سورة الأنعام 006 - الدرس (22): تفسير الآيات (063 - 065) توافق الإيمان مع الفطرة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الأنعام 006 - الدرس (22): تفسير الآيات (063 - 065) توافق الإيمان مع الفطرة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الأنعام

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة الأنعام - تفسير الآية: (063 - 065) - توافق الإيمان مع الفطرة

21/03/2011 06:56:00

سورة الأنعام (006)
الدرس (22)
تفسير الآيات: (63-65)
توافق الإيمان مع الفطرة
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني والعشرين من دروس سورة الأنعام .
 
 الإيمان الفطري :
 
مع الآية الثالثة والستين ، وهي قوله تعالى :
 
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
أيها الأخوة الكرام ، أولاً : حقائق الإيمان أودعها الله في جبلة الإنسان ، من أي جنس ، من أي لون ، من أي دين ، من أي مذهب ، من أي اعتقاد ، من أية طائفة ، حينما يدلهمّ الخطب تقول : يا الله ، أي إنسان على وجه الأرض حتى لو كان ملحداً عندما يواجه خطراً ماحقاً يتوجه إلى الله عز وجل ، تكلمت بهذا الكلام لأن طائرة تقلّ خبراء من دولة تؤمن بأنه لا إله ، ودخلت هذه الطائرة في سحابة مكهربة ، وكان وقوعها وشيكاً ، فإذا بهؤلاء الخبراء وقد ملؤوا الدنيا كلاماً بأن الله غير موجود دون أن يشعروا رفعوا أيديهم واستغاثوا بالله عز وجل لينجيهم من هذه الكارثة .
لذلك مفهوم الألوهية مودع في أعماق النفس البشرية ، هذا ما يسمى الإيمان الفطري ، إلى من نتوجه إذا شحت السماء ؟ إلى من نتوجه إذا ادلهمّ الخطب ؟ إلى من يتوجه المريض إذا أصيب بمرض عضال ؟ إلى الله وحده ، وينسى كل الذين أشركهم من الله عز وجل .
أيها الأخوة ، ولكن لي تحفظ على هذا الموضوع ، وهو أنه جميل جداً أن تتوجه إلى الله في أثناء الشدة ، ولكن الأجمل من ذلك أن تتوجه إليه وأنت في رخاء ، وأنت في بحبوحة ، وأنت في صحة ، وأنت في شبابك ، ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب في مقتبل الحياة يغلي حيوية ونشاطاً ، ومع ذلك يضبط نفسه وفق منهج الله .
 
 لو عدنا إلى أصل فطرتنا لأدركنا جمال الكون :
 
على كلٍ : ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ، الحقيقة أن الكون فيه ظلام وفيه نور ، ولو تعمقنا في حكمة الظلام ، لولا الظلام لما انتفعنا بالنور ، جعل الله الليل سكناً ، وجعل الله النهار معاشاً ، فهذه الحركة والنشاط في النهار أساسها أن أعضاءك وحواسك وعضلاتك وأجهزتك استراحت في الليل ، كأن الله سبحانه وتعالى صمم الليل كي نأوي إلى بيوتنا ، وكي ترتاح أجسامنا ، لكن الحضارة الحديثة جعلت الليل نهاراً ، والنهار ليلاً ، وهذا المرض شاع بين المسلمين ، فلا أحد ينام إلا بعد منتصف الليل ، ولا يستيقظ على صلاة الفجر إلا وهو محطم من شدة التعب ، ولا يستطيع أن يركز إلا في ساعة متأخرة جداً من النهار ، ينام إلى الظهر كي يستطيع أن يركز ، طبيعة الحياة ، والكهرباء ، وما في البيت من ملهيات جعلت الإنسان يبحث عن اليقظة في وقت النوم ، ويبحث عن النوم في وقت اليقظة . ولو تصورنا أننا عدنا إلى أصل فطرتنا ، إلى النوم الباكر ، وإلى الاستيقاظ الباكر لأدركنا جمال الكون :
(( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً )) .
 [ متفق عليه عن أبي هريرة]
 
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)
( سورة المزمل )
أيها الأخوة ، ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ، هل الأرض إلا بر وبحر ، أنت إما أن تكون في البر أو في البحر ، طبعاً يقاس على البحر أن تكون في الجو ، فالإنسان إما أن يكون في البر ، أو في البحر ، أو في الجو ، الأخطار في الجهات الثلاث واحدة ، لكن الإنسان لجهله يتوهم أنه آمن في البر مع أن البر يزلزل أحياناً فلا يبقى شيء .
 
﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا (74)
( سورة الحجر الآية : 74 )
ما من شيء ثابت ، إلا أن يضمن الله لك الثبات ، فالبناء الذي استغرق إنشاؤه سنوات طويلة يصبح أنقاضاً في ثوانٍ ، هذا الزلزال .
 
 الكوارث التي تأتي لها تفسير إلهي :
 
باخرة من أعظم البواخر صنعت في عام 1912 اسمها التيتانيك ، هذه الباخرة صممت بحيث لا تغرق ، جدرانها كلها من طبقتين ، فلو خُرقت الطبقة الخارجية الطبقة الداخلية تحول بين الماء وبين وصوله إلى الداخل ، حتى إنهم كتبوا اجتراءً على الله : هذه الباخرة لا يستطيع القدر إغراقها ، بل إن هذه الباخرة لم تزود بقوارب النجاة لأنها لا تغرق ، وفي أول رحلة لها من أوربة إلى أمريكة ، وعلى متنها نخبة أغنياء أوربة ، وقد قدرت حلي النساء بالمليارات ، هي مدينة عائمة ، وفي طريقها إلى أمريكة ارتطمت بجبل ثلجي قسمها شطرين ، ولم ينجدها أحد ، لأن إشارات النجدة توهموها احتفالات على هذه الباخرة ، ومات عدة آلاف ، فقال بعض القساوسة وقتها : إن غرق هذه السفينة درس بليغ من السماء إلى الأرض ، وزلزال تسونامي أيضاً درس بليغ ، الكوارث التي تأتي لها تفسير إلهي .
على كلٍ أيها الأخوة ، يشير الله عز وجل في هذه الآية إلى أن الإيمان متوافق مع الفطرة ، فأنت في النهاية لا تلتجئ عند الشدة إلا إلى الله ، بل مرةً حدث في بلدنا رياح عاتية حطمت مئات البيوت الزجاجية ، فقال لي أحدهم : الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم وطوائفهم قالوا : إن المسيء أدبه الله عز وجل ، فهناك إيمان فطري ، وإيمان عقلي ، وإيمان نقلي ، الآية هنا تتحدث عن الإيمان الفطري : ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ، الإنسان قد لا ينتبه أنه يتمتع بأجهزة سليمة ، وبحواس سليمة ، وبقدرة على الحركة ، يتمتع بصحته تمتعاً عالياً ، لكنه لو علم أن أي خلل في أعضائه يجعل حياته جحيماً لا يطاق ، فأنت إذا كنت معافىً فينبغي ألا تنسى أن هذا فضل من الله عظيم ، ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ .
الحقيقة أن الظلمات أنواع ؛ هناك ظلمات حسية ، وظلمات عقلية ، أحياناً تطرح شبهات ، لو أن الإنسان التجأ إلى الله عز وجل لبدد الله له هذه الشبهات ، ولا سيما في هذه الأزمان الشبهات تطرح على هذا الدين ، على هذا القرآن ، على هذا الإسلام ، على المسلمين فالله عز وجل متكفل أن يبدد لك هذه الشبهات ، لو فهمت الظلمات شبهات فالله هو الذي يبددها ، فإذا قرأت القرآن قراءة واعية متأنية ، ورافق هذه القراءة طهارة نفسية لوجدت أن كل سؤال ألقي في خاطرك حار فيه عقلك أجابك الله عليه في القرآن الكريم ، هذا معنى .
 
لا يحقق شيء على وجه الأرض في ملكوت الله عز وجل إلا بتوفيق الله :
 
أحياناً الشبهات ظلمات ، القضية غامضة ، القضية تحير ، كيف نوفق بين هذه الآية وهذه الآية ؟ كيف نوفق بين وعود الله في القرآن الكريم وواقع المسلمين ؟ كيف نوفق بين النمو الاقتصادي وتحريم الربا ـ مثلاً ـ ؟ فالطرف الآخر يطرح شبهات دائماً ، وأحياناً هناك ظلمات أخطار ، أخطار في البر ، وأخطار في البحر ، هذه ظلمة ، قد لا تجد ماء لإرواء زرعك ، وقد لا تجد مالاً لشراء البضاعة ، وقد لا تجد دواء لمرض عضال ، فكأن العلماء بيّنوا أن هذه الظلمات بعضها فكري ، بعضها من نوع الشبهات ، وبعضها حسي من نوع المصائب ، هي ظلمات ، وقد رمز الله إلى الذي يعكر صفو الإنسان ، والذي يوقعه في حيرة ، والذي يربكه بالظلمات ، والله وحده ينجيه منها . أحياناً تأتي الآية الكريمة :
 
﴿ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
( سورة النجم )
الآن يعيش العالم الإسلامي ظلمات ليس لها من دون الله كاشفة ، ولا بد من تدخل إلهي مباشر ، لأنه كحل أرضي يبدو بعيداً جداً ، إذاً : ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ، فأينما كنت هناك أخطار ، لذلك قال تعالى :
 
﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ (88)
( سورة هود الآية : 88 )
وقد قيل : إن هذه الآية من أعمّ الآيات في القرآن الكريم ، فأيّ هدف لا يحقق إلا بتوفيق الله ، إن كان الهدف شخصياً ، أو جماعياً ، عاماً ، أو خاصاً ، لا يحقق شيء على وجه الأرض في ملكوت الله عز وجل إلا بتوفيق الله ، لذلك كان من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اللَّهُمَّ لا سَهْلَ إِلاَّ ما جَعَلْتَهُ سَهْلاً ، وأنْتَ تَجْعَلُ الحَزْنَ إذَا شِئْتَ سَهْلاً )) .
[ رواه الحاكم عن ابن عمر ]
 
مادام الأمر بيد الله فالتعامل مع الله وفق القواعد تعامل علمي :
 
أنا أتكلم أو أخاطب الشباب ، أنت في مقتبل العمر ، صحتك ، دراستك ، عملك ، حرفتك ، زواجك ، مستقبلك بيد الله عز وجل ، ومادام الأمر بيد الله فالتعامل مع الله وفق القواعد ، تعامل علمي .
 
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (21)
( سورة الجاثية الآية : 21 ) .
أنا أؤكد لكل شاب أنك إذا خطبت ود الله عز وجل ، وأخلصت له ، وضبطت جوارحك وفق منهجه فمستقبل زاهر ينتظرك ، بعيداً عن كل معطيات البيئة ، والعصر ، والأزمات ، والصعوبات ، والعقبات ، ليس في الكون إلا الله .
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ (84)
( سورة الزخرف )
وقال :
 
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (21)
( سورة الجاثية الآية : 21 )
آية ثانية :
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)
( سورة السجدة )
وقال :
 
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
( سورة القلم )
وقال :
 
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
( سورة القصص )
 
  لو أن المسلمين توجهوا إلى الله مخلصين لأمدهم الله بعناية وحفظ وتأييد ونصر :
 
إذاً : ﴿ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ، إما أن تفهمها مشكلات لا حل لها ، أو نوازل مدمرة ، أو شبهات في قلب المؤمن يحار في حلها ، فالله عز وجل ينجيك من كل إشكال في عقيدتك ، أو في تصوراتك ، ومن كل إشكال في حياتك ، أو في بيتك ، ومن كل إشكال في مجتمعك ، لو أن المسلمين توجهوا إلى الله مخلصين لأمدهم الله بعناية وحفظ وتأييد ونصر ، لكنهم وقعوا في الشرك ، تعلقوا بمن في الأرض ولم يتجهوا إلى من في السماء ، اصطلحوا مع من في الأرض ولم يصطلحوا من في السماء ، توهموا أن في الأرض قوى سلامتهم بإرضائها ، وتدميرهم بغضبها ، ونسوا الواحد القهار .
" أنا ملك الملوك ومالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فإن العباد أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخطة والنقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ، وادعوا لهم بالصلاح ، فإن صلاحهم بصلاحكم " .
من أروع ما يفهم في هذا الموضوع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حديث جامع مانع موجز ، قال :
(( لا يرجو عبد إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه )) .
[ مسند الفردوس عن علي بن أبي طالب ]
القوى المخيفة في الأرض جبارة ، وعاتية ، وقوية ، وقاسية ، ولا ترحم ، ولكن ينبغي ألا تخاف منها لأن الله عز وجل يبين أن هؤلاء الأقوياء بيد الله عز وجل .
 
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
( سورة هود )
 
 معنى التوحيد :
 
اجعل هذا الحديث شعاراًَ لك : (( لا يخافن العبد إلا ذنبه )) ، إذا وقع في إشكال، (( ولا يرجون إلا ربه )) ، كلام جامع مانع فيه كل شي ، بل يمكن أن تضغط علاقتك مع الله كلها في هذا الحديث ، (( لا يخافن العبد إلا ذنبه ، ولا يرجون إلا ربه )) .
(( من كان همه الآخرة جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له )) .
[أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن ثابت بسند جيد والترمذي من حديث أنس ]
" عبدي أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد " .
هذا هو التوحيد ، كم قوة في الأرض طاغية يد الله فوق أيديهم ؟
 
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا (2)
( سورة فاطر الآية : 2 )
وقال :
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
( سورة الزخرف )
وقال :
 
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
( سورة الكهف )
هذا هو التوحيد ، ألاّ ترى مع الله أحداً ، أن ترى أن يد الله تعمل وحدها في الكون ، هؤلاء الذين يتحركون يسمون في الإعلام صُناع القرار هؤلاء ليسوا صُناع القرار ، إنما هم أدوات بيد الله عز وجل .
 
يتضرع الإنسان إلى الله حينما ييأس من حلٍّ أرضي :
 
التوحيد مريح أيها الأخوة ، ولا سيما في هذه الأزمات ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، لا يعقل ولا يقبل أن يأمرك الله أن تعبده ثم يسلمك إلى بعض عباده الأقوياء ، قال :
 
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ (123) ﴾
( سورة هود الآية : 123 )
متى أمرك أن تعبده ؟ بعد أن طمأنك ، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ﴾ ، ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ ، تضرع حينما تيأس من حل أرضي ، ولحكمة بالغةٍ بالغة من أجل أن يلجئك إليه يغلق لك كل الأمل الأرضي قال تعالى :
 
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)
( سورة الطلاق )
أنت متى تبحث عن مخرج ؟ إذا رأيت الأبواب كلها مغلقة ، أحياناً تغلق الأبواب كلها في وجه المسلم ، لأن هناك ضعفاً بإيمانه ، وهناك شرك خفي يعاني منه ، فحتى يلجئه الله إلى السماء لا بد من أن يقطع أمله من أهل الأرض ، ولكي يقطع أمله من أهل الأرض لا بد من أن يلهم هؤلاء الذين اعتقد أن مصلحته عندهم أن يبعدوه عنهم ، ﴿ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ .
 
 يمكن أن تدعو الله جهراً ويمكن أن تدعوه وأنت صامت :
 
أحياناً الدعاء في نفسك :
 
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3)
( سورة مريم )
بالمناسبة كفكرة إيجابية ، يمكن أن تدعو الله وأنت صامت ، يمكن أن تدعوه وأنت صامت .
أقسم لي رجل ، كنت في طريقي إلى مدينة في الساحل ، فرأيت مسجداً على الساحل رائعاً صليت فيه ، ثم التقيت مع الذي أنشأه ، قال لي : أنا قبل عشرين عاماً أنهيت خدمتي الإلزامية ، وأردت أن أسافر إلى الخليج ، وأنا في الطائرة في ذهابي إلى الخليج ـ أقسم لي بالله لم يحرك شفتيه ـ لكن نادى ربه نداءً خفياً ، قال : يا رب ، إن أكرمتني فسأنشئ مسجداً في هذا المكان ، وقد أكرمه الله عز وجل ، فلما عاد كان لإنشاء هذا المسجد عقبة كبيرة ، المسجد لا ينشأ إلا في منطقة منظمة ، فحدثني عن تفاصيل هذه القصة ، نادى ربه نداءً خفياً ، أنت يمكن أن تنادي الله وأنت ساكت ، أحياناً تكون في موقف الكل ينظر إليك وأنت في أمسّ الحاجة إلى الله ، ليس ضرورياً أن تحرك شفتيك .
مرة الحسن البصري لما قام بأمانة الدعوة إلى الله ، وأمانة التبيين ، فبلغ الحجاج أنه تحدث عن بعض تصرفاته ، وكان الحجاج جباراً وطاغياً ، فقال : يا جبناء ، والله لأروينكم من دمه ، وأمر بقتله ، وجاء بالسياف ، ومد النطع ، القماش الذي يمنع وصول الدم إلى الأثاث ، وجيء بالحسن البصري ، لما دخل على السياف ورأى السياف مستعداً لقتله ، وأدوات القتل جاهزة ، حرك شفتيه ، فإذا بالحجاج يقف له ، ويقول : أهلاً بأبي سعيد ، وما زال يدنيه حتى أجلسه على سريره ، واستفتاه في موضوعات عديدة ، وضيفه ، وأكرمه ، وشيعه إلى باب القصر ، السياف والحاجب صعقا ، تبعه الحاجب قال له : يا أبا سعيد ، لقد جيء بك لغير ما فعل بك !! فماذا قلت ، وأنت داخل ؟! قال : قلت : يا رب ، يا ملاذي عند كربتي ، يا مؤنسي في وحشتي ، اجعل نقمته برداً وسلاماً ، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم .
 
 كلما تذللت لله رفعك وكلما تكبرت واستنكفت عن عبادته وتأبيت أن تطيعه أذلك :
 
هذه الفرصة الرائعة لكل واحد منا متاحة ، أن تنادي ربك نداءً خفياً ، ﴿ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ ، التضرع ؛ هو التذلل ، أنت كلما تضرعت إلى الله عز وجل رفعك ، وزادك عزاً ، وكلما تذللت إلى إنسان زادك ضعةً .
اجـعل لربك كـل عزك يستقر ويثـبت     فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
***
المؤمن يعتز بالله ، ويحتمي بالله ، ويعتمد على الله ، ويتوكل على الله ، ويلجأ إلى الله ، ويستعيذ بالله ، ﴿ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً ﴾ ، يعني تذللاً ، قضية يسمونها بالمنطق معادلة متعاكسة ، كلما تذللت لله رفعك .
 
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
( سورة الشرح )
وكلما تكبرت ، واستنكفت عن عبادته ، وتأبيت أن تطيعه أذلك .
والله هناك قصص أيها الأخوة إنسان يصاب بذل ما بعده ذل ، تهان كرامته ، تنتهك حرماته ، يؤخذ ماله ، يشيع في الناس عنه أسوأ الأخبار .
 
﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ (18)
( سورة الحج الآية : 18 )
كأن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أنك تكون في أعلى درجة عند الله حينما تدعوه ، ﴿ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ ، تدعوه متذللاً ، لذلك لعل النبي عليه الصلاة والسلام استنبط من هذه الآية أن صلاة الاستسقاء ينبغي أن تذهب إلى المصلى بثياب ليست أنيقة ، أنت ضعيف بقدر ما تستطيع بينك وبين الله تذلل ، فإذا ربنا عز وجل يرفع لك ذكرك ، ويعلي قدرك ، ويجعل لك هيبة يهابك الناس بها ، من هاب الله هابه كل شيء ، ومن لم يهب الله أهابه الله من كل شيء ، ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ .
 
 إذا عاهدت الله عز وجل على شيء فبطولتك أن تنجز هذا العهد :
 
بربكم هل وقع أحدنا في مأزق ، أو في أزمة ، أو في شبح مصيبة ، أو في شبح مرض ، أو في شبح خسارة ، ودعا الله عز وجل من أعماقِ أعماق قلبه ، وعاهده أنه إذا فرج الله عنه ليكونن من الشاكرين ؟ ثم قصّر في الوفاء بوعده ، آية تحرك المشاعر :
 
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
( سورة الأعراف )
أنت إذا عاهدت الله عز وجل على شيء بطولتك أن تنجز هذا العهد ، وتحقق هذا الوعد ، ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ .
 
﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
( سورة الأنعام )
أحياناً الإنسان في ساعة الشدة الشديدة لا يرى إلا الله ، فإذا ارتفعت حرارة ابنه ، وقال له الطبيب : التهاب سحايا خطر ، حياته في خطر ، ودعا الله عز وجل من أعماق أعماقه ، فلما شفي ابنه عزى الشفاء إلى الطبيب ، الطبيب معه بورد ، صار الطبيب معه بورد ، والدواء الذي أتى به أجنبي ، فعاليته عالية جداً ، ونسي أن الله أذن له بالشفاء ، هذا خطأ كبير :
 
﴿ لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) ﴾
أيضاً بطولتك بعد الرخاء ، دعوت الله فاستجاب لك ، وأزاح عنك كل كرب فالبطولة أن هذا الشفاء ، وهذا النجاح ، وهذه الإزاحة ينبغي ألا تعزوها إلى مخلوق ، اعزُها إلى الخالق .
 
لا بدّ من الالتجاء إلى الله عز وجل لأنه من اعتز بغير الله ذلّ :
 
هذا يذكرني إلى أن السيدة عائشة حينما شاع عنها حديث الإفك ، وشاع عنها أنها زنت ، وهي السيدة الأولى ، وهي الطاهرة ، وهي التي كان النبي يحبها حباً جماً ، وتأخر الوحي في تبرئتها أربعين يوماً كي يعلم الناس أن الوحي ليس بيد رسول الله ، لو كان بيده لجاءت آية التبرئة بعد ساعة من الاتهام ، ولكن جاءت التبرئة بعد أربعين يوماً ، فحينما نزلت آيات التبرئة قال أبوها الصديق لها : قومي إلى رسول الله فاشكريه ، قالت : والله لا أقوم إلا لله ، بحضرة النبي ، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال : " عرفت الحق لأهله " .
أنت حينما يزاح عنك كرب ، تزاح عنك مصيبة ، تزاح عنك ضائقة ، تشفى من مرض عضال ، انتبه إلى ما تقول ، يجب أن تعزو ذلك إلى الله ، وأن تقوم إلى الله شاكراً ، وقد شرع النبي لنا ركعتي الشكر ، أو سجود الشكر ، اسجد لله ، وقل : يا رب ، لك الشكر والحمد أن أنقذتني ، أقم علاقة مع الله ، أقم علاقة معه ، اسأله ، استغفره ، تب إليه ، قل : يا رب أَقِل عثرتي ، يا رب آمن روعتي ، يا رب اغفر زلتي ، يا رب أعني على نفسي ، لا بد من حوار بينك وبين الله ، لا بد من التجاء إلى الله عز وجل ، ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ .
ورد في بعض الآثار أنه :
(( ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف له ذلك من نيته إلا جعلت الأرض تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه )) .
[ رواه ابن عساكر عن كعب بن مالك ]
من اعتز بغير الله ذل ، من اعتز بغير الله ضل ، من اعتز بغير الله افتقر ، من اعتز بغير الله انتكس ، كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة .
أخواننا الكرام ، فيما سمعت في بعض السنوات إمام الحرم صلى التراويح ، وفي يوم الختم في ليلة السابع والعشرين دعا دعاءً مطولاً اقترب من ساعة ، وقد خصص في هذا الدعاء دعاء على هؤلاء الذين يغتصبون في فلسطين ، ويقتلون ، ويهدمون ، ويحرقون ، ويقتلعون الأشجار ، ويردمون الآبار ، ويذلون الناس ، دعا عليهم ما يزيد على خمس عشرة دقيقة ، وبكى بكاءً شديداً ، في هذا الوقت بالذات توجهت طائرتان كبيرتان تحملان مئة وخمسة وعشرين ضابط كومندس ، وكل ضابط مكلف بالملايين ، يتقن اللغة العربية والعامية واللغة المحلية ، يتقن السلاح الأبيض ، يتقن الصراع الياباني ، يتقن استخدام أدق الأسلحة ، وهؤلاء الضباط الكبار توجهوا إلى جنوب لبنان كي يأخذوا رهائن من المساجد ليلة القدر ، فإذا بالطائرة الأولى تقع على الطائرة الثانية ، وإذا بالطائرتين تقعان على مستعمرة إسرائيلية، والثابت أنه منذ أن تأسست إسرائيل من عام 1948 حتى الآن لم تمنَ بخسارة بشرية تفوق هذه الخسارة ، مئة وخمسة وعشرون ضابطاً .
 
 ربما كانت المصائب نعماً باطنة :
 
أنت حينما تدعو الله عز وجل صادقاً يستجيب لك ، حتى الصندوق الأسود حينما قرؤوا ما فيه آخر كلمة قالها الطيار الذي في الأعلى ، قال : أنا أسقط ولا أدرِي لمَ أسقط ، إذاً : ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ .
محور هذا الدرس أن الله سبحانه وتعالى يسوق بعض البلاء لعباده كي يلجؤوا إليه ، كي يقفوا على أبوابه ، يلجئهم إلى العبودية له ، كي يكرمهم ، كي يرحمهم ، كي ينصرهم ، كي يرفع شأنهم ، كي يعطيهم عطاء كبيراً ، كي يدخلهم الجنة ، فدققوا أن هذه المصائب ربما كانت نعماً باطنة ، ثم يقول الله عز وجل :
 
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ ، الصواعق ، الصاعقة تدمر كل شيء ، هناك صواعق تأتي على بيت كل من في البيت يُحرق ، من مئتين إلى ثلاثمئة ألف فولت كهرباء ، يُحرق كل شيء ، طبعاً الصواعق دائمة ، أما الشيء الحديث الصواريخ ، هناك صواعق وفي صواريخ ، ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ ، الزلازل ، ثلاثمئة ألف إنسان ماتوا في زلزال شرق آسيا ، خمسة ملايين إنسان بلا مأوى ، أخبار الزلزال تعرفونها جميعاً ، ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ ، صواعق وصواريخ ، وزلازل وألغام ، لكن المصيبة التي لا تحتمل ، ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ ، الإنسان حينما يدع منهج الله ، وحينما لا يعتصم بحبل الله ، يصبح الناس شيعاً وأحزاباً وفرقاً .
 
 لا يمكن أن يرمم ضعفنا إلا بالإيمان بالله :
 
الله عز وجل قال ـ دققوا في هذه الآية التي هي قانون العداوة والبغضاء ـ :
 
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14)
( سورة المائدة الآية : 14 )
العداوة لها قانون ، أنا حينما أبتعد عن الله ، وحينما يبتعد فلان عن الله أردنا الدنيا ، والمصالح متضاربة ، والشهوات تتصارع ، والأهداف المادية تتجاذب ، الآن ماذا يجري في العالم ؟ الصراع على الدنيا ، كل ما تسمعونه من كلام متعلق بالمبادئ كذب مصالح ، الإنسان يغطي أحياناً حركته وحربه بكلام كله كذب ، الصراع على الثروات .
 إذاً ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ ، كيف يكون الناس شيعاً ؟ إذا ابتعدوا عن الله جميعاً ، ذلك لأن المعركة بين حقين لا تكون ، لأن الحق لا يتعدد ، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تقع معركة بين حقين ، لأن الحق الأول ينطبق على الثاني ، الحق هو مستقيم بين نقطتين ، إن أردت أن ترسم مستقيماً آخر يأتي فوقه تماماً ، المعركة بين حقين لا تكون ، والمعركة بين حق وباطل لا تطول لماذا ؟ لأن الله مع الحق ، أما بين باطلين فلا تنتهي ، قد نمضي أعمارنا كلها في حرب مع أعدائنا ، لأننا لسنا كما ينبغي ، وهم ليسوا كما ينبغي ، عندئذٍ الأقوى ينتصر ، والذي يملك سلاح مجدي ينتصر ، مع غياب الإيمان من الذي ينتصر ؟ طائرة تستطيع أن تهاجم ثمانية أهداف في آن واحد على بعد ستة عشر كيلومتر ، الطائرة المقابلة مداها ثلاثة كيلومتر وتهاجم هدف واحد ، إذاً شيء بديهي جداً أن الذين يملكون الطائرات المتطورة جداً هم المنتصرون ، إذا حذفت الإيمان كان النصر للأقوى ، هذه حقيقة ، وإذا تصارعنا على الدنيا ، ﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ .
لا يمكن أن يرمم ضعفنا إلا بالإيمان بالله ، والله عز وجل ما كلفنا أن نعد العدة المكافئة لأعدائنا ، وهذا من فضل الله علينا ورحمته ، كلفنا أن نعد العدة المتاحة فقط ، وعلى الله الباقي ، الله يرمم ، الأمل كبير والكرة في ملعبنا .
 
 نحتاج إلى أن نكون أقوياء والقوة تحتاج إلى إيمان بالله عز وجل :
 
قال تعالى :
 
﴿ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ (19)
( سورة الأنفال الآية : 19 )
وقال :
 
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
( سورة الصافات )
وقال :
 
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
( سورة الروم )
وقال :
 
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً (55)
( سورة النور الآية : 55 )
لكننا حينما تركنا الله ، وابتعدنا عنه ضعفنا ، فأصبحنا لا نملك غير سلاح واحد ، أن نندد ، وأن نشجب ، وأن ندين ، وأن نستنكر ، وأن نشدد على كذا ، وأن نحل الجهة الفلانية المسؤولية ، وأن نحرق العلم ، عندنا غير ذلك ؟ والقوي يسخر منا ، هو يسر بهذا لأننا ضعاف ، أما حينما نكون أقوياء نقول كما قال هارون الرشيد ، قال له : مِن هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى كلب الروم ، ما ترى لا ما تسمع ، وانتهى الأمر .
الإله واحد ، إلههم إلهنا ، وربهم ربنا ، الإله واحد ، والقوانين واحدة ، نحتاج إلى أن نكون أقوياء ، والقوة تحتاج إلى إيمان بالله عز وجل .
 
حينما يأتي القضاء والقدر من الله مباشرة وقعه يكون أخف بكثير مما لو جاء من إنسان :
 
أيها الأخوة :
 
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾
يمكن أن تندرج الحرب الأهلية تحت هذا البند :
 
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ .
أيها الأخوة ، أبين لكم مرة ثانية أن بلاء الله عز وجل قد يأتي من السماء ، وقد يأتي من تحت الأرجل من الأرض ، وقد يكون حرباً أهلية ، ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ ، لكن يبدو أن الإنسان حينما يأتيه قضاء وقدر من الله مباشرة وقعه أخف بكثير مما لو جاءه من إنسان ، والدليل :
 
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
( سورة لقمان )
آية ثانية :
 
﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
( سورة الشورى )
اللام لام التوكيد ، قد يأتي المصاب من إنسان ، فأنت بهذه الحالة تحتاج إلى توحيد أعلى ، كي توقن أن هذا الإنسان مسير ، وأن الله سمح له أن يصل إليك ، من أجل ألا تحقد حقداً لا يحتمل أن الله سمح له أن يصل إليك ، لذلك هنا ينبغي أن تصبر على قضاء الله وقدره الذي ساقه على يد فلان ، وأن تغفر لهذا الإنسان إن أمكنك أن تغفر ، أو أن تطالب بحقك إن أردت ، لكن أن تأتي المصيبة من الله مباشرة شيء ، وأن تأتي عن طريق إنسان شيء أصعب .
 
 حينما يشيع الفساد في الأرض يجب أن نُحصن بشيئين بالاستقامة والوعي :
 
لذلك :
 
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾
إذاً نحن في قبضة الله ، وتحت رحمة الله ، وحينما يشيع الفساد في الأرض قد يبتلى الناس بصراعات داخلية ، وهذا خطر جداً .
بالمناسبة ، أعداء المسلمين يدفعون المبالغ الطائلة لإثارة فتنة داخلية ، ويجب أن نحصن بشيئين بالاستقامة وبالوعي ، بالاستقامة لأنها تبعد عنا كل مصاب إلهي ، وبالوعي لأنه يبعد عنا كل مكر خارجي :
 
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾  .
قال تعالى :
 
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14)
( سورة المائدة الآية : 14 )
العداوة والبغضاء لها سبب ؛ البعد عن الله عز وجل ، أما إذا اعتصمنا جميعاً بحبل الله تكون المودة والرحمة بين المؤمنين .
 
﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (63)
( سورة الأنفال )
يمكن أن تكون المودة بين المؤمنين ، والتعاطف ، والتزاور ، والتضامن علامة الإيمان ، أما الخلافات على مستوى المدينة ، والبلدة ، والحي ، والعائلة ، والأسرة ، حتى داخل الأسرة ، الخلافات أساسها ضعف الإيمان ، ونسيان منهج الله عز وجل .
 
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب