سورة الفتح 048 - الدرس (3): تفسير الأيات (22 – 27) - صلح الحديبية ج2

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الفتح 048 - الدرس (3): تفسير الأيات (22 – 27) - صلح الحديبية ج2

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 22 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 13 - واجبنا في ظل الظروف - الذي أطعمهم من جوع           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - البلاء           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 394 - سورة المائدة 014 - 018           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 47- خماسية النصر- مهدي اسليم -21 - 04 - 2024           برنامج مع الأسرى: مع الأسرى - حلقة46 - 21 - 4-2024         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الفتح

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الفتح ـ الآيات: (22 - 27) - صلح الحديبية ج2

30/05/2013 18:20:00

سورة الفتح (048)
الدرس (3)
تفسير الآيات: (22 – 27)
صلح الحديبية ج2
 
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، مع الدرس الثالث من سورة الفتح.
 
ضعف قريش و استعطاف النبي عليه الصلاة و السلام في الصلح :
 
كان محمد بن سلمة رضي الله عنه على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية، بعثت قريشٌ أربعين أو خمسين رجلاً عليهم مِكْرَز بن حفص- قائد هذه الحملة الصغيرة- وقال عليه الصلاة والسلام في حقّ مِكْرز: " هذا رجلٌ غادرٌ فاجر ".. لقد أرسلت قريشٌ هذه الكتيبة ليطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً رجاء أن يصيبوا منهم أحداً، وكانت قريش قد حَجَزَت سيدنا عثمان بن عفان وعشرةً من أصحاب رسول الله معه في مكة، وحجز هؤلاء الصحابة كان سَبَبَ بيعة الرضوان، جاءت قريش مرة ثانية لتأخذ مزيداً من الأسرى، فالنبي عليه الصلاة والسلام نَبَّه أصحابه.
فما كان من محمد بن سلمة هذا الصحابي الجليل الشجاع إلا أن أخذ كل هؤلاء أسرى، إلا مِكْرَز فقد أفلت، وصدق عليه الصلاة والسلام حينما قال عنه: " إنه رجلٌ فاجرٌ غادر "، وأوتي بهؤلاء الأسرى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فَحُبِسوا، وبلغ قريشٌ أسر أصحابها، فجاء جمعٌ منها رموا المسلمين بالنَبْل والحجارة، فقتل من المسلمين ابن زنيم رمياً بسهمٍ، فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلاً، المسلمون أسروا جماعة ثانية، أول جماعة خمسين، والثانية اثني عشر، وعند ذلك بعثت قريشٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم جمعاً على رأسهم سُهَيل بن عمرو، وقالت: ائت محمداً وصالحه، أول جماعة أسرى، والثانية أسرى، بيعة الرِضوان، مجيء النبي وأصحابه مهللين مكبِّرين، آمِّين البيت، معهم الهدي لا يريدون حرباً، مقالة قالها الرسل الثلاثة الذين أرسلتهم قريش إلى النبي، كل هذه العوامل اجتمعت وحَمَلَت قريش على طلب الصُلح، إذاً ضَعُفَت قريش، وبدأت تستعطف، وبدأت تريد الصلح، يقول الله عزَّ وجل:
﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
[ سورة الفتح ]
 
النبي عليه الصلاة والسلام رحيمٌ بالخلق عامةً حتى الكُفَّار :
 
إذاً هذا الصلح من فعل الله مباشرةً، كف أيدي قريش عن النبي وأصحابه، وكف أيدي النبي وأصحابه عن قريش، لحكمةٍ أرادها الله سوف نراها بعد قليل، فما مغزى هذه القصة إلا أن نوقن أن الأمر كله بيد الله، وأن الله سبحانه وتعالى بيده الخير في كل الأحوال، وأن الشيء الذي يُزْعِجنا ونكرهه ربما كان خيراً لنا.
النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى سهيل بن عمرو رئيساً للوفد عرف بفطنته كل شيء، قال: "قد سهَّل الله لكم من أمركم، القوم يأتون إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهَدي، وأظهروا التلبية، لعلّ ذلك يلين قلوبهم".
النبي عليه الصلاة والسلام رحيمٌ بالخلق عامةً حتى الكُفَّار، لا يريد قتالهم بقدر ما يريد هدايتهم، وكلما اشتدت الرحمة في قلب الإنسان صارت رحمته تَنْصَبُّ على أعدائه، هو لا يريد إبادتهم، بينما نرى الحروب الحديثة الآن حروب إبادة، حروب منافع، حروب مكاسب، لكن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم:
﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً
[ سورة التوبة: آية  36  ]
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
[ سورة الأنفال ]
 
إزالة الفتن وإقامة شرع الله هو الهدف الشريف والنبيل من الحروب الإسلامية :
 
الهدف الشريف والنبيل من الحروب الإسلامية إزالة الفتن، وإقامة شرع الله، الشيء الذي يَلْفِت النظر أن أبا سفيان لم يرد ذكره إطلاقاً في صلح الحديبية، إذ أنه كان غائباً في بعض تجاراته، والأرجح في اليمن لتعطُّل طريق تجارة قريش في الشام- كان أبو سفيان مسافراً إلى اليمن- كل ذلك مقدمة للأحداث الجليلة التي تمخضت منها المفاوضات.
كان من تعليمات قريشٍ إلى رئيس وفدها جليةً واضحة، ائت محمداً وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عامه هذا، فأول شرط أصرَّت عليه قريش أن يرجع محمدٌ عن العمرة في هذا العام، حتى لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوةً أبداً، تريد حفاظاً على ماء وجهها، إن قريشاً لا تحتمل أن يأتيها محمدٌ عليه الصلاة والسلام وهي التي أخرجته من مكة   أن يأتيها ليعتمر البيت عنوةً وقسراً، فالرؤية واضحة في نفس سهيل بن عمرو وفكره، وهي أوضح في نفس النبي عليه الصلاة والسلام.
 
الغاية التي سعى سهيل بن عمرو لتحقيقها هي الصلح وإبعاد الحرب :
 
أقبل سهيلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: أراد القوم الصلح حينما بعثوا هذا الرجل. وكلكم يعلم أن من صفات الأنبياء الفطانة، والفطن سريع الإدراك، يدرك السطور وما بين السطور وما خلف السطور، يدرك الوقائع وما خلف الوقائع، يدرك البواعث العميقة، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى سهيلاً، قال: أراد القوم الصلح حينما بعثوا هذا الرجل، سهيل بن عمرو، قال: يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك- عثمان والعشرة- وما كان من قتال من قاتلك- مكرز- لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنا كارهين له حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أولاً وثانياً. هذا الذي حدث من حجز عثمان وأصحابه ومن كتيبة مكرز، سوء تَصَرُّف ممارسات خاطئة من سفهاء مكة.
وهنا يُلْمَسُ في كلام سهيل المدخل اللطيف ففيه لينٌ وتوددٌ حتى وتراجعٌ، وغاية سهيل تحقيق الهدف الذي جاء من أجله ألا وهو الصلح وإبعاد الحرب، يبدو أن قريشاً أيقنت من بيعة الرضوان أن أصحاب النبي كرجلٍ واحد وقفوا معه صفاً واحداً، وبايعوه على الموت، الشيء الثاني ما ذكره الرسل الثلاثة من أخبارٍ طيبة، من أن أصحاب رسول الله ما جاؤوا يبتغون حرباً، والشيء المهم أن أسر الخمسين وأسر الباقين جعلهم يشعرون أنهم فيما لو التحم الفريقان فالنصر للمسلمين، وقد أشارت الآية الكريمة:
﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
[سورة الفتح ]
أولاً: سهيل أراد إطلاق سراح الأسرى القرشيين، لكن هؤلاء الأسرى كانوا ورقةً رابحةً بيد النبي عليه الصلاة والسلام، وأمام مطلب سهيل بن عمرو قال عليه الصلاة والسلام: " غير أني لا أرسلهم حتى ترسلوا أصحابي ". فقال سهيل: نفعل، فبعث إلى قريشٍ بذلك، فبعثوا بمن كان عندهم، عثمان والرجال العشر، فأطلق عليه الصلاة والسلام أسرى قريش ولم يسلبهم- لم يأخذ منهم شيئاً- بل مَنَّ وعفا عنهم وصَفَح، فمن دخل مكة من المسلمين لا يؤسَرْ ولا يحتجز لأنهم وفدٌ مفاوض.
 
حنكة النبي وانصياعه لأمر الله عزَّ وجل :
 
الآن سوف ترون معي حنكة النبي، ورحمته، وحكمته، وبُعد نظره، وأدب النبي مع الوحي، وانصياعه لأمر الله عزَّ وجل، وهذا الصلح يكاد يكون أمراً من الله، فيه استسلامٌ لمشيئته، لكن الخير كله كان فيما بعده، قال: جثا سهيلٌ على ركبتيه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون حوله جلوس، وتكلَّم وأطال، وكان عَبَّاد بن بشر يقول: اخفض صوتك عند رسول الله. أحياناً الكافر لا يعرف قدر النبي، ولا يعرف مكانته العظيمة، فيكلمه كلام ندٍ لند، قد يرفع صوته، فقال له عروة: اخفض صوتك عند رسول الله، يقول عليه الصلاة والسلام لسهيل: خلّوا بيننا وبين البيت نطوف به، فقال سهيل: لا والله لا تتحدث العرب بنا أنَّا أخذنا ضغطة ولكن ذلك في العام القابل. النبي عليه الصلاة والسلام امتاز ببعد النظر، ودقة التقدير، ثم أراد سهيلٌ أن يكتب العقد كما يراه ويتصوَّره لا كما يراه النبي فتساهل عليه الصلاة والسلام معه.
أحياناً الإنسان يتساهل بشيء، هذه ملاحظة، أحياناً في الصلح بين الزوجين، الإنسان كبير العقل والنفس والقلب يهمُّه التئام الزوجين، يهمه الأولاد، يخاف من تشريد الأولاد، لذلك المُفاوض في شؤون الصلح بين الزوجين قد يتساهل في بعض الأمور فيُلام على تساهله، هدفه كبير جداً، هدفه عالٍ جداً، هدفه أن يتَّفِق الزوجان، والأمور المادية لا قيمة لها، أما حينما ندقق بالتفاصيل، ونجعل من هذه التفاصيل عقبةً كؤوداً، فعندئذٍ لا يعنينا هذا الهدف النبيل، يعنينا الانتصار، والتحدي، وتنفيذ القول، فحينما نرى أن النبي عليه الصلاة والسلام تساهل كثيراً مع سهيل بن عمرو، لا لضعفٍ به، ولا لضعفٍ في أصحابه، ولا ضعفٍ في تأيِيد قتاله، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد هداية قريش، أراد أن يريح أصحابه سنواتٍ طويلة، وأن يلتفت إلى الدعوة إلى الله عزَّ وجل، وأراد أن يُلَيِّن قلب القُرَشيين.
 
موقف عمر بن الخطاب من العقد بين النبي الكريم و كفار قريش :
 
سيدنا عمر كما تعلمون كان شديداً، هو عملاق الإسلام، وقد أعزَّ الله به المُسلمين حينما أسلم، هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، فدائماً يمَثِّل الجانب القوي، يمثل الصقور بالتعبير الحديث، حينما رأى أن العقد سيكتب وفق ما يمليه سهيل لا وَفْقَ ما يمليه رسول الله عليه الصلاة والسلام تألم أشد الألم ووثب، فأتى أبا بكر رضي الله عنه وقال: يا أبا بكر أليس هو برسول الله؟ قال أبو بكرٍ: بلى -إذا قلنا: نعم غلط، فبلى تفيد نفي النفي، ونفي النفي إثبات، أما نعم فتفيد إثبات النفي- قال عمر: أو لسنا بالمسلمين؟ قال أبو بكرٍ: بلى، قال عمر: أو ليسوا بالمشركين؟ قال أبو بكرٍ: بلى، قال: فعلامَ نُعْطي الدنيَّة في ديننا؟ يجيبه أبو بكر: يا عمر الزم غرزه.. أي ركابه، كن معه، كن تحت جناحه، لا تعترض فهو رسول الله يوحى إليه، الزم غرزه.. إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، معنى ذلك أن الله أمره بذلك، وهو ناصره، استمسك بغرزه حتى تموت، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى عمر النبي عليه الصلاة والسلام قال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال عليه الصلاة والسلام، وفي قوله حل للعقدة قال: " أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره ولن يُضَيِّعَني " فُهِم أن تفاصيل الصُلح كانت بوحيٍ من الله عزَّ وجل، رحمةً بعباده كلهم، لأن بمكة أناساً مؤمنين، أخفوا إيمانهم، كتموا إيمانهم، فلو التحم الصحابة الكرام مع أهل مكة لقتلوا منهم أعداداً كبيرة دون أن يعلموا، فالله سبحانه وتعالى رب العباد كلهم، هذا الجواب الدقيق الدقيق  أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره ولن يضيعني.
 
شروط العقد الذي أبرم بين النبي عليه الصلاة و السلام و سهيل بن عمرو :
 
ثم دعا النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب ليكتب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا.. لا أعرف أنه رحمنٌ رحيم.. ولكن اكتب: باسمك اللهم، فكتبها، لأن قريشاً كانت تقولها، فَضَجَّ المسلمون، والنبي حليم هادئ، وهذا هو التعديل الأول لسهيل بن عمرو، النبي أراد تنفيذ أمر الله عزَّ وجل، وأراد أن ينْعُم الناس بالأمن سنواتٍ طويلة، وأراد أن يعطي فرصةً لأهل مكة لعلهم يتوبون إلى الله عزَّ وجل، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولم أصُدَّك عن البيت، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، ولو علمت أنك رسول الله ما خالفتك، ولاتبعتك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام بكل ثقة واطمئنان لعلي بن أبي طالب: امْحُه -امح رسول الله- فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والله ما أنا بالذي أمحوه، والله لا أمحوك أبداً من الرسالة، فقال عليه الصلاة والسلام: أرينه.. أين رسول الله ؟ كان عليه الصلاة والسلام أمياً.. فأراه إيَّاه فمحاه النبي الكريم بيده الشريفة، وقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، وهذا هو التعديل الثاني لسهيل بن عمرو، وقال عندها صلى الله عليه وسلم: أنا والله رسول الله وإن كذَّبتموني، وأنا محمد بن عبد الله. فجعل عليٌ يتلكَّأ ويأبى أن يكتب، فقال عليه الصلاة والسلام: اكتب فإن لك مثلها.
يروي التاريخ أنه لما صار صلحٌ بين عليٍ رضي الله عنه وكان أمير المؤمنين ومعاوية، رفض كاتب الصلح أن يكتب: هذا ما اتفق عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال له: ولك مثلها، وهذا من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم اتفق النبي عليه الصلاة والسلام، وسهيل بن عمرو على أن تضع الحرب أوزارها عشر سنين تأمن فيه الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريشٍ ممن هو على دين محمدٍ بغير إذن وليِّه رُدَّ إليه ذكراً كان أو أنثى، ومن أتى قريشاً ممن كان مع محمدٍ مرتداً ذكراً كان أو أنثى لن تردَّه قريش، شرط فيه إجحاف بالمسلمين لأنه لا توجد معاملة بالمثل، وشرطوا أنه من أحبَّ من القبائل أن يدخل في عقد محمدٍ وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريشٍ وعهدها دخل فيه، وأن بيننا وبينكم هُدنةً.
وقال سهيل: وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل مكة.. والله لو عرف سهيل من يخاطب لذاب كما تذوب الشمعة ولكن لا يعرفه، يعرف أنه إنسانٌ جمع الناس حولَه، واستقلَّ بهم، وحارب قريشاً مرتين، أما لو عرف أنه رسول الله لاختلف الوضع كثيراً، وقال سهيل: وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل مكة، وإنه إذا كان عامٌ قابل خرج منها قريش فتدخلها بأصحابك فتقيم بها ثلاثة أيامٍ، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب والقوس لا تدخل بغيرهما، في العام القادم قريش تخرج والنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه يعتمرون ثلاثة أيامٍ وليس معهم من السلاح إلا سلاحاً شخصياً -سيوفٌ في قربها- فكتب عليه الصلاة والسلام في أسفل الكتاب ولنا عليكم مثل الذي لكم علينا.
كُتب الكتاب فأخذه رسول الله ونُسخ مثله لقريش، نسخه محمد بن سلمة رضي الله عنه لسهيل لأن سهيلاً قال: يكون هذا الكتاب عندي، فقال عليه الصلاة والسلام: بل عندي.
وعند كتابة هذا العقد، عَقْد الصلح بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين سهيل بن عمرو قال المسلمون: سبحان الله! كيف نرد للمشركين من جاء مسلماً، وعسر عليهم هذا الشرط، وكان مما قال عمر رضي الله عنه: أترضى بهذا يا رسول الله؟ فتبسَّم عليه الصلاة والسلام وقال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله عنَّا-لا رده الله- ومن جاءنا منهم فرددناه سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً، ومن أعرض عنا وذهب إليهم فلسنا منه في شيءٍ وليس منا بل هو أولى بهم.
 
قصة أبي جندل مع النبي صلى الله عليه و سلم :
 
وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمروٍ يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة، جاء أبو جندل وهو ابن سهيل بن عمرو، جاء مسلماً، يرسف في القيود، قد أُفلت إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فجعل المسلمون يرحِّبون به ويهنئونه، فلما رأى سهيلٌ ابنه أبا جندل قام إليه فضرب وجهه بغُصنٍ من شجرةٍ بها شوكٌ ضرباً شديداً، حتى رَقَّ عليه السلمون وبكوا وأخذ سهيل بتلابيب أبي جندل وقال: يا محمد هذا أول ما أقاضيك به- شروط جديدة - وأن ترده إلي، لقد لَجَّت القضية بيني وبينك.. أي انتهت، وقّعنا وانتهينا، يجب أن تنفذ العقد.. فقال عليه الصلاة والسلام: صَدَقت.
فجعل سهيلٌ يجر ابنه أبا جندل ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني عن ديني، ألا ترون ما لاقيت؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم فإنهم كانوا لا يشكّون في دخولهم مكة وطوافهم بالبيت لأن الله عزَّ وجل قال:
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ
[ سورة الفتح: آية 27  ]
النبي قَصَّ عليهم رؤياه، أيقنوا جميعاً أنهم داخلون مكة، الآن لا توجد مكة، ولا يوجد عمرة، وسوف يعودون إلى مكة، وهذا الذي جاء مسلماً عليهم أن يردوه، تألَّم السلمون أشد الألم ودخل عليهم همٌ عظيم، رُد أبو جندل إلى قريش بعد أن ضربه أبوه ضرباً مبرحاً، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي جندل: " اصبر واحتسب فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله ألا نغدر بهم "-أي هكذا الشرط- ومما قاله صلى الله عليه وسلم لسهيل: إنا لم نقضِ الكتاب بعد، فقال سهيل: بلى، لقد لَجَّت القضية بيني وبينك، فقال عليه الصلاة والسلام: أجره لي- اسمح لي بهذا الشخص- فقال: ما أنا مجيرٌ لك بذلك، فقال: بلى فافعل، فقال: ما أنا بفاعل، فقال مِكْرَز وحوَيْطِب: قد أجرناه لك، وقالا لسهيل: لا تعذبه، وقال حويْطِب لمكرز: ما رأيت قوماً أشدَّ حباً لمن دخل معهم من أصحاب محمد.. هذا منا.
ولما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من الصلح أشهد عليه رجالاً من المسلمين، هم: أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن سلمة، ورجال من قريش، حويطب ومكرز، وقام إلى هديه صلى الله عليه وسلم وفيه جملٌ لأبي جهل، كان نجيباً في رأسه حلقةٌ من فِضَّة غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ونفر هذا الجمل ودخل مكة وانتهى إلى دار أبي سفيان، وخرج في أثره عمرو بن غنمة الأنصاري، فأبى سفهاء مكة أن يردّوه.. لم يدخل الجمل في العقد.. حتى أمرهم سهيل بن عمرو بشرائه، فدفعوا فيه عدة ثياب، فقال عليه الصلاة والسلام: لولا أنا سميَّناه في الهدي فعلنا. وبأمرٍ من سهيل بن عمرو عرضوا مئة من الإبل مكانه، قال سهيل: فإن قبلها فامسكوا هذا الجمل، وإلا فلا تتعرضوا له، فأبى عليه الصلاة والسلام وقال: لو لم يكن هذا الجمل للهدي لقبلت المئة.
 
المشاورة من السُنَّة :
 
الآن بقي في هذا الصلح شيءٌ دقيق، لما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من كتابة الصلح أمر المسلمين بالنحر والحلق وذلك ثلاث مرات، يبدو أن الصحابة الكرام تألَّموا أشد الألم من هذه البنود، ورأوا فيها إحباطاً لطموحهم بدخول مكة والطواف حول البيت، فتلكؤوا في تنفيذ هذا الأمر قليلاً، النبي عليه الصلاة والسلام دخل على أم سلمة وهو شديد الغضب فاضطجع، فقالت: مالك يا رسول الله؟ قالت ذلك مراراً وهو لا يجيبها، ثم ذكر لها ما لقي من الناس وقال: هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، وفي روايةٍ: عجباً يا أم سلمة ألا ترين إلى الناس آمرهم بالأمر فلا يفعلونه؟ فقالت له: يا رسول الله لا تلمهم، فإنهم قد دخلهم أمرٌ عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقَّة في أمر الصلح، رجوعهم بغير فتحٍ، وأشارت رضي الله عنها أن يخرج ولا يكلِّم أحداً منهم وينحر بُدنة ويحلق رأسه، وهذا يدل على فضل أم سلمة ووافر عقلها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام حينما استشارها وعرض عليها الأمر أراد أن يكون قدوةً لنا في أن نستشير من حولنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله جلَّ جلاله بنصِّ القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
[ سورة آل عمران: آية  159  ]
وقال:
﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ
[ سورة الشورى: آية  38  ]
وقال الله عزَّ وجل:
﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ
[ سورة الطلاق: آية  6  ]
إذاً المشاورة من السُنَّة، وها هي أم سلمة تشير على النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقف منها الموقف المشرِّع، فهو حينما استشارها شرع لنا ذلك.
 
تسمية الصلح مع قريش بالفتح المبين :
 
وخرج النبي عليه الصلاة والسلام فأخذ حربةً وقصد هديه، وأهوى بالحربة إلى البُدن رافعاً صوته: بسم الله الله أكبر، ثم دعا خُراش بن أمية الخُزاعي، فحلق رأسه الشريف ورمى شعره على شجرة، فأخذه الناس فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا وحلقوا وقَصَّر بعضهم، فدعا عليه الصلاة والسلام للمحلِّقين ثلاثاً قال:
" رحم الله المحلقين،فقالوا: والمقصرين؟ قال: رحم الله المحلقين، فقالوا: والمقصرين؟ قال: رحم الله المحلقين، فقالوا: والمقصرين، قال: والمقصرين ".
عندئذٍ أقام المسافرين في الحديبية بضعة عشر يوماً، وقيل: أقاموا عشرين يوماً، ثم انصرفوا إلى المدينة، وكان عمر بن الخطاب يسير مع رسول الله ليلاً فسأله عمر عن شيءٍ، فلم يجبه النبي، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر يخاطب نفسه: ثكلَتك أمك يا عمر، سألت رسول الله ثلاث مراتٍ فلم يجبني، فقال عمر: وحركت بعيري ثم تقدَّمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزَّل فيَّ قرآن- شعر أنه ارتكب ذنباً عظيماً حينما وقف هذا الموقف المُعارض- فما لبثت أن سمعت صارخاً يصرُخ بي قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال: لقد أنزلت علي الليلة سورةٌ لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس- نزلت في الطريق - ثم قرأ:
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
[ سورة الفتح ]
الله عزَّ وجل سَمَّى هذا الصلح: فتحاً مبيناً.
 
بنود الصلح ليست في صالح المسلمين فيها تنازلات كثيرة و لكنه أمر من الله :
 
على أن الصحابة تضايقوا وتألَّموا و أحبطوا، وشعر أحدهم أنه لم يعتمر، ولم يطف بالبيت، وعاد خائباً، وأن الصلح بنوده ليست في صالح المسلمين، فيها تنازلات كثيرة جداً، ولكن النبي قال: أنا عبد الله ورسوله، أفعل ما يأمرني الله به. ثم جاء قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
[ سورة الفتح ]
ثم يقول الله عزَّ وجل في الطريق إلى المدينة بعد صلح الحديبية:
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
[ سورة الفتح ]
 
الحكمة من الصلح :
 
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
[ سورة الفتح ]
﴿وَهُوَ الَّذِيفلا تتألَّموا، الله منع النبي أن يقاتلهم..
﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ
أي في الحديبية..
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ
[ سورة الفتح ]
الهدي كان معكم، وأنتم أردتم بيت الله الحرام، صدّوكم عن المسجد الحرام.. وانظر إلى الحكمة:
﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا
[: آية 25سورة الفتح ]
لو أن المؤمنين في مكة الذين لا تعرفونهم لو تزيَّلوا:
﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
[ سورة الفتح ]
لكن هؤلاء المؤمنين مع الكفار بينهم، لو حاربتموهم لقتلتموهم وهم مؤمنون..
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ
[ سورة الفتح: آية 26 ]
 
عدم فهم سورة الفتح إلا بقراءة أسباب النزول :
 
النبي كان هادئاً جداً، شرط مهين لا يوجد مانع، تنازل، محو اسمه من الرسالة لا يوجد مانع، من جاء مسلماً يرد، من جاء مرتداً لا يرد، كل هذه الشروط لم يفهمها الصحابة:
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
[ سورة الفتح ]
 أرأيتم إلى أن هذه الآيات يَصْعُب تفسيرها دون أن نعلم القصة على حقيقتها، هناك آيات لا تفهم إلا بأسباب النزول، سورة الفتح بأكملها وبعضاً من سورة محمد عليه الصلاة والسلام لا نفهمها إلا إذا قرأنا أسباب النزول.
 
صلح الحديبية من أعظم الفتوح :
 
 
ولما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام: نُهَنِّئُك يا رسول الله، وهنَّأه المسلمون، وتكلم بعض الصحابة وقالوا: ما هذا بفتحٍ لقد صددنا عن البيت؟! فقال عليه الصلاة والسلام لَمَّا بلغه ذلك: " بئس الكلام، بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرواح عن بلادهم، ويسألونكم القضيَّة، ويربحوا إليكم في الأمان، لقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم، ورَدَّكم الله تعالى سالمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح ". الآن النبي حل الموضوع: لأن قريشاً أصبحت نداً لكم، طلبوا منكم الصلح، وهادنوكم، وخضعوا لكم، ولانوا لكم، وعُدُّتم سالمين غانمين، ثم قال النبي: أنسيتم يوم أحد؟
﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
[ سورة آل عمران: آية  153  ]
أنسيتم يوم الأحزاب؟
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
[ سورة الأحزاب ]
أنسيتم ذلك؟ فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، فهو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكَّرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا، هذا هو الملخص، عندئذٍ الصحابة استسلموا، ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا.
 
الله سبحانه وتعالى ناصر دينه وناصر المؤمنين و لو بعد حين :
 
هناك رواية في ختام الدرس، لما صُدوا قال سيدنا عمر: أين الرؤيا يا رسول الله؟ أي كيف نفسِّر الرؤيا إذاً؟ وهذا يمثل منتهى الجرأة والحرية الفكرية، فأنزل الله عزَّ وجل:
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
[ سورة الفتح ]
سيدنا عمر قال: يا رسول الله ألم تقل إنك تدخل مكة آمناً؟ سأله سؤالاً، فأجابه النبي: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ من قال لك إنني سأدخلها في هذا العام؟ هناك نقطة ضعف في السؤال، فقال عمر ومن حوله: لا، فقال عليه الصلاة والسلام كما قال جبريل: فإنكم تأتونه وتطوفون به.
على كلٍّ حال هذا درس بليغ، أحياناً يكون الوحي هو الذي يأمر وينهى، وملخص الموضوع كله:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
 
[ سورة البقرة ]
قد يقول أحدكم: لماذا الإسلام مُحارب في العالم كله؟ والله الذي أراه أن الخير في النهاية للمسلمين، وأن هذا الدين سوف يظهره الله على الدين كله، وأن الإسلام يكسبُ أضعاف ما يخسر الآن، ألا ترى إلى أن الإسلام أصبح القضية الأولى في العالم؟ ألا ترى أن العالم كله فرز فريقين؟ مسلم وغير مسلم، فالذي نقيسه على هذا الصلح أن الله عزَّ وجل لا يتخلى عن دينه، وله حكمةٌ قد نعرفها وقد لا نعرفها، ينبغي أن نستسلم، والله سبحانه وتعالى ناصر دينه وناصر المؤمنين.
الحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب