سورة فصلت (041)
الدرس (7)
تفسير الآيات: (34 – 36)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس السابع من سورة فصِّلت ، ومع الآية الرابعة والثلاثين .
أيها الإخوة ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴾ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
1 ـ الداعية الصادق قمة المجتمع :
أي أن الذي يدعو إلى الله ، ويأتي عمله مصداقاً لقوله ، بدافعٍ من إيمانه واستسلامه لله عزَّ وجل ، فهذا الإنسان يقع في قمَّة المجتمع الإنساني ، في القمَّة عند الله ، قد يكون الإنسان في قمة المجتمع عند الناس ، لكن هذا الإنسان يقع في قمة المجتمع الإنساني عند الله ، من دعا إلى الله ، وجاء عمله مصداقاً لقوله ، منطلقاً من إيمانه بالله وإخلاصه له .
2 ـ احذر فإنّ الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم :
لكن ربنا سبحانه وتعالى يلفت نظرنا إلى أخطر حقيقة في الدعوة إلى الله ، الناس لا يتعلَّمون بآذانهم ، بل يتعلَّمون بعيونهم ، فهذه الدعوة إذا رافقتها حسنةٌ ترقى بها إلى أعلى عليين، أما هذه الدعوة نفسُها ، بالأفكار نفسها ، بالمبادئ نفسها ، بالمعطيات نفسها ، بالأساليب نفسها إذا رافقتها سيئةٌ تهوي بهذه الدعوة العظيمة إلى أسفل سافلين ، الأفكار هي هي ، والمبادئ هي هي ، والقيَم هي هي ، والمُنطلقات هي هي ، والأهداف هي هي ، والوسائل هي هي ، الحسنة ترفع هذه الدعوة إلى الأوْج ، والسيئة تهوي بها إلى الحضيض .
إنّ الذي ينطق لسانه بكلمة الحق ينبغي أن يحسب حساباً ألف مرَّة لسلوكه ، لأن سلوكه إما أن يفرِّغ هذه الدعوة من مضمونه ، ويجعلها دعوةً طارئةً زائلةً كغيرها من الدعوات ، وإما أن يعطي بسلوكه لهذه الدعوة الخلود .
أيها الإخوة ، القضيَّة أعقد من أن يقرأ الإنسان كتابا ، يحفظ أحاديث ، يحفظ تفاسير ، القضيَّة أعقد بكثير ، وأخطر بكثير ، وأجل بكثير ، القضيَّة قضية اتجاه ، فالناس يتعاملون مع الواقع ، يتعاملون مع المُعطيات الماديَّة التي تتعامل بها أنت .
إذاً من سرِّ نظم الله عزَّ وجل أنه بعد أن قال :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
أنه جاء بالآية التالية :
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَة
1 ـ إذا أردتَ تحطيم مبدإ فتعامل بخلافه :
إذا أردت أن تحطِّم مبدأً فادع إليه وتعامل مع نقيض دعوتك ، تحرَّك وفق نقيض دعوتك ، إذا أردت لمبدأ أن يتحطَّم ، إذا أردت لمُثُلٍ أن تزول ، إذا أردت لهدفٍ أن يصبح في الوحل فادع إليه ، واسلك طريقاً مغايراً لهذا الهدف ، قل شيئاً وافعل شيئاً ، من هنا يقول الإمام علي كرَّم الله وجهه : << قِوام الدين والدنيا أربعة : رجال عالمٌ مستعملٌ علمه ـ هذا أحد أركان الدنيا ـ وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلَّم ـ متواضع ويقول : يا أخي علَّمونا مما علّمكم الله ، هذه النفسيَّة المتواضعة التي تصغي إلى الحق هذه نفسيَّة رائعة جداً ، المشكلة نحن في الكبر ، وفي أنصاف المتعلِّمين الذين لا هم علماء فيفيدوا من علمهم ، ولا هم جُهلاء فيتعلَّمون ؛ إذاً : << قِوام الدين والدنيا أربعة رجال : عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلَّم ، وغنيٌ لا يبخل بماله ، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه >> .
الإمام علي كرَّم الله وجهه يعقِّب على قوله فيقول :<< فإذا ضيَّع العالِم علمه ـ ارتزق من الدين ـ سمعت أن أحد العلماء الكبار كان يقول : " والله لأن أرتزق بالرقص أهون عليَّ من أن أرتزق بالدين " ، فلو أنّ إنسانًا ارتزق بالرقص يقال له : هذا راقص ، وانتهى الأمر ، فهو ليس قدوةً لأحد ، لكن أن يرتزق بالدين ، أن يجعل الدين في وحل المادَّة ، أن يجعل الدين في وحل المآرب الشخصيَّة .
إذاً : " فإذا ضيَّع العالِم علمه استنكف الجاهل أن يتعلَّم " .
أيها الإخوة الكرام ، من أدق التفاسير التي مرَّت بي حول قوله تعالى :
﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾
(سورة الممتحنة : من الآية 5)
2 ـ إياك أن تكون فتنة للذين كفروا :
فالكافر لم يُبلَّغ الإسلام ، فإذا التقى بمسلمٍ مقصِّر يزداد كفراً ، يقول لك : أهذا الدين ؟ أإلى هذا تدعوني ؟ إلى هذا الكذب ، أو إلى هذا النفاق ؟ أو إلى هذه القسوة ، أو إلى ذاك التناقض ؟ فالذي يعرض الإسلام عرضاً مشوَّهاً أو عرضاً متناقضاً ، أو يعرضه عرضاً رائعاً فتفاجأ أنه لا يطبِّقه ، هذا الإنسان ربما حمل وزر كفر الكافر ؛ لأنه لولا دعوتك المشوَهة لما كفر بهذا الدين ، لو لا أنه رآك مخالفاً لما تقول لما كفر بهذا الدين ، لو لا أنه رأى كلامك غير منطقي غير متماسك لما كفر بهذا الدين .
فهذا الذي يستخدم المنامات أحياناً ، والكرامات ، والخرافات ، وبعض الأشياء غير المنطقيَّة المعقولة ، ويأتي بحوادث ما أنزل الله بها من سلطان ، ويدعو إلى الله ، هؤلاء الذين ينظرون إلى الدين على أنه دين الله عزَّ وجل ربَّما كفروا بهذا الدين ، والسبب هذا الذي دعا إلى الله وهو يجهل ، لذلك كان الإمام الغزالي رحمه الله تعالى يقول :" لأن يرتكب العوام الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون " .
انتبه إلى الذي تقوله ، قبل أن تقول الكلمة فكِّر فيها ، هذا الذي أمامك يظنُّك داعية ، ويظن بك ظناً حسناً أنك منطقي ، أنت واقعي ، أنت مهذّب ، أنت مستقيم ، أنت ورع ، أنت أخلاقي ، أنت غَيْرِي ، فإذا اكتشف فيك شيئاً خلاف ذلك فأول شيء يقول له الشيطان : أهذا هو الدين الذي يدعوك إليه ؟ إذاً : هذا معنى قوله تعالى :
﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾
(سورة الممتحنة : من الآية 5)
أن لا نعطي الكفَّار حجَّة أن هذا الدين باطل ، فالإنسان بتعامله التجاري ، بمهنته ، بحرفته ، إذا كان طبيبًا ، إن كان محاميًاِ ، إن كان مهندسًا ، إن كان مدرِّسًا ، إن كان صاحب مصلحة إيَّاك أن تكذب ، إياك أن تقول قولاً غير صحيح ، إياك أن يكتشف هذا الإنسان أنك تصلي وتُخْلِفُ وعدك ، أنك تصلي ورفعت عليه السعر مستغلاً جهله ، أنك تصلي ولا تلتزم بأوامر الدين ـ " فإذا ضيَّع العالِم علمه استنكف الجاهل أن يتعلَّم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيرها " ـ عندئذٍ يبيع الفقير نفسه للشيطان من أجل أن يؤمِّن حياته ، فهؤلاء الأغنياء المؤمنون كما ورد في بعض الأحاديث :
(( الأغنياء أوصيائي والفقراء عيالي ، فمن حرم مالي عيالي أذقته عذابي ولا أبالي )) .
(ورد في الأثر5)
وما دمنا في هذا الموضوع ، فهناك ثماني آيات في كتاب الله تؤكد أنه :
﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾
(سورة سبأ : من الآية 39)
﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(273) ﴾
(سورة البقرة)
نقطتان : أن الله يعلم ، وأن الله سيعوِّض ، فإذا كان إيمانك بهاتين الآيتين إيماناً يقينياً عندئذٍ تُنفق ، ولا تخشى الفقر ، تنفق ولا ترجو أن يعلم الناس أنك أنفقت ، لأن الله يعلم ، وكفى به عليماً ، تستغني بعلمه عن علم الناس،وتستغني بفضله عن فضل الناس .
إذاً أيها الإخوة ..
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
3 ـ إيّاك ألأن تسقط من عين الله تعالى :
هؤلاء الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل ، ويأتي عملهم مطابقاً لدعوتهم منطلقين من إيمانهم بالله ، ومن إخلاصهم له ، إذا توافرت لهم هذه الشروط هم في قمَّة البشريَّة ، ولو كنت عاملاً متواضعاً ، ولوكنت صاحب حرفةٍ يدويَّة ، ولو كنت موظَّفاً من الدرجة العاشرة في دائرتك ، ولو كنت إنساناً لا يؤبه لك ، إذا حضرت ينتبه إليك أحد ، وإذا غبت لم يفتقدك أحد ، قد تكون خاملاً في الأرض عَلَمَاً في السماء ، قد تكون في الدرجة الدنيا في السُلَّم الاجتماعي ، وقد تكون عند الله في الدرجة العُليا ، لذلك المؤمن البطل يبتغي العزَّة عند الله ، يبتغي الرفعة عند الله ، لا يأبه لمكانته عند الناس بقدر ما يأبه لمكانته عند الله ، فالمؤمن إذا كان في نظر ربِّه كبيراً ، وفي نظر الناس صغيراً فلا يَضيره ذلك أبداً ، لكن أخطر شيء أن يسقط الإنسان من عين الله .
والله أيها الإخوة ، لأن يسقط الإنسان من السماء ـ من ارتفاع أربعين ألف قدم ، كان في الطائرة ، واحترقت الطائرة ، وكان مقعده بجانب مكان تصدُّعها فوقع ، هبط أربعين ألف قدم فتكسَّرت أضلاعه ـ والله لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله ، أن يراك الله متناقضاً ، أن يراك الله كاذباً ، أن يراك الله نَفْعِيَّاً تسعى لمصلحتك على حساب مبادئك ، أن يراك الله ظالماً ، أن يراك الله قاسياً ، أن يراك الله مُنافقاً ، لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله .
إذاً الآية الأولى : إذا دعوْتَ إلى الله ، وكان السلوك مطابقاً لدعوتك ، منطلقاً من إيمانك وإخلاصك ؛ فأنت في قمة البشريَّة عند الله ، وقد تكون لست كذلك عند الناس ، هؤلاء الناس لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون ..
(( واعلم أنّ الأمّة لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ )) .
(الترمذي عن ابن عبَّاس )
الآن : هذه الدعوة بمبادئها ، بقيمها ، بمنهجها ، بتفاصيلها ، بنُظمها، بأهدافها ، بوسائلها ، هذه الدعوة الحسنة ترفعها ، وتجعلها دعوةً خالدة ، والسيِّئة تُسقطها ، وتجعلها دعوةً عابرة ، وشتَّان بين الدعوتين ، بين أن تكون دعوةً خالدةً وبين أن تكون دعوةً عابرةً ، فلذلك عُظماء البشر حينما تركوا بصمات إلى أمدٍ طويل في تاريخ البشريَّة ، هؤلاء أخلصوا لله عزَّ وجل ..
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾
4 ـ الناس بحاجة إلى أشخاص يجسِّد الإسلام بسلوكه :
الحسنة ترفع والسيئة تُسْقِط ، الحسنة تَدْعَمَ الحق والسيئة تفرِّغ الحق من مضمونه .
مرَّةً ثانية : إذا أردت أن تحطِّم مبدءاً،إذا أردت أن تجعل الناس يكفرون بشيء فادع إليه ، واسلك سبيلاً آخر متناقضاً معه ، وهذا ما يحصل في تاريخ البشريَّة حينما تظهر دعوات ، ثم تُفَرَّغ من مضمونها ، ثم تغدو عبئًا على المجتمع ، ثم يرفضها الناس ، يرفضونها أشدَّ الرفض ، لكن الإسلام دين الله عزَّ وجل،فهذا الإسلام لا ينتشر ، ولا ينمو ، ولا يصبح كالطود الشامخ إلا بالرجال الذين يجسِّدون في سلوكهم مبادئهم وقيمهم .
لذلك أيها الإخوة ، المُثُل لا تعيش وحدها ، المُثُل لا تعيش في الكتب ، ولا في الخُطَب ، ولا في المقالات ، ولا في الأشرطة ، المُثُل تعيش مجسَّدةً في الأشخاص ، الناس بحاجة إلى إنسان يجسِّد هذا الدين بسلوكه في ببيته، في عمله ، الربح تحت قدمه ولا يعصي الله ، ولا تأخذه في الله لومة لائم .
إذاً :
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾
طبعاً لا تستويان ، لكن يبدو أن الله سبحانه وتعالى يقول : يا عبادي الحسنة إذا رافقت دعوةً إليه رفعت هذه الدعوة ، والسيئة إذا رافقت دعوةً إليه أسقطت هذه الدعوة .
مثلاً : لو كنت صاحب متجر عندك صانع أو عندك موظَّف ، دعوته إلى الصلاة ، شيءٌ جميل هذه دعوة من دعوة الله عزَّ وجل ، ولكن كنت بخيلاً عليه ، كنت قاسياً عليه ، قسوتك وبخلك يسقطان دعوتك ، أما إذا رآك مُنصفاً ، أباً رحيماً ، خيِّراً ، معطاءً ، هذا الخُلُق الكريم يرفع دعوته إلى الصلاة .
قبل أن تلفظ كلمة الحق انتبه إلى السلوك ، أحياناً يحمل الأب أولاده على الصلاة ، أو على تطبيق أوامر الدين ، وهو في الوقت نفسه بخيلٌ عليهم ، إذا ما ولَّت عينه يفجرون أشدَّ الفجور ، لأن دعوته مع بخله لا تؤثِّر فيهم ، لذلك ورد في بعض الأحاديث القدسيَّة :
((إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ، ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه )) .
(كنز العمال5)
إذا كان لك مظهر ديني ، أو خلفيَّة دينيَّة ، أو انتماء ديني ، أو مظنة صلاح ، أو معروف بين قومك أنك تصلي ، ولك مسجد ، ولك شيخ ، معروف عند زملائك في الوظيفة أنك إنسان صاحب دين ، مربَّى على أيدي علماء ، فانتبه لكلامك ، انتبه لمزاحك ، انتبه لمجيئك ، لدوامك ، لعطاءك ، لمنعك لأن هذا كلّه مسجَّلٌ عليك ، وأول كلمة يقولها أعداء الدين أن هذا هو الإسلام ، الغريب أن أعداء الدين إذا رأوا مؤمناً مقصِّراً يغفلون اسمه ، يغفلون هويَّته ويقولون : أهذا هو الإسلام !! لا يروون غلَّتهم إلا إذا انتقلوا من المسلم المقِّصر إلى الطعن بالدين ، إلى الطعن بالإسلام ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام يخاطب المؤمن :
(( أنتعلى ثغرةٍ من ثغر الإسلام فلا يؤتينَّ من قِبَلِك )) .
( ورد في الأثر5)
كل واحد مسلم واقف على الحدود على منطقة ضعيفة ، فإياك ثم إياك أن يصل أعداء المسلمين فينالوا من الإسلام من عندك ، من خلال معاملتك ، من خلال تقصيرك ، من خلال التناقُض ، من خلال النِفاق ، من خلال الأذى .
بل إن بعض أعداء الدين ـ وهذه النقطة مهمَّة جداً ـ بعض أعداء الدين يقدِّمون خدماتٍ رائعة ، وفي وقتٍ سريعٍ قياسي للمسلمين ، ليثبتوا أننا على حق ، وهم على باطل ، فقد حدَّثني أخ ذات مرة كانت زوجته في وضعٍ في مسيس الحاجة إلى طبيب ، يأتي إلى البيت في ساعةٍ متأخِّرة ، قال لي : اتصلت بأول طبيب ، والثاني ، والثالث حوالي عشرة أطبَّاء ، بعضهم اعتذر ، بعضهم لم يلبِّ ، بعضهم لم يستجب على الهاتف ، فقالت له القابلة : أتوافق على طبيب غير مسلم ؟ قال لها : مضطر ، فلمَّا اتصلوا به قال : تجدوني في الساعة الفلانيَّة في المستشفى ، فلمَّا وصلوا رأوه موجوداً في الوقت المناسب .
فعندما يلبيك غير المسلم ، ويكون صادقًا معك ، هذه القضيَّة تحدِث زلزلة ، أن هذا المسلم هكذا يفعل ، وهذا غير المسلم هكذا يفعل !! فإذا أردت أن تدعم دينك فكن مستقيماً ، إذا أردت أن تؤكِّد للناس أن هذا الدين حق كن صادقاً ، إذا أردت أن تؤكِّد للناس أن هذا الدين من عند الله دينٌ صافٍ إيَّاك أن تكذب ، إياك أن تغش ، إياك أن تخون ، إياك أن تنافق ، إياك أن تتناقض ، إياك أن تقسو ، إياك أن تزوَّر الحقائق ، فلذلك :
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾
الحسنة ترفع المبدأ .
ما قولكم بأن بعض الناس يؤمنون بالمبادئ الهدَّامة إذا رافقتها خدمات طيِّبة ، فأنت تتعامل مع الخط العريض في المجتمع ، مع العوام ، مع الدَهْمَاء ، هؤلاء يتعاملون مع الواقع لا مع الفكر ، فلو جاء إنسان ضال مضل يدعو لمبدأ هدَّام ينكر وجود الله ، وقدَّم لك الخدمات ، وأنكر ذاته أمامك ، وأعانك ماذا يُحدِث لك ؟ يحدث لك اختلال توازن ، تقول : أيهما على حق ؟ هذا الذي يدعو إلى ضلالة بهذه الأخلاق ، وهذا التفاني ، وهذا الذي يدعو إلى الحق بهذا التقصير وهذا الكذب ؟ فالقضيَّة خطيرة جداً ، أخطر ما في الدعوة إلى الله الحسنة والسيئة ..
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾
الحسنة ترفع وتدعم ، وترسِّخ ، وتقوي ؛ والسيئة تسقط وتجعل الدعوة إلى الله في الوحل ، تجعلها دعوةً عابرةً لا قيمة لها ، فهذا الدين لا يعيش إلا بالمُثُل ، ولا ينمو إلا بالمُثُل ، والتطبيقات .
الآن :
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
قبل أن نشرح هذه الآية لابدَّ من وقفةٍ قصيرة نتحدَّث فيها عن سلوك الإنسان .
1 ـ سلوك الإنسان تجسيدٌ لعقيدته :
الحقيقة أيها الإخوة سلوك الإنسان تجسيدٌ لعقيدته ، وتجسيدٌ لمدى اتصاله بالله أو انقطاعه عنه ، المؤمن يتعامل مع الله ، وغير المؤمن يتعامل مع الأشخاص ، فإذا تعامل الإنسان مع الأشخاص الذي ينفعه ينفعه والذي يضرُّه يضرُّه ، معاملة بالمِثل ، الذي يرجو نفعه يتأدَّب معه ، والذي يخشى ضرَّه يتأدَّب معه ، هذه المعاملة المباشرة بينك وبين الشخص هذه دليل ضعف الإيمان ، التعامل في غيبة الدين بين شخصين ، هذان الشخصان قد يكونان في قوة واحدة ، أو قد يكون أحدهما قوياً والثاني ضعيفاً ، فالقوي يأكل الضعيف ، قد يكون أحدهما ذكياً والثاني أقل ذكاءً ، فالذكي يحتال على أقلهم ذكاءً ، قد يكون أحدهما طليق اللسان واضح الحجَّة والبيان والثاني عَيِيًّا ، فطليق اللسان يستحوذ على العَيي .
أوضح مثل على ذلك : أنت بائع ، وجاءك طفل صغير يريد شراء حاجة ، لا يملك لا الخبرة ولا المعلومات ، يمكن أن تعطي هذا الطفل أسوأ سلعة بأغلى سعر ، أنت أقوى منه ، وأعقل منه ، وتملك خبرة أكثر منه ، هو ضعيف وأنت قوي ، لكن لو كان هناك إيمانٌ بالله عزَّ وجل مهما كنت قوياً ، ومهما كان الطرف الآخر ضعيفاً إنك تتعامل معه من خلال ربِّك عزَّ وجل ، تشعر أن الله وكيله ، وأن الله سيسألك عنه ، وسيحاسبك .
أحد إخواننا الكرام ، ذُكِرت لي قصَّة ، أنا أقولها كثيراً فقط لوضوحها ، عنده محل لف محرِّكات قال لي : قبل أن أعرف الله يأتيني محرِّك يحتاج إلى لفٍّ ، أجرته خمسة آلاف ، يقبل صاحب المحرِّك هذا الرقم ، يأخذ وصلا وينطلق إلى سبيله ، أفتح المحرّك ، فأرى فيه شريطاً مقطوعاً ، من الظاهر لا يكلفني إلا دقيقة في وصله بالكاوي ، وأعيد المحرِّك إلى ما كان عليه ، وحينما يأتي بعد سبعة أيَّام أوهم صاحب المحرِّك أنني لففته ، وأشغِّله أمامه ، وأتقاضى الخمسة آلاف ليرة ، وصاحب هذا المحرِّك لا يعلم ما في داخله ، الذي يعلمه أنه توقَّف عن الحركة ، إذاً احترق ، وصاحب المحل يعلم دقائق الأمور ، هذا يعلم ، وذاك لا يعلم ، والاتفاق واضح خمسة آلاف ، ثم قال لي هذا الأخ الكريم : بعد أن عرفت الله عزَّ وجل جاءتني عدَّة محرِّكات على هذه الشاكلة ، وعندما فتحتها وجدتها صالحة تحتاج إلى إصلاح طفيف ، فلمَّا جاء صاحبها بعد سبعة أيام قلت له : خمساً وعشرين ليرة ، صُعِق الرجل فما كان يدري أنّ المحرِّك سليم .
أردت من هذه القصَّة أن أو أكِّد لكم أنه من دون إيمان بالله القوي يأكل الضعيف ، الذكي يأكل غير الذكي ، صاحب الخبرة يستحوذ على قليل الخبرة ، فأنت لا تعرف أنواع الزيت ، أربعة أخماس نباتي وخمس بلدي ، وأنت لا تعرف ، والبائع يقسم لك أيمانًا مغلَّظة ، فلو ألغينا الإيمان في حياتنا فالحياة لا تُعاش ، لأن فيها قويا وفيها ضعيفا ، القوي يأكل الضعيف ، الذكي يستحوذ على غير الذكي ، صاحب الخبرة يسيطر على ضعيف الخبرة ، المُنتج يأكل المستهلك ، فحياةٌ من دون إيمان حياة غابة ، حياة ذئاب ، حياة وحوش .
أستمع أحياناً إلى بعض القصص التي تجري في مجتمعنا من نوع الاستغلال ، من نوع الظلم أحياناً ، وفي مهن راقية جداً ، هذا المريض واثق من الطبيب ، ومنحه كل ثقته ، قد لا يكون هذا الطبيب في مستوى هذه الثقة ، فيشير عليه بعمليَّةٍ لا جدوى منها ، وليس المريض بحاجةٍ إليها ، حينما أستمع والله إلى مثل هذه القصص من أشخاص لهم مهنٌ عالية ، أو مهن أخرى كالتجارة والصناعة ، حينما أستمع لهذه القصص وأقول : هذا مجتمع وحوش ، والله أخجل من الوحوش ، لأنهم يأكلون حاجتهم وانتهى الأمر ، حينما يجوع الوحش يأكل حاجته فقط، لكن هذا الإنسان حينما يغيب عنه الإيمان ، وحينما يغفل يريد أن يوقع الأذى بأكبر عددٍ ممكنٍ من الناس ، من أجل مصلحةٍ صغيرةٍ لا تقدِّم ولا تؤخِّر .
إذاً : التعامل مع الناس الآن إما أنه تعامل في ظل الإيمان ، أو في غيبة الإيمان ، في غيبة الإيمان تعامل وحوش ، القانون قانون الغاب ، الأقوى يأكل الأضعف ، الأذكى يضحك على الأغبى دائماً ، لكن إذا ساد الإيمان في المجتمع صار التعامل من خلال الله عزَّ وجل .
قصَّاب يأتيه طفل صغير ليشتري من عنده ، يراقب الله عزَّ وجل ، هل أعطيته حقَّه ؟ هل أعطيته البضاعة المناسبة ؟
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
2 ـ معنى : ادْفَعْ
معنىادفع ، أي ادفع شيئاً جاءك ، أي جاءتك سيئة وكأنها قذيفة ، المؤمن مأمور أن يدفعها بالتي هي أحسن .
3 ـ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أما أحسن اسم تفضيل ، أي إذا كان هناك مائة أسلوب لردِّ هذه السيئة ، عليك أن تختار أحسن هذه الأساليب ، إذا وجد مائة أسلوب ، إذا وجد ألف أسلوب حسن لردِّ هذه الإساءة، عليك أن تختار أحسنها ، لذلك هذه الآية تنفي الانتقام ، المنتقم هبط إلى مستوى خَصْمِهِ ، ما دام قد ردَّ عليه الإساءة بإساءةٍ مثلها هبط إلى مستواه .
القرآن الكريم يؤدِّب النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام أعلى تأديب ، ونحن بالتبعيَّة ، أي كلَّما أساء لك مسيء أينبغي أن تردَّ على إساءته بإساءةٍ مثلها ؟ ليس هذا هو الإيمان ، بل ينبغي أن تعفو عنه ، ينبغي أن تترفَّع عن الإساءة إليه ، ينبغي أن لا تردَّ هذه الإساءة بإساءةٍ مثلها ، ينبغي أن تكون أرقى من ذلك ..
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
4 ـ يمكن ن تجعلك من عدوك صديقا مؤمنا :
الحقيقة أن هذا الكلام قد يقول عنه بعض الناس : إنه كلام خيالي ، أو كلام مثالي ، هو والله خياليٌ وواقعيٌ في وقتٍ واحد ، إذا كنت تعرف الله عزَّ وجل فوالله هو واقعي ، إذا عرفت الله ، وعرفت ما عنده من إكرام ، وعرفت جنَّته وناره ، وعرفت أن هذه الدنيا زائلة ، وأنها ماضية ، وأن الأعمال الصالحة هي التي تبقى عند الله عزَّ وجل ، لذلك تضع نفسك تحت قدمك وتقول : سأردُّ لهذا المسيء إساءته بإحسانٍ كبير .
تجد في المجتمع الذي يعفو ، والذي يترفَّع عن أن ينتقم ، والذي يرد على الإساءة بالإحسان ، تجده عظيماً جداً في نظر الناس ، وربَّما انقلب العدو إلى صديق ، فهذا عمير بن وهب قصَّته معروفة ، انطلق من مكَّة المكرَّمة إلى المدينة ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام ، واتفق مع صفوان بن أميِّة إذ قال له : " والله لولا ديونٌ ركبتني وأطفالٌ صغار أخشى عليهم العنت لذهب وقتلت محمداً ، ولأرحتكم منه " ، فانتهزها صفوان عدو الله فرصةً ، وقال له : " أما ديونك فهي علي بلغت ما بلغت ، وأما أولادك فهم أولادي ما امتدَّ بهم العمر ، اذهب لما أردت وأنا معك " .
سقى سيفه سُمًّا وهيَّأ راحلته وانطلق إلى المدينة ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام غدراً ، وحجَّته أن ابنه أسيرٌ عند النبي ذهب ليأخذه ، رآه سيدنا عمر رضي الله عنه فقال : " هذا عدوُّ الله عمير جاء يريد شرَّاً " قيَّده بحمَّالة سيفه وساقه إلى النبي ، النبي عليه الصلاة والسلام قال : يا عمر أطلق سراحه ، فُكَّ قيده ، فكَّ قيده ، قال : يا عمر ابتعد عنه ، ابتعد عنه ، قال : يا عمير ، ادنُ مني ، دنا منه ، قال : يا عمير ، ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال : جئت أفدي ابني ، قال : وهذا السيف الذي على عاتقك لمَ جئت به ؟ ، قال : " قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ ، قال : ألم تقل لصفوان : لولا ديونٌ ركبتني ، وأطفالٌ صغار أخشى عليهم العنت لذهبت وقتلت محمداً ، ولأرحتكم منه ؟ ، وقف عمير ، وقال : أشهد أنك رسول الله ، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله ، وأنت رسوله ، وأسلم من تَوِّهِ .
يقول سيدنا عمر: دخل عمير على النبي صلى الله عليه وسلَّم والخنزير أحبُّ إليَّ منه ، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليَّ من بعض أولادي " ، يمكن أن تجعل عدوّك صديقًا .
أحد أعداء النبي عليه الصلاة والسلام الألدَّاء وقع أسيراً ، قتل من أصحابه عدداً كبيراً ثم وقع أسيراً ، اسمه ثمامة بن آثال ، مرَّ به النبي ، وهو مقيَّدٌ في سارية المسجد قال : ما وراءك يا ثمامة ؟ قال : إن تقتل تقتل ذا دم ـ أنا قاتل أصحابك ـ وإن تعف تعف عن شاكر ، وإن تُرِد المال فخذ منه ما تشاء ، تركه يوماً آخر ومرَّ به في اليوم الثاني وقال : ما وراءك يا ثمامة ؟ قال : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تعف تعف عن شاكر ، وإن ترد المال فخذ منه ما تشاء " تركه لليوم الثالث قال : أطلقوا سراحه ، دعاه إلى الإسلام فأبى ، خرج من مسجد النبي وعاد بعد حين ، وأمام أصحابه جميعاً قال : أشهد أنه لا إله إلا الله وأنك رسول الله . قال : يا ثمامة لمَ لم تسلم حينما دعوناك ؟ ، هو أراد أن لا يكون إسلامه تحت ضغط إطلاق السراح ، على كلٍ وقف وقال : " يا محمَّد ، والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إليَّ منك ، والآن ما على وجه الأرض وجهٌ أحبُّ إليَّ منك ، وما كان في الأرض دينٌ أبغض إليَّ من دينك ، والآن ما في الأرض دينٌ أحبُّ إليَّ من دينك ، وما كان في الأرض بلدٌ أبغض إليَّ من بلدك ، والآن ما من بلدٍ أحب إلا بلدك " .
هكذا فعل النبي بأعدائه ..
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
فأنت يمكن أن يكون لك أعداء كُثُر ، لكن أيَلزم كل عدو أن تنتقم منه ؟! اعف عن هذا ، وسامح هذا ، وأحسن إلى هذا .
أحدهم نال من النبي صلى الله عليه وسلّم أشدَّ النَيل ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام من يقطع لسانه ؟ ، أصحاب النبي تفاوتوا في فهم هذا الأمر ، بعضهم فهموا أن يقطع لسانه بالموسى أو بالسكين ، أو المقص ، وبعضهم قطع لسانه بالإحسان إليه ، وأنت بإمكانك أن تقطع ألسنة أعدائك ، بماذا ؟ بالإحسان إليهم ، أي انطلق انطلاقة أنك يجب أن تكافئ المسيء بالإحسان ..
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
هل بإمكانكأن تعامل المسيء وكأنَّه وليٌ حميم ؟ هل بإمكانك أن تعفو ؟ هل بإمكانك أن تحسن ؟ إذاً أنت مؤمنٌ ورب الكعبة ؛ أما إذا أكل الحقد قلبك ، وغلى في كيانك ، وأردت أن تكيل له الصاع صاعين ، عندئذٍ عليك أن تجدِّد إيمانك ، وأن تبحث عن مستوىً أرقى من هذا المستوى ..
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
1 ـ الأخلاق العالية تحتاج إرادة قويَّة وإلى كمال رفيع المستوى :
هنا إشارة دقيقة جداً ، الأخلاق العالية تحتاج إلى شيئين ؛ إما إلى إرادة قويَّة ، وإما إلى كمال رفيع المستوى ، فأنت بالإرادة القويَّة تضبط نفسك وهواك ، وتجعل نفسك تحت قدمك ، وتقف الموقف الكامل ، معنى هذا أنت صاحب إرادة قويَّة ، صابر ، استفززت فلم تفعل شيئاً ، أو أنك على اتصالٍ بالله شديدٍ جداً نلت من حلمه الشيء الكثير ، أي إما أنك نلت من الله الكمال الذي حملك على هذه المعاملة الطيِّبة ، وإما أنك قهرت نفسك ، وصمَّمت على الإحسان إلى من أساء من دون أن تبالي بالنتائج ، إذاً إما أن تكون نفسك في مستوى هذا الأمر .
إذاً :
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
وإما أن تكون دون مستوى هذا الأمر عندئذٍ تصبر ، أنت بين الصبر وبين الحظ العظيم ..
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا ﴾
2 ـ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
أي أن تردَّ على إساءةٍ بالإحسان يحتاج إلى شيئين ؛ إما أن تصبر وإما أن يكون حظُّك من الله كبيراً ، فالحظ هو النصيب هنا ، أي إذا كان نصيبك من خلال إقبالك على الله شديداً وكبيراً ووافراً ، معنى ذلك أنك تتمتَّع بكمالٍ كبير ، هذا الكمال يحملك على العفو وعلى الإحسان ، وعلى الردِّ على الإساءة بإحسان ، وإن لم يكن في هذا المستوى الرفيع من الإقبال على الله واشتقاق الكمال منه بإمكانه أن يتحلَّم ، أن يتصبَّر ، أن يجعل من عمله تجسيداً لإرادةٍ صُلْبَة ، على كلٍ كلاهما مقبول وكلاهما مثابٌ عليه ..
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
نتابع تفسير الآيات التي بدأنا بها .
أيها الإخوة ، الآيات لها سياق ، لو نُزِعَت الآية من سياقها لها معنى مستقل ، أما إذا أدرجت في السياق لها معنىً متعلِّقٌ بالسياق،فربنا عزَّ وجل يقول :
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
1 ـ الآيةُ من حيث سياقها :
لو جاء للإنسان وسواس من الشيطان ، كي ينتقم من هذا المسيء ـ لازلنا في السياق ـ لو أن وسواساً أتاه من الشيطان لينتقم من هذا المسيء ليقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هذا الوسواس ينقطع عنه فوراً ، هذا المعنى السياقي ، أي أن الإنسان عندما يؤذى ، أو تناله إساءةٌ بالغة من إنسان قد يغلي غيظاً ، قد يفور كالمِرْجَل ، قد يتمنَّى أن يمزِّق خصمه إرباً إرباً ، يتمنَّى أن يجعله تحت الأقدام ، يتمنَّى أن يسحقه ، هذه مشاعر الإنسان إذا لم يعرف الله عزَّ زجل ، فالمؤمن أحياناً فد تأتيه مشاعر من هذا النوع من الشيطان ، أن اسحقه ، دمِّره إنه عدوّك اللدود ، لا ترحمه ، قال :
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
أي إما أن تكون عوناً لأخيك على الشيطان ، وإما أن تكون عوناً للشيطان على أخيك ، الأكمل أن تكون عوناً له على الشيطان ..
﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾
2 ـ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
هذه الوساوس من الشيطان في الانتقام من المسيء في سحقه في تدميره هذه لا تلتفت إليها ، هذه من الشيطان ، وإذا استعذت بالله عزَّ وجل تذهب عنك بعيداً ..
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
سميعٌ لقولك عليمٌ بصدقك ، سميعٌ عليم .
3 ـ الآية في السياق العام :
أما الآية وحدها الإنسان بين وسوسة الشيطان وإلهام الملك ، فإذا ألقى الشيطان في نفس الإنسان وسوسةً أو أمراً ، أو زيَّن له شهوةً ، أو دعاه إلى معصية ، أو إلى منكر ، أو إلى قطيعةٍ ، أو إلى هجرانٍ ، أو إلى ما شاكل ذلك عليه أن يستعيذ بالله عزَّ وجل من هذه الوساوس ، أي إما أن تكون هذه الوساوس متعلِّقةً بالمسيء ، أو ليس لها علاقة بالمسيء ، وساوس إلى المعاصي ، أو إلى الملذَّات ، أو إلى المخالفات ، على كلٍ الشيطان لا يملك إلا أن يوسوس وهو أضعف من أن يُسَيْطِر ، ولا تنسوا أبداً هذه الآية :
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾
(سورة إبراهيم : من الآية 22)
4 ـ كيدُ الشيطان ضعيفٌ :
الشيطان ضعيف ..
﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(76) ﴾
(سورة النساء)
أنت بإمكانك أن تستعيذ بالله عزَّ وجل فتبعد عنك الشيطان مسافاتٍ طويلة ..
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
5 ـ قاصمةُ ظهورِ الدجّالين والخرافيين :
أيها الإخوة ، هذه الآية تحل محل التمائم ، تحل محل الدجاجلة ، محل السحرة ، محل أنه مخاوي ، محل أنه سنفك له سحره ، ولكن يحتاج إلى خروف ، هذه الآية تحل محل كل الخُرافات ، وكل أنواع الدجل والخزعبلات ، وكل هؤلاء الذينيعيشون على مشكلات الناس ، الشيطان لا يذهب إلا بالاستعاذة القلبيَّة ، انتبه ! لكن بعضهم يقول : استعذنا ، وما حدث شيء ، لا يذهب إلا بالاستعاذة القلبيَّة ، يجب أن يكون قلبك حاضراً ، وأن تكون خاشعاً ، وأنت تستعيذ بالله ، إن فعلت هذا انصرف الشيطان .
هذه الآيةُ إما لوساوس متعلِّقة بالمسيء بحسب سياق الآيات ، أو بوساوس متعلِّقة بالمعاصي إذا نزعنا هذه الآية من سياقها ..
آيات اليوم :
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا ﴾
خلاصة الدرس :
1 ـ الكمالُ الإلهي يُتلقَّى :
وإنَّك لَتُلَقَّى القرآن ، أي أن الكمال يتلقَّى من الله عزَّ وجل ، إن مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى ، فإذا أحبَّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، أي ألقى عليه هذا الخُلُق ، إذاً كلمة ..
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا ﴾
أنت تتلقَّى الكمال من الله ، تتلقَّى الصبر من الله ، تتلقَّى الحلم من الله ، تتلقَّى الرحمة من الله ، تتلقَّى العدالة من الله ، تتلقَّى الإنصاف من الله ، تتلقَّى حب الخير للناس من الله ، ويتلقَّى الإنسان الشيطان كل أنواع الإساءات ، والشهوات ، والانحرافات ، والضلالات ، فلذلك كلمة ..
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا ﴾
2 ـ الكمالُ الإلهي لا يناله إلا الصابرون أصحاب النصيب :
من الله هذه المكارم إلا الذين صبروا ..
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
أما إذا جاءك الوسواس لتنتقم من عدوِّك اللدود ..
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
3 ـ اعفُ عمّن أساء إليك :
عبد أساء لسيِّده إساءة بالغة فقال : يا سيدي ..
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135) ﴾
(سورة آل عمران)
الآية الكريمة فيها ثلاث مراحل :
أول مرحلة قال :
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾
المرحلة الثانية :
﴿وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ ﴾
والثالثة :
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) ﴾
(سورة آل عمران)
إذا أساء لك أحد فهناك ثلاث مراحل : مرحلة تكون فيها تغلي غليانًا من الداخل ، أحياناً تعض على أسنانك من شدة الألم ، لكن تضبط أعصابك ، هذا كظم للغيظ .
مرحلة ثانية من الداخل أمنٌ وسلام ، كأنه واحد مريض أمامك ، فإذا رأى طبيب مريضًا معه مرض جلدي قبيح جداً هل يغضب منه ؟ يحزن عليه ، يرثي لحاله ، فالمؤمن الراقي إذا أُسئ إليه يرى هذا المسيء مخطئًا ، يرى هذا المسيء قليل القيمة عند الله عزَّ وجل وجاهلا ، هذه المرحلة الثانية .
أما الأرقى :
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) ﴾
أن تحسن لمن أساء إليك ، فإن كنت مسلمًا حقيقيًّا ، مؤمنَا حقيقيًا تمثِّل هذا الدين يجب أن تردَّ على الإساءة بالإحسان . إلا في حالات نادرة كمن كان طائشًا مثلاً ، وأساء إساءة بالغة ، فإذا قابلته بإساءةٍ توقفه عند حدِّه ، إذا اقتضت الحكمة ذلك الأولى أن توقفه عند حدِّه ، إذا لم يكن لديه إصرار أو طيْش ، ولكن حصل نسيان أو تقصير فالأولى أن تعفو عنه .
والحمد لله رب العالمين