سورة الزُّمر 039 - الدرس (5): تفسير الأيات (08 – 09) المصائب والنعم والعلم

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الزُّمر 039 - الدرس (5): تفسير الأيات (08 – 09) المصائب والنعم والعلم

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الزُّمر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الزُّمر ـ (الآية: 08 - 09) - المصائب والنعم والعلم

04/10/2012 17:16:00

سورة الزمر (039)
الدرس(5)
تفسير الآيات: (8-9)
المصائب والنعم والعلم
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بَسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
كل ما يسوقه الله جلَّ جلاله لعباده في الدنيا إنما يسوقه لهم من أجل أن يقرِّبهم إليه:
 
أيها الأخوة الأكارم، مع الدرس الخامس من سورة الزُمَر، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:
     
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾
أولاً: كلمة الضُر، ليس في أفعال الله سبحانه في الكون ضرٌ مقصودٌ لذاته، هذه أول حقيقة، ولأن الله سبحانه وتعالى أسماؤه حسنى، لأن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وأسماؤه حسنى، وخَلَقَ الخلق ليرحمهم..
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
[ سورة هود:119]
ما دام الأمر كلُّه بيد الله؛ لا حركة، ولا سكنة، ولا فعَّال إلا الله، الذي أراده الله يقع، والذي لميرده لا يقع، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، الذي وقع أراده الله، وإرادة الله متعلِّقةٌ بالحكمة المُطلقة، وحكمته متعلِّقةٌ بالخير المطلق، إذاً الشر غير موجود، شرٌ مقصودٌ لذاته لا وجود له في أفعال الله تعالى في الكون إطلاقاً، لكن الشر نسبي، الأب حينما يعالج ابنه قد يضيِّق عليه، هذا التضييق من وجهة نظر الابن تضييق وشر؛ لكن من وجهة نظر الأب تربيةٌ وفضل، فيجب أن نعلم علم اليقين أن كل ما يسوقه الله جلَّ جلاله لعباده في الدنيا، إنما يسوقه لهم من أجل أن يقرِّبهم إليه، والدليل قول الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
[ سورة السجدة: 21]
 
 الله عزَّ وجل إذا ساق عذاباً لعباده فمع العذاب لطفٌ كبيريمسَّهم مسَّاً خفيفاً :
 
كلمة (الضُر) ليست بالمعنى المطلق، بل بالمعنى النسبي، أي أنها ضرٌ بالنسبة للإنسان المقصِّر العاصي، لكنها بالنسبة إلى الله جلَّ جلالهتربيةٌ، وفضلٌ، ومعالجةٌ، ونعمةٌ باطنة، كما فسَّرها المفسِّرون.
 
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
[ سورة لقمان: 20 ]
النقطة الثانية:
﴿ وَإِذَا مَسَّ ﴾
الإنسان أحياناً يمس مكواة ليرى أنها جاهزة للاستعمال، ماذا يفعل؟ يضع لعاباً على إصبعه، ويضع يده في أقلِّ مساحةٍ وفي أقل زمنٍ، هذا هو المس، أي أقل مساحة وأقل زمن مع مواد مخفِّفة، فالله عزَّ وجل إذا ساق عذاباً لعباده فمع العذاب لطفٌ كبير، لا يصيبهم بالعذاب بل يمسَّهم مسَّاً خفيفاً..
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ ﴾
أما الإنسان المقصود في الآية هو الإنسان الذي أودع الله عزَّ وجل فيه خصائص، أودع فيه شهوات، أعطاه عقلاً، أعطاه فطرة، هذا الإنسان كمواد أوليَّة قبل أن يعرف الله جعل له خصائص، فإذا عرف الله عزَّ وجل فله خصائص أخرى، مثلاً.
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾
[ سورة المعارج: 19-21 ]
 
المُصلي له صفاتٌ خاصَّة تختلف عن الإنسان العادي :
 
بحكم حفاظه على حياته، بحكم حبِّه لوجوده، ولسلامة وجوده، ولاستمرار وجوده، ولكمال وجوده، يخاف؛ شديد الخوف، شديد الفزع، شديد الحِرص، فالغرائز التي أودعها الله فيه، وحبُّ ذاته،وحبُّ كمال ذاته كل هذه المعطيات يجعله شديد الخوف، شديد الجزع، شديد الهَلَع، شديد الحرص..
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾
[ سورة المعارج: 19-21 ]
ثم قال سبحانه وتعالى:
﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾
[ سورة المعارج: 22 ]
المُصلي له صفاتٌ خاصَّة، لأن المصلي اتصل بالله عزَّ وجل فقوي على ضعفه الذاتي، قوي على قلقه بالاعتماد على الله، قوي على ضعفه بالاتكال على الله، قوي على جهله بأنه استعان بعلم الله، قوي على حيرته بأنه استهدى الله عزَّ وجل، لذلك فالإنسان ضعيف لكنَّه باتصاله بالله قوي، الإنسان جاهل لكنه إذا اتصل بالله يصبح عالماً، الإنسان خائر القِوى، شديد الخوف، لكنَّه إذا اتصل بالله يلقي الله في قلبه السكينة.
 
الإنسان قبل أن يعرف الله أودِعَت فيه خصائص كل هذه الخصائص لمصلحته :
 
إذاً في الآية مراكز ثِقل، كلمة (مسَّ) تعني أن الله لطيف، فإذا ساق العذاب لعباده ليس القصد أن يعذِّبهم، بل القصد أن يردَّهم، لذلك يأتيهم العذاب مُلَطَّفاً، والعوام لهم كلمة أحبُّها: " الله يبلي ويعين ". هذا معنى المس، أي أنه مسٌ خفيف، الإنسان يصاب بالمرض، لكن يلقي الله في قلب من حوله الرحمة عليه، فيهبّون لمساعدته، أحياناً يصاب بفقر، لكن يلقي في قلوب الآخرين حبَّ معاونته، فربنا عزَّ وجل إن ساق العذاب يجعل مع العذاب يُسراً، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾
[ سورة الشرح: 6]
لم يقل: إن بعد العسر يسراً، بل قال: ﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾، أولاً أفعال الله عزَّ وجل فيها كل أسمائه، فالله قوي، وقهَّار، وجبَّار، لكن لطيف، ورحيم، وودود، وعفو، وغفور، فكل أسمائه داخلةٌ في كل أفعاله، لذلك:
﴿ وَإِذَا مَسَّ  ﴾
الإنسان هذا المخلوق قبل أن يعرف الله أودِعَت فيه خصائص، كل هذه الخصائص لمصلحته، لكنها في الوقت نفسه حياديَّة، فهذا المحرِّك في السيارة مثلاً، أيعقل أن يكون إنسان ركب مركبة ووقع له فيها حادث وتدهورت، ويقول: يا أخي هذا المحرِّك إنما صُنِعَ من أجل أن ألقى هذه النتيجة، لا، صُنِعَ هذا المحرِّك كي تستعمله وفق الأصول، وكي تحقِّق من خلاله أهدافك من هذه المركبة، لكنك حينما قُدَّتَ هذه المركبة قيادةً غير حكيمة، ولم تكن منتبهاً ولا واعياً حينما قدتها، بل كنت غارقاً في الشراب، فنقلتك إلى الوادي، وأصابتك بما أصابتك مثلاً، فلا تقل: المعمل حينما صنع هذا المحرِّك إنما صنعه ليؤذيني، لا ثم لا.
 
جميع أنواع الحظوظ التي أودعها الله في الإنسان حظوظٌ حياديَّة :
 
لذلك الحظوظ كلُّها، جميع أنواع الحظوظ التي أودعها الله في الإنسان حظوظٌ حياديَّة، يمكن أن ينتفع بها في آخرته، ويمكن أن يهوي بها في جهنَّم، والحظوظ تماماً كدرجات أو دركات، درجاتٌ إلى الجنة يرقى بها، ودركاتٌ إلى النار يهوي بها، المال هو نفسه يمكن أن يكون سلَّماً إلى الجنَّة، والمال نفسه يمكن أن يكون دركات إلى النار، وكذلك الأولاد، فالكافر مثلاً لا ينجب إلا ولداً كافراً في الغالب لأنه هو الذي ينشئهم ويربيهم..
﴿ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً ﴾
[ سورة نوح: 27]
أجل، يُنَشِّئُ ابنه على معصية الله، ينشِّئه على أن هذا الدين لا يصلح لهذا الزمان، هكذا يُلقي في روعه، فالولد، المال، الصحَّة، الذكاء كل هذه الحظوظ حياديَّة، بإمكانك أن ترقى بها إلى الله، وبإمكان الإنسان أن يهوي بها إلى النار، فلذلك:
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ﴾
الإنسان فيه شهوات من أجل أن يرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، فإن لم يرقَ بها إلى رب الأرض والسماوات، ومارسها بطريقةٍ غير شرعيَّة، قادته إلى الظلمات، وإلى نار جهنَّم، لذلك النبي الكريم يقول:
((حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ))
[ مسلم عن أنس بن مالك]
إن عمل الجنة حزن بربوة، وإن عمل النار سهل بسهوةٍ..
((أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثاً أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ))
[أحمد عن ابن عبَّاس ]
هذا الإنسان إذا عرف الواحد الديَّان تجلت عنده صفات أخرى، لذلك فرَّق العلماء بين الفطرة وبين الصبغة، الفطرة أن تحبَّ الخير، الفطرة أن تحبَّ العدل، لكن الصبغة أن تكون عَدْلاً، الصبغة أن تكون خَيِّراً، فكل إنسان مفطورٌ فطرةً عاليةً، لكنالمؤمنون وحدهم اصطبغوا بالكمال الإلهي، هذا الذي يمكن أن يقال في كلمة الإنسان المشار إليه في الآية الكريمة:
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ﴾
 
أروع ما في هذه الآية أن الضُر يكشف زيف الإنسان ويجعله وجهاً لوجهٍ أمام فطرته:
 
الإنسان دائماً يتأمَّل نفسه، هل صفاته تشبه الصفات التي أوردها الله في القرآن الكريم قبل أن يؤمن؟ الإنسان قَتور، الإنسان جَحود، الإنسان كَفور، الإنسان كما قال الله عزَّ وجل: عَجول، الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً، هذه صفات الإنسان قبل أن يعرف الله عزَّ وجل، أما إذا عرفه فصفاته تتبدَّل تبدُّلاً جذرياً.
وبعد فالله عزَّ وجل رب، وهو خالق، هومسيِّر لكنَّه ربُّ العالمين، ومعنى رب العالمين أنه يربي النفوس، أجل يربيها، فإذا اختارت ما يؤذيها، اختارت طريقاً ضالاً، أو اختارت طريقاً يودي بها إلى النار لا يدعها على حالها، لا يتركها هملاً، بل يربيها تربيةً تعود عليها بالخير، فمن هنا يأتي الضُر.
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ﴾
أروع ما في هذه الآية أن الضُر يكشف زيف الإنسان، ويجعل الإنسان وجهاً لوجهٍ أمام فطرته، فطرته مؤمنة، الإنسان حينما فطره الله عزَّ وجل فطره فطرةً لا تسكنُ ولا ترتاحُ إلا بمعرفة الله، فعند المؤمنين شعور عجيب، يقول لك: بعدما تبت إلى الله ارتحت،كلام صحيح، كلامٌ صحيحٌ مئة في المئة لأن فطرة الإنسان لا تطمئن ولا ترتاح إلا بطاعة الله، إذا أطاعت الله عزَّ وجل شعرت أنها في حرزٍ حريز، وفي حصنٍ حصين، وأنها بأعين الله عزَّ وجل، إنها برعايته، إنها تحت مِظَلَّة رحمته، هذا الشعور لا يقدَّر بثمن.
لذلك قالوا: " إن الله يعطي الذكاء والقوَّة والجمال والمال للكثيرين من عباده، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين".
والله أيها الأخوة، في نفس المؤمن من مشاعر الرضى عن الله عزَّ وجل الكثير الكثير، ومشاعر الثقة برحمة الله، ومشاعر الطُمأنينة إلى عدالة الله، ومشاعر أن الأمر كله بيد الله، وأن علاقته مع جهةِّ واحدة، هذه المشاعر تملأ قلبه سعادةً، في حين أن أهل الدنيا لو حصَّلوا من المال الشيء الوفير، ومن الصحَّة، ومن الذكاء والقوَّة والجمال، فإذا فقدوا الإيمان فقدوا كل شيء، لذلك في المناجاة يقول الإنسان: " يا ربِّ ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ ".
 
الإنسان الكامل هو الذي يعرف حجمه قبل أن يُحَجِّمَهُ الله عزَّ وجل :
 
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ﴾
الإنسان وهو في بحبوحة يتحدَّث عن قوَّته، عن ماله، عن شأنه، عن ذكائه، عن خبرته، لكن إذا ألمَّت به المكاره قال: يا رب يا رب. أنت أحياناً تلتقي مع إنسان له شأنٌ رفيع في المجتمع، كأن يشغل منصباً رفيعاً مثلاً، وله رتبة عالية، فإذا رأيته مريضاً وجدته عبداً لله عزَّ وجل، ويتضرع قائلاً: يا رب، فتقول في سرك: لم أكن أسمعه يقول هذا الكلام من قبل، بل كان يعتدُّ بنفسه، وقد حدَّثني أخ عن رجل من أشدِّ الرجال قسوةً، ومن أشدِّهم قوَّةً، ألمَّ به مرضٌ عُضال فزاره أصدقاؤه فإذا هو كالطِفْلِ الوديع، قلت: سبحان الله، ما الذي أعاده إلى فطرته؟ هذا المرض أعاده إلى فطرته، فالإنسان الكامل هو الذي يعرف حجمه قبل أن يُحَجِّمَهُ الله عزَّ وجل، الله يُحجِّم، لأن الله عزَّ وجل مربٍ،فأنت إذا عرفت حجمك كنت في بحبوحة، لقوله تعالى:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ﴾
[ سورة النساء: 147]
أما إذا لم تعرف الله، وتبجَّحت بقوَّتك، وذكائك، وخبرتك، وعلمك، وأسرتك، ومالك، وأجهزتك، وبيتك،يأتي التحجيم من الله عزَّ وجل ليعرِّفك بعبوديَّتك، لذلك:
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ﴾
الإنسان في أثناء المصيبة تُنْزَعُ منه كل الأقنعة المُزيَّفة، المال قناع مزيَّف، هناك مصائب لا يحلُّها المال، أنا كنت مرَّة عند طبيب فجاءه هاتف من أهل مريض، أنهم مستعدون للذهاب إلى أي مكان في العالم يرشدهم إليه لعلَّه تُجرى له عمليَّة، والمبلغ مهما كان كبيراً ندفعه، قال لهم: والله لا أستطيع، الحالة متفاقمة جداً وليس لها علاج لا عندنا ولا في أي مكانٍ آخر، فأين المال؟ ما قيمة المال؟!!
 
الإنسان كما يُبْتَلى بالمصائب يُبْتلى بالنعم :
 
بالمناسبة: إذا اعتمد الإنسان على ماله، فالله عزَّ وجل يعالجه معالجة لا ينفع فيها المال، إذا اعتمد على قوَّته يضعه بظرف لا تنفع فيه القوَّة، فكل شيء أنت معتمد عليه، ومتكئ عليه، فكأنك تجعله إلهاً من دون الله، الله عزَّ وجل لأنه رب العالمين لا بد من أن يتدخل في حل مشكلة، وهذا الذي تعتمد عليه لا يجديك نفعاً أبداً، الآن:
﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾
[ سورة الأنبياء: 35]
الإنسان كما يُبْتَلى بالمصائب يُبْتلى بالنعم، قال تعالى:
     
﴿ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ ﴾
يُمْتَحَن بالنعمة ويُمتحن بالنقمة، يمتحن بالعطاء ويمتحن بالمنع،يمتحن بالإمداد ويمتحن بالقبض وبالبسط. لكن المؤمن يرى أن منع الله عطاء، أجل المنع من الله عين العطاء لأن الله عزَّ وجل يحمي صفيَّه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام.
     
﴿ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ ﴾
هذا الإنسان قبل أن يعرف الله يعيش لحظته فقط، قوي، يقول لك متفلسفاً:الإنسان كلَّما ضعف تفكيره يخاف بحواسِّه فقط، وكلَّما نما تفكيره يخاف بفكره، فالطالب ما دام بعيداً عن زمن الفحص تجده مهملاً ولا يدرس، يلهو مع أصدقائه، مع أهله، فمتى يشعر بوطأة الامتحان؟ في أيَّام الامتحان فقط، أما الطالب العاقل يخاف ضياع الفرصة لا بالظروف المعاصرة والظروف الآنيَّة؛ بل يخاف من مداهمة المستقبل، فالمؤمن دائماً يخاف إن كان قوياً أو ضعيفاً بفكره، وغير المؤمن فهو الذي يخاف إن بحواسِّه فقط، فهذا عندما شفاه الله عزَّ وجل من مرضه، أو أزال عنه الفقر إلى الغنى، أو واجهه شبح مصيبة فأزاحها عنه، رجع إلى ما كان عليه من قبل تمرداً وغطرسة.
 
المصائب التي يسوقها الله عزَّ وجل للإنسان تذكير له باقتراب الأجل :
 
اليوم ذكرت قصَّة بليغة جداً، ومناسبة جداً لدرسنا، أنه بينما كان شخص يقود سيَّارته وإلى جانبه زوجته، تعرَّض لأزمة قلبية حادَّة، عند وقوفه أمام إشارة المرور، فارتمى على المقود، لأن الله عزَّ وجل لطيف جداً، مرَّ صديقه في الوقت المناسب، فحملوه من فوره ووضعوه على المقعد الخلفي، وقاد صديقه السيارة إلى مستشفى وأدخلوه غرفة العناية المشدَّدة، وبعد سويعات استيقظ فطلب مسجِّلة، فذكر في هذه المسجِّلة اعترافاته، وقال: المحل الفلاني فروغه كذا مليون ليرة وهذا ليس لي ولكن لإخوتي، أنا اغتصبته منهم غصباً، اعترف، والأرض الفلانيَّة، والبستان الفلاني كذلك، وذكر كل ما عليه من حقوق كان قد اغتصبها بسبب هذه الأزمة التي ألمَّت له، وبعد أيَّام تخرَّج من المستشفى، وعادت له صحَّته وقوَّته، فقال: أين الشريط؟ أعطوني إيَّاه، أخذه وكسَّره، وبعد ثمانية أشهر جاءته أزمةٌ أخرى فأودت به ومات معتدياً، مغتصباً، مشغول الذمة.
هذه القصَّة نقلتني إلى شيء عِشْتُهُ حينما كنت في التعليم، فالتيار الكهربائي كان في بعض الأقبية ليس مستمراً بل كثيراً ما ينقطع، وفي الساعة الثانية عشرة تُطْفَأ الكهرباء، طبعاً كان عندنا تقليد لطيف أنه في الساعة الثانية عشرة إلا عشر دقائق تطفأ لثانيةٍ واحدة ثمَّ تعود، أي إشارة أنه اقترب وقت انقطاع التيار الكهربائي فانتبهوا، أما الإشارات الضوئيَّة فلها وميض، فاللون الأخضر يومض وميضاً أي أسرع فستصبح الإشارة حمراء، فكل هذه المصائب التي يسوقها الله عزَّ وجل للإنسان تشبه انقطاع التيار لمدة ثانية وهي تذكيرٌ بأن اللقاء قد اقترب فهل أنت مستعد أيها العبد؟ فمثلاً شَيْبُ الشعر، يقول الله عزَّ وجل:عبدي كبرت سنُّك، وانحنى ظهرك، وضعُف بصرك، وشاب شعرك، فاستحي مني فأنا أستحي منك، لقد اقترب اللقاء، فإذا تجاوز الإنسان عتبة الأربعين فقد دخل في مدارج الآخرة، والإنسان إذا بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شرَّه فليتجهَّز إلى النار، الأربعين فما بعدها سِنُّ معرفة الله، سِنُّ التقرُّب إليه، وإن كان ما يفعله الشاب في شبابه يوازي أضعافاً مضاعفة ما يفعله الكَهل في كهولته، والشيخ في شيخوخته، لأن الله عزَّ وجل قال: أحبُّ ثلاثاً وحبي لثلاثاً أشد، أحبُّ الطائعين وحبي للشاب الطائع أشد، هذا شيء لا يُقدَّر بثمن:
((إِنَّ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ))
[ أحمد عن عقبة بن عامر]
     
﴿ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ ﴾
 
الكافر إذا خوَّله الله نعمةً نسي ما كان يدعو إليه :
 
ذات مرَّةٍ قُدّم للنبي عليه الصلاة والسلام لحم شاةٍ، قسم منه مشوي وقسم مطبوخ، وخبز شعيرٍ، وتمرٌ وبُسْرٌ ورُطَبٌ، فبكى وقال:لحمٌ، وخبزٌ، وتمرٌ، ورُطَبٌ، وبسَر؟! إن هذا هو النعيم الذي نُسأل عنه يوم القيامة.
يا أيها الأخوة، إذا كنت بصحَّة طيِّبة، فصحَّتك هذه نعيم، السؤال عنها: كيف استعملت هذه الصحَّة؟ في طاعة الله أم في معصيته؟ إذا كان عندك وقت فراغ فهذا نعيم تسأل عنه يوم القيامة، هذا الوقت كيف أمضيته؟ إذا كنت في طمأنينة لست مُلاحقاً، فهذه نعمة كبيرة جداً، حر تتحرَّك أينما تريد، تسافر، تقيم، لست خائفاً، نعيم الأمن ماذا فعلت به؟ هل استخدمت الأمن للتمادي في المعاصي، أم استخدمت الأمن الذي تنعُم به في المبالغة في الطاعات؟ هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
[سورة التكاثر:8 ]
نعمة الصحَّة، ونعمة المال، ونعمة الفراغ، ونعمة الأمن، ونعمة القوَّة، هذا كله من نعيم الدنيا. لكن الكافر إذا خوَّله الله نعمةً نسي ما كان يدعو إليه، ينسى حاله عندما كان يتوسل إلى الله عزَّ وجل، لا أعتقد أنَّ هناك إنساناً تلمُّ به مصيبة إلا ويناجي ربَّه، لكن البطل هو الذي يبقى عند ندائه، عند عهده، يا رب أنا أعاهدك إن نجَّيتني من هذه الورطة لأكونن من الصادقين، لأكونن من الطائعين، لأكونن من المؤمنين، لأكونن من التائبين، لأكونن من القانتين، فلمَّا نجَّاه منها عاد إلى ما كان عليه، ليته اكتفى بذلك، بل:
﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً ﴾
الآية دقيقة، الله عزَّ وجل ساق له الشفاء على يد طبيب، فجعل هذا الطبيب ندَّاً لله، يا سيدي هذا الطبيب ليس له مثيل، لولا هذا الطبيب الذي تولى معالجتي لعاجلني أجلي، هكذا يقول لك.
 
الله عزَّ وجل هو الذي يستحقُّ وحده العِبادة :
 
قال تعالى:
﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً ﴾
عنده قضيِّة شائكة جداً، والله ألهم محامياً مخلصاً خدمه فيها، فربحت دعواه، هذا المحامي لا مثيل له، لو كان غيره لخسرت دعوانا، قل: الله عزَّ وجل. قل: الله عزَّ وجل ساق لي هذا المحامي ليدافع عني، وألهمه الحجَّة، وألهم القاضي الإنصاف، فالإنسان حينما تأتيه مشكلة ويدعو الله عزَّ وجل، فيزيح عنه هذه المشكلة ينسى، فيعزو هذا النجاح إلى أشخاص، لذلك: ما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد:
﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً ﴾
هناك رأي آخر وهو رأي قوي: حول موضوع الند للهوسيأتي بيانه فيما بعد، فالله معبود، الله عزَّ وجل الذي يستحقُّ وحده العِبادة، معنى العبادة الخضوع التام، الحب الكامل، الإخلاص الشديد.
ولكن إذا كان الله عزَّ وجل هو المعبود الذي يستحقُّ العبادة، وهو المعبود الذي ينبغي أن تطيعه، وأن تخلص له، وأن تفني شبابك من أجله، وأن تمضي العمر كلَّه في طاعته، وأن تنفق المال في سبيله، وأن تجلس على ركبك السَّاعات الطوال لتحصيل العلم الذي يريده، وأن تخدم خلقه فهذه عبودية فقط. لكن إذا فعلت هذا مع غير الله عزَّ وجل، كأنَّك جعلت هذا الشيء نداً لله عزَّوجل، فإذا أخلصت لامرأةٍ مثلاً وأنت ترى كل السعادة في الزواج منها، حتَّى أمرتك بمعصية الله فاستجبت لها، فأنت جعلتها نداً لله عزَّ وجل، أو إذا أخلصت لإنسانٍ، ورأيته قوياً، وبإمكانه أن يرفعك وإذا غضب عليك بإمكانه أن يخفضك، فأنت جعلت هذا الإنسان ندَّاًلله، حينما جعلت طاعته فوق طاعة الله عزَّ وجل، فليحذر الإنسان، فأحياناً يرى أشخاصاً، أو أشياء، أو شهوات، أو قيَماً ترتفع في نظره فتكون ندَّاً لله عزَّ وجل، فلا يعزو الخير الذي أصابه لله عزَّ وجل.
     
﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
بل رأى أن هذه الأشياء هي من القوَّة، والجمال، والتأثير في حياته بحيث إذا أطاعها سَعِدَ في الدنيا والآخرة.
 
الإنسان إذا أشرك أضلَّ نفسه عن الله وأضلَّ غيره :
 
قال تعالى:
     
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً ﴾
الند طريقٌ غير سالك، لديك طريق وحيد سالك هو طريق طاعة الله، هذا الطريق سالك إلى الله، أما أي طريق آخر فهو مسدود، لو تعلَّقت بإنسان، هذا الإنسان ليس عنده ما يرضيك، ليس عنده سعادةتُسعدك، ليس عنده قوَّة تعينك، ليس عنده أنوار تنوِّر قلبك، طريقٌ مسدود، الطريق الوحيد طريق الله عزَّ وجل، هذا الطريق سالكٌ لرحمته، سالكٌ للسعادة، فالإنسان إذا تعلَّق بغير الله، وأطاع غير الله، أضلَّ نفسه عن الله، وسار في طريق مسدود.
لذلك لو فرضنا من باب التمثيل أن لك مبلغاً كبيراً جداً في مدينة حلب، وهو جاهز للدفع بمجرَّد أن تصل إلى هذه المدينة، وذهبت إلى محطَّة القطارات، والقُطر كثيرة، فقطار إلى حِمص، وقطار إلى درعا، وقطار مثلاً إلى بيروت، وقطار إلى تدمر فرضاً، وفي قطار إلى حلب، قطار حلب هو أهم قطار بالنسبة لك، لأنك إذا ركبته ووصلت إلى فلان قبضت المبلغ الكبير، أما القطارات الأخرى فليس لك بها فائدة، وطريقها لا يوصلك لحلب مسدود، فلو ذهبت إلى بلدةٍ على عكس حلب، فلن تجد شيئاً، ولن تقبض أي شيء وقد تفوتك الفرص، فالإنسان حينما يتَّجه إلى غير الله عزَّ وجل لا يفقه شيئاً، الإنسان إذا أشرك أضلَّ نفسه عن الله، وأضلَّ غيره..
﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
 
متاع الحياة الدنيا محدود :
 
أطاع زيداً فقبض مبلغاً كبيراً مكافأةً على هذه الطاعة، قد يكون مبلغاً كبيراً جداً، فاشترى البيت الفخم، واشترى المركبة الفارهة، وتمتَّع، واشترى مزرعة، وتمتَّع وبذخ بهذا المال الكبير لكن الله عزَّ وجل يقول له:
﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ﴾
أي أن كفرك الذي أورثك هذا المال تمتَّع به قليلاً:
﴿ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾
سيدنا إبراهيم قال:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ  ﴾
[سورة البقرة:126 ]
الله عزَّ وجل قال:
﴿ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
[سورة البقرة:126 ]
فهذه متعة محدودة.
 
آيات قرآنية تؤكد أن متاع الحياة الدنيا قليل :
 
قال تعالى:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
[سورة النساء: 77]
الله الله؛ ما أدق معنى هذه الآية:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾
[سورة النساء: 77]
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾
 [ سورة الإنسان: 27]
﴿ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾
 [ سورة إبراهيم: 30]
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
[ سورة القصص الآية: 61]
 
التمايز بين الناس يظهر جلّياً بعد العرض على الله :
 
قال تعالى:
     
﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ﴾
هي أيَّام معدودة،وبعد فإذا عاش إنسان ثمانين سنة، السنة ثلاثمئة وخمسة وستين يوم ضرب ثمانين، تُعَد الأيام، كم مرَّة دعي إلى وليمة؟ كم مرَّة قام بنزهة؟ كم وكم كله معدود ومحدود، يقول لك مثلاً: قضيت مع زوجتي أربعين سنة فهذا عمر مديد، ولكن انقضى:
     
﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ﴾
الإنسان عندمايكون قوياً، أو غنياً، أو له علاقات اجتماعيَّة نامية جداً، لكن في معصية الله كل هذا محسوب عليه، مسجَّل عليه، وكلها أشياء معدودة بعد الحساب العَسير، وأما إذا صَبَرَ الإنسان على طاعة الله فقد تفوته بعض المُتَع الرخيصة، والمباهج الشيطانيَّة، لكن ضمن الجنَّة، وبالحقيقة الآن بالتعبير الحديث الأوراق مختلطة، أي أن المؤمن شخص عادي، قد يكون موظَّفاً، مدرِّساً، طبيب له عيادته، بيته متواضع، زوجته، أولاده مثله، وهناك ناس أقوى منه، وأغنى منه، وناس لهم شكل أوسم منه، لكن حينما يقوم الناس لرب العالمين، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾
[ سورة يس:59]
في أثناء العالم الدراسي كل الطلاب يتشابهون، كلهم يلبسون لباس الفتوة ويدخلون إلى المدرسة، وإن كانت جامعة كلَّهم يلبسون بدلات الدراسة الجامعية ويذهبون إلى الجامعة، منهم كسول، ومنهم مجتهد، ومنهم عبقري، وبعضهم فلتة من فَلتات الزمان، وبعضهم كتلة غباء، مشكَّل، فمتى يُعْرَفون؟ بعد الفحص، أثناء العام الدراسي فظاهرهم واحدة؛ فهذا اللباس الموحَّد، والحركة نحو الجامعة، وحضور المحاضرة والاستماع يوحد بينهم، لكن هذا يدرس، وذاك كسلان، متى يُكْشَف الأمر؟ بعد الامتحان.
 
ربنا عزَّ وجل نقلنا نقلة مفاجئة إلى نموذج آخر :
 
نحن في حياتنا كأننا في العام الدراسي، لكن يوم القيامة تعرف نتيجة الامتحان، ستعرف نعم الله العظمى عليك، عندما ترى أقوى الناس وأغنى الناس في حسرة كبيرة جداً، في خسارة كبيرة جداً، وأنت ربحت الدار الآخرة، أن هذا لهو الفوز المبين والفوز العظيم:
     
﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾
ثم إن ربنا عزَّ وجل نقلنا نقلة مفاجئة إلى نموذج آخر، هذا الإنسان سويعاتي، أي أنه تأتيه المشاكل فينهار، يقع في اليأس والقنوط، وأحياناً ينتحر، تأتيه الدنيا فيرقص، أمره عجيب، الخير يجعله خفيفاً، والشر يجعله يئوساً، وإذا ساق له الله عزَّ وجل بعد الشر خيراً ينسى الله، ينسى دعاءه وتبتُّله، ينسى ترجِّيه لله عزَّ وجل، يجمِّع الأموال يريد ليفجر أمامه..
     
﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾
فإذا هذا الإنسان الكفور، الجحود، الذي يعيش لحظته، ويعطِّل فكره، ويعطِّل قيمه كلها، ويعيش لذاته، فهل ذاك التائه يوازي هذا الإنسان العابد؟
     
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ ﴾
هل يستوي هذا مع ذاك؟ إنسان يحضر مجالس العلم ليتعرَّف إلى الله، يقرأ القرآن، يصلي الصلوات الخمس، له دعاؤه، له أوراده، له أذكاره، يغض بصره، يضبط لسانه، يضبط يده،يضبط دخله، يضبط إنفاقه، من مجلس علمٍ إلى مجلس علمٍ، من طاعةٍ إلى طاعة، من خيرٍ إلى خير، من عبادةٍ إلى عبادة، من منزلة إلى منزلة، يقرأ القرآن فيبكي، يصلي فيبكي، ينفق ماله حباً بالله عزَّ وجل، هذا الإنسان المُحب، العابد، الطائع، المُتَّقي، المخلص، أيعقل أن يستوي مثلاً أفلا تذكرون؟!
 
التؤدَةُ خيرٌ كلُّها إلا في عمل الآخرة ليست خيراً إنها تقصير :
 
قال تعالى:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ ﴾
القنوت الانقطاع، أي انقطع لطاعة الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ ﴾
[ سورة التوبة:111]
لقد باع عمره، باع وقته كله،يا سيدي: كم الزكاة؟ قال له: عندكم أم عندنا؟ قال له: ما عندنا وما عندكم، فكم دين لديه؟ قال له: عندكم واحد من الأربعين، أما عندنا العبد وماله لسيده. يقاس عليها أن الوقت كلُّه لله، كل طاقاتك لله، كل خبراتك لله، بيتك لله، مركبتك لله، مالك لله، أنت في زمن الامتحان، أنت الآن في حياة إعداديَّة، لذلك لا خير في الإسراف لكن لا إسراف في الخير، والتؤدَةُ خيرٌ كلُّها، إلا في عمل الآخرة ليست خيراً إنها تقصير، وإنها بطء..
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ ﴾
أي في أطراف الليل:
﴿ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ ﴾
 
دائرة المرئيات محدودة أما دائرة المسموعات فكبيرة جداً :
 
نحن على أبواب شهر رمضان، عندنا كل يوم صلاة التراويح، فإذا أكل أحدكم فليأكل أكلاً خفيفاً ولا يكثر، لكي يصلي صلاة فيها خشوع لله عزَّ وجل، لكي يشعر أن التراويح ولو كانت عشرين ركعة فهي خفيفة عليه، لو ملأ بطنه لما استطاع أن يصلي، فاكتفى بأكله الخفيف لكي يقوى على الصلاة، وقف بين يدي الله عزَّ وجل عشرين ركعة، ساعة وربع الساعة، واستمع إلى جزء من القرآن الكريم، وتأمَّل في الآيات التي رتلها الإمام، وشعر كأن الله يتلوها عليه، وركع وسجد، واستمع إلى درس علمي قصير، وعند الفجر كذلك، وصلى الظهر في المسجد، وكذلك العصر، ودائماً يقرأ القرآن، يذكر الله عزَّ وجل، يغضُّ بصره، يضبط سمعه ولسانه، هذا الإنسان له عند الله شيءٌ كثير، لذلك:
(( أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))
[متفق عليه عن أبي هريرة ]
ما لا عينٌ رأت، دائرة المرئيَّات محدودة جداً لكل واحد منَّا، ولا أذنٌ سمعت، المسموعات أكبر منها بمليون مرَّة، بمئة مليون، أنت رأيت كم مدينة في العالَم؟ سبعة أو ثمانية، تسمع بالأخبار كم مدينة؟ مئات بل ألوف، تسمع أيضاً عن المجرَّات؛ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، الله قال:
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ﴾
[ سورة السجدة:  17]
لم يقل: لو تعلم، بل قال: لا تعلم، أي لا يمكن أن تعلم..
﴿ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة السجدة:  17]
فهذا الذي:
     
﴿ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾
 
المؤمن يخشى الله ويحاسب نفسه على الدرهم :
 
أحياناً يأتيك زبون بسيط إلى متجرك أو محل عملك فاحذر من غشيم، قال لي واحد بالمناسبة: إنه كان يلف محرِّكات ـ والله هذه الحادثة أرويها لأنها واضحة جداً ـ قال لي: أحياناً أفتح المحرِّك، وطبعاً صاحبه لما أحضره ظنَّ أنه محروق ويحتاج إلى لَف، والشرط بيننا خمسة آلاف، أفتح فأجد أن المحرِّك فيه طاق محروق، فبالكاوية بدقيقتين أنهيه، قال لي: لما لم أكن أعرف الله عزَّ وجل، كنت أغلق المحرِّك ثم يأتيني صاحبه بعد يومين فآخذ منه خمسة آلاف، مثلما اتفقنا، بعدما اصطلحت مع الله وتبت إليه، صرت أطلب منه خمسة وعشرين ليرة، ألم تقل لي: خمسة آلاف؟ نعم ولكن تبيّن أنه العطل بسيط، هو لا يعلم ما بداخله، يعلم أنه توقَّف عن العمل، فغلب على ظنِّه أنه محروق، فجاء به إليك، فانظر إلى المؤمن، من هذه الحادثة هناك ملايين، المؤمن يخشى الله، يحاسب نفسه على الدرهم.
لي قريب عنده محل ـ مطعم تقريباً ـ قال لي: مرَّةدخل شخص معه ظرف رماه وهرب، كتب فيه: أنا أكلت ذات مرة عندك ولم أدفع ثمن الطعام. فيظهر أنه عرف الله عزَّ وجل، وأدرك أنه لزمت ذمته دين فرمى هذا الظرف الذي فيه الرسالة وفيه مبلغ من المال، قال لي: ولكن حسب التعرفة القديمة:
     
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾
تجد إنساناً مؤمناًيبذل من ماله، من وقته، يرجو أن يرضى الله عنه، يرجو أن يتجلَّى الله على قلبه، يرجو أن ينجِّيه الله من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فرحمة الله عزَّ وجل واسعة، رحمته واسعة جداً، خلقنا ليرحمنا:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
[ سورة هود:119]
 
العلم هو الطريق الموصل إلى الله :
 
هنا يوجد سؤال دقيق: لماذا هذا الإنسان تصرف على نحو ما جاء بالآية التالية:
       
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
الله قال له عندما ضل بالنعمة التي أولاه الله إياها:
      
﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾
ولماذا الثاني هذا شأنه مع الله سبحانه:
     
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾
فما الذي جعل الأول في هذه الحال المتناقضة المُزرية، وجعل الآخر في هذه الإنابة والإقبال والخوف والرجاء؟جاء الجواب:
     
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
معنى هذا أن الأول لا يعلم، والثاني يعلم، معنى هذا أن العلم طريقٌ وحيدٌ إلى الله عزَّ وجل، العلم هو الطريق الموصل إلى الله..
﴿  كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
[ سورة فاطر: 28 ]
 
التوبة من دون علم مستحيلةلذلك العلم طريق وحيد إلى الله عزَّ وجل :
 
هذا الإنسان الضال، الشارد، تأتيه الدنيا فيرقص، تذهب عنه فينتحر مثلاً، يكشف الله عنه المصيبة فينسى أنه دعا ربَّه، ويكفر، ويشرك، ويضل نفسه عن سبيل الله، كل هذه الأمراض الوبيلة في عقيدته، في سلوكه، أساسها أنه لا يعلم؛ وهذا الإنسان القانت آناء الليل، الساجد، القائم، الذي يحذر الآخرة، ويرجو رحمة الله عزَّ وجل لأنه يعلم، إذاً إذا أردت أن تكون من الذين رضي الله عنهم، من الذين استقاموا على أمره، من الذين أنابوا إليه، من الذين وقفوا عند حدوده، من الذين أحبُّوه، من الذين باعوا أنفسهم في سبيله، فعليك بالعلم.
المشكلة الملحة الآن أن الإنسان الشارد كيف يتوب؟ إذا كان مقتنعاً بأن سلوكه الضال صحيح، وليس لديه معصية، فهذا لا يتوب، لماذا؟ لأنه لا يعلم، أجل لا يتوب إلا إذا تعلَّم أن هذا العمل مخالف للشرع، معنى هذا أن حتى التوبة من دون علم مستحيلة، أحياناً تلتقي مع أشخاص غارقين بالمعاصي ويقولون: ماذا فعلنا؟ هكذا كل الناس، من قال لك أنا غلطان؟ فهذه مشكلة مدمرة بالنسبة له، هو لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، لذلك العلم طريق وحيد إلى الله عزَّ وجل، ما في طريق ثانٍ إلا العلم.
فالإنسان إذاما طلب العلم، يظن أنه تعلم، إذا حضر خطبة الجمعة، الخطبة لها طعم غير الدَرس، الخطبة فيها جذب الإنسان إلى طريق معرفة الله، فأحياناً يضعون إعلانات تدعوك إلى الانتساب إلى هذه المدرسة، وإن هذه المدرسة لها منهاج خاص، لها تفصيلات، بيان القرآن، والسُنَّة، والفقه، والسيرة، فيجد فيها العلم حقاً، فالإنسان لا يكفيه أن يحضر خطبة فقط، لا بد من طلب العلم، إذاً:
     
﴿  أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
 
العلم المقصود هو العلم بالكُلِّيات الذي يقودنا لمعرفة الله ومعرفة منهجه وسرِّ وجوده:
 
بالمناسبة: بعض التفاسير فيها إشارة لطيفة إلى أن العلم الذي أراده الله هنا ليس العلم بالجُزْئِيَّات، أحياناً تجد شخصاً يحمل دكتوراه بالفيزياء، فهل يعلم بنصِّ هذه الآية، إن العلم إذا لم يأخذ بك إلى طاعة الله ليس علماً، العلم المقصود هنا العلم بالكُلِّيات، العلم الذي يقودك إلى معرفة الله، ومعرفة منهجه، ومعرفة سرِّ وجوده، ومهمَّتك في الحياة، العلم الذي يحملك على طاعة الله هو العلم المطلوب، فليس كل إنسان نال شهادة عُليا، اختصاص معيَّن، صار عالِماً حسب نص هذه الآية:
     
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
شخص اغترب وأقام في بلد ما، فالأساس أن يعرف لماذا هو في هذه البلدة التي جاءها طالباً؟ أو جاءها تاجراً، أو جاءها سائحاً، هذا سؤال كبير جداً: لماذا أنا هنا في هذه البلدة؟ فهناك جزئيات تواجهه مثلاً ثيابه، تنظيف ثيابه، أدواته، محفظته والحفاظ عليها، هذه أشياء ثانويَّة لو أنك أتقنتها وغابت عنك مهمَّتك الأولى في هذه البلدة ما عرفت شيئاً.
لذلك يقول الله عزَّ وجل بعدها يوجِّهنا:
     
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
أي أنه لا بد من طاعة الله،فإذا حال أحدٌ بينك وبين طاعته، لا بد من أن تبحث عن مكانٍ تطيع الله فيه، هذا معنى:
﴿  إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾
[ سورة العنكبوت: 56 ]
 
على الإنسان أن يرتحل من أرض يُعصى الله فيها إلى أرض يُطاع الله فيها وليس العكس:
 
ليس لك عذر، إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ، إذا ضاقت بك الدنيا في مكان فعليك أن تتحوَّل إلى مكانٍ آخر تطيع الله فيه، أما المشكلة الآن أن الإنسان يكون في بلدة تُقام فيها شعائر الله عزَّ وجل، وفيها مجالس العلم متوفرة، وفيها بقيَّةٌ من حياء، بقيَّةٌ من دين، فيها روحانيَّات كثيرة جداً، من أجل المال فقط يزهد بكل هذا ويضع نفسه في بؤرةٍ فاسدة إذ يرحل إلى بلد أجنبي ويزهد في دينه وعلمه:
(( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة ))
[أخرج ابن المنذر عن جرير بن عبد الله البجلي]
فمن الصعب لطالب أُرْسِل بعثة إلى الخارج ولم يعلم مقدار الخطورة التي سيتعرض لها، إذا كان الشخص غير متزوِّج، أو كان إيمانه ضعيفاً فعليه خطر كبير جداً، أرسل أحدهم لي رسالة وقال لي فيها: والله كل ما قلته صحيح، فمقاومة الإنسان للشهوات صعب جداً إذا كان إيمانه ضعيفاً، لم يكن في حصن حصين من الإيمان والتقوى.
إذاً على الإنسان أن يرتحل من أرض يُعصى الله فيها إلى أرض يُطاع الله فيها، ولكن الناس هذه الأيام انعكس حالهم، تجدهم واقفين في طابور طويل ينتظرون تأشيرات الخروج لكي يذهبوا لبلاد ترتكب فيها المعاصي على قارعة الطريق، أجل على قارعة الطريق، فعلى الإنسان أن يختار أيضاً المكان المناسب لدينه، المكان الذي إذا نشأ أولاده رآهم قرَّة عين، فكيف بهؤلاء الذين يغتربون إذا فاجأته ابنته مع صديق يهودي مثلاً، وطلبت منه أن تتزوجه لأنها تحبه، فماذا تكون النتيجة وقتها؟ ألا يتقطَّع تقطيعاً ويتمزق حسرة لاغترابه، ولذلك يقول تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
لقد آمنتم بأن الله عزَّ وجل هو خالق الكون، وأنه خلقكمللدنيا كي تعرفوه، فهذا إذاً منهجه:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
 
الإيمان بلا عمل جنون والعمل بلا إيمان لا يكون :
 
الآن:
﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾
عليك أن تتحرَّك للعمل، يقول بعضهم: الآن آمنت، نقول بدورنا: فلا بد أن تعمل صالحاً، إن آمنت، فأين الحركة؟ إن آمنت، فأين الالتزام؟ آمنت، فأين الطاعة لله عزَّ وجل؟ الإيمان بلا عمل كالشجر بلا ثمر، الإيمان بلا عمل جنون، والعمل بلا إيمان لا يكون:
     
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾
تحرَّك، ماذا تنتظر؟ إلى متى أنت باللذَّات مشغولُ؟
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾
[ سورة الحديد: 16 ]
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾
لا نقدر يا أخي فلامجال للعمل والتقوى، نقول له إن الله تعالى قال:
﴿  إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾
[ سورة العنكبوت: 56 ]
دقة القرآن، أنت في مكان صعب، وكثير من أهل أوروبا الشرقيَّة هاجروا إلى هذه البلاد فراراً بدينهم، والله أغناهم في هذه البلاد.
 
الصبر وأهميته :
 
قال تعالى:
 ﴿  إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾
[ سورة العنكبوت: 56 ]
والله مرَّة التقيت مع شخص فرَّ بدينه من تركيا، زمن مصطفى كمال أتاتورك، فذكر لي أنه الآن يملك خمسة وثلاثين دونماً، وبيوتاً، ومحلات تجاريَّة، وقال لي: لما جئت كنت لا أملك شيئاً. ولكن الله عزَّ وجل أكرمه ورزقه، فمعنى:
﴿  إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾
[ سورة العنكبوت: 56 ]
أي ليس لك حُجَّة، إذا لم تستطع أن تطيع الله في هذا المكان فتحوَّل عنه إلى مكانٍ آخر:
﴿  إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾
[ سورة العنكبوت: 56 ]
والله يرزقك.
     
﴿  إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
الصبر لا بد منه، الإيمان والصبر والسماحة، الصبر تحمُّل، والسماحة إنفاق، الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان، الصبر يعنيأنك مكلَّف وعندك نوازع، فالنوازع إذا تعارضت مع الدين تقمعُها في سبيل الله، هذا هو الصبر، فكل إنسان يصبر، صلاة الفجر تحتاج إلى صبر النوم أريح للنفس، غض البصر يحتاج إلى صبر، الإنفاق يحتاج إلى صبر، طبعك أن تقبض المال، والأمر التكليفي أن تنفق المال،طبعك أن تنظر والأمر التكليفي أن تغضَّ البصر، طبعك أن تتكلَّم والأمر التكليفي أن تسكُت، طبعك أن تأخذ والأمر أن تعطي، هذا الصبر، طاعة الله تحتاج إلى صبر:
     
﴿  إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
 
الآيات تتحدث عن ثلاثة أنواع من الناس وهم الجاهل والمؤمن والمُؤمن العاقل :
 
صارت الآيات تتحدث عن ثلاثة أنواع من الناس: الجاهل، المؤمن، المؤمن العاقل:
﴿  وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ ﴾
هذا نموذج أول؛ الإنسان الجاهل غير المؤمن، سويعاتي، يعيش لحظته، يعيش واقعه من دون تفكير، معطِّل تفكيره، ما تعرَّف إلى الله عزَّ وجل، الخير يستخفُّه، والشر يُقْعِدُهُ، والمعروف ينساه، هذه صفات الكافر، وإذا حصَّل من هذه الدنيا مالاً وفيراً فهذا المال يستمتع به إلى حين، ثم يحاسب حساباً عسيراً، أما المؤمن قانتٌ، منقطعٌ لله أناء الليل:
     
﴿  سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾
لأنه عَلِم:
     
﴿  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾
أصحاب العقول:
     
﴿  قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾
أي انتقلوا من السماع إلى التطبيق، من الإيمان للعمل، من التلقِّي للإلقاء:
     
﴿  لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ﴾
ففي الدنيا لمن آمن واتقى سعادة، وفي الآخرة الأجر بلا حدود وبغير حساب:
﴿  وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب