سورة الزُّمر 039 - الدرس (18): تفسير الأيات (62 – 67) التوحيد والعبادة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الزُّمر 039 - الدرس (18): تفسير الأيات (62 – 67) التوحيد والعبادة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الزُّمر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الزُّمر ـ (الآية: 62 - 67) - التوحيد والعبادة

31/10/2012 14:01:00

سورة الزمر (039)
الدرس (18)
تفسير الآية: (62-67)
التوحيد والعبادة
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
لا ينبغي أن تخاف أحداً ولكن ينبغي أن تخاف الله وحده:
 
أيها الأخوة الأكارم، مع الدرس الثامن عشر من سورة الزُمَر ومع الآية الثانية والستين:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
ما من آيةٍ في القرآن الكريم تبث الراحة النفسية كهذه الآية، أي شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل بيده، لا يستطيع مخلوقٌ أن يتحرك إلا بأمر الله وبعلم الله، يستنبط من هذه الآية أنه لا ينبغي أن تخاف أحداً؛ ولكن ينبغي أن تخاف الله وحده، والله سبحانه وتعالى أسماؤه حسنى إذاً ينبغي أن تخاف من نفسك، لذلك هذا المعنى، لا يخافن العبد إلا ذنبه، خف أن تأكل حقوق الآخرين، خف أن تُذْنِب، لأنك إن أذنبت فكل شيءٍ خلقه الله عز وجل بيده، يُطْلِق ويقبض، ما من مثلٍ أقرب إلى توضيح هذا المعنى من أن وحوشاً كاسرةً مخيفة كلُّها مربوطة بأزِمَّةٍ محكمةٍ بيد جهةٍ قويةٍ، عزيزةٍ، عادلةٍ، بصيرةٍ، سميعةٍ، فعلاقتك أنت ليست مع الوحوش، لأنها مملوكة ومربوطة، ولكن علاقتك مع الذي يملكها فإذا أطلق أحدها وصل إليك، وإذا منعه حجزه عنك.
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾.
 
الشيء المخلوق بيد الله لا يتحرك إلا بأمره:
 
الأشياء المخيفة في الحياة كثيرة جداً، هناك أشخاص مخيفون جداً، هناك حيواناتمخيفة، هناك أعراض جوية مخيفة، هناك صواعق، هناك زلازل، هناك براكين، هناك سيول جارفة، هناك بأس الإنسان:
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾
[ سورة الأنعام: 65 ]
الصواعق والقذائف:
﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾
[ سورة الأنعام: 65 ]
الزلازل والألغام:
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾
[ سورة الأنعام: 65 ]
من مسلمات الإيمان أن كل شيءٍ تراه عينك بيد الله عزَّ وجل والله جلَّ جلاله أسماؤهحسنى، كل الكمالات عند الله عزَّ وجل، عدلٌ، ولطفٌ، ورحمةٌ، وقدرةٌ، وعلمٌ، لذلك:
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
الشيء المخلوق بيد الله لا يتحرك إلا بأمره، حتى الأشياء الجامدة.
 
الدين كلُّه توحيدٌ وعبادة:
 
قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 69 ]
حتى النار لم تعد ناراً، لذلك هذه الآية أو هذه الآيات التي نحن بصددها تتمحور حول كلمتين، حول التوحيد وحول العبادة، الدين كلُّه توحيدٌ وعبادة، الدين كله أن ترى أنه لا إله إلا الله، والدين كله أن تعبد الله وحده، وإذا شئت الدليل فالقرآن كله يدل عل هذين المعنيين:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِي ﴾
[ سورة الأنبياء: 25 ]
التوحيد والعبادة، نهاية العلم التوحيد، نهاية العمل العبادة، إذا وحَّدت واستقمت فقد حققت المُراد من وجودك، إذا عرفت أنه لا إله إلا الله لن تعصيه، الذي يدعو إلى معصية الله أن ترى مع الله شركاء، أن تخاف من غير الله، أن ترجو غير الله، أن تحب غير الله، لا تستطيع أن تتقدم في مجالات الإيمان إلا بخطين؛ بخط التوحيد وخط العبادة، بعد هذه الآية هل هناك في الأرض قوةٌ تخيف الإنسان؟
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ )).
[أحمد عن أبي الدرداء]
هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
 
التوحيد والشرك:
 
كل الراحة النفسية في التوحيد، كل الضغط النفسي من الشرك، كل الطمأنينة من التوحيد، كل الخوف من الشِرك، كل التفاؤل في التوحيد، كل التشاؤم من الشرك، كل الرجاء في التوحيد، كل اليأس في الشرك لذلك:
﴿ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾
[سورة لقمان: 13]
الشرك أن تتجه بكل طاقاتك إلى جهةٍ لا تملك شيئاً؛ لا تملك نفعاً ولا ضراً ولا حياةً ولا موتاً ولا نشوراً هذا هو الشرك، الشرك أن تعقد الآمال على جهةٍ مفتقرةٍ مثلك، أن تطلب العَوْن ممن يطلب العون، أن تطلب الغنى ممن هو فقير،أن تطلب القوة من الضعيف، أن تطلب التوفيق ممن يحتاج إلى التوفيق هذا هو الشرك، الشرك أن تتجه إلى ما سوى الله، أن تتجه بقلبك، أو أن تعقد عليه آمالك، أو أن تتكئ عليه، أو أن تعتمد عليه، هذا هو الشرك.
    
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
صغير كبير، جليل حقير، مخيف غير مخيف، كبيرصغير.
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
انتهى الأمر، والله عزَّ وجل كامل، إذاً مصدر الخوف فقط من أن تذنب، مصدر الخوف الوحيد أن تقع في ذنب، أن تأكل حق مخلوق، أن تتجاوز حدود الله عزَّ وجل، دقق في هذا الحديث الجامع المانع الموجَز البليغ: لا يخافن العبد إلا ذنبه، وإذاوقعنا في مشكلة، ولا يرجون إلا ربه، لا تخف إلا من ذنبك ولا ترجو إلا ربك، هذا هو الدين، هذا هو التوحيد، الموحِّد إنسان متميِّز، إنسان عزيز لا ينافق، لا يمدح مديحاً كاذباً، لا يتملق، لا يخنع، لا يذل، لأن الله عزَّ وجل كرمه بالتوحيد، أمره بيد الله، رزقه بيد الله، حياته بيد الله، موته بيد الله، ما من إنسانٍ يتمتَّع بالعزَّة كالمؤمن لأنه يرى أن أمره بيد الله، لا بيد زيدٍ أو عُبيد، ولكن الشرك يذل، المشرك ذليل، أحياناً تجد المشرك أذل من شاته أمام من هو أقوى منه، فهناك حالات من الشرك الإنسان يتألَّم أشد الألم لهذه الحالة المتردية عند الإنسان.
 
كل شيءٍ خلقه الله القوة الفاعلة فيه بإذن الله لا تفعل فعلها إلا إذا شاء الله:
 
قال تعالى:
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
هو الخالق، ومن لوازم رحمته وعدالته أنه خَلَق ومَلَك، أحياناً يصنع سلاحاً خطيراً ويباع هذا السلاح، فإذا هو بأيدٍ غير أمينة، وبأيدٍ غير حكيمة، وبأيدٍ غير رحيمة، هذا السلاح الفتَّاك يؤذي أذىً كبيراً، لأن اليد التي تملكه ليست في مستوى العدالة والرحمة، فالجهة الصانعة صنعت ولكنها ليست مالكة لهذا السلاح بعد أن صنعته، لكن الله عزَّ وجل:
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
هذه الآية مريحة، فعلى مستوى عقرب لا تستطيع العقرب أن تلدغ إلا من يأذن الله لها، على مستوى أفعى، على مستوى جرثوم، على مستوى فيروس، على مستوى حشرة، على مستوى حشرة تؤذي المزروعات بيد الله، وهو على كل شيءٍ وكيل، الأصح من ذلك أن كل شيءٍ خلقه الله القوة الفاعلة فيه بإذن الله، لا تفعل فعلها إلا إذا شاء الله، لخَّص علماء التوحيد هذه الحقيقة بقولهم: عندها لا بها. النار لا تحرق بذاتها، لا تحرق بالقوة التي أودعها الله فيها، هذه فكرةٌ مغلوطة، لا تحرق إلا إذا أراد الله لها أن تحرق، إذاً عند مشيئة الله بها.
وإذا أيقنت أن كل شيءٍ بيد الله عندئذٍ تشعر بالراحة، إنسان بإمكانه أن يوقع بك الأذى، فيعمي الله بصيرته فلا يرى المخالفة، يمكن أن يراها ويخلق في قلبه شفقةً عليك، هذا الذي أمامك والذي يخشاه جميع الناس هو بيد الله، فإن شاء الله أكرمك وهو الشرير، وإن شاء الله تغافل عنك وهو الذكي، وإن شاء الله عرف الحقيقة ولكن ألقى في قلبه العطف عليك، فأنت إذا تعاملت مع بني البشر تأكَّد أنهم بيد الله عزَّ وجل حركاتهم وسكناتهم حتى خواطرهم، حتى مشاعرهم، حتى ميولهم، حتى رغباتهم بيد الله عزَّ وجل، فالتوحيد مريح جداً، التوحيد علاقتك مع جهة واحدة، هذا هو التوحيد.
فليتك تحلو والحياة مريــرة    وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ   وبيني وبين العالمين خــراب
*   *   * 
 
الآية التالية تجعل الإنسان موحَّدَ الاتجاه لا مبعثر الاتجاه:
 
التوحيد أن ترضي الله وحده، التوحيد أن تعمل لوجهٍ واحد يكفك الوجوه كلَّها، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، وألا تعلِّق على غير الله أملاً، حتى الإنسان أقرب الناس إليه،إذا عقد عليهم الآمال خيبوا ظنه، يقول لك: هذه زوجة مخلصة، اعتمد عليها قد يفاجأ أنها تنكَّرت له، يقول لك: هذا الابن ادخرته لكبري يذهب إلى بلدٍ أجنبي ولا يعود إطلاقاً وانتهى لأنه اعتمد عليه، إيَّاك أن تعتمد على غير الله، إياك أن تثق بغير الله، إيَّاك أن تسعى لغير الله.
فلا يليق بك كإنسان مكرم، أن تعمل لصالح إنسان آخر، هذا لا يليق بك، هذا مما يحط من قدرك، أنت المخلوق الأول والمكرم تكون لحساب إنسان؟! إنسان ضعيف، إنسان جاهل، إنسان لئيم أحياناً، ﴿هو أهل التقوى وأهل المغفرة﴾، هذه الآية مريحة جداً، هذه الآية يشعر بها المؤمن بانتشاء، هذه الآية تجعله شجاعاً، هذه الآية تجعله عزيزاً، هذه الآية تجعله مطمئناً، هذه الآية تجعله موحَّدَ الاتجاه لا مبعثر الاتجاه.
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
الأمطار بيده، إما أن يجعلها رحمة، وإما أن يجعها نقمة، قد تأتي الأمطار في وقتٍ غير مناسب تهلك المحاصيل كلها، الرياح بيده إما أن يجعلها نسيماً عليلاً، أو رياحاً تسوق السحب، وإما أن يجعلها رياحاً مدمرةً تدمر كل شيء، الولد بيده إما أن يجعله بركةً لوالديه وقرة عين لهما، وإما أن يجعله نِقمةً في حياتهما يشقيا به، الزوجة كذلك إما أن تكون جنةً وإما أن تكون جحيماً، أعضاؤك، أجهزتك، حواسك كل شيءٍ بيد الله، المواد، خصائص المواد.
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
 
شعور الضعف والخنوع هذه كلها مشاعر الشرك:
 
تبدأ بالجماد، الخصائص التي أودعها الله في الجماد لا تفعل فعلها إلا إذا شاء الله عزَّ وجل، الحيوان، نحن نفهم أن البقر حيوان ذلول، تجد أطفالاًصغاراً يسوقون البقر من مكان إلى مكان، يحلبون البقر، والبقرة حيوان وديع مستسلم أليف مذلل، لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل هناك مرضٌ يصيب البقر يجعله متوحشاً، فهذه البقرة الوديعة التي هي رمز العطاء تنقلب لعلةٍ أصابتها إلى وحشٍ كاسر، حدثني أخ أن بقرةً في بعض قُرى دمشق أصبحت متوحِّشة وقتلت رجلين وجرحت ثالثاً، فاضطر صاحبها أن يطلق النار عليها ليقتلها، وليريح الناس منها. فالحيوان مذلل من ذلله؟ الله عزَّ وجل، هذه الغنمة مذللة، الجمل مذلل، البقرة مذللة، أما العقرب غير مذلل، العقرب إن رأيته على جسمك تكاد تخرج من جلدك من شدة الخوف، وجملٌ يزن ستة أطنان لا تخاف منه بل تقوده، يقوده طفلٌ صغير، الأمر كله بيد الله.
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
هذه العقيدة وحدها تبث في نفس المؤمن راحةً ما بعدها راحة، مشاعر القهر التي يعانيها المشركون لا تُحتمل، مصيرك بيد إنسان لا يحبك ينوي أن يقضي عليك، هذا شعور القهر، شعور الضعف والخنوع هذه كلها مشاعر الشرك، لذلك أنت عليك أن توحِّد، فإذا وحَّدت عرفت الله عزَّ وجل.
      
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
يحركه بأمره، لذلك إذا رأيت أهل الكفر والقوة يتحرَّكون فاعلم أن حركتهم وخططهم ومؤامراتهم استوعبتها خطة الله عزَّ وجل،فلا يفعلون إلا شيئاً أراده الله، إنهم لا يسبقون الله أبداً، ما فعلوا شيئاً ما أراده الله  كل ما أراده الله وقع، وكل ما وقع أراده الله، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المُطلق، مثلاً يقول لك: الصهيونية العالميةتضع خططاً رهيبة وجهنمية ومدمرة للإنسانية كلها. لكن خطة الله استوعبتها، فلا يحقق من خططها إلا ما يسمح الله به، لذلك إذا عصاني من يعرفني سلَّطت عليه من لا يعرفني.
 
الأمر كله بيد الله فعلاقتنا مع الله وحده:
 
يجب أن تؤمن أن جهةً في الكون لا تستطيع أن تفعل شيئاً إلا إذا أراد الله عزَّ وجل.
     
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
أحياناً يقول لك: هذه القنبلة لم تنفجر. شيء غريب، نُزِع فتيلها وارتطمت بالأرض ارتطاماً شديداً يكفي أن يفجرها، لكنها لم تنفجر لأنها بيد الله عزَّ وجل، فلان أصابته رصاصةٌ مرت جانب رأسه ولم تصبه، لأن هذه الرصاصة بيد الله وهو على كل شيءٍ وكيل، الحجر بيد الله، الرصاصة بيد الله، القذيفة بيد الله، الشظايا بيد الله، الأمراض بيد الله، الجراثيم بيد الله وهو على كل شيءٍ وكيل، ارتح، ونم، قال:
وإذا العناية لاحظتك جفونها    نَم فالمخاوف كلُّهن أمان
*   *   *
هل هناك من راحةٍ أبلغ من هذه الراحة أن ترى أن الأمر كله بيد الله؟ قال الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء) قالها للنبي الكريم لسيد الخلق ليس لك من الأمر شيء، فإذا كان النبي سيد الخلق حبيب الحق ليس له من الأمر شيء، الأمر بيد من إذاً ؟ بيد الله، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لو كنت طليق اللسان، واضح الحجة والبيان، ودافعت عن نفسك أمامه في قضيةٍ هو حكمٌ بينك وبين خصمك، وانتزعت من فمه الشريف حكماً لصالحك، ولم تكن محقاً، لا تنجو من عذاب الله، علاقتك مع من إذاً ؟ مع الله وحده.
    
    ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
كلمة السماوات والأرض تفيد الكون، الكون كلهمقاليده قال علماء التفسير: مفاتيحه.
 
القرآن والكونوالأحداث كلها تدل على وحدانية الله:
 
أحياناً تجد باباً محكماً، متيناً، قوياً، مُدَعَّماً، يأتي إنسان معه مفتاح صغير وزنه عشرون غراماً فيفتح الباب، فالبطولة لا بالمطرقة بل بالمفتاح، فالله عزَّ وجل بيده مفاتيح كل شيء، الإنسان مفتاحه بيد الله، يرضى إذا شاء الله، يغضب إذا شاء الله، يحقد عليك إذا شاء الله، يعفو عنك إذا شاء الله، مفتاحه بيد الله، حتى الأجسام المادية، حتى الكواكب، كل شيء:
     
    ﴿  لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
أمر هذا الكون بيد الله بدءاً من الذرة وانتهاءً بالمجرة، الذرة، الفيروس، النبي قال:لا عدوى. إذا الإنسان مرض بسبب العدوى، لا ينبغي أن يقول فلان عداني، لا، لأن هذا الفيروس أو هذا الجرثوم لا يستطيع أن يفعل فعله إلا إذا شاء الله، إذاً شاءت مشيئة الله أن يمرض الإنسان، إذاً لا عدوى، أمَّا الاحتياط واجب، إذا كنتم في بلدٍ فيه طاعون فلا تخرجوا منه، ولا تدخلوا إليه، شيء طبيعي نأخذ بالأسباب، أما إذا مرضنا لا ينبغي أن نقول: بالعدوى، النبي قال:
((لا عَدْوَى ))
[البخاري عن أبي هريرة]
أن هذا الجرثوم بيد الله عزَّ وجل، قال:
     
﴿  لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾
أيَّةُ آياتٍ هذه؟ الآيات الدالة على وحدانيته، آيات التوحيد، الكون كلُّه يدلُّ على وحدانية الله، والقرآن كله يدلُّ على وحدانية الله، والأحداث كلها تدل على وحدانية الله.
     
    ﴿  وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾
 
الآياتٌ القرآنية والكونيةٌ والتكوينية كلُّها تدل على وحدانية الله عزَّ وجل:
 
المسلمون يوم بدر كانوا مفتقرين إلى الله عزَّ وجل.
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ  ﴾
[ سورة آل عمران: 123 ]
ضعاف، قلةٌ قليلة، قلةٌ في العدد، وقلةٌ في العُدَد، وضعاف وفقراء، لا رواحل ولا أسلحة، وقريش بأبطالها، وخيلها، ورجلها، وعدَّتها، وعتادها، وكل ما تملك جاءت لتحارب المسلمين فأذلَّها الله، واختلف الأمر يوم وقعة حنين.
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾
[ سورة التوبة: 25]
الآيات التكوينية تدلُّ على وحدانيته، والآيات الكونية تدل على وحدانيته، والآيات القرآنية تدل على وحدانيته، هذه آياتٌ قرآنية وكونيةٌ وتكوينية كلُّها تدل على وحدانية الله عزَّ وجل.
     
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
لماذا ؟ معنى كفروا هنا أي لم يعرفوا، إما أنه لم يعرف الوحدانية،  لم يعرف التوحيد، أو أنه ذُكِّرَ بالتوحيد فأبى إلا أن يشرك، على كلٍ لم يوحد، لم ير يد الله تعمل في الخفاء، مرةً قرأت آية في مسجد والله اقشعر جلدي، آية قرآنية مكتوب:
  ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
[ سورة الفتح: 10 ]
هؤلاء الذين تخافهم أيها الإنسان يد الله فوق أيديهم، فانتهى الأمر، هؤلاء الذين يرعبونك، هؤلاء الذين يخيفونك، هؤلاء الذين تحسب لهم حساباً، هؤلاء الذين ترتعد فرائصك من ذكرهم، أقوياء طبعاً ؛ لكن يد الله فوق أيديهم، انتهى الأمر، انتهت قوَّتهم، وانتهى بطشهم، وانتهى بأسهم، وانتهى معهم كل شيء.
 
الإنسان إذا اعتمد على ما سوى الله اللهُ يخيّب ظنه ويؤدبه عن طريقه:
 
قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ  ﴾
الكونية، بآيات الله التكوينية، بآيات الله القرآنية، الآيات الثلاث الكونية والتكوينية والقرآنية الدالَّة على وحدانية الله، الدالة على أن الأمر كله بيد الله، الدالة على أنه لا إله إلا الله:
     
﴿  وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
لماذا هو خاسر؟ لأنه اتجه بكل طاقاته إلى ما سوى الله، ما سوى الله فقير، اتجه إلى زيد ليغنيه وهو فقير، اتجه إلى عُبيد ليدعمه وهو ضعيف، اتجه إلى فلان ليشفيه وهو مريض، المشكلة الشرك هو أن تتجه إلى جهةٍ موهومة لا تملك شيئاً، والله بيده كل شيء، والله عزَّ وجل يؤدِّب دائماً الخلق، فكلما اتجهت إلى من سوى الله عزَّ وجل معتقداً أنه يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، وينفع ويضر، تأديبك لا بُدَّ من أن يكون عن طريق هذا الذي اعتقدت به القدرة، المشرك يفاجأ، فلان صاحبي، ويتمنَّى خدمتي، وينفذ لي كل طلباتي، تطرق بابه يتجاهلك ولا يقول لك: تفضل استرح، أين كل آمالك؟ الله ألقى في قلبه أن يشدد عليك لأنك اعتمدت عليه.
هذاملخص الملخص، فهذا التوحيد لما تعتمد على ما سوى الله، الله يخيِّب ظنك ويؤدبك عن طريقه، أما إذا قلت: يا رب ليس لي إلا أنت انتهى، جاء الدعم.
 
الإنسان بين حالين لا ثالث لهما بين حال التخلِّي وحال التولِّي:
 
أنت في حياتك بين حالين لا ثالث لهما، بين حال التخلِّي وحال التولِّي، دائماً إما أن يتخلَّى الله عنك وإما أن يتولاَّك، إذ اعتمدت عليه تولاك، وإذا اعتمدت على نفسك أو على من سواك تخلى عنك، فأنت بين التخلية والتولية، مع التولية التوحيد ومع التخلية الشرك، إذا رأيت الله قد تخلى عنك، ووكلك إلى نفسك، وخيب ظنك، وجعلك في حالة إحباط ويأس، معناها أنت معتمدٌ على من سواه، أما إذا رأيت الله عزَّ وجل يوفق، ويدعم، ويحقق، فاعلم أنك معتمدٌ عليه.
الإنسان ضعيف، نقطة دم تجعله مجنوناً أو فاقداً لذاكرته، تنمو خلاياه نمواً عشوائياً يصاب بمرض ليس له دواء حتى الآن، لو بذل ألوف الملايين لا أمل في شفائه، أمراض تتحدى العلم الحديث، كل التفوق العلمي لا يجدي، فمثلاً الإيدز هذا مرض تحدى العصر كله، عقابٌ عاجل للفحشاء والمنكر. لذلك التوحيد مريح، المؤمن يتقلَّب على فراش التوحيد، على فراش وثير، أما الكافر أو المشرك يتقلَّب على فراش القلق والخوف، خائف من فُلان،موزَّع إن أرضى زيداً غضب عُبيد، وإن أطاع فلاناً غضب غيره، موزَّع، مبعثر، مشتت، دائماً في توزع وفي تبعثر، بينما المؤمن موحِّد، ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾
هل من الممكن أن تعبد غير الله؟ هل في الكون جهةٌ تستحق العبادة إلا الله؟ من الذي ينبغي أن يُعْبَد؟ الذي يلبيك إذا دعوته، والذي يستجيب لك إذا سمعك:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ﴾
[ سورة فاطر: 14]
إذاً هذا الذي لا يسمع لا ينبغي أن تعبده، هذا الذي لا يستجيب لا ينبغي أنتعبده، هذا الذي لا يقدر على أن ينقذك مما أنت فيه لا ينبغي أن تعبده.
 
التوحيد هو أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد على الله:
 
ذكر لي أخ طبيب كريم أن حالات كثيرة جداً، يكون الشفاء ذاتياً بلا سبب، يسمّيه الأطباء الشفاء الذاتي، أما هو اسمه الحقيقي شفاء الله عزَّ وجل، وإذا مرضت فهو يشفيني، تجد هذا المرض تراجع بلا سبب، مع أن من طبيعته الازدياد، والانتشار، هذا هو التوحيد.
بالمناسبة لو أن الأسباب فعلت فعلها دائماً لنسي الإنسان ربه، لكن شاءت حكمة الله أن يعطِّل الأسباب من حينٍ إلى آخر أو أن يلغيها، تحدث نتيجة بلا سبب، أو يكون السبب ولا تحدث النتيجة، لماذا؟ ليلفت الله نظرنا إلى أن الأسباب لا تخلق النتائج ولكنها ترافق النتائج. وأوضح سبب سيدنا عيسى بلا أب، والسيدة حواء بلا أم، وسيدنا آدم بلا أب ولا أم، والعاقر شاب، الأسباب مرةً تعطل، ومرةً تلغى، السبب موجود ولا توجد نتيجة، أو نتيجة بلا سبب، أحياناً في شرك الأسباب، تأخذ الحيطة، تعد العُدة، وتطمئن، ولكن يؤتى الحذر من مأمنه، حتى الإنسان لا يشرك بالله عزَّ وجل ويعتمد على الأسباب وحدها من دون الله.
لذلك فالتوحيد هو أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد على الله، فلو أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت، ولو لم تأخذ بها لعصيت، ما أشبه التوكُّل أو التوحيد بطريق على يمينه وادٍ سحيق، وعلى يساره وادٍ سحيق، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها سقطت في وادي الشرك، إن لم تأخذ بها سقطت في وادي المعصية، يجب أن تأخذ بها وأن تعتمد على الله وحده، هذا هو التوحيد.
     
﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾
لا يمكن للإنسان أن يعبد غير الله لأنه لا يوجد في الكون جهةٌ تستحق العبادة إلا الله عزَّ وجل.
     
﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
 
من أسلوب القرآن الكريم أن يكون الخطاب للنبي والمقصود أمة النبي:
 
الحقيقة لا يتصور أن يشرك النبي عليه الصلاة والسلام، الشرك بعيدٌ عن الأنبياء بُعْدَ الأرض عن السماء، ولكن هذا من أسلوب القرآن الكريم، فقد خوطب النبي والمعني أمة النبي عليه الصلاة والسلام، كقول الله عزَّ وجل:
﴿  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ﴾
[ سورة الطلاق: 1]
فالخطاب للنبي والمقصود أمة النبي عليه الصلاة والسلام.
 
﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾
هذه وَحْدَةَ التشريع:
     
﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
معنى يحبطن عملك له معنيان؛ عمل طيب ولكن لغير الله، يأتي الإنسان يوم القيامة فلا يجد لهذا العمل أية قيمة.
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴾
[سورة الفرقان: 23]
عمل أعمالاً جليلة لكنه ابتغى بها السُمْعَة، أشرك نفسه، أو ابتغى بها إرضاء من هم فوقه، هذا هو الشرك.
 
التوحيد يرقى بالعمل والشرك يحبط العمل:
 
يحكم القضاء حكماً عادلاً وهو مشرك، هذا الحكم سوف يراقب من قبل رؤسائه، وسوف يذهب إلى محكمة النقض، وسوف يدقق القاضي الأول في هذا الحكم، وسوف يرى ما إذا كان هذا الحكم نزيهاً أو غير نزيه، إذاً عليه أن يحكم بالعدل، وعليه أن يدقق في هذه القضية، وعليه أن يضع لقراره مسوغاتٍ قانونية حتى يضمن سلامة سمعته عند رؤسائه، هذا عمل طيب حكم بالعدل لكنه أشرك، أراد بالعدل إرضاء من هم فوقه.
طبيب يسارع إلى إسعاف مريض وهو يرى أن هذه الرحمة التي أظهرها ترفع من شأنه في المستشفى، وتجعله الطبيب الأول، ربما عُيِّنَ مديراً لهذه المستشفى، العمل طيب لكن فيه شرك. لذلك يوم القيامة يأتي أصناف من البشر يا رب تعلمنا العلم في سبيلك يقول الله لهم: كذبتم،تعلمتم العلم ليقال عنكم وقد قيل، خذوهم إلى النار، يا رب قرأنا القرآن في سبيلك. يقول: كذبتم، قرأتم القرآن ليقال كذا وكذا وقد قيل خذوهم إلى النار. معنى إحباط العملْ، العمل طيب، لكن أراد به صاحبه غير الله، إما أراد السمعة لنفسه، أو أراد إرضاء من هم فوقه فقد أشرك، وإذا أشرك كأن الله عزَّ وجل يقول: هل لك عندي شيء؟ أنت فعلت هذا الشيء من أجل الناس.
أحياناً الإنسان يطعم الطعام، وهدفه أن يعرض على الناس ما عنده في بيته وترتيباته وأناقة الطعام، لذلك موضوع الشرك دقيق جداً، يقول لك: أنا أمين أدفع ديناً جيداً، لا لست أميناً، فعليك سند، ودفعت السند لأن صاحب السند قوي وقد يقيم عليك الحُجَّة، قد يُشَهِّرَ بك بين الناس، قد يقيم دعوى عليك، قد يضعه في التنفيذ، دفع هذا السند كسلوكٍ آمنٍ مدنيٍ  المصلحة أن تدفع هذا المبلغ، لكن الأمانة التي هي عبادة ألا تكون مداناً في الأرض إطلاقاً.
مثلاً إذا أعطاك أحدهم مئة ألف أمانة. ومات هذا الرجل، ولا يوجد إنسان على وجه الأرض يعلم بوجود المبلغ عندك، فإذا ذهبت إلى الورثة وقدمت لهم هذا المبلغ فأنت أمينٌ ورب الكعبة، هذه الأمانة، لست مداناً أمام أحد، لكنك خفت اللهعزَّ وجل، وأديت هذا المبلغ إلى ورثته، هذه الأمانة.
فالشرك يحبط العمل، العمل طيب، إذا أردت بأداء الحقوق إرضاء الله عزَّ وجل، أردت بإسعاف هذا المريض إرضاء الله عزَّ وجل، أردت بهذا الحكم العادل إرضاء الله عزَّ وجل، هنيئاً لك أنت موحد، التوحيد يرقى بالعمل والشرك يحبط العمل، هذه واحدة.
المعنى الثاني: أنك إذا أشركت، خفت من فلان، أعطاك أمراً غير منطقي وغير لائق، وغير مناسب، وغير إنساني، وغير عادل، ونفذته، العمل سيئ، تلبست بعملٍ سيئ لأنك نفذت أمر إنسانٍ ظننت بإمكانه أن يؤذيك، أو أن يرفعك، فأحياناً العمل يسفل لأن الأمر سخيف، الأمر الذي جاءك سخيف وأنت خفت من الآمر فنفَّذت هذا الأمر فحبط العمل.
 
مقام العبودية:
 
أما المؤمن لا يفعل شيئاً لا يرضي الله عزَّ وجل وليكن ما يكن، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ كأن يكلفك بشراء مادة محرَّمة،مشروب مثلاً، اعتذر وقل: لا أحمله، مهما كلف الأمر، فإذا تلقيت أمراً مما سوى الله، ورأيت أن هذا الآمر مخيف، وبيده الخير والشر، ونفَّذت أمره حبط عملك، العمل سخيف وسيئ ومؤذٍ، أو أن العمل طيب ولكن النية لغير الله عزَّ وجل.
      
﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
أمامنا الآن آية عظيمة هي بيت القَصيد إن صَحَّ التعبير.
     
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
أي أنك أيها الإنسان أنت كعبد هذه مهمتك.
     
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
لا تنصِّب نفسك وصياً على الناس، لا تنصِّب نفسك مسؤولاً عما يجري في الأرض، أنت عبد عليك أن تتقصى أمر الله عزَّ وجل وأن تطيع الله، فإذا أطعته جاءتك الخيرات من كل جانب، عليك إذاً أن تشكر، قال أحدهم لعبد: سيدك يريد أن يبيعك. قال له: يعرف شغله. قال له: أنا سأشتريك. قال له: تعرف شغلك. قال له: اهرب. قال له، أعرف شغلي. أحياناً الشغلة ليست شغلتك، الله عزَّ وجل يدبِّر الكون، فما شغلتك أنت؟ أن تعبده،فإذا عبدته جاءتك الخيرات، إذاً اشكره، عليك أن تطيع وتشكر، هذا اختصاصك، هذا مقامك مقام العبودية.
 
همُّ المؤمن بعد أن يعرف الله أن يبحث عن أمر الله:
 
أحياناً الشغلة ليست شغلتك، الله عزَّ وجل يدبِّر الكون، فما شغلتك أنت؟ أن تعبده،فإذا عبدته جاءتك الخيرات، إذاً اشكره، عليك أن تطيع وتشكر، هذا اختصاصك، هذا مقامك مقام العبودية.
ما أجملها الآية، (بل) حرف إضراب..
     
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
همُّ المؤمن بعد أن يعرف الله، همه الوحيد أن يبحث عن أمر الله؛ في بيعه، في شرائه، في زواجه، في تربية أولاده، في مسكنه، في علاقاته الشخصية، في علاقاته الاجتماعية، في أفراحه، في نزهاته، في كل أحواله، همُّه الأول أن يرضي الله.
     
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
هناك آية ثانية تشبهها:
﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ ﴾
[ سورة الأعراف: 144 ]
تنتهي هنا مهمتك، أن تطيع الله وأن تشكره، لكن أحياناً تجد من ينصِّب نفسه مسؤولاً عما يجري في العالم، فهذا ليس معقولاً؟ فإله يتصرف، أنت تعاطف مع المسلم، أنت اخدم لكن لا تنقم، تشك برحمة الله، هذا ليس شغلك، لن تستطيع أن تثبت عدالة الله إلا إذا كان لك علمٌ كعلم الله، وأنت لا تعرف، صُلح الحديبية في ظاهره مهين ولكن في باطنه عاد بالخير العميم على المسلمين، في أحداث يصعب تفسيرها، في أحداث تفسيرها الظاهري مزعج جداً لا يحتمل، لا يقبل، الله عزَّ وجل متصرف، هو الفعَّال، هو الخالق، هو المربي، هو إله البشر جميعاً، هو أعطى القوي قوة، هو ضَعَّف الضعيف، ضَعَّف الضعيف لحكمة.
 
إذا استسلم الإنسان لله يكافئه الله بأنيكشف له الحِكَمَ البليغة من أفعاله:
 
قال تعالى:
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
[ سورة القصص: 5-6 ]
هذا المسلم قصر فيحتاج إلى صعقة، صعقة صحوة، القلب عندما يتوقف، الأطباء يعطونه صعقة كهربائية، فإما أن يشتغل وإما الموت، هذا المسلم الميِّت ماتت نفسه يحتاج إلى صعقة، ففي صعقات الآن قاسية جداً، هذا عمل الله عزَّ وجل، أنا علي أن أستقيم، علي أن أخدم، علي أن أتعاطف، ولكن ليس علي أن أنقم على الله عزَّ وجل، فأنت لست إله أنت عبد ضعيف علمك محدود..
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ﴾
[ سورة الإسراء: 85 ]
أنت لا تعرف فهنا استسلم، أنت ابذل جهدك واستسلم، طبعاً.
وسلم إلينا الأمر في كل ما يفعل    فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا
*   *   *
ولكن والله الذي لا إله هو إذا استسلم الإنسان لله، الله عزَّ وجل مكافأةً على استسلامه وعلى انصياعه وعلى عبوديته يكشف له الحِكَمَ البليغة من أفعاله، يرى أن الذي وقع لا بُدَّ من أن يقع ولو لم يقع لكان الله ملوماً، يرى أن كل شيءٍ وقع أراده الله بحكمةٍ مطلقةٍ بليغة.
 
في الطاعة جانب معرفي وجانب سلوكي وجانب جمالي:
 
قال تعالى:
     
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
تعطيك حجمك الحقيقي، أنت حجمك أيها الإنسان أن تعبد الله وأن تشكره وأن لا تنصِّب نفسك وصياً على العالم، لماذا يجري ما يجري؟ أين الله عزَّ وجل؟ هذا كلام الضعف والجهل، الله موجود، كل شيء ينطق بوجوده، وكل شيء فعله الكفار بأمر الله وبإذن الله؛ لكن هناك استحقاق.
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 129 ]
     
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
هذا شعارك، هذه مهمتك، هذا حجمك، تحرك بهذه الآية فقط، هذه الآية تحجمك، أنت كعبد مهمتك أن تعبد الله وأن تشكره، ليس لك مهمة ثانية أبداً، ارتح وريِّح، العبادة الطاعة مع الحُب، حبٌ بلا طاعة لا يكون، وطاعةٌ بلا حب ليست عبادة، وحبٌ بلا طاعة ليست عبادةٌ، العبادة طاعةٌ مع حُب، الطاعة مع الحب تحتاجان إلى معرفة وتنتهيان بالسعادة، ففي الطاعة جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي، الجمالي هو الهدف..
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
[ سورة هود:119]
والجانب المَعرفي هو الإيمان، والجانب السلوكي هو التطبيق.
 
الشرك أساسه ضعف العلم:
 
قال تعالى:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
إذا  كان في العمل خلل، معنى ذلك هناك نقص في المعرفة، فكلما وجدت خطأً، أو ضعفاً، أو انحرافاً، أو تقصيراً، يجب أن تعود إلى العلم، النقص في العلم ينتج عنهانحرافٌ في السلوك، فعلاج الضعف في السلوك أو علاج التقصير، أو علاج الخلل، أو علاج الخطأ أتي من تصحيح العقيدة، لذلك الشرك أساسه ضعف العلم، قال:
     
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
تصور عَرِّيف بسبع أشرطة هدد جندياً، بينما طمأنه لواء، ولكنه خاف من تهديد العريف وصار يبكي، هو لا يعرف ما معنى لواء؟ لا يعرف ما هي العسكرية؟ ولا مدى سلطة اللواء قائد الفرقة، فكل إنسان يشرك معنى ذلك أنه لا يفهم شيئاً إطلاقاً، فهذا جاهل، فالله ماذا قال:
   
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
أشركوا لأنهم ما عرفوا الله عزَّ وجل، لو عرفوا قدرته، وعرفوا وحدانيته، وعرفوا أن كل ذرةٍ في الكون بيده، وكل خاصةٍ بيده، وكل قوةٍ بيده، لوحَّدوه ولاتجهوا إليه، ولكن لضعف علمهم أشركوا.
 
ما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا أساسها المعصية والمعصية أساسها الجهل:
 
قال تعالى:
﴿  كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾.
[ سورة فاطر: 28 ]
العلماء وحدهم يخشون الله، ولا يخشى الله أحدٌ سواهم.
     
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
مشكلة المشاكل الشرك، وسبب الشرك نقص العلم، ما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا أساسها المعصية، والمعصية أساسها الجهل. الخطوة الأولى نحو السعادة في الدنيا والآخرة هي العلم، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، إذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معا فعليك بالعلم.
     
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ ﴾
لو أُمرت وأنت الجندي أمرين متناقضين، أمر من عرِّيف وأمر من قائد الفرقة، فَكَّرت، فنفذت أمر العريف، وعصيت أمر قائد الفرقة، أنت جاهل، وأحمق، ومعتوه، إذا أغضبت قائد الفرقة، فأنت لا تعرف مكانته وسطوته، إذاً لو وقعت بالشرك فهو نقصٌ في العلم، فعليك بالعلم، قال عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ هَالَهُ اللَّيْلُ أَنْ يُكَابِدَهُ، وَبَخِلَبِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، ..،فَلْيُكْثِرْ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ))
[الطبرانيعَنْأَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ ]
إذا قلت، إذا بخلت نفسه بالمال، أو ضَنَّت بالسهر في سبيل الله  معنى ذلك أنه لا يعرف الله، عليه إذاً أن يجَدِّد إيمانه بالله.
 
نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل التقوى:
 
قال تعالى:
     
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا ﴾
كل ما فيها:
     
﴿ قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
أي نزهوا الله عزَّ وجل، سبحانه عما يشركون، فهذه الآيات كلها حول شيئين، التوحيد والعبادة، والدين كله توحيد وعبادة.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِي ﴾
[ سورة الأنبياء: 25 ]
نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل التقوى، إذا أنت موحِّد ومستقيم جمعت الدين كله، وحزته من كل أطرافه، إذا وحدت وعبدت حققت المراد من وجودك، وكنت فائزاً وفالحاً وناجحاً ومتفوقاً وسعيداً.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب