|
|
سورة الشورى (042)
الدرس (6)
تفسير الآية: (19- 19)
الله لطيف بعباده
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السادس من سورة الشورى .
الله لطيف بعباده :
:مع الآية التاسعة عشرة وهي قوله تعالى
﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ(19) ﴾
(سورة الشورى)
كي نوضِّح معنى اللطف الإلهي ، لو أن قائد مركبةٍ أوقفها فجأةً ، لآذى كل من في المركبة ، أو لو أنه أقلع بها فجأةً لآذاهم أيضاً ، لكن قائد المركبة اللطيف هو الذي يُوقفها ببطءٍ تدريجي ، دون أن يشعر الراكب أنها وقفت ، ثم يقلع بها تدريجياً دون أن يشعر الراكب أنها أقلعت ، هذا هو المعنى المادي لكلمة لطيف .
الأرض أيها الأخوة تدور حول الشمس في مسارٍ إهليلجي ـ بيضوي ، والمسار البيضوي له بعدانٌ عن مركزه ، بعدٌ أعظمي ، وبعد أصغري ، ونظراً لأن الشمس تجذب الأرض ، فللأرض سرعةٌ وهي في بعدها الأعظمي ، وسرعةٌ وهي في بعدها الأصغري ، حينما تصل إلى المنطقة الصُغرى (إلى المسافة القريبة من الشمس) تزيد من سرعتها زيادةً ينشأ عنها قوةٌ نابذةٌ تكافئ القوَّة الجاذبة ، إذاً لابدَّ من أن تزيد السرعة هنا ، ولابدَّ من أن تقلَّ هناك .
لكن من عظمة الخالق أن هذه الزيادة تكون بتدريجٍ شديد ، وهذا النقصان يكون بتدريجٍ شديد ، وفد عبَّر الرياضيون عن هذه الحادثة بالتسارع والتباطؤ ، فتسارع الأرض لو كان عالياً لانهدم كل ما عليها ، وتباطؤ الأرض لو كان عنيفاً لانهدم كل ما عليها ، لكن الله لطيفٌ بعباده (هذا المعنى التقريبي للطف) ، أي أن الله عزَّ وجل يقود عباده إلى مصالحهم الدنيويَّة والدينيَّة برفق .
الله عزَّ وجل يقود عباده برفق إلى مصالحهم الدنيويَّة والدينيَّة :
لو جاء القرآن في أول آية منه يحرِّم الخمرَ ، والخمرة في دم العرب في الجاهليَّة ، لرفضوا هذا الدين كلَّه ، فالموضوع مُجَمَّد عرَّفهم بذاته من خلال الكون ، ودعاهم إلى الاتصال به ، وبيَّن لهم أنه لا يليق بكم أن تُصلُّوا وأنتم في سُكرٍ شديد ، ثم مرحلة بعد مرحلة بعد مرحلة :
﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾
( سورة المائدة : من آية " 90" (
إذاً فالله كان لطيفًا في تحريم الخمر ، فالتعريف الدقيق للطف الإلهي: أن الله سبحانه وتعالى يقود عباده إلى مصالحهم الدنيويَّة والأخرويَّة برفقٍ ، ولطفٍ ، وتدريجٍ ، ويسرٍ من دون أن يشعروا بعنف الصدمة .
وهذا هو المنطلق ، أي أن الله لطيف ، فقد يكون الإنسان مليئاً بالنقائص والانحرافات ، فيعالجه مرَّةً تلو المرَّة ، يعالجه ويريحه فينتعش ، ثمَّ يظهر له نقيصة ثانية ويأتي التأديب عليها ، فيتذلَّل ويتوب ويعود إلى الله ، فيريحه لفترة ، الثالثة ، وتمضي عشر سنوات ، إلى عشرين سنة كان كتلة نقائص فصار مجموع كمالات دون أن يشعر . فالتطهير السريع العنيف مُهلك ، وقد وصف أحمد شوقي النبيَّ عليه الصلاة والسلام فقال :
داويت متئداً وداووا طَفرةً وأخفُّ من بعض الدواءِ الداء
* * *
معالجات الله للإنسان لطيفة كي تقوده إلى ما يجب أن يكون عليه :
:أحياناً يكون الدواء أصعب من الداء ، وأكثر إيذاء للنفس من الداء نفسه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام
))عليك بالرفق ، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه ))
[ الجامع الصغير : عن " عائشة " ]
(( إن الله رفيقٌ يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف )) .
[ أخرجه مسلم عن "عائشة "]
: والنبي قال
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف)) .
[الجامع الصغير : عن " أبي هريرة" ]
واللهِ موضوع اللطف يمكن للإنسان أن يمضي فيه وقتًا طويلاً جداً ، لأن كل ما في الكون يشهد باسم اللطيف .
فالهواء لطيف ، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى الهواء ، فهل تصدِّق أن فوقك أطنانًا من الضغط الجوي وأنت لا تشعر ؟ ولو أن هذه الأطنان قلَّت لخرج الدم من أوعيتك ، ومن أنفك ، ومن فمك وأنت لا تشعر ، وهذا الهواء بلا رائحة ، لكنَّه إذا تحرَّك بعنف دمَّر كل شيء ، يحمل طائرة تزن ثلاثمئة وخمسين طنًا وهو هواء .
.والماء لطيف سريع النفوذ ، ينفذ في أدقِّ المسامات ، ويتبخَّر في أقل الدرجات ، ويتلوَّن بأي لون ، مذيب يذاب فيهمعظم الأشياء ، فالماء يؤكِّد لطف الله عزَّ وجل والهواء كذلك
وعندما تنزع أسنان الطفل اللبنيَّة بلطفٍ لا يستطيع أكبر طبيب أسنان أن يفعل ذلك ، فعلى قدر مهارة الطبيب لكن لابدَّ من إبرة بنج ، توضع هذه الحقنة في اللثة فتسبب ألماً شديداً ، لكن الطفل الصغير وهو لا يدري إذا بسنِّه بين الطعام ، فكيف تحرَّك السن من جذوره ؟ وكيف انقطع العصب ؟ وسحْبُ العصب لا يحتمل أحياناً ، وعند قلع السن إذا كان التخدير غير ناجح يصيح المريض صيحةً ما صاح مثلها في حياته ، لكن ربنا لطيف .
فالتعريف الجامع المانع للطيف أنه يوجد هدف وأنت هنا ، ويمكن أن تنقل له نقلة عنيفة تُهَشِّم الإنسان حين تصدمه ، وأن تنتقل نقلة لطيف ، و كل واحد منَّا يتصوَّر كيف تطوَّرت حياته ، شيء من التذكير والتخويف والتبشير والإنذار ، ووعد ، ووعيد ، وإكرام ، وحجاب أحياناً ، وأحياناً تجلٍّ ، وأحياناً جفوة أو تخويف ، أو مرض ، أو شدَّة خارجيَّة ، وهذه معالجات لطيفة كي تقود الإنسان إلى ما يجب أن يكون عليه .
إن الله رفيقٌ يحب الرفق :
لو نظر الإنسان إلى ماضيه كيف أن الله سبحانه وتعالى تلطَّف به فنقله من حالٍ إلى حال ، ومن درجة إلى درجة ، ومن منزلة إلى منزلة ، ومن مستوى استقامة إلى مستوى أرقى ، ومن مستوى في إقباله إلى مستوى أرقى ، هذا هو لطف الله عزَّ وجل ..
وجدناك مضطراً فقلنا لك ادعنا ..نجبك ، فهل أنت حقَّاً دعوتنا ؟
دعوناك للخيرات أعرضت نائياً فهل تلقَ لمن يحسن لمثلك مثلنا؟
* * *
أي أن الله عزَّ وجل لطيف ، ترتكب خمسين معصية ويرزقك ، وأنت صحيح البدن ، معافى ومرزوق ، يعالجك واحدة واحدة ، ولو حاسبك حساباً سريعاً ، وفي استقصاء لهلكك ، فربنا لطيف بعباده ؛ لطيف في تربية أجسامهم ، فهذا الجسم ينمو شيئاً فشيئاً ، إلى أن يشتدَّ عوده في العشرين ، ويكتمل في الأربعين ، ثم يميل هذا الميزان إلى الانخفاض ، ثم يردُّ إلى أرذل العمر ، فكل شيء بالتدريج .
.ومجيء الضوء تدريجاً ، فلو أنّ إنسانًا مستغرقًا في النوم في غرفة مظلمة، وتألَّق المصباح فجأةً لتضايق ، لكن ربنا عزَّ وجل يبدأ الضوء بخيط أبيض في الأفق (وهذا هو الفجر) ، وهذا الخيط يتسعويتسع إلى أن تشعر أن الجهة الشرقيَّة أكثر إضاءة من الغربيَّة ، ثم يبزغ قرص الشمس
.فحينما يكون قرص الشمس على مستوى النظر مقبولاً ، تشاهده بملء عينيك دون أن تنزعج ، لأن هذا الشعاع يتخطَّى الطبقة الهوائيَّة لا عمقاً بل أفقاً ، فالطبقة الهوائيَّة حينمايتخطَّاها الشعاع أفقاً يخفِّف الهواء منها ، فمنظر الشمس في الشروق رائع جداً ، وفي الغروب رائع أيضاً ، لكن قل : ما أبدع الظهيرة ! وانظر إلى الشمس بعينيك فلا تتحمَّل شدة الضوء ، بل تنبهر ، وفي حالات يضعف البصر من الانبهار ، وأحياناً الانبهار يسبِّب خللاً فيالشبكيَّة وتخريباً فيها ، ولكن حينما تكون الشمس على مستوى النظر تكون لطيفة ، ومنظرها مقبول ، وفي الغياب مقبولة ، أما وهي في كبد السماء فلا تحتمل ، فالله لطيف
الله عز وجل في كل شيء له آية تدل على أنه لطيف :
.أقول : لو فكَّرت في كل شيء ، بدءاً من خلق الإنسان إلى نموِّه في رحم أمِّه ، إلى ولادته،فالله لطيف ، فهذا الجنين في بطن أمِّه عندما يخرج ، فهو هرمون لا يُرى بالعين ، يفرز من غدَّة صمَّاء في الجسم يعطي أمراً لحوض المرأة فيتحرَّك ، وحوض المرأة قبل الولادة يتحرَّك ويتمفصَل ، فيصير المكان مناسباً لخروج الطفل ، فيأتي الطَلق بتقلُّصات لطيفة ، أولالأمر وكل نصف ساعة تقلُّص واحد ، وبعد هذا كل خمسة وعشرين دقيقة ، وبعدها كل عشرين ، ثم كل خمس عشرة ، ثم كل عشرة ، وكل خمس ، فانظر إلى هذا التزامن ، وهذه البرمجة ، فالتقلُّص لطيف إلى أن يخرج الطفل من رحم أمِّه
والآن يأتي دور العنف ، ينقبض هذا الرحم انقباضاً عنيفًا من أجل أن يغلق كل الشرايين المفتوحة ، فعندما صارت الولادة تقطَّعت الشرايين ، فهناك احتمال أن تموت الأم بالنزيف ، فلمّا انقبض الرحم انقباضاً عنيفاً أغلق كل الشرايين ، ولو عكس الله الآية لماتت الأم مع طفلها ، ولو جاء الانقباض عنيفًا والطفل في الرحم لمات الطفل ، ولو جاء الانقباض الليِّن اللطيف المتزامن بعد الولادة لماتت المرأة الوالدة ، فالله لطيف .
وأنا أضرب أمثلة جاءتني عفو الخاطر ، لكن لو دقَّقت في النبات فالشجرة معمل قائم بذاته ، بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، من دون دخَان ، ولا صوت،فلو أحضرت محرِّك ماء صغير من أجل أن تستخرج الماء لعكّر على المتنزِّه نزهته فلا يستمتع بالنزهة ، وصوت المحرك لا يحتمل ، من أجل أن تضيء خمسمئة شمعة في محل تجاري ، لكن الشجرة معمل من دون صوت ، ومن دون دخَان ، ولا تلويث جو ، بل بالعكس تعطيك أوكسجينًا ، فالشجرة تأخذ فضلات الإنسان ، وغاز الفحم وتعطي أوكسجينًا منعشًا ، فالإنسان الذي عنده ضيق نفس أو معه حساسية ربويَّة ينصح أن يمشي بين أشجار الصنوبر ، وهذه أعلى أشجار تعطي الأوكسجين ، وكأنها كمامة أوكسجين فتنتعش بها ، فالله لطيفٌ بعباده .
لا أعرف من أين أبدأوكيف أتابع الموضوع ، وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه لطيف.
كل إنسان بإمكانه أن يستشف اسم اللطيف من جسمه :
الولادة ، وأجهزتك ، فانظر إلى الكلية ، فالكلية الصناعيَّة كان حجمها بحجم هذه الطاولة والآن على أصغر ، لكن ثماني ساعات وأنت مستلقٍ على السرير ، وينفتح الشريان ، وتوضع البرابيش ، ثماني ساعات والتصفية بالمئة ثمانون ، وبالمئة عشرون يتبقَّى الأسيد أوريك بالدم وهذه مزعجة جداً ، أما الكلية الطبيعية فصغيرة وليس لها صوت ، وفي الكليتين طاقة للتصفية تزيد عشرين ضعفًا عن حاجة الإنسان ، أي كل كلية فيها عشرة أضعاف حاجة الإنسان للتصفية ، فالله لطيف .
. الكبد له بدءاً من خمس وظائف كبرى إلى خمسمئة وظيفة ، ويوجد قول خمسة آلاف وظيفة ، وكل خليَّة من هذه الخلايا تقوم بكل الوظائف ، فالله عزَّ وجل لطيف ، و لو حدث استئصال لنصف الكبد فيحيا الإنسان حياةً سويَّةً
.فالعلم حرف والتكرار ألف،فمن الممكن أن تستشفَّ اسم اللطيف في جسمك ، فيجب أن تقلِّم أظافرك ، إذاً الله عزَّ وجل لطيف لم يضع لك أعصاب حس فيها ، ولو كان في الأظافر أعصاب حس لاحتجت إلى عملية جراحيَّة في المستشفى ، وتقول : عندي عملية قص أظافر ، طبعاً تحتاج إلى تخدير
ويجب أن تحلق شعرك ، والشعر ليس فيه عصب ، كذلك فالله لطيف ، وهناك أعصاب محرِّكة للشعرة ولكن لا توجد أعصاب حسيَّة ، ولا تشعر عندما يقص الحلاق شعرك ، بل من دون ألم أبداً .
من رفق الله بالإنسان نمو الفواكه بالتدريج :
جسمك ، وطعامك ، ونمو الفواكه والثمار في لطف ، إذ إنَّ نمو الفواكه يكون بالتدريج ، فالبندورة مثلاً ، والخيار ، والبطيخ ، والمشمش لو نضج في يوم واحد لتلف كله ، ماذا نفعل به ؟ يمكن أنْ تحصِّل من حقل بطيخ تسعين يوماً تجني بطيخًا ، قال لي شخص تعهَّد حقل بطيخ : في تسعين يوماً قطفت تسعين شاحنة من هذا الحقل ، إنه نمو تدريجي ، ومع أن النمو التدريجي خلاف المنطق ، فأنت لو ألقيت بطاطا مثلاً في وعاء فيه زيت يغلي ، فبحسب المنطق مادامت الظروف واحدة فسيكون النضج واحداً ، لكن هذا البطيخ كلَّه نما في ظروف واحدة من الماء ، والأمطار، والرياح ، والبرد ، والظروف متشابهة لكل البذور ، لمَ لا تنضج هذه المادَّة في يوم واحد ؟ الله لطيف .
. كيفما تحرَّكت ، فأجهزتك فيها لطف ، فهناك منسوجات لطيفة تتناسب مع الجسم ، فانظر أنت إلى ليفة الحمَّام الطبيعيَّة لها وجه ناعم ووجه خشن ، فاللطيف على الوجه الناعم ، والخشن على الخشن ، فالله لطيف
ولو دقَّقت في كل شيء ، الفواكه لو كانت قاسية جداً لاحتاجت إلى منشار ، لكن بعضة الأسنان تأكل قسماً منها ، انظر إلى الموزة تقشيرها سهل ، فالفواكه تجد تقشيرها سهلاً . والبيضة تكسرها بطرف الصحن ، فلو كانت علبة سردين لاحتاجت إلى مفتاح ، فإذا لم تجد مفتاحاً فإنك تظل عشرين ساعة وأنت تخبطها على الأرض ، واحد أعطوه علبة سردين وهو جائع وبدون مفتاح ، كانت حريَّته مقيَّدة ، قال لي : من الساعة الثامنة صباحًا إلى الساعة الثانية ظهراً حتى فُتِحَت معي وأنا أحكها على الأرض ، أما البيضة فلا تحتاج إلى هذا ، فالله عزَّ وجل لطيف ، ضربة على طرف الصحن تصبح قطعتين ، وتضع مئتي واحدة فوق بعض فإنها تتحمل ، فالشكل البيضوي هذا أمتن شكل هندسي ، إذا بقي الضغط يتحمَّل ، سلَّة كلها بيض ، ولكن أمسك البيضة لوحدها وبضربة خفيفة على طرف الصحن تنكسر، فالله عزَّ وجل لطيف .
كل شيءٍ خلقه الله يبدو فيه اسم اللطيف :
عنقود العنب إذا أردت قطعه سحباً للأسفل يصبح عصيراًفي يدك ، أما إلى الأعلى فيصير بيدك ، خرج من المفصل ، ولو سحبته سحبًا لانعصر ولا ينزل معك ، وهذا لكي يقاوم الرياح ، فإذا كان هذا العود غير متين فأول عاصفة ترمي العنب كله على الأرض ، فخسرت ، فكرم العنب يتحمل إذا كان هناك عواصف ، وأمطار ، والعنب عنب ، وأحياناً تريد قطع عنقود ، تقطعه بالعكس نحو الأعلى فيصير العنقود بيدك ، أما إذا سحبته إلى الأسفل ينعصر ولا ينقطع معك ، فهناك لطف إلهي . فأنت لاحظ كل شيء في الكون ، هذا اسم واسع ، وكل شيءٍ خلقه الله يبدو فيه اسم اللطيف ، فربنا قال :
﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (19) ﴾
(سورة الشورى)
وحتى بالمعالجة ، يعالج الإنسان والدواء جاهز ، تأتيه حركة قلب ، فلو كانت تأتيه دوماً لانتحر ، تأتي مسًّاً ، أو تأتي بموجات خفيفة ، فلو كانت الآلام تستمر لم يتحمَّلها الإنسان ، لكن الآلام العنيفة جداً تأتي موجات ، وهذا اسمه أجهزة إنذار مبكِّر ..
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾
(سورة السجدة (
اسم اللطيف موجود في كل شيء :
الإنسان كلَّما صار شفَّافًا أكثر يرى المطر لطيفًا ، فلو كان المطر ينزل كأفواه القُرَب لآذى الناس ، وحطِّم الزرع ، فالمطر لطيف ، وحب العزيز وزنه مناسب ، ولو كبر لانكسرت رؤوس الناس كلها ، فلو أنَّ الناس كانوا يمشون في الطريق وفجأةً نزل حب العزيز ، وكل واحدة بحجم البطيخة ما ظلَّ رأس سليماً ، فالله لطيف ، الحجم مناسب ، وقطرة الماء مناسبة ، وطبعاً هناك حالات يكون الحب كبيراً فيسبب أذى كبيراً .
والبقرة ذلَّلها الله لك،فالله عزَّ وجل لطيف ، فإن البقرة لا تخيفك ، فهي حيوان وديع تأخذ منه الحليب ، والحليب تصنع منه سمنًا وجبنًا ولبنًا .. إلخ ، لكن إذا غافل واحد عن هذا التذليل العظيم ، وحصل مرض اسمه التوحُّش عندها تصير البقرة متوحِّشة ، وقد قرأت منذ أيام في الجريدة أنه استوردت وجبة بقر لكن معها مرض التوحُّش فأوقفوا استيرادها ، وهذا مرض خطير.
وأخ من إخواننا بريف دمشق قال لي : بقرة قتلت أول إنسان والثاني وأصابت الثالث ، فاضطرَّ صاحبها أن يقتلها بالمسدَّس ، وثمنها سبعون ألفًا ، فالله لطيف ، فلو كان كل البقر متوحِّشًا لما كان بالإمكان استعماله إطلاقاً .
والغنم ، يقول لك : فلان مثل الغنمة . فلو كانت الغنمة كالضبع لما وجدت لحم ضأن أبداً ، فأنت تهرب منها لو رأيتها ، فالله لطيف بعباده ؛ فهو بالغنم لطيف ، وبالبقر لطيف ، وبالمطر ، وبحب العزيز ، وبالنسمات المنعشة العليلة ، تجد كل مكيِّف ثمنه ثلاثون ألفًا ويحتاج إلى كهرباء ، وتخرج نسمات لطيفة تنعش كل الناس من دون مكيفات ، أحياناً تأتي موجة برد شديدة وبعدها يدفأ الجوُّ ، فلا تحتاج إلى مازوت ، ولا تدفئة مركزيَّة، والشوفاج تعطَّل ، والكهرباء لا توجد ، إذ تخلَّصنا منه كله ، فالجو دافئ ، والله لطيف .
الله عز وجل إذا أراد معالجة إنسان فيعالجه بلطف ويسخِّر له أناساً ليعينوه :
الذي عنده إحساس يتذوَّق نعمة الجو اللطيف ، والمطر اللطيف ، والغذاء اللطيف ، والهواء اللطيف ، وقلع سن الطفل اللطيف ، والبقرة المذلَّلة ، والجمل المذلَّل ، فهذا الاسم في كل شيء موجود ، فكيفما تحرَّكت ترى اسم الله اللطيف ، وهذا الاسم يجعلك تحب الله عزَّ وجل .
وحتى عندما يعالج الله الإنسان يعالج نفسه بلطف ، والعوام يعبِّرون عنها بكلمة : يبلي ويعين . يعمل له مشكلة ويسخِّر له أناساً ليعينوه ، و يصيبه بمرض ويسخِّر له طبيب رحيم يطمئنه ، فالدواء مسكِّن ، والعملية الجراحيَّة ناجحة ، يُسَر الإنسان ، مرض وآلام لكن العمليَّة ناجحة . فالتقدُّم الطبِّي أعدّه من لطف الله عزَّ وجل بعباده ، داواهم بمرض وبعد هذا يسَّر لهم المعالجة والشفاء ..
﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (19) ﴾
(سورة الشورى)
من ضبط جوارحه و إنفاقه و بيته ذاق طعم القرب من الله عز وجل :
الإنسان إذا لم يحبَّ الله عزَّ وجل فما هذا الإيمان ؟ الإيمان أساساً كله حب ، لا إيمان لمن لا محبَّة له ، والمحبَّة كيف تكون ؟ إنك لن ترى الله عزَّ وجل حتَّى تحبَّه ، والإنسان بفطرته يحب الجمال ، ويحب الكمال ، ويحب النوال والعطاء ، فلو أنَّ رجلاً دميم الخلقة أعطاك مئة ألف لظلّ قلبك معلَّقًا به ، لكن منظره ليس على ما يرام ، فإذا أعطاك مئة ألف تجد أنك تحترمه احتراماً غير معقول إطلاقاً ، وقد يكون قميء المنظر ، ومعنى هذا أن الإنسان يحب النوال ، والجمال ، والكمال ، والله عز وجل أفعاله كمال كلها.
والجمال من ذاق عرف ، فمن يتصل به اتصالاً حقيقياً ، وهنا يحتاج إلى صلح مع الله ، إذا اصطلحت معه تماماً ، ضبطت جوارحك تماماً ، وضبطت دخلك ، وضبطت إنفاقك ، وعملك ، وبيتك ، وعباداتك ؛ الصلاة والصوم ، فأنت معاهده عهداً كاملاً على الطاعة التامَّة ، فلو فعلت ذلك لأذاقك طعم القرب ، و ساعتئذٍ تعرف ما هو الكمال " واللهِ لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف " . تعرف معنى الاتصال بالله كم هو مسعد ، هذا الجمال .
. والكامل كل أفعاله كاملة ، وهذا الكون بين يديك
ثم النوال فقد منحك الحياة ، ومنحك الوجود ، والإمداد ، هو رب العالمين ، ومنحك فوق ذلك الإرشاد .
الله لطيف بعباده منحهم نعمة الحياة و الوجود و الإمداد :
الإنسان عندما ينظر إلى ماضيه كيف نقله الله ، وعرَّفه على أهل الحق ، وجمعه بفلان ، فكيف اهتدى ، وكيف سمع هذا الدرس فتأثَّر ، ثم ارتقى ، فتزوَّج ، وكيف اشتغل ، وتعيَّن في وظيفة ، فجمع هذا المال ، وربَّى أولاده ، وزوَّج بناته ، تجد أنها كلها أعمال لطيفة من الله عزَّ وجل .
انظر إلى الطفل الصغير لو كانبعقلية الكبير وبشخصية الكبير لا يُطاق ، فالطفل يبكي ويضحك بآن واحد ، ولو عاقبته لمصلحته ثمَّ طلبته إليك يأتيك فوراً ، لأنه لا يحمل الحقد ، ولو كان يحقد عليك لم يأتِ ، ويقول : أنت ضربتني ، لا يُربَّى طفلٌ مع أبٍ إطلاقاً ، فالطفل عنده ذاتية ، صفاء ، ولو عاقبته لنسي العقوبة في ثانية ، وصار يتحبَّب لك ، وهذا يعين على تربيته ، ولو كان يحقد عليك فلن يُرَبَّى معك ، فالله لطيف ..
﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (19) ﴾
(سورة الشورى)
.هذه بعض المعاني التي يمكن أن تكون محوراً للدرس
للطف تعاريف كثيرة منها :
لكن أعجبني في القرطبي تعاريف كثيرة للطف ، أنقلها لكم ، قال ابن عبَّاس : الله لطيفٌ بعباده أي حفيٌّ بهم .
وقال عكرمة : بارٌ بهم .
. وقال السُدِّي : رفيقٌ بهم
. وقال مقاتل : لطيف بالبَرِّ والفاجر . حتى مع الكافر لطيف ، الكافر يظل عبدًا له ، هو خلقه ، فأنت منزعج من كفره وهو خلقه ، تجد أن الله يعطف عليه ، أحياناً ينبِّهه،ويحذِّره ، ويذكِّره ، ويرسل إليه من يذكِّره ، ويبتليه مشكلة ، فمع الكافر لطيف ، لأن الكافر عبد له . قال : لطيفٌ بالبر والكافر
الله عز وجل لطيف حتى بالكافر :
كيف يكون لطفه بالكافر ؟ قال : حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم . تجد عندهم مخدِّرات ، وزنى ، ولِواطًا ، وشذوذًا ، وتبادل زوجات ، وهم يأكلون ويشربون ، ويزرعون ، ويتحكَّمون ، فالله لطيف بالكافر رغم معاصيه القبيحة والحقيرة . فأنت أحياناً ولو كنت كاملاً إذا أسيء إليك فإنك توقف المساعدات عن المسيء على الفور ، ولا تتحمَّل ، فليس لديك استعداد لتعطيه مساعدة أثناء الإساءة .
وسيدنا الصديق أعلى مؤمن لم يتحمَّل هذا الذي تكلَّم على ابنته فمنع عنه المساعدات ، فعاتبه الله ، واللهُ عزَّ وجل يرى معاصيهم ، ويرى مخازيهم ، وانحطاطهم ، ودناءاتهم ، وتجاوزاتهم ، وكفرهم ، وإلحادهم ، وهم يزرعون ، ويأكلون ، والقلب صحيح ، والدسَّامات تعمل ، قال له :
(( ابن آدم لي عليك فريضة ولك علَيَّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلِّطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البريَّة ، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذموماً )) .
(( أنت تريد وأنا أريد فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد ))
[ورد في الأثر]
. إذاً مقاتل قال : لطيفٌ بالبرِّ والفاجر ، حيث لم يقتلهم بمعاصيهم
. وقال بعضهم : لطيفٌ بهم في العرض والمحاسبة،يحاسب الله عزَّ وجل عن واحدة ويعفو عن تسعة
الله عز وجل يلطف في الرزق من وجهين :
1 ـ جعل الرزق من الطيبات :
قال جعفر : يلطف بهم في الرزق من وجهين ، أحدهما أنه جعل رزقك من الطيِّبات . فالآن في رزق سيروم ، تتسطَّح وتوضع في اليد إبرة تضخ السيروم ليمدك بالغذاء ، لكنه لا ذاق طعمة طيِّبة ، ولا حلوة ، ولا مُرَّة ، ما هذا الأكل ؟ وما هذه الفتَّة ؟ سيروم ، الله جعلك تأكل فولاً ، وحمصًا ، وفتَّة ، وشوربة ، وبطيخًا ، وحلويات ، وفواكه ، فأول لطف أن الرزق له طعم طيِّب ، وقِوام معقول ، وشكل مقبول ، ومنظر الفاكهة جميل في حد ذاته ، وأحياناً يضعون مناظر للفاكهة تعلق في غرف الطعام ، والفاكهة وحدها منظرها جميل .
2 ـ جعل الرزق دفعة وراء دفعة :
والثاني أنه لم يدفعه إليك مرَّةً واحدة فتبذره ، كذلك لطفه في أن جعل الرزق دفعة وراء دفعة ، فالماء لو كانت تنزل الأمطار في يومين من السنة كلها وخُزِّن ، لاحتجتَ إلى بيت بحجم بيتك بالضبط ، فكل إنسان يحتاج إلى بيت بحجم بيته ماء يكفيه سنة ، أما الخزان عنده فيعطي كل ثانية ستة عشر متراً مكعَّباً من عين الفيجة تسقي خمسة ملايين مقيم في دمشق (فالشام فيها خمسة ملايين) لطيف عنده مستودعات ، قال :
﴿ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ(22) ﴾
(سورة الحجر)
انظر إلى هذه الآية ماأجملها !! من لطف الله عزَّ وجل .
الله عز وجل لطيفٌ بأوليائه :
كذلك الله لطيف ، فهذه المرأة الله جعل في مبيضها مجموعة بيوض محدودة ، وفي سن اليأس تنتهي ، في الخامسة والأربعين أو الثامنة والأربعين ، ولو كان معها مثل الرجل كمية مفتوحة وليست محدودة لصَعُب الأمر ، فبالتسعين تحمل ، وغير معقول أنْ تحمل بنتُ التسعين وترضع ، فالله عزَّ وجل لطيف بها ، جعل البويضات محدودة تنتهي في الأربعين ، أما الرجل بالعكس إلى آخر لحظة ، فهذا رجل توفي في الخامسة والتسعين وعنده ولد عمره خمس سنوات ، فالله لطيف بالمرأة .
.هذا رجل يفقد شعره كله ونقول عنه : أصلع . ولكن لا توجد امرأة تفقد كل شعرها ، أما النساء فالله لطيف بهن لأن الشعر جزء من كيانها و جمالها ، شعرها يخف ولكن لا تفقده كله ، فيصبح رأسها مثل الطاسة ، وهذا غير معقول
.قال الحسين : لطيفٌ بهم في القرآن في تلاوته ، وتفصيله ، وتفسيره ، والقرآنلطف إلهي ، نقل لك المنهج بشكل لطيف ، ستمئة صفحة ، الآن تفتح أي قانون تعديلاته تضيع فيها ، عمل لك الكليات بالمصحف ، والنبي فصَّل لك ، فالقرآن الكريم فيه كل كليات الحياة
. قال الجنيد : لطيفٌ بأوليائه حتى عرفوه
وقال محمَّد : اللطيف لمن لجأ إليه من عباده . إذا يئس عبد من خلقه ولجأ إلى الله تقبَّله الله واحتواه ، كرَّمه ، ولبَّاه من لطفه .
الله عزَّ وجل أخفى عن الناس خواطر الإنسان وتفكيره ورغباته وهذا من لطفه به :
:قال : اللطيف الذي ينشر مناقبَ عباده ، ويستر مثالبهم ، فمن لطف الله عزَّ وجل أن الأشياء اللطيفة والطيبة تفوح منك يكشفها الله ، والأشياء الخسيسة يخبئهاعن العباد ، فالله اسمه الستَّار ، أساساً ستره لطف ، لطف بك ، فلا يفضحك ، فالإنسان تفكيره مخبَّأ ، إذا كنت تقرأ وتفكير الإنسان غير معقول أن يُفْضَح ، فقد يفكِّر تفكيراً منحرفًا ولكنه لابس ، ومرتَّب ، ومتعطِّر ، وجالس في جلسة والناس يحترمونه : أهلاً وسهلاً،تفضَّل يا أستاذ ، ويكون من داخله غير منضبط ، فالله عزَّ وجل أخفى عن الناس خواطر الإنسان ، وتفكيره ، ورغباته ، وهذا من لطفه ، لأن الله عزَّ وجل ستَّار ، فالنبي مرَّة دعا ربَّه وقال
(( يا من أظهر الجميل وستر القبيح ))
[كنز العمال]
انظر إلى هيكل عظمي للإنسان فإنك تخاف منه ، وإذا أرادوا تخويفك يرسمون لوحة عليها صورة جمجمة وعظمتين ، فعند تحذيرك من خطر الكهرباء يضعون لوحة مرسوماً عليها جمجمة وعظمتين فشيء مخيف ، وانظر إلى وجه الإنسان ما أجمله بهذا الجلد ، انظر إلى الإنسان بعضلاته فقط فشيء مخيف ، وبالعظم مخيف ، وبالعضلات مخيف ، وبالشرايين مخيف ، أما في التزيينات في النهاية ، فالجلد في النهاية ومن داخله عضلات ، وشرايين ، وأوردة ، وغدد ، ومنافذ ، وأجهزة ، ومن الخارج جلد ناعم لطيف متناسق متكامل ، فهذا من لطف الله عزَّ وجل .
تتمة معاني اسم اللطيف :
قيل : هو الذي يقبل القليل ويعطي الكثير . يقبل منك شق تمرة ، ولقمة تطعمها فقيراً فيجعلها كجبل أُحُد ، فهذا من اسم اللطيف .
.وقيل : هو الذي يجبر الكسير وييسِّر العسير ، والله عزَّ وجل لطيف ، وتكون قضيَّة ميؤوس منها ، فيأتي إنسان ويقول لك : إنها سهلة جداً ، وليس فيها شيء،فتستغرب وتنصدم ، ويحلها لك ، لأن الله لطيف فيها ، وأحياناً تريد شخصاً بعيداً فتجده أمام وجهك على غير ميعاد ، فالله عزَّ وجل لطيف
.وقيل : معنى اللطيف هو الذي لا يُخاف إلا عدله ولا يُرجى إلا فضله
وقيل : هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيِّب من رجاه .
. وقيل: هو الذي لا يردُّ سائلاً ولا يُيَئِّس آملاً
وقيل : هو الذي يعفو عمن يهفو . قال : " يا رب أنا ربُّك وأنت عبدي (بدوي من شدة فرحه بالناقة تلعثم لسانه) فقال : " يا رب أنا ربُّك وأنت عبدي". فعند غير الله هذه الكلمة لا ينفذ منها أبداً ، أما عند الله فتنفذ لأنه يعلم نيتك ، عند الله لطيف .
الله عز وجل يرحم من لا يرحم نفسه :
..قيل : هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه . إذا اتخذ الإنسان قراراً خاطئًا فالله لا يسمح له
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ(38) ﴾
(سورة التوبة)
الآن﴿إلا تنفروا﴾ ، إذا اتخذتم قراراً غلطاً خلاف مصلحتكم الأخرويَّة ، وخلاف سعادتكم الأبديَّة ، فما استجبتم للنبي ، وما باليتم فلن أريحكم .. ﴿إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ ﴾ .. لأنه لطيف ، حتى لو اتخذت قراراً غلطاً فالله لا يعينك عليه ، بل يؤدبك .
قال : هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه .
من اتخذ قراراً جيِّداً فالله يكافئه عليه والقرار السيئ لا يقرِّك الله عليه بل يعالجك منه :
أنا مرَّة زارني شخص ( لا أنسى هذه القصَّة ) قال لي : أنا يا أستاذ نشأت عند معلِّم صناعي مُلحد ، قال له : لا يوجد إله والدين كلُّه خرافة ، افعل ما تشاء (وهو طفل صغير نشأ على هذه العقيدة) ، قال لي : يا أستاذ لا توجد معصية لم أفعلها من دون استثناء ، وكبر وتزوَّج وعنده محل فيديو ، والقصَّة طويلة ولكن فجأةً الأمور تدهورت وأُغلِق المحل بالشمع الأحمر ، وفقد كل ماله ، و صودر كله ، قال لي : المصائب تترى كالمطرقة على رأسي وأقول : لا يوجد إله ، ستة أشهر حتى دخل إلى جامع وصلَّى وصار يبكي ، ومن هنا بدأ الصلح مع الله ، ولكن عندما خرج قلت : لو أن الله جعله بهذه الحالة الطيِّبة ؛ مال ، وغنى ، وعقيدة فاسدة ، وانحراف أخلاقي ، حتى الموت لكان مصيره إلى جهنّم ، فربنا عالجه ، وهو ما رحم نفسه ولكن الله رحمه ، ومعنى اللطيف هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه ، فأنت إذا اتخذت قراراً جيِّداً فالله يكافئك عليه ، والقرار السيئ لا يقرِّك الله عزَّ وجل عليه ، بل يعالجك ، وعنده أدوية مرَّة كثيرة ، وعنده أدوية منوَّعة كثيرة ، أينما ذهبت تجد أدوية .
. وقيل : هو الذي أوقد في أسرار العارفين من المشاهدة سراجاً ، وجعل الصراط المستقيم لهم منهاجاً ، وأجزل لهم من سحائب برِّه ماءً ثجَّاجاً
. هذا كله من معاني اسم اللطيف
﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ(19) ﴾
(سورة الشورى)
الله عز وجل ألهم كل إنسان مصلحة يحبها و يهواها و هذا من لطفه بعباده :
..وبعد فأنت موجود ، وأنت بحاجة إلى اللطيف ، فأنت بحاجة إلى الرزق
﴿ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ (19) ﴾
(سورة الشورى)
.هذا تجد خطه جيداً فهو خطَّاط ، وهذا عنده رغبة بالتزيينات ، يقول لك : ورق جدران له فيه ميل ، وهذا في الكهرباء ، وثالث في التعليم و الهندسة ، و في الطب ، وفي الأحجار ، وفي الرخام ، ووفيالبلاط ، وفي النجارة والبنَّاء ، والتدريس ، فكل واحد ألهمه الله مصلحة أو صنعة يقتات منها ، ويحبها ويهواها ويرغب فيها أيضاً ، فهذا لطف من الله عزَّ وجل
:وهذه الآية اليوم
﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (19) ﴾
(سورة الشورى)
..وسنجعل الدرس لطيفاً لأن هذه آخر جمعة في رمضان
﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ(19) ﴾
(سورة الشورى)
والحمد لله رب العالمين