّق بينهما ؟
إذا كان هناك دليل على سوء النيَّة ، فإذًا يوجد دليل يُشعِر أن هناك مشكلة ، وهذا صار سوء ظن ، ولكن ليس إثماً ، أما أن تتهم الناس بلا دليل فهذا سوء الظن الذي يُعَدُّ إثماً ، أي لا يوجد أي دليل ، وهناك وسوسة ، وشك،وهذا يحدث بين الأزواج أحياناً ، فمتى يحقُّ للزوج أن يسيء الظن بزوجته ؟ إذا بدر منها أشياء تُشْعِر بذلك ، وأنها ليست مستقيمةً ، فهذا الظن في محلِّه ، ولابدَّ من التحقيق ، والتدقيق ، والمتابعة ، أما إذا لم يبدُ أي شيء إطلاقاً ، بل وسوسة فقط ، أو نوع من أنواع الترف في سوء الظن فهذا لا يجوز ، ومتى يكون سوء الظن عصمة ؟ إذا كان هناك ما يُشْعِر بهذا السوء ، أما إذا وُجد دليل فسوء الظن عصمة ، وإذا لم يوجد دليل فإن هذا لا يجوز أن يكون .
 
 الظالم من أنزل العقاب الأليم بالناس دون بينة أو دليل : 
 
يروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه جاءته رسالة من أحد الولاة ، فقال : " يا أمير المؤمنين إن أناساً اغتصبوا مالاً ليس لهم ، ولست أقدر على استخراجه منهم إلا أن أمسَّهم بالعذاب ، فإن أذنت لي فعلت " ، قال : " يا سبحان الله أتستأذنني في تعذيب بشر ؟ وهل أنا حصنٌ لك من عذاب الله ؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله ؟ أقم عليهم البيّنة ، فإن قامت فخذهم بالبيّنة ، فإن لم تقم فادعهم للاعتراف ، فإن اعترفوا كان بها وإلا فادعهم لحلف اليمين ، فإن حلفوا فأطلق سراحهم " .. إذًا إما أن تملك بيّنة ، وإما أن يعترف ، وإما أن تدعوه لحلف اليمين ، أما أن تسيء الظنَّ به ، وتُنزل به العقاب الأليم من دون بيّنةٍ ، ولا دليلٍ، ولا اعتراف فهذا ظلمٌ شديد .
إذاً التفرقة بين سوء الظن الذي يعدُّ عصمةً ، وحزماً ، واحتراساً ، وبين سوء الظن الذي يعدُّ إثماً ، فالتفرقة بينهما إذا كان هناك دليل يُشْعِر بخطأٍ جسيم فعندئذٍ لك أن تسئ الظن ، وإن لم يكن هناك أي دليل فعليك أن تُحْسِنَ الظن ، ومن أساء الظن بأخيه فكأنَّما أساء الظن بربه ..    
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾
 
 الفرق بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين : 
 
لكن كلمة الظن وردت في القرآن الكريم في أماكن أخرى بمعنى اليقين الفكري ..
﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾
(سورة البقرة : آية " 46 " )
فالظن هنا بمعنى اليقين الفكري ، فعندنا يقين ، وعندنا علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين ، فعلم اليقين الاستدلال المنطقي على حقيقةٍ غائبةٍ عنك بدليلٍ ماديٍ بين يديك ، هذا اسمه علم اليقين ، سمَّاه القرآن ظنَّاً ، أما حقُّ اليقين فحينما تشاهد هذا الشيء الغائب عنك ، تعاينه معاينةً حسِّيّة فهذا حقُّ اليقين ، أما حينما تمسَّ هذا الشيء مسَّاً مباشراً بحواسِّك الخمس فهذا عين اليقين .
 
 الفرق بين التحسس و التجسس : 
 
 قال الله عزَّ وجل :
     
﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾
والتجسُّس تتبع الأخبار السيِّئَة ، والتحسُّس تتبع الأخبار الطيِّبة ..
﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾
 (سورة يوسف : آية " 87 " )
التحسُّس تتبع الأخبار الطيِّبة ، والتجسُّس تتبع الأخبار السيئة ، وهناك أناسٌ مغرمون بتتبّع الأخبار ، هوايةٌ لهم ، يستمتعون أشدَّ الاستمتاع بتتبع قصص الناس ، فلانة طُلِّقَت لماذا ؟ وفلان لم يُنجب أولاداً ، أمنه أم من زوجته ؟ وماذا سيفعل بزوجته إن لم تُنْجِب  أيطلقها يا ترى ؟ وما شأنك أنت بهذا ؟
(( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ))
[ رواه البزار عن أنس بن مالك]
((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه((
[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة]
 
الله عز وجل يحب معالي الأمور و يكره دنيها :
 
الإنسان المؤمن لشدَّة تعلُقه بربه ، وشدَّة قيامه بالأعمال الصالحة ليس عنده وقتٌ لهذه السخافات ، وتلك المجالاَّت لأن الله عزَّ وجل ، أو لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها ودنيَّها)).
[ الجامع الصغير]
فأكثر بني الإنسان إذا التقى بإنسان يسأله : أين تعمل ؟ في المكان الفلاني،وكم يعطونك في الشهر ؟ فما لك ولهذا السؤال ؟ أيكفيك هذا المبلغ ؟ أراض أنت به ؟ يجب أن تعترض ، فهذا الذي يخبِّب امرأةً على زوجها ، أو يخبِّب عبداً على مولاه ، أو الذي يخبِّب موظَّفاً على سيده هذا ليس من عمل المؤمنين ، دع الناس يرزق بعضهم بعضاً ، دع الناس في غفلاتهم ، لا ينبغي لك أن تثير الفتن ، ولا أن تلقي في القلب الشك ، ولا أن تفرِّق بين إنسانٍ وإنسان لأن هذا ليس من شأن المسلم ، " وليس منَّا من فرَّق " كما قال عليه الصلاة والسلام ، أحياناً تدخل على أختك المتزوجة وتسألها : كيف زوجك ؟ وكم يعطيكِ في الشهر ؟ وماذا قدَّم لكِ هديَّةً عند الولادة ؟ فما هذه الأسئلة ؟ هي راضيةٌ عن زوجها وبينهما وئام واتفاقٌ وخلود ، فلماذا تثير هذه الموضوعات ؟ هذا الإنسان يسلك سلوكاً خاطئاً بعيداً عن سلوك الإيمان :
((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه((
[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة]
 
العاقل من ينشغل بنفسه عن الآخرين لا من يتتبع أخبارهم :
 
مرَّةً سيدنا عمر سألته زوجته عن قضيَّةٍ حَكَمَ بها : " ما ذنب فلان ؟ فقال لها : وأنتِ يا أمة السوء ما شأنكِ بهذا ؟ " . فأخطر شيء أن تسمح لجانبٍ لا شأن له بهذا الموضوع بأن يتدخَّل ، وأن يدلي برأي ، وأن يدفعك إلى فعلٍ أو تركٍ لأن هذا يفسد العلاقات العامَّة ، إذاً :
﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾
والأصح ألاّ يتتبَّع الإنسان لا الأخبار الطيّبة ولا الأخبار السيِّئة ،  بل عليه أن ينشغل بنفسه عن الآخرين ..
 
غيبة القلب غيبة يحاسب عليها الإنسان :
 
     ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾
طبعاً الإمام الغزالي كما قلت لكم في الإحياء عقد باباً من أدق أبواب الكتاب حول آفات اللسان ، وخصَّ باب الغيبة باهتمامٍ بالغ ، فذكر من الغيبة غيبة القلب،تُرْوَى في التاريخ قصَّة لا أدري مبلغها من الصحَّة لكن تعني شيئاً كثيراً ، وهي : أن امرأةً كانت تُغَسِّل ميتةً فالتصقت يدها بجسم الميتة ، ومضى وقتٌ طويل ، ويدها وجسم الميتة أصبحتا قطعةً واحدة ، فاحتار أهل الميَّتة أيقطعون يد المغسِّلة أم يقطعون من لحم الميتة ؟ مضى وقتٌ طويل .. وفي عهد الإمام مالك والمقولة الشهيرة : لا يُفتى ومالكٌ في المدينة .. فالإمام مالك عندما بلغه الخبر قال : اجلدوها ثمانين جلدة ، وفي الجلدة الثمانين فُكَّت يدها ، لأنها اتهمتها بقلبها بالزنا.
و أحياناً أنت لا تقول شيئاً لكن تتهمأخاك البريء بقلبك ، فهذه التهمة تُحَاسَب عليها ، لأنه لا يوجد معك دليل ، فمن غير دليل تقول : فلان حرامي ، إنها كلمة كبيرة جداً هذه ، فالمؤمن الصادق لا يأكل دِرَهَماً حراماً ، والمقولة الشهيرة : " ترك دانقٍ من حرام خير من ثمانين حجَّةٍ بعد الإسلام " ، فإشاعة أو تهمة ، أو إنسان فاسق فاجر قال كلمةً : من أين حصل على كل هذه النقود ؟ قد يكون له دخل أنت لا تعرفه ، قد تكون له تجارة ، وعلى كلٍ أنت لست وصيًّا عليه ، أما أن تلقي هذه التهمة جزافاً فهذا إثم كبير .
 
الغيبة و البهتان :
 
فلذلك الغيبة أن تقول في أخيك كلاماً يتألَّم منه إذا بلغه ولو كان صحيحاً :
(( يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال : ذِكْرك أخاك بما يكره فقال رجل : أرأيتَ إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إِن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهتَّه))
[ أخرجه أبو داود عن أبي هريرة]
البهتان أي الافتراء ، تهمة ليس لها أساس من الصحة ، فهذا بهتان وإفك ، أما الغيبة فأن تذكره بشيءٍ فيه ولكن هذا الذكر يؤلمه إذا وصل إليه ، طبعاً :
﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾
(سورة النساء : آية " 148 " )
 
العلماء أجازوا الغيبة في ستّة مواطن منها :
 
1 ـ في شأن الزواج :
والعلماء أجازوا الغيبة في ستَّة مواطن : في شأن الزواج ؛ فإنسان يشرب ، وإنسان زانٍ ، وإنسان دخله حرام ، وإنسان زير نساء ، وتعلم أنت عنه العلم اليقين ، سُئلت في شأن الزواج فأثنيت عليه ، هنا الغيبة واجبة ، وهذه قضية مصير فتاة ، ومصير أسرة ، ففتاةٌ طاهرةٌ مؤمنةٌ صادقةٌ تزجُّها مع زوجٍ فاسقٍ فاجر ، يقترف الحرام ولا يبالي !! ففي شأن الزواج لابدَّ من أن تذكر الحقيقة وإن كان ذكرها يؤلمه .
2 ـ في شأن الشراكة :
وفي شأن الشراكة ، الشراكة أموال سوف توضع بين أيدي الطرف الثاني ، والطرف الثاني لص لا يتورَّع عن أخذ المال الحرام ، وتبقى أنت ساكتًا ؟ يا أخي هذا ورع ، وهذا الورع ليس في محلِّه .
3 ـ في شأن القضاء :
وفي شأن القضاء ، لو أن القاضي سأل المُدَّعي ماذا فعل بك فلان ؟  أنا لا أقدر أن أغتابه يا سيدي ، أنت الآن تشتكي عليه فلابدَّ من ذكر ما فعل بك ، فعند القضاء ، وعند الاستشارة .
4 ـ من يقترف المعاصي دون أن يأبه :
وهناك مواقف عدَّة أُجِيزَت فيها الغيبة ، أما الذي يقترف المعاصي دون أن يأبه ، ويرتكبها أمام الناس .
5 ـ من يفطر في رمضان على مرأى الناس :
الذي يفطر في رمضان في الطريق على مرأى الناس ، هذا لا غيبة له ، فهذا فاجر ، فمن هو الفاجر ؟ هو الذي يقترف المعصية جهاراً ، أو هو الذي يقترفها سرًّاً ويذكر أنه فعلها مُتباهياً :
(( اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس ))
6 ـ من يقترف المعاصي جهاراً أو سراً ويذكرها متباهياً :
والذي يقترف المعاصي جهاراً ، أو يذكر معاصيه جهاراً ولا يبالي فهذا لا غيبة له .
 
الغيبة تكون بالقلب وبالحركات والإشارات :
 
 والغيبة أيضاً كما أنها تكون بالقلب تكون بالحركات ، والمحاكاة ، وتكون بالإشارة كما ذكرت .. حركة القميص ، إن ذُكِرَت فلانة ، يقول لك : الله أعلم ، هذه غيبة يا سيدي .. أشدُّ أنواع الغيبة ، وهذه إشارة إلى أنها ليست طاهرة ، ففي الحركات ، و التقليد ، والمحاكاة ، وغيبة القلب ، وأحياناً يقول لك : أنا لم أذكر اسمه ، لا ، أنت ذكرت خمسين علامة تدلّ عليه ، فذكرت مسكنه ، ونوع عمله ، وحادثة مشهورة عنه ، وهذه كلها قرائن تشير إليه ، طبعاً لك أن تروي قصَّةً من أجل أن تعظ الناس بها بشرط ألا يعلم الناس أبداً من صاحب هذه القصَّة ، أما إذا ذكرت علامات وقرائن تشير إليه والناس عرفوه معرفةً يقينية ، فأنت تقول : أنا لم أذكر اسمه ، لكنك ذكرت كل شيءٍ عنه ، ولم يبقَ إلا أن تذكر اسمه ، واسمه صار معروفًا ، وهذه غيبة أيضاً.
 
النار مصير كل إنسان يغتاب الناس : 
 
والذييغتاب الناس فالأحاديث الصحيحة تؤكِّد أنه يوم القيامة تؤخذ من حسناته ، فإذا فَنِيَت حسناته طُرِحَت عليه سيّئاتهم .. ولهذا فالنبي الكريم سأل أصحابه :
(( أتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ قَالَ الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ
 
هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ
 
فِي النَّارِ ))
[ أخرجه مسلم و الترمذي عن أبي هريرة]
 فالإنسان الذي يغتاب الناس يكون مصيره إلى النار ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
((الغيبة أشدُّ من الزنا ))
[ أخرجه الطبراني عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري)
 
أضرار الغيبة :
 
الغيبةتمزِّق المجتمع ، وتفتِّت الأسر ، وتجعل المجتمع الإسلامي ممزَّقاً ، وضعيفاً ، تنتشر فيه العداوات والخصومات ، والمناحرات والمنافسات بسبب الغيبة ، والذي يغتاب الناس عليه أن يطلب السماح منهم قبل أن يموت ، فإن لم يسامحوه فلابدَّ من أن يلقى العِقاب الأليم ، ولذلك فالإنسان عليه أن يضبط لسانه ، والشيء الدقيق جداً في هذا الموضوع أنك إن اغتبته في ملأٍ عليك أن تبرِّئَهُ في الملأ نفسه ، أما أن تغتابه في أوسع دائرة وتعتذر منه بينك وبينه فهذا ليس معقولاً ، فهناك مجلس فيه خمسون شخصاً ، ولقد اغتبته أمام خمسين ، ثم زرته وقلت له : سامحني فقد اغتبتك ، فهذه المسامحة غير مقبولة ، يجب عليك أن تجمع الخمسين مرَّةً ثانية وتبين لهم الحقيقة وإلا فأنت آثم ، أي أن المسامحة لا تكون إلا بالإصلاح ..
﴿تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾
(سورة البقرة : آية " 160 " )
 
الله عز وجل جعل الغيبة بمثابة أن تأكل من لحم أخيك ميتاً :
 
﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً﴾
أي لا يوجد شيء تنفر منه النفس كأن تأكل لحم ميْتةٍ ، أما أن يأكل الإنسان لحم بشر وهو ميت ، وأما أن يأكل لحم أخيه ميْتاً ، فربنا عزَّ وجل يُكَرِّهنا في الغيبة والنميمة ، وهذا أسلوب تربوي حكيم :
(( الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ ))
 [ رواه مسلم عن ابن عباس]
أي أن الإنسان لو قاء هل يوجد إمكان أن يستعيد هذا القيء ويأكله  إنه شيء تتمزَّق منه أمعاؤه ، فالذي يعود من هبته كمن أكل قيئه ، وهذه من الأساليب التربويَّة ، والله سبحانه وتعالى جعل الغيبة بمثابة أنتأكل من لحم أخيك ميتاً ، أليس هذا مستكرهاً ؟ ثم أليس هذا مستقبحاً ؟ وكذلك الغيبة ، والبديل أن تذهب إليه وأن تقول له : لقد بلغني عنك كذا وكذا وأنت أخي في الإسلام فما حقيقة ذلك ؟ فإن كان وقع الذي وقع ، فانصحه ، وإن لم يقع الذي تصوَّرته وقع فقد عافاك الله منسوء الظن به ، وهكذا .
 
 المبتدع والمظلوم والمستشير هذه حالات ليست من الغيبة :
 
فهذا الدرس نحب أن يترجم عملياً ، حاول ألا تقبل شيئاً إلا بالدليل ، وحاول ألا تغتاب أحداً إلا حينما يسمح لك الشرع في الحدود الضيقة جداً ، فإنسان مبتدع جاء بعقيدة غير صحيحة ، وسألك إنسان فهذا ليس من الغيبة ، وهناك عقائد فاسدة وزائغة ، وانحرافات فكرية ، وانحرافات في السلوك ، وهذا الإنسان السائل يريد أن يلتزم مع إنسان ذي عقيدة سيِّئة ، فهذا ليس من الغيبة ، فالمبتدع ، والمظلوم ، والمستشير ، هناك حالاتٌ نصَّت عليها كتب الفقه أما فيما سوى ذلك فلا ينبغي لك أن تقول في الناس شيئاً .
 
كل المسلم على المسلم حرام ماله و دمه و عرضه :
 
أيها الأخوة الكرام ... قال عليه الصلاة والسلام  :
(( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ )) .
[ مسلم ، الترمذي ، أبو داود ، ابن ماجه عن أبي  هريرة ]
طبعاً المال واضح ، الحكم فيه واضح ..
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾
(سورة البقرة : آية " 188 " )
أما القتل فالحكم فيه واضح ، وأما العِرْضُ فهو موضع المدح والذمِّ من الإنسان ، فأن تتهم إنساناً بالكفر دون أن تتأكَّد .
 
 من كفّر مسلماً فقد كفر : 
 
أغلى شيء يملكه الإنسان إيمانه ، وأنت ببساطة وسهولة تطعن في إيمانه ، وتتهمه بالكفر والانقطاع عن الله عزَّ وجل ، وبمصيره إلى النار ، بهذه البساطة ؟ ومن أنت ؟ هل أنت وصيٌّ عليه ؟  أليس هذا تألّياً على الله عزَّ وجل ؟ فهذا معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾
من كفَّر مسلماً فقد كفر :
(( إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا ))
 [ رواه مسلم عن ابن عمر]
((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه((
[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة
 " اخزن لسانك " . قل : لا أعلم ..
 
  الله عز وجل يدعو الناس إلى عدم الكِبر فيما بينهم لأنه خلقهم بطريقة واحدة :
 
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
الآن توجَّه الخطاب إلى عامَّة الناس ، والله سبحانه وتعالى يبيّن للناس أن الله خلق الناس من ذكرٍ وأنثى خلقاً موحّداً ، وما من إنسانٍ على وجه الأرض إلا خرج من عورة ، ودخل في عورة ، ثم خرج من عورة ، وخُلِقَ من ماءٍ مهين ، ولو أن هذا الماء كان على ثياب أحدنا لاستحيا منه ، فالناس جميعاً أغنياؤهم وفقراؤهم ، وأقوياؤهم وضعفاؤهم ، وأشرافهم وصعاليكهم جميعاً خُلِقوا بطريقةٍ واحدة ، وبأسلوبٍ واحد ، وهذا يدعو إلى عدم الكبر فيما بينهم ..
    
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾
 
العمل الصالح ثمن الجنة :
 
لكن أريد أن أقف قليلاً عند حكمة هذه الآية في قوله تعالى  :
 
﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾
أي أن الله عزَّ وجل خلقنا للجنَّة ، دققوا فالمعادلة دقيقة ، خلقنا للجنَّة ، لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض ، وهذه الجنَّة لابدَّ لها من ثمن تدفعه في الدنيا ، والثمن هو العمل الصالح ، والعمل الصالح لا يكون إلا وأنت في مجتمع ، وهل هناك حلمٌ بلا مجتمع ؟ وهل هناك أمانةٌ وأنت وحدك في صومعة ؟ وكل الفضائل تحتاج إلى مجتمع ، فمن أجل أن تكون مع المجتمع قهرك الله عزَّ وجل بطريقةٍ رائعة ، وسمح لك أن تتقن حاجة ، وجعلك في أمسِّ الحاجة إلى ملايين الحاجات ، فلن تستقيم حياتك إلا أن تكون في مجتمع ، وأنت تحتاج إلى رغيف خبز ، وهناك عشرات الألوف من الأشخاص يسهمون جميعاً في صنع هذا الرغيف ، وتحتاج إلى ثياب ، هناك من يزرع القطن ، وهناك من يجنيه ، وهناك من يحلُجه ، ويغزله ، ومن يصبغ الخيوط ، وينسجها ، ويخيطها ، ويبيعها لك في محل تجاري ، وآلاف الأشخاص ساهموا في صنع هذا الرداء ، وصنع رغيف الخبز ، فأنت مدرِّس ، أو مهندس ، أو طبيب ، أو تاجر ، أو موظَّف ، أو صانع ممتهن تتقن حاجة وأنت بحاجة إلى ملايين الحاجات .
 
 الفضائل لا تكون إلا في المجتمع لذلك قهرنا الله بأسلوب لطيف أن نعيش في مجتمع : 
 
الله سبحانه وتعالى قهرنا بأسلوبٍ لطيفٍ جداً أن نعيش في مجتمع ، لأن الفضائل لا تكون إلا في المجتمع ، والجنَّة ثمنها العمل الصالح ، وهذا على مستوى الأفراد ، أما على مستوى الشعوب فالله عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها جعل لكل شعبٍ لغة ، وطِباعاً ، وعادات ، وإمكانات ، فشعب قوي ، وشعب دؤوب على الصناعة ، وشعب يحب التجارة  ، ففي بنيته العامة أنه تاجر ، وشعب بلاده جميلة جداً ، وآخر فيه ثروات نفطيَّة ، وآخر بلاده حارَّة ، و شعب بلاده معتدلة، فتنوُّع الأقاليم ، وتنوع الثروات ، والطِباع ، والخصائص ، فهذا بحاجة إلى طاقة لأنه لا توجد طاقة عنده ، وآخر عنده تكنولوجيا عالية جداً ، وشعب عنده طاقة وهو مرتاح من النواحي الإبداعية يبيع نفطه ويستقدم بهذا الثمن كل ما يحتاج ، فالله عزَّ وجل وزَّع الثروات في مكان ، والطاقات الفكرية في مكان ، وبلاد جميلة ، وبلاد حارَّة ، وبلاد معتدلة ، وبلاد جبلية باردة في الصيف ، وبلاد صحراوية ، فالأقاليم والبيئات متنوِّعة ، والثروات ؛ وهنا نفط ، وهنا حديد ، وهنا زنك ، ويورانيوم ، فكل بلد فيها معدن معيَّن ، وهذا البلد يزرع الشاي ، وهذا يزرع الموز ، والموز ينتقل من بلد إلى بلد ، والله عزَّ وجل جعل بعض الأقاليم يتناسب معها إنتاج زراعي معيَّن ، فنحن في حاجة إلى بعضنا البعض .
 
ليس لأي إنسان حق أن يفتخر بشيء منحه الله إياه من دون جهدٍ :
 
والفقرة السابقة نحن في حاجة إلى بعضنا البعض على مستوى الأفراد ، أما هذه الآية فعلى مستوى شعوب ..
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ﴾
أنْ تفتخر بلغتك إنه شيءٌ لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، وتفتخر ببلادك الجميلة شيءٌ لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، تفتخر بالثرواتالباطنية التي عندك والتي ليست من جهدك شيءٌ لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، فالله جلَّ جلاله وزَّع القدرات ، والطاقات ، والثروات ، والأقاليم ، والمناخ ، والإمكانات ، وجعل لكل شعب شخصية خاصَّة ، ولكل شعب قدرات خاصَّة ، وإمكانات خاصة ، فشعب عنده جَلَدٌ على الصناعة ، وآخر على الزراعة ، وهذا التنوع في الشعوب تنوع غنى لا تنوع تضاد ، فكل شعب بحاجة إلى شعب آخر .
 
الله جلّ جلاله وزَّع القدرات والطاقات والثروات ليتكامل المجتمع ويتعارف : 
 
فلذلك :
 
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾
تتعرَّف على ما عند الآخرين ، من أجل أن تعرف ما عندهم ، وأن تعرِّفهم بما عندك من أجل التكامل ، وأحياناً تجد صوراً مجزَّأة مربَّعات مربَّعات ، والطالب مكلَّف أن يجمع هذه المربَّعات كي تكتمل الصورة ، لعبة من لعب الصغار ، مربَّعات تشكل في مجموعها صورة جميلة ، إنها مبعثرة الآن ، فهذا الطفل الصغير يضع هذا المكعَّب هنا وهذا المكعب هناك ، فإذا وصل إلى الصورة الكاملة شعر بنشوة .. فربنا عزَّ وجل نوَّع ووزَّع القدرات ، والطاقات ، والأقاليم ، والثروات ، واللغات والشعوب ، والتقاليد والعادات وكلها بشكل متكامل .
 
 لا يحقُّ لفردٍ ولا لشعبٍ أن يتيه على الشّعوب الأخرى :
 
قال :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾
 
ومعنى ذلك أنه ليس لإنسان حق أن يفتخر بشيء منحه الله إياه من دون جهدٍ ، ومن دون ذكاء وطلبٍ وسعيٍ ، فإنسان خلقه الله طويلاً ، وهذا قصيراً ، وهذا أبيض اللون وهذا أسمر اللون ، هذه أشياء من خلق الله عزَّ وجل لا تُتَّخذ عند الله مقياساً للرفعة إطلاقاً ..
(( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ' ))       
[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة]
فلذلك لا يحقُّ لفردٍ ولا لشعبٍ أن يتيه على الشعوب الأخرى ، و الآن توجد بعض الشعوب صنَّفت نفسها في الدرجة الأولى وصنَّفوا الآخرين في الدرجة السُفلى ، وهذا تعصُّب :
(( لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة ، وليس منا من قاتل عصبيَّة ، وليس منا من مات على عصبيَّة))
[ أخرجه أبو داود عن جبير بن مطعم]
هذا ليس منَّا إطلاقاً .
 
 ليس بين الله وبين عباده قرابة إلا الطاعة : 
 
والآن تأتي الآية :
    
                                         ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
وعند الله مقياس واحد هي طاعته ، ليس بين الله وبين عباده قرابة إلا الطاعة ..
     
                                          ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
 
والمؤمن الصادق ينطلق من هذا المقياس وحده ، ولا يأبه لا بالغنى ولا بالفقر ، ولا بالقوة ولا بالضعف ، ولا بالوسامة ولا بالدمامة ، ولا بالصحة ولا بالمرض ، هذه مقاييس ما أقرَّها الشرع إطلاقاً في تقيّيم الأشخاص ، ولكن الشرع والقرآن يتخذ مقياس الطاعة وحدها مقياساً للترجيح بين الناس ..
 
الإيمان و الطاعة مقاييس للترجيح بين الناس :
 
                                          ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
 
فالمعنى واضح والآية موجزة لكن شتَّان بين أن نستمع إليها وبين أن نطبِّقها ، تجد أن هناك سلوكًا جاهلياً ، وهناك من يأبى أن يسكن في هذا الحي ، ومن يأبى أن يتزوَّج هذه المرأة،وهناك امرأة تأبى أن يكون زوجها إلا من صنف التجَّار ، وامرأةٌ تأبى أن يكون زوجها من هذا الصنف ، عنعنات جاهلية ، وعصبيَّات إقليميّة ، أو عصبيات ليست مقبولة عند الله عزَّ وجل ..
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
فبعض العلماء استنبط من هذه الآية أن كل شابٍ مؤمنٍ كفء لأية شابَّةٍ مؤمنةٍ ، لأنّ الإيمان وحده هو المرجِّح على كلِّ قيمة ، وهذه الآية لا تؤخذ في فهمها ولكن في تطبيقها ، فالإنسان أحد شخصين إما أن يكون مؤمناً يطبِّق هذه الآية في تقييمه للناس ، وإما أن يكون عنصرياً يعتمد على مقياس ما أراده الله عزَّ وجل ؛ كالمقياس الإقليمي ، أو العشائري ، أو القَبَلي ، أو القومي ، أي نحن من صنف متميّز ، وكلُّ إنسانٍ خلقه الله عزَّ وجل ، والله مع كل الناس ولجميع الناس ، ويعلم أحوال الناس ، ويقبل عمل الناس ، ويقرِّب الطائعين ، ويبعد العُصاة المذنبين ، ويتجلَّى على المؤمنين ، وكما قال عليه الصلاة والسلام :
(( الناس رجلان برٌّ تقي كريمٌ على الله وفاجرٌ شقي هينٌ على الله))
[ أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمر]
 
 الناس رجلان برٌّ تقيٌّ أو فاجرٌ شقيّ : 
 
وأقول لكم هذه الحقيقة : الناس على اختلاف مشاربهم ، واختلاف أعراقهم ، واختلاف أنسابهم ، واختلاف مللهم ، واختلاف نِحلهم ، واختلاف مستوياتهم الاقتصادية ، والثقافية ، والفكرية،والاجتماعية ، والعرقية ، الناس في النهاية رجلان مؤمن والثاني كافر ، ومستقيم ومنحرف ، ومحسن ومسيء ، ومنضبط ومتفلِّت ، وموصول ومقطوع ، ورحيم وقاس ، ومنصف وظالم ، الناس رجلان ، فالمستقيم ، المحسن ، المقبل ، المنضبط ، الرحيم هذا عند الله له شأنٌ كبير بصرف النظر عن عرقه ، وعن جنسه ، وعن أسرته ، وعن عشيرته ، وعن قبيلته ، وعن إقليمه ، هذه عنعناتٌ جاهلية .. والذي قال لسيدنا بلال : " يا ابن السوداء " ، قال له النبي عليه الصلاة والسلام :
(( يا فلان إنك امرؤٌ فيك جاهلية ))
[ أخرجه البخاري عن المعرور بن سويد ]
 
 العنصري هو الإنسان الذي يقيم مقاييس غير مقاييس القرآن الكريم : 
 
الآن إذا كان عندك شعور أن ابنك من أسرة راقية يجب أن يكون مكتفياً ، متنعِّماً ، وهذا الموظَّف الذي يعمل عندك في المحل هذا أبوه ميت وهو يتيم وفقير ، ويجب أن يعمل عملاً شاقاً دون أن ينال نصيبه منك ، فأنت إنسان عنصري ، وهذا العنصري الذي يقيم مقاييس غير مقاييس القرآن الكريم ، مقاييس الأنساب والأعراق ، والغنى والفقر ، ومقاييس أسرية عشائرية قبلية إقليمية ، فهذه كلها مقاييس ما أنزل الله بها من سلطان ، وسيدنا الصديق رضي الله عنه عندما رأى صفوان يعذِّب بلالاً اشتراه منه ، قال له : " خذه فو الله لو دفعت به درهماً لبعتكه " ، وسيدنا الصديق رأى في هذا الكلام إهانة لسيدنا بلال فقال له : " والله لو طلبت به مئة ألفٍ لأعطيتكها " ، فلمَّا اشتراه من سيِّده وضع يده تحت إبطه وقال : " هذا أخي حقَّاً " ، فكان أصحاب النبي إذا ذكروا الصديق يقولون : " هو سيدنا وأعتق سيدَنا " .. أي بلالاً ..
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يخرج إلى ظاهر المدينة لاستقبال بلال الحبشي ، ومرَّة وقف أبو سفيان في باب عمر ساعاتٍ طويلة لم يؤذَن له ، فلمَّا دخل عليه عاتبه وقال : " سيد قريش يقف ببابك ساعاتٍ طويلة وصهيبٌ وبلال يدخلان بلا استئذان ؟! " فقال عمر :  أنت مثلهما في الإسلام ؟
 
 أكرم الناس عند الله عز وجل أتقاهم له :
 
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
إن لم نتعامل مع بعضنا بهذا المقياس فلسنا مسلمين ، الغنى تحت قدمك ، والفقر تحت قدمك ، فالغنى والفقر ، الوسامة والدمامة ، والذكاء وقلَّة الذكاء ، هذه المقاييس اختصّ الله عزَّ وجل بها خلقه لحكمةٍ أرادها ، لكنها لا ترفع ولا تخفض ، والذي يرفع ويخفض الطاعة ، مرَّة ثانية :
(( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ' ))       
[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة]
الله عزَّ وجل شاءت حكمته أن يكون الأنبياء فقراء في معظمهم ، فماذا كان يعمل الأنبياء الفقراء ؟ رعاة غنم ، وهل هناك حرفة أهون على الناس من أن يرعى الغنم ؟ تجد شخصاً في الجبال مع مئة غنمة ، وأنبياء عِظام رعوا الغنم لتحطيم هذه المقاييس التي ابتدعها الناس ، أنا لا أدخل في التفاصيل ، وهناك أوهام ، ومظاهر فارغة ، ومقاييس مضحكة يقيس بها الناس ، ما أنزل الله بها من سلطان .
 
الدين و الخلق مقاييس مهمة في الزواج و ليس الناحية المادية :
 
على كلٍ :
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
هذا هو المقياس ، وإذا كانت الآية واضحة عندك وأنت مؤمن إيماناً صحيحاً فيجب عليك أن تمارسها يومياً ، يأتيك خاطب مثقَّف يحمل شهادة عُليا ، ديِّن وأخلاقه عالية ، إذْ يقيس بعض الآباء خاطبي بناتهم بالمقياس المادي وحده ، يرفض أو يقبل لعلَّة المال فقط  ، يرفض أو يقبل لعلَّة الحرفة وحدها ، يرفض أو يقبل لعلَّةٍ أخرى فقط ، أما هذه الآية فيجب أن نمارسها عملياً ؛ في علاقاتنا ، ومهننا ، وحرفنا ، وأسواقنا ، وزواج فتياتنا ، وتزويج شبابنا ..
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
 (( إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد))
[ أخرجه الترمذي عن أبي حاتم المزني]
 
 على الإنسان أن يتقي الله ويحسن إلى خلقه إخلاصاً وليس نفاقاً لأن الله عليم بحاله :
 
ثم يقول الله عزَّ وجل  :
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾ٌ
 
فما أحسن الذي يتقي ، ألم يقل الله عز وجل قبل قليل :
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
إنسان مستقيم على أمر الله هل يفعل هذا نِفاقاً أم إخلاصاً ؟ أم رياءً أم طاعةً ؟ وهو ينضمُّ إلى المؤمنين لمكاسب مادية أم لإخلاصٍ شديد ؟ قال  :
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾ٌ
 
 المؤمن لن يُقبَلَ عمله عند الله إلا إذا قاس مقياس واحد :
 
أي إن قوله تعالى  :
   
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
 
يحتاج إلى تفصيلات كثيرة ، وأحياناً الإنسان يُنفِق على ابنه مئات الألوف لينال درجة علمية عالية ، أما إذا كان عنده موظَّف صغير في المحل يتيم وطلب منه أن يغيب ساعة ليلتحق بدورة تعليمية فلا يسمح له ، أليس هذا عنصرياً ؟ ابنك تريده في أعلى مرتبة علمية أما هذا اليتيم الذي ليس له أب ومن شدَّة حاجته للمال التحق بالعمل عندك ، وطلب ساعة قبل انتهاء الدوام يغادر المحل فيها ليلتحق بمدرسة ليلية لا تسمح له ، أليس هذا التصرُّف خلاف هذه الآية ؟ .
 وشيءٌ آخر : حينما يعامل الإنسان زوجة ابنه معاملةً تختلف عما يتمنَّى أن تُعَامَل ابنته بها ، فهذا إنسانغير منطقي ، وغير منصف ، فحينما تنحاز إلى ابنتك ، أو إلى أخيك ، أو إلى ابنك انحيازاً أعمى على حساب الإنصاف والحق فهذه جاهليةٌ في الإنسان ، ولن تكون مؤمناً صادقاً مقبولاً عند الله عزَّ وجل إلا إذا قست الناس بمقياسٍ واحد .
 
الإنصاف من أكبر الوسائل التي تعين على الاتصال بالله تعالى :
الحقيقة هناك حديث وهو :
((عامل الناس كما تحب أن يُعاملوك ))
هذا الحديث على بساطته أدق مقياس ، دائماً اعكس الآية فهل تحب أن تُعَامَلَ هذه المعاملة التي تعامل بها الآخرين ؟ وهل تحب أن يُعامل ابنك هذه المعاملة التي تعامل بها أبناء الآخرين ؟ وهل تحب أن تعامل ابنتك في بيت زوجها معاملةً كما تعمل أنت مع ابنتك أو مع زوجة ابنك ؟ فالإنسان يقيس نفسه بهذا المقياس ، إنه مقياس دقيق وفعَّال ، ودائماً اعكس الآية ، هل ترضى أن تُعامل أمام موظَّف كما تعامل هذا المواطن المراجع ؟ وأنت طبيب فهل ترضى لو كنت مريضاً أن تُعامَل هذه المعاملة من طبيب ؟ أنت لو كنت محامياً فهل ترضى أن تعامَل كما تعامل هذا الموكِّل ؟ لا .. فهذا المقياس دقيق جداً ، وهذا المقياس ينهضنا جميعاً ، فلذلك :
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
      والإنصاف أحد أكبر الوسائل التي تعينك على الاتصال بالله عزَّ وجل ، وإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة  .
والحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب