سورة الدخان 044 - الدرس (4): تفسير الأيات (51 – 59) مشهد من أهل الجنة و أهل النار

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الدخان 044 - الدرس (4): تفسير الأيات (51 – 59) مشهد من أهل الجنة و أهل النار

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سُورَةُ الدُّخَان

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الدخان ـ (الآية: 51 - 59) - مشهد من أهل الجنة و أهل النار

10/04/2013 18:06:00

سورة الدخان (044)
الدرس (4)
تفسير الآية: (51- 59)
مشهد من أهل الجنة و أهل النار
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام : مع الدرس الرابع والأخير من سورة الدخان ، ومع الآية الواحدة والخمسين .
    
 العاقل من اختار الجنة لا النار المحرقة :
 
أيها الأخوة الكرام ، يبين سبحانه وتعالى في المقطع الأخير من سورة الدخان مشهدين من مشاهد يوم القيامة ، مشهداً لأهل النار ومشهداً لأهل الجنة وقبل أن نمضي في الحديث عن هذين المشهدين ، لابد من مقدمة .
أيها الأخوة : نحن الآن في الحياة الدنيا وبعد الحياة الدنيا تأتي الآخرة ، ونحن في الحياة الدنيا مخيرون فمن إمكاناتنا أن نؤمن أو لا نؤمن ، أن نستقيم أو أن لا نستقيم ، أن نحسن أو أن نسيء ، هذا ضمن خيارات الإنسان ، وربنا جل جلاله يبين المقدمات والنتائج ، فمن فعل هذا في الدنيا ، فهذه نتيجته ، فهل يوجد عاقل واحد يستعمل عقله  ولو ساعة من الزمن يحتار بين عمل نتيجته نار محرقة إلى أبد الآبدين ، وعمل نتيجته جنة عرضها السماوات والأرض .
    
 الآلام في الدنيا لها وظيفة أبعد من وظيفتها الآنية :
 
أيها الأخوة الكرام : اليوم الآخر يجب ألا يغيب عن أذهان كل مسلم ، ولا لحظة ، الآن في حركته اليومية : سيعامل زوجته ، ماذا أمر الله وماذا نهى ؟ إن فعل ما أمر فمصيره إلى الجنة ، إن فعل ما نهى وأصر على فعله فمصيره إلى النار ، ففي كسب المال ، وفي إنفاقه ، وفي كل حركاته و سكناته ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿إن شجرة الزقـوم (43) طعام الأثيم(44) ﴾
( سورة الدخان)
 أي الله عز جلاله يقرب إلينا الأشياء التي لا نحبها من أجل أن نقيس عليها ما في الآخرة من عذاب ، بالمناسبة لدينا أشياء في الحياة ، في الحياة آلام : ألم الحرق ، وألم الفقر ، وألم الذل ، وأشياء مسعدة : الصحة ، والجمال ، والكمال ، والنوال ، لماذا كانت هذه الأشياء المزعجة في الدنيا ؟ ولماذا كانت هذه الأشياء المسعدة في الدنيا ؟ من أجل أن الله سبحانه وتعالى إذا حدثنا عن شيء في الآخرة يكون لهذا الحديث معنى ، الدليل : إذا ذاق الإنسان ألم الحرق ، فالطفل الصغير لا يعرف ما الحرق ، يقترب من المدفأة ، فإذا لامست يده جدار المدفأة يصيح مذعوراً ، الآن ماذا حدث ؟ خبرة مؤلمة ، فكل شيء متعلق بالنار والمدفأة يبتعد عنه  بسبب هذه الخبرة ، فإذا قلت له بعد حين ، هذا الشيء يحرق يخاف ، كلمة يحرق أثارت عنده خبرات مؤلمة ، لذلك الآلام في الدنيا والأشياء المسعدة والسارة في الدنيا ، لها وظيفة أبعد من وظيفتها الآنية ، وظيفتها البعيدة أن الله سبحانه وتعالى إذا حدثنا عن عذاب النار وعن طعام أهل النار وعن شرابهم وعن حريقهم  ففي الدنيا نار ونار الدنيا تحرق ، والحريق مؤلم جداً ، الحر لا يحتمل ، موجة حر ارتفاع خمس درجات زيادة عن المعدل أو عشر درجات  لم يحتمل الناس هذا ، فكيف بألم الحريق .
    
 الأشياء المسعدة والسارة في الدنيا لها وظيفة أبعد من وظيفتها الآنية :
 
بالمقابل الله عز وجل ، خلق أشياء جميلة ، لماذا هذه الأشياء الجميلة ؟ خلق أماكن جميلة ، وأشخاصاً حسان الوجوه ، وأعطى الطعام نكهة طيبة ، هذه الأشياء الجميلة لتكون مرتكزات فيما لو أن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن أحوال يوم القيامة ، عن أحوال  أهل الجنة ، لهذه الكلمات مرتكزات ، تصور إنساناً لم ير البحر أبداً ولم ير صورته أبداً فمثلاً لو لم نُرِ إنساناً صورة البحر ، ولا صوت موجه ، ولا منظره ، ولا تعامل معه ، ولا ركبه ، قل أمامه كلمة بحر مرة ، مرتين ، ثلاثاً... مليونًا . فهذه الكلمة تعني باء وحاء وراء ، ثلاثة حروف لا تعني عنده شيئاً ، أي ربما خاف من البلل من كأس ماء ولم يخف من البحر ، ولكن لو أن الإنسان رأى البحر أو ركبه ، أو رأى أمواجه الهائجة ، أو استمتع بمنظر البحر ، أو خاف منه ، فهذه كلها خبرات : خبرات مسعدة ومؤلمة بعد حين كلمة بحر تثير عنده كل هذه الخبرات .
 
الإنسان في الدنيا لا يزال في بحبوحة التوبة و العفو و المغفرة :
 
لذلك في التربية أخطر أنواع التعليم ، التعليم اللفظي ، إنه كلمات جوفاء لا معنى لها ، يقرأ الإنسان كتاباً ويحفظه غيباً وينساه بعد الامتحان ، لأنه تعليم لفظي ، أما إذا فيه خبرات عملية ، أية كلمة تغطي هذه الخبرة لو أعيدت لأثارت كل هذه الخبرات ، فلذلك الأشياء المؤلمة والأشياء المسعدة في الدنيا لها وظيفة بعيدة أنها تصبح مرتكزات لوصف أهل الجنة ووصف أهل النار ، أليس في الأرض أماكن جميلة ؟ جبال خضراء ؟ بحار صافية ؟ أليس في الأرض وجوه جميلة ؟ وطعام طيب ؟ هذا كله مرتكزات فيما لو أن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن أهل الجنة وعن أهل النار ، المشكلة أننا اليوم في الحياة الدنيا ، نحن في بحبوحة التكليف و بحبوحة الاختيار والتوبة والمغفرة والعفو ، كل هذا الآن ممكن ، لو جئتني عبدي بملء السماوات والأرض ذنوباً غفرتها لك ولا أبالي .
    
 الذنوب الاعتقادية والسلوكية مصيرها إلى النار و الأعمال الطيبة مصيرها إلى الجنة :
 
الآن :
 
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
( سورة الزمر)
 
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
( سورة الحجر)
 إذا تاب العبد توبة نصوحاً ، أنسى الله حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه .
إذاً فالدرس خطير جداً لأنه نحن في بحبوحة : بحبوحة أننا أحياء ، بحبوحة أن الله سبحانه وتعالى أعطانا الاختيار ، وأن الإصلاح ممكن ، والتوبة ، وإصلاح الماضي ممكن ، فربنا عز وجل يصف لنا الآن أحوال أهل النار الذين وقفوا موقفاً سلبياً من الحق ، أي الذين عارضوا الحق وأرادوا نشر الباطل وأوقعوا بين الناس ، والذين كسبوا أموالهم بالحرام ، كل هذه الذنوب الاعتقادية والسلوكية مصيرها إلى النار ، وكل الأعمال الطيبة الاعتقادية والسلوكية مصيرها إلى الجنة .
 
تذكير الله عز وجل المؤمنين بأن طعام أهل النار من شجرة الزقوم :
 
﴿الزقوم﴾ شجر خبيث ليس في الجزيرة أخبث منه ، فربنا عز وجل ذكر المؤمنين أو ذكر قراء القرآن الكريم  بأن طعام أهل النار من هذه الشجرة .
 
﴿إن شجرة الزقـوم (43) طعام الأثيم(44) ﴾
( سورة الدخان)
فالإنسان أحياناً جائع يريد أن يأكل وقد لا يجد إلا طعاماً لا يؤكل فهو بين ألم الجوع وبين ألم تناول هذا الطعام .
 
﴿إن شجرة الزقـوم (43) طعام الأثيم(44) ﴾
( سورة الدخان)
 من هو ﴿الأثيم ﴾ ؟ الأثيم على وزن فعيل هو الآثم الذي يرتكب الإثم والمعصية ، فأنت أمام منهج ، في كل حركاتك وسكناتك ، فإذا تعاملت مع نفسك خلاف منهج الله هذا إثم ، وإذا قصرت في أداء العبادات هذا إثم ، وإذا قصرت في معاملة الخلق فيما عليك من واجبات هذا إثم ، وإذا اعتديت هذا إثم أشد ، وإذا أخذت ما ليس لك هذا إثم أشد وأشد :
 
﴿إن شجرة الزقـوم (43) طعام الأثيم(44) ﴾
( سورة الدخان)
لكل إنسان منهج يسير عليه فمن قصّر في واجباته فالنار مثوى له :
 
المؤمن عليه أن يعرف ما هي الآثام ؟ ما الأعمال التي إذا فعلها كانت إثماً وكان هو آثماً أو كان أثيماً ؟ والأثيم صيغة مبالغة ، معنى مبالغة : أي أعماله الآثمة متعددة ، أو ارتكب عملاً أثيماً  كبيراً ، المبالغة إما في الكم وإما في النوع ، في النوع ارتكب عملاً في منتهى الإثم ، أما أثيم في المعنى الآخر ارتكب أعمالاً كثيرة ، فطبعا الأثيم غير الآثم ، والإنسان إذا ارتكب إثماً واحداً يقال له آثم ، وأما إذا ارتكب مجموعة ذنوب صار أثيماً أو ارتكب إثماً كبيراًً جداً يقال عنه إنه أثيم  - على وزن فعيل - صيغة مبالغة اسم الفاعل قال :
 
﴿إن شجرة الزقـوم (43) طعام الأثيم(44) ﴾
( سورة الدخان)
هنالك آية أخرى تذكرنا في هذا المعنى :
 
﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
( سورة الغاشية)
 ضريع : شوك .
 
﴿طعام الأثيم(44) ﴾
( سورة الدخان)
هذه الشجرة .
 
الزيت المغلي عذاب الكافر يوم القيامة :
 
ثم قال :
 
﴿كالمهل يغلي في البطون(45) ﴾
( سورة الدخان)
أي أن الإنسان أحياناً يصب كأس شاي حار جداً ويظن بأن الحرارة معتدلة فيشرب شربة كبيرة ، ويبقى يومين أو أكثر ولسانه محروق ، إذا كان الكأس أحر مما ينبغي ، وأحياناً يتناول طبق حساء ، من الوعاء رأساً فيشرب ملعقة واحدة فيحترق لسانه ، فكيف إذا تناول زيتاً مغلياً :
 
﴿كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم(46) ﴾
( سورة الدخان)
 الحقيقة عذاب الحريق لا يحتمل ، والسائل الحار ، وأحيانا الغاز الحار ، ولهب النار كلها لا يحتمل .
 
﴿كغلي الحميم(46) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم(47) ﴾
( سورة الدخان)
أي الإنسان المجرم حتى في الدنيا إذا وجِدَ إنساناً مرتكب جريمتين أو ثلاثًا وكان مختفيا ثم ألقي القبض عليه كيف يساق إلى دوائر الأمن ؟ تفضل مثلاً أو شرف ! لا يقال له شرف أو تفضل بل لابد من خمسين أو ستين ضربة أثناء السوق ، وهذا الضرب والإهانة تتناسب مع جريمته .
 
من هان أمر الله عليه هان على الله :
 
ربنا قال :
 
﴿خذوه فاعتلوه (47) ﴾
( سورة الدخان)
 كأنه شيء هين رخيص ، لأنه في الدنيا لم يعرف الله ، في الدنيا لم يطع أوامره ، فصار على الله هيناً ، والشيء الذي أقوله دائماً : مرة حدثني أخ قال كنت ببلد من بلاد أوروبا الشرقية أقسم لي بالله أنه غادر المدينة التي يقيم فيها إلى المطار الساعة الثانية ليلاً ؛ حيث أن إقلاع الطائرة الساعة الثالثة أو الرابعة ، جذب نظره في أيام الشتاء القارس طابور طوله 5 كم فسأل السائق ما القصة ؟ في أيام الشتاء ، صقيع ، ثلج برد والناس واقفون لخمسة كيلو متر الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، فأجاب : قالوا إن غداً الساعة الثامنة هنالك توزيع لحم ، كان تعليقي على هذا الخبر : هان أمر الله على الناس فهانوا على الله .
بإمكانك أن تفسر أكثر ما يعاني منه المسلم حينما يهون أمر الله عليه هونه على الله فالإنسان بقدر طاعته لله يغلو على الله عز وجل ، الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ، معنى كريم أي أن حياتك مقدسة ، زواجك ، عملك كلاهما مقدسان ، كرامتك محفوظة ، رأسك مرفوع ، لا يذلك الله عز وجل ، ولا يجعل كافراً له عليك سلطان ، ولا يجعلك تقف و تتضعضع أمام إنسان قوي أو إنسان غني ، الله كريم وعزيز والعزيز من كان معه فهو عزيز ، فلذلك لما يهون الإنسان عليه أمر الله ، يهون هو على الله .
 
﴿خذوه فاعتلوه (47) ﴾
( سورة الدخان)
 
الإنسان بقدر طاعته لله يغلو على الله عز وجل :
 
 شتان بين إنسان يدعى إلى حفل ليُكرم تجد أنهم يسألونه أن يرسلوا له من يأخذه ويُستقبل من أبعد مكان ، ويُشيع إلى باب السيارة ، ويُعظم ، ويُكرم ، ويُثنى عليه ، ويُطلب منه الدعاء ، وهذا تكريم ، ولما يكون الإنسان مجرماً يساق إلى السجن مع الركل والضرب والوخز وما شابه ذلك .
 
﴿خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم(47) ﴾
( سورة الدخان)
 أي أنا الذي أتمنى أن أنقله إليكم نحن الآن أحياء جميعاً والقلب ينبض ، باب التوبة وباب العمل الصالح وباب إصلاح الماضي كلها مفتوحة ، وهناك علاقات وذمم ، وأشياء ليست لك، أُخذت في وقت الجاهلية وهي في حوزتك وليست لك ، وتعرف صاحبها نحن الآن في بحبوحة : بحبوحة أننا أحياء ، بحبوحة أن باب التوبة مفتوح ، وأن الإصلاح ممكن ، أن أداء الحقوق ممكن لأصحابها ، حقوق العباد أيها الأخوة مبنية على المشاححة ، ولا تسقط إلا بالأداء أو بالمسامحة ، وربما كانت حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة لكن حقوق العباد مبنية على المشاححة.
فنحن أمام مشهدين : مشهد لأهل النار ومشهد لأهل الجنة ، أهل النار :
 
﴿طعام الأثيم(44) ﴾
( سورة الدخان)
 
باب التوبة مفتوح على مصراعيه في الدنيا :
 
اسأل أنت أين الآثام ؟ النظرة إلى المرأة الأجنبية إثم ، سماع ما لا يرضي الله إثم ، أن تنطق بالغيبة ، وبالنميمة ، وأن تأخذ ما ليس لك ، أن تزدري الآخرين ، أن تحتقرهم ، أن تستعلي عليهم ، أن تسيء المعاملة  ، وأن تظلم كلها آثام .
 
﴿إن شجرة الزقـوم (43) طعام الأثيم(44) ﴾
( سورة الدخان)
فاعمل إحصاء للآثام وابتعد عنها ، هذا التفكير العلمي ، نحن أحياء ، أما أن يقول أحدكم أنا شاب وعمري ثماني عشرة سنة ، كم حادثة شاب رحل للدار الآخرة في ريعان الشباب ، ربنا عز وجل لحكمة تربوية هائلة جعل انتقال الإنسان من الدنيا في كل الأعمار ، شاب يموت ، والذي عرسه بعد يومين يموت ، والذي نال الدكتوراه ولم يأت إلى بلده ، والذي بنى البناء ولم يسكنه ، والذي حصّل أموالاً طائلةً ولم يستفد منها ، كلهم يموتون وكل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت . والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر ، أي أردت من هذه المقدمة نحن أحياء في بحبوحة ، والقلب ينبض في بحبوحة ، باب التوبة مفتوح والإصلاح ممكن ، والإحسان ممكن ، وأداء الحقوق ممكن ، والمسامحة ، وكل شي ممكن في هذه الدنيا وبعد هذه الدنيا كل شيء مغلق .
 
سَوْق الكافر المتعالي إلى جهنم سوقاً  شديداً :
 
 
﴿خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم(47) ﴾
( سورة الدخان)
قال المفسرون ﴿اعتلوه﴾ أي سوقوه سوقاً شديداً ، كما تشاهدون ركلاً ، وخزاً ، وضرباً وسباباً .
 
﴿ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم(48) ﴾
( سورة الدخان)
وقد نسمع عن ثوران بركان فتجد الحمم سائلة ، هذه الحمم صخر بازلتي سائل ، حرارته تزيد عن 1500 درجة فإذا تجمد شكل صخوراً سوداء ، أساس بعض المحافظات براكين ، فمحافظة السويداء أساسها براكين ، وكلها حجار سُوداً :
 
﴿ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم(48) ﴾
( سورة الدخان)
 
الله عز وجل جمع لأهل النار كل أنواع العذاب :
 
الآن في عندنا عذاب مادي أحياناً تُحرق يد الإنسان ، أو يشعر بموجة ألم في كليتيه ، ويشعر بألم في رأسه هذا كله عذاب مادي ، لكن أحياناً يتلقى الإنسان كلمات قاسية لا ينساها سنوات عديدة ، لدينا عذاب مادي و عندنا عذاب أدبي ، فالله عز وجل جمع لأهل النار كل أنواع العذاب .
 
﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم(49) ﴾
( سورة الدخان)
فمن بعض معاني هذه الآية أنه كان في الدنيا عزيزاً وقد استكبر على الله أن يطيعه أو يسجد له ، وأبت نفسه أن يقف عند أمر الله ، لم يعبأ بأمره ، ولا بنهيه ، أي عزة الإثم مع أن الله سبحانه وتعالى هو العزيز ، ومع أن الله سبحانه وتعالى ما كان ليذل مؤمناً وكلكم يقرأ في دعاء القنوت  : سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت ، فالمؤمن عزيز لأنه مع العزيز والكافر ذليل لأنه عادى العزيز .
 
﴿خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم(47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم(48) ﴾
( سورة الدخان)
ذق ألوان العذاب إنك كنت في الدنيا :
 
﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم(49) ﴾
( سورة الدخان)
 
توعد الله عز وجل كل إنسان آثم بالعذاب الشديد :
 
أي كما قلت لكم في الدرس السابق ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة . سيدنا الصديق خرج عن كل ماله فلما قال له النبي عليه الصلاة والسلام : ماذا أبقيت لنفسك يا أبا بكر ؟ قال : الله ورسوله ، والذين استحوذوا على الأموال وعاندوا الواحد الديان وحاربوا النبي ماتوا شر ميتة ولعنهم التاريخ وهم في مزبلة التاريخ .
 أتمنى على الله عز وجل أن نفهم هذه الفكرة ، فهذه المقدمات تؤدي إلى هذه النتائج،   يجب أن نعلم أن هذه المقدمة هذه نتيجتها ، فربنا عز وجل في صفحة واحدة عرض مشهدين : الآثمون هذا مصيرهم .
﴿خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم(47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم(48) ﴾
( سورة الدخان)
 ثم يعذب عذاباً أدبياً نفسياً :
 
﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم(49) ﴾
( سورة الدخان)
 
من حملته عزته أن يكفر بالله سيُعذب عذاباً مادياً و معنوياً يوم القيامة :
 
إذا كان الإنسان في منصب رفيع ثم اقتيد للسجن فأقل كلمة من الجندي تهينه . إذا قال له يا سيادة هذه إهانة ، قد يقولها استخفافاً ، فالإنسان إذا كان مستكبراً وكان مترفعاً وكان له مكانة في الدنيا ، هذا حينما يساق إلى النار يذوق عذاباً آخر غير عذاب الحريق وغير العذاب المادي ، العذاب الأدبي والمعنوي يتكلم الإنسان أحياناً كلمة ، يبقى شهراً متألماً من نفسه ، كيف تكلم بها ، وأحياناً يسمع كلمة من شخص قاسية ، فيها إهانة ، فيها استخفاف ، وسخرية ، لا أبالغ قد يبقى سنة بأكملها وهو يتألم كلما ذكرها فالعذاب الأدبي لا يقل أحياناً تأثيراً عن العذاب المادي:
﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم(49) ﴾
( سورة الدخان)
كنت في الدنيا عزيزاً وحملتك عزتك أن تكفر بالله ، لقد كنت مستمتعاً بمباهج كثيرة توهمت أنك إذا آمنت بالله ذهبت عنك ، لكنك تمسكت بها وبقيت في الباطل .
 
من لم يكن كلامه مطابقاً للحقيقة فكلامه لا يقدم و لا يؤخر :
 
الآن :
 
﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم(49) إن هذا ما كنتم به تمترون(50) ﴾
( سورة الدخان)
أي الإنسان إذا كذب بشيء وكان هذا الشيء حقيقة واقعة ثم واجه الحقيقة يتألم أشد الألم ، أي عُرِض عليه أن هذا العمل مصيره إلى السجن ، في الدنيا لو خالف الأنظمة النافذة وكان العقاب شديداً جداً ، ُنصح ، نُبِّه ، ذُكِّر ، لم يرتدع فلما وقع في قبضة العدالة جزاء ما اقترفت يداه يتألم أشد الألم لأنه نُبه سابقاً لكنه لم يصدق قال :
 
﴿إن هذا ما كنتم به تمترون(50) ﴾
( سورة الدخان)
أي ما كنتم به تكذبون ، فلك أن تقول ما شئت ، وأن تصدق وأن تكذب ، ولكن إياك أن تُكذب شيئاً لابد من أن يقع ، هنا البطولة ، لك أن تقول عن هذا الإنسان ما شئت ، أنت مخير ، لك أن تقول أن هذه ليست شمساً في رابعة النهار ، إن قلت ذلك فهي شمس ، وكلامك لا يقدم ولا يؤخر ، وادّعاؤك وافتراؤك وتكذيبك لا يقدم ولا يؤخر، هذه أشياء دقيقة في المعنى ، إن هذا كأس ماء هو كأس ماء فلو قلت عنه شيئاً آخر، الكلام لا يغير من طبيعته إطلاقاً ، قل عن هذا الكأس إنه فنجان ، يبقى كأساً ، قل عن هذا الكأس إنه إبريق يبقى كأساً لا كلمة فنجان تجعله فنجانًا و لا كلمة إبريق تجعله إبريقًا ، كلامك إن لم يكن مطابقاً للحقيقة لا قيمة له ، إنه لا يقدم ولا يؤخر .
 
الإثم في الدنيا إذا كان متكرراً سيقود صاحبه إلى النار :
 
لذلك :
 
﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم(49) إن هذا ما كنتم به تمترون(50) ﴾
( سورة الدخان)
وملخص هذا المشهد أن الإثم في الدنيا إذا كان متكرراً أو كان كبيراً وأصر عليه صاحبه فهذا الإثم يقوده إلى النار ، وفي النار يصب على رأسه من الحميم ويعاقب عقابين عقاباً مادياً وعقاباًً معنوياً وهذا العقاب الواقع كان يكذب به ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : والله والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أنتم عليه بعد الموت ما أكلتم طعاماً عن شهوة ( تذهب الشهية ) ولا دخلتم بيتاً تستظلون فيه ، ولذهبتم إلى الصعدات تبكون على أنفسكم .
لذلك المؤمن ساعة الفراق وساعة لقاء الله وساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل لا تبرح ذهنه ولا دقيقة . لذلك في عطائه ومنعه ، في غضبه ورضاه ، ووصله وقطعه ، في كل مواقفه يفكر كيف يواجه الله عز وجل بهذا العمل .
 
المتقي وعده الله بمقام مسعد و طمأنينة عالية يوم القيامة :
 
الآن الطرف الآخر :
 
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ (45)
 ( سورة الدخان)
هذا الذي اتقى أن يعصي الله ، يقول لك هذه حرام ، أحياناً في الدنيا الكافر يضحك على المؤمن : ألا زلت خائفاً ، إنك لا ترى شيئاً في الدنيا ، كل شيء حرام وحرام .... ما هذه الحياة ؟ يسخر منه ، هذا المتقي الذي يقف عند حدود الله ، فيخاف أن يعصي الله ، وقاف عند كتاب الله ، يخشى أن يكون كسبه حراماً ، وأن يكون إنفاقه حراماً ، وأن يستمتع بما يغضب الله :
 
﴿إن المتقين في مقام أمين(51) ﴾
( سورة الدخان)
أي في مقام مسعد ، لكن مع السعادة طمأنينة ، وأحياناً يكون الإنسان في مقام عالٍ في الدنيا ولكن عنده قلق عميق أن ينحى عن هذا المنصب ، هذا القلق العميق يفسد عليه الاستمتاع بهذا المنصب ، لا يجد أمناً . وهناك إنسان وصل إلى دخل كبير عنده شيء يفسد عليه هذا الدخل هو خوفه أن ينقطع هذا الدخل . أنت من خوف الفقر في فقر ، ومن خوف المرض في مرض، وتوقّع المصيبة مصيبة أكبر منها .
 
﴿إن المتقين في مقام أمين(51) ﴾
( سورة الدخان)
وما هم منها بمخرجين .
 
الحياة الدنيا مشحونة بالمتاعب حتى تتضاعف السعادة في الآخرة :
 
لا يوجد بالجنة تقدم بالسن ، ولا أمراض ولا نوبات كلية ، أمراض قلب وضعف سمع ، ولا ضعف بصر ولا خرف ، ولكن شباب دائم ، كل شيء تشتهيه بين يديك ، والمنافسة لا يوجد ، إزاحة شخص لآخر عن منصبه لا يوجد ، وكل متاعب الدنيا يبرأ الإنسان منها في الآخرة .
في الحقيقة مما يضاعف نعيم أهل الجنة أن الحياة الدنيا متعبة فجاء إلى الدنيا فوجد فيها المتاعب والمخاوف والمقلقات والأمراض  والمنافسة أحياناً والناس لا يرحمون والناس لا يرضون ، ولا يوجد أحد ليس عنده قصص تملأ أشهر يحدثك عن متاعبه في الحياة ، هذه المتاعب لحكمة بالغة ، لو أن الله عز وجل لو أعطى الإنسان سؤله : ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وقفوا على صعيد واحد وسألني كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك في ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في مياه البحر ، ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام .
أي أن الله عز وجل قادر أن يعطي كل إنسان مطالبه ، شكل يعطيه أعلى شكل ، وكذلك أعلى دخل ، وأفضل زوجة وأعلى بيت وأعلى مركبة ، وعندئذ نكره لقاء الله عز وجل ، فالحياة الدنيا شاءت حكمة الله أن تكون مشحونة بالمتاعب ، حتى تتضاعف السعادة في الآخرة ، كل شيء كان في الدنيا يؤلمك يزول في الجنة ، يكون الإنسان ساكنًا في بيت صغير وفيه متاعب ، وشمسه قليلة ، فينتقل لبيت الشمس في كل الغرف ، وكان البيت صغيراً فأصبح كبيراً ، وكان له درج فصار فيه مصعد مثلاً ، كان فيه مدا فئ أصبح فيه تدفئة مركزية ، كان فيه حر فصار فيه تكييف ، وكل شيء في البيت القديم يضاعف سعادته في البيت الجديد ، كان هنالك أشياء مزعجة كثيرة جداً هنا فاستراح هنا منها ، لذلك من حكمة الدنيا المتعبة أنها تضاعف سعادة آل الجنة .
 
ورود الناس على النار يوم القيامة يضاعف سعادة المؤمن أضعافاً مضاعفةً :
 
 بل إن الناس جميعاً بما فيهم المؤمنون سيردون النار لقوله تعالى :
 
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا (71)
( سورة مريم)
ورود النار ليس دخولها ، لكن المؤمن يطّلع على النار ، يطلع على مكانه فيها فيما لو عصى الله في الدنيا ، ينظر إلى أهل الدنيا الذين لم يبالوا بطاعة الله ، أين مصيرهم ؟ فيطمئن قلبه لعدالة الله ويرى أين مصير الجبابرة ، ثم يرى مكانه في النار لو لم يكن مؤمناً ، هذا الورود على النار يوم القيامة يضاعف سعادة المؤمن أضعافاً مضاعفةً ، كذلك متاعب الدنيا من شأنها أن تزيد من سعادة المؤمن يوم القيامة .
 
﴿إن المتقين في مقام أمين(51) في جنات وعيون(52) ﴾
( سورة الدخان)
فالإنسان إذا كان لديه حديقة ، وأرض خضراء ، وأشجار باسقة ، وينبوع ماء ، وشلالات أحياناً يقول لك مثل الجنة ، أي أن الله عز وجل  جعل اللون الأخضر والنبات الأخضر والماء العذب الفرات وأصوات العصافير هذه كلها مسعدة للنفس .
 
﴿إن المتقين في مقام أمين(51) في جنات وعيون(52) ﴾
( سورة الدخان)
لابد وأن يكون دخَلَ الإنسان إلى بيت ومزرعةٍ جميلةٍ جداً منسقة الأزهار ، فيها أشجار‍‍‍‍،‍‍‍ومسطحات خُضر ، وشلالات ، هذه نماذج مصغرة جداً .
 
أعدّ الله لعباده الصالحين يوم القيامة :
 
1 ـ البساتين و الأنهار :
 (( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ... )) .
[ متفق عليه عن أبي هريرة]
إنه وصف دقيق .
 
﴿إن المتقين في مقام أمين(51) في جنات وعيون(52) ﴾
( سورة الدخان)
أي بساتين وأنهار .
2 ـ ما رقّ و ثخن من الحرير  :
 
﴿يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين(53) ﴾
 ( سورة الدخان)
فيه حرير رقيق وحرير ثخين ، ﴿السندس﴾ : ما رق من الحرير ، و﴿الإستبرق﴾ : ما ثخن من الحرير .
3 ـ سرر مريحة يتحدث كل للآخر حديثاً لا حقد فيه و لا ضغينة :
﴿متقابلين﴾  : جلسات مريحة ، لا يرى أحدهم إلا وجه الآخر ، فيه تقابل ، طبعاً وهم على هذه السرر متقابلون يتحدثون حديثاً عذباً ، يتحدث كل للآخر عن تجربته في الدنيا ، عن معرفته بالله ، وعن أسباب إيمانه واستقامته ، إنه حديث رائع فيه محبة ولا يوجد حسد ولا غيبة ولا ضغينة ولا تنافس .
 
﴿في جنات وعيون(52) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين(53) ﴾
( سورة الدخان)
4 ـ حور عين :
ومن تمام نعمتهم في الآخرة :
 
﴿كذلك وزوجناهم بحور عين(54) ﴾
( سورة الدخان)
﴿الحور﴾ : تحار العين في جمالها ، الجمال المطلق في الجنة ، في الدنيا الجمال متفاوت ولا يوجد امرأة كاملة ، إذا كملت من جهة نقصت من جهة ثانية ، حتى لو كمل جمالها نقص عقلها ، فهناك توازن ، والمجموع ثابت ولكن في الآخرة كما ل مطلق في كل شيء، ولحكمة بالغة فالنساء في الدنيا متفاوتات ولسن على ما ينبغي أن يكن كلهن ، في الآخرة :
 
﴿وزوجناهم بحور عين (54) ﴾
( سورة الدخان)
 كلام مختصر مفيد ، ﴿الحور﴾ تحار العين في حسنهن و﴿عين﴾ لهن عيون واسعة والعينان ذات العينين الواسعتين والحوراء شدة بياض العين وشدة سوادها ، هذا الوصف كان العرب مغرمين به﴿ وزوجناهم بحور عين﴾ . أي امرأة كما ينبغي أن تكون في أعلى مستوى ، لا يوجد في الجنة العيوب التي هي في الدنيا ، فالإنسان بعض الأحيان يعاني من الكلام المستمر ، من النغص في البيت ، قد تكون الزوجة جيدة لكن لها إلحاحاً على موضوعات معينة يضجر منها في النهاية . قال :
 
﴿وزوجناهم بحور عين . يدعون فيها بكل فاكهة آمنين(55) ﴾
( سورة الدخان)
5 ـ لهم فيها ما يشاؤون من فاكهة وهم آمنون :
بالإضافة إلى الزوجة الحوراء و العيناء لهم فيها ما يشاؤون من فاكهة وهم آمنون ، وأحيانا يخاف الإنسان من أن تُفقد هذه الفاكهة ، أو يخاف أن تنتهي ، أو يخاف ألا يشتريها ( طبعاً الفاكهة بالجنة لا مقطوعة و لا ممنوعة) ، أو ينتهي وقتها ، أو يُمنع استيرادها ( لا مقطوعة ولا ممنوعة )
 
كل شيء بعد الموت أصعب من الموت على الكافر و أهون على المؤمن :
 
﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى (56)﴾
( سورة الدخان)
أي لا يوجد إلا موتة واحدة ، حينما يلقى الإنسان ربه وبعد هذا الموت نعيم في نعيم ، أي آخر شيء يمكن أن يزعج المؤمن حين تنزع روحه وتصعد إلى الملأ الأعلى .
 
﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى (56) ﴾
( سورة الدخان)
لذلك الكافر كل شيء بعد الموت أصعب من الموت وأما المؤمن كل شيء بعد الموت أهون من الموت ، من الموت إلى الجنة ، القبر روضة من رياض الجنة ، لهذا قال سيدنا علي : يا بني ما خير بعده النار بخير (أي كل شيء مهما بدا لك عظيماً في الدنيا إذا انتهى إلى النار ليس بخير) ، وما شَرٌ بعده الجنة بِشر (حياة كلها شظف وخشونة ومتاعب وأمراض وهموم وأحزان إذا انتهت بك إلى الجنة فهذا ليس شراً ، بل خير محض ) ، وكل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية .
 
﴿إذاً كذلك وزوجناهم بحور عين(54) يَدعون فيها بكل فاكهة آمنين(55) ﴾
( سورة الدخان)
    
نظام الدنيا أساسه الكدح و نظام الآخرة أساسه الطلب :
 
نظام الآخرة نظام طلب فقط وأما نظام الدنيا فنظام كدح وسعي :
 
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
( سورة الإنشقاق )
نظام الدنيا أساسه الكدح ، فإذا أراد إنسان أن يأكل لقمة يحتاج إلى ساعات ليشتري الخضرة واللحم ويطبخ .... وإذا أراد أن يذهب إلى مكان جميل يحتاج أكثر من خمس ساعات أحياناً ...إذ لا يوجد شيء في الدنيا إلا وله ثمن ، بينما في الآخرة لهم ما يشاؤون ، اطلب تعط .
    
النعيم في الآخرة مضاعف :
 
﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم(56) ﴾
( سورة الدخان)
فالنعيم مرتان ، مرة لأنهم في نعيم ، ومرة لأنهم ووقوا عذاب الجحيم ، إذا كان الواحد كاد أن يغلط ، لم يغلط ، فكلما رأى مصير الذين فعلوا هذا الغلط يشكر الله عز وجل لأنه لم يتورط وتتضاعف سعادته .
 
﴿فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم(57) ﴾
( سورة الدخان)
    
الجنة هي الفوز العظيم للإنسان :
 
إخواننا الكرام :
 
﴿ذلك هو الفوز العظيم ﴾
( سورة الدخان)
هذا هو الفوز ، بعض الأحيان يكون الفوز بنظر الناس شيئاً آخرَ ، المال عندهم فوز ، وكذلك المنصب والنجاح كله فوز ، ولكن الفوز العظيم هو أن تدخل الجنة . ولهذا فأحد خلفاء بني أمية التقى بعالمٍ جليل ، فقال له سلني حاجتك ؟ فأجابه ليس لي عندك حاجة ، فلما ألح عليه قال والله أستحي أن أسأل في بيت الله غيرَ الله ، فلما التقاه خارج بيت الله ، قال له ثانيةً سلني حاجتك ؟ قال له والله ما سألتها من يملكها ، أفأسألها من لا يملكها ؟ فلما ألح عليه قال أريد أن أدخل الجنة ، فأجابه : هذه ليستْ لي ، فقال هذا العالم إذاً ليس لي عندك حاجة .
 
﴿فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم(57) ﴾
( سورة الدخان)
ولابد لكل أخ كريم من أن يتصور ما هو الفوز العظيم ، لأن كل إنسان أحياناً يتصور فوزاً ، هو في فوز جزئي ، يقول لو وصلت إلى هذا المستوى فقد فزت ، الدنيا كلها لو وصلت إلى قمة مجدها ، وقمة الغنى فيها ، وقمة السلطان فيها ، لا تُعد عند الله فائزاً ، الفوز العظيم أن تصل إلى الجنة . هكذا كلام رب العالمين :
 
﴿ذلك هو الفوز العظيم ﴾
( سورة الدخان)
 هذا الفوز  وليس دونه فوز، دون هذا الفوز ليس هناك فوز وليس فوقه فوز، هذا هو الفوز :
 
﴿ذلك هو الفوز العظيم ﴾
( سورة الدخان)
 
من توهم أن الفوز هو الاستمتاع بالدنيا فهو جاهل و واهم :
 
كل إنسان متوهم فوزاً غير هذا الفوز فهو جاهل وواهم ، والمال ليس فوزاً  وحيازته ليستْ فوزاً ، أن يتمتع الإنسان بصحة جيدة ويعيش 98 سنة فليس فوزاً عند الله ، هنالك طغاة عاشوا 130 سنة ، أن تكون في أعلى مرتبة اجتماعية ليس فوزاً ، أن تستمتع في كل شيء في الدنيا ليس فوزاً ، دقق بالآية :
 
﴿فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم(57) ﴾
( سورة الدخان)
ليس فوقه فوز وليس دونه فوز .
    
الزمن في صالح المؤمن و ليس في صالح الكافر :
 
﴿فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58) ﴾
 ( سورة الدخان)
هذا قرآنُ تَذكِرة .
 
﴿فارتقب إنهم مرتقبون(59) ﴾
( سورة الدخان)
 انتظر لابد من تحقيق الوعد والوعيد ، الزمن ليس في صالح الكافر ، هو في صالح المؤمن ، لأن مضي الزمن سيوف يؤكد للمؤمن صحة رؤيته ، وصلاح عمله ، وفوزه الحقيقي ، وأما غير المؤمن الزمن يفاجئه بأن أفكاره غير صحيحة ورؤيته كانت مشوشة ، ضبابية ، قيمه ساقطة ، مبادئه هدامة ، فالزمن لصالح المؤمن ، وليس في صالح الكافر والدليل :
 
﴿فارتقب إنهم مرتقبون(59) ﴾
( سورة الدخان)
 الأيام لا تلد للمؤمن إلا الخير :
 
﴿قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا (51) ﴾
( سورة التوبة)
وأما الأيام لا تلد للكافر إلا الشر ، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ، أو غنىً مطغياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً ، أو موتاً مُجهِزاً ، أو الدجال ، فشر غائب ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى و أمر .
    
مشهد أهل النار رادع للإنسان ومشهد أهل الجنة دافع له :
 
هذا المقطع إخواننا الكرام نحن أحياء والقلب ينبض ، وباب التوبة مفتوح ، وباب الإحسان والإصلاح والمسامحة والأداء كلها  مفتوحة ، وكل عمل له نتيجة ، فهذه المقدمة تؤدي إلى هذه النتيجة ، الأثيم هذا مصيره والمتقي هذا مصيره ، ومعنى متقٍ أي اتقى أن يعصي الله ، وبكل بساطة هناك مشهدان : مشهد لأهل النار والسبب هو الإثم ، ومشهد لأهل الجنة والسبب هو التقوى ، فهذا وقع في الإثم وهذا اتقى أن يقع في الإثم ، هذه المقدمة أدت لهذه النتيجة وختام السور دائماً ملخص لها ، ومن نعمة الله علينا أي أحياناً المدرس من شدة رحمته بالطلاب ، يعطيهم نماذج أسئلة لئلا يتفاجؤوا ، يقول لك مثلاً بالفحص يوجد مسألة ومعادلة و سؤال نظري والمسألة خمسة طلبات ، وكأن الله عز وجل يسرب لنا ما سيكون قبل أن يكون .
فهذان المشهدان في القرآن مشهد لأهل الجنة ومشهد لأهل النار ، ونحن في الدنيا قبل أن نصل إليها ، ولكن من يقول لك هذا حق ورب الكعبة ؟ ولكن إن وصلت إلى دار الحق تصبح الرؤيا حقيقية وثابتة ولكنك  لا تستفيد من هذه الرؤيا بعد أن رأيتها ، إلا أنك في الدنيا لو رأيت هذا ، أو صدقت بهذا ،  وتبنيت هذا فينعكس هذا إلى عمل صالح واستقامة ، فالذي أتمنى من الله عز وجل أن ينقلب هذان المشهدان الأول والثاني إلى دافع وإلى رادع ، مشهد أهل النار رادع ، ومشهد أهل الجنة دافع ، فإذا كان  المشهد الأول ردعاً والثاني دفعاً فقد تحقق المراد من هذين المشهدين في أواخر سورة الدخان .
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب