سورة الأنعام 006 - الدرس (15): تفسير الآيات (049 - 050) الطرق التي نتعرف من خلالها إلى الله

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الأنعام 006 - الدرس (15): تفسير الآيات (049 - 050) الطرق التي نتعرف من خلالها إلى الله

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الأنعام

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة الأنعام - تفسير الآية: (049 - 050) - الطرق التي نتعرف من خلالها إلى الله

21/03/2011 06:42:00

سورة الأنعام (006)
الدرس (15)
تفسير الآيات: (49 – 50)
الطرق التي نتعرف من خلالها إلى الله
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الخامس عشر من دروس سورة الأنعام .
 
التفكر في خلق السماوات والأرض أحد أسرع وأوسع الطرق إلى الله :
 
مع الآية التاسعة والأربعين ، وهي قوله تعالى :
 
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
في هذه الآية مجموعة علاقات .
المعنى الأول لـ : ﴿ آيَاتِنَا ﴾ أنها آياتنا الكونية الدالة على عظمة الله عز وجل ، والتفكر في خلق السماوات والأرض أحد أسرع الطرق إلى الله ، وأحد أوسع الأبواب إلى الله، والله عز وجل يقول :
 
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) ﴾ .
( سورة آل عمران )
أنت أمام آيات كونية عليك أن تتفكر فيها ، وما ذكر الله في القرآن الكريم ألفاً وثلاثمئة آية كونية إلا لتكون موضوعات للتفكر ، أو لتكون منهجاً يضعه الإنسان أمام عينيه كي يسير على منواله .
 
كما أنك مكلف أن تتفكر في خلق الله أنت مكلف أيضاً أن تنظر في أفعاله : 
 
لله تعالى آيات تكوينية هي أفعاله ، خلقه آيات ، وأفعاله آيات ، فأحياناً أفعاله تدل على عدله ، وأفعاله تدل على أن كل البشر في قبضته ، وأفعاله تدل على رحمته ، وأفعاله تدل على حكمته ، وأفعاله تدل على قوته ، وأفعاله تدل على غناه ، فأنت بين آيات كونية عليك أن تتفكر فيها ، وبين آيات تكوينية عليك أن تنظر فيها ، قال تعالى :
 
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
( سورة الأنعام )
إذاً أنت كما أنك مكلف أن تتفكر في خلق السماوات والأرض مكلف أن تنظر في أفعال الله عز وجل ، فقد يُعز أناساً ، ويُذل أنساناً .
 
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
( سورة آل عمران )
والله عز وجل  :
 
﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
( سورة البروج )
إله في السماء وإله في الأرض ، ما يقع شيء في الكون إلا بعلمه ومن خلاله ، أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى ، فكما أنك مكلف أن تتفكر في خلقه أنت مكلف أن تنظر في أفعاله .
لكن أيها الأخوة ، لا بد من توضيح في هذا الموضوع ، وهو أنه يتناهى إلى سمعك مئات القصص من فصلها الأخير ، وهذه القصص من فصلها الأخير لا تعني شيئاً ، لكن أحياناً بحكم شدة اتصالك بشخص ما ومعرفته في كل أحواله ترى القصة من بدايتها إلى نهايتها ، وكأن عدل الله صارخ فيها ، وكأن رحمته أيضاً واضحة ، وحكمته واضحة ، هذه القصة التي يمكن أن تتفكر فيها ، فالقصة التي تعرف بدايتها ونهايتها فيها دلائل على أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى لا تقدر بثمن ، والقصص كثيرة جداً .
 
الكون قرآن صامت والقرآن كون ناطق والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي : 
 
أخواننا الكرام ، هناك قصص صارخة ، لدرجة أنك يقشعر جلدك حينما ترى فعل الله في الظالم ، لذلك من هو أغبى إنسان على وجه الأرض ؟ هو الذي يتحرك ولا يُدخِل حساب الله في حساباته ، لا يُدخل انتقام الله ، ولا يُدخل بطش الله ، ولا يُدخل عدل الله في حساباته اليومية ، قصص لا تعد ولا تحصى ، ولو أن الإنسان عنده وقت ليتابع ما يجري لكانت هذه القصص تشفّ عن كتاب وسنة ، لذلك هذا الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي ، قال تعالى : ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ .
نحن الآن في التاريخ هؤلاء الذين ناصبوا رسول الله العداء ، ونكلوا بالمؤمنين ، وتفننوا في إيذائهم ، وماتوا ، هم في مزبلة التاريخ ، هؤلاء الذين وقفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم   وكانوا ضعافاً مستضعفين ، وتحملوا كل شيء في سبيل الدعوة أين هم الآن ؟ في أعلى عليين ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ .
هؤلاء الذين وقفوا كصلاح الدين الأيوبي في وجه الفرنجة بأكملهم ، دول عديدة بجيوشها ، ومكرها ، وقوتها ، استطاع هذا البطل أن يردهم جميعاً .
إذاً أيها الأخوة ، هناك آيات كونية عليك أن تتفكر بها ، وهناك آيات تكوينية هي أفعال الله ، عليك أن تنظر فيها ، ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ ، وهناك آيات قرآنية عليك أن تتدبرها ، والحقيقة أن هذه الآيات الثلاث هي الطرق التي من خلالها تتعرف إلى الله عز وجل .
 
البشر رجلان :
 
يقول الله عز وجل :
 
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ .
التكذيب أيها الأخوة إما تكذيب لفظي أو تكذيب عملي ، وأنا أقول لكم : إن التكذيب العملي أخطر بكثير من التكذيب اللفظي ، لأن الذي يكذب بلسانه تحاوره ، تأتيه بالدليل ، تقنعه ، أما الذي يعترف بلسانه أنه هناك آخرة ، لكن لا تجد في عمله ما يثبت ذلك إطلاقاً ، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ .
علاقات مركبة في هذه الآية ، الإنسان حينما يُكذب بآيات الله ، يجد نفسه في طريق الفسق ، لو أنه آمن بآيات الله لخاف من وعيد الله ، في النهاية البشر على اختلاف انتماءاتهم، على اختلاف ألوانهم ، وأجناسهم ، ومللهم ، ونحلهم ، وطوائفهم ، وألوانهم ، البشر رجلان ؛ رجل آمن بالله ، وآمن أنه مخلوق للجنة فاتقى أن يعصيه ، وبنى حياته على العطاء ، ورجل لم يؤمن بالله ، بل آمن بالدنيا فقط ، حينما لم يؤمن بالله ، ولم يؤمن باليوم الآخر ، وآمن بالدنيا فقط ، يجد نفسه مستغنياً عن طاعة الله .
 
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
( سورة الليل )
الحقيقة أن هناك رجلين ، إنسان آمن ، وأطاع ، وأعطى ، وإنسان لم يؤمن ، فاستغنى عن طاعة الله ، وأخذ ، وتكاد هذه الصفة تكون حداً فاصلاً بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن يبني حياته على العطاء ، وغير المؤمن يبني حياته على الأخذ ، واسأل نفسك سؤالاً محرجاً : ما الذي يسعدك ، أن تعطي أم أن تأخذ ؟ إن كان الذي يسعدك أن تأخذ فهذه بادرة ليست طيبة ، أما إذا كان يسعدك أن تعطي فهذه علامة صدقك وإيمانك باليوم الآخر ، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ ﴾ ، تكذيب الآيات يحملهم على الفسق ، والفسق من شأنه العدوان .
الآن تزوج أحدهم امرأة ، المؤمن مستقيم ، له امرأته ، أما غير المؤمن فيتطلع إلى أعراض الآخرين ، فإذا اعتدى على أعراضهم يستحق العذاب من الله عز وجل ، المؤمن يكتفي بماله الحلال ، بينما غير المؤمن يعتدي على أموال الآخرين فيستحق العذاب من الله ، والآية واضحة جداً : ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا ﴾ ، والباء باء السبب ، ﴿ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ ، إذاً : المعنى يؤمن بالآيات ، فيستقيم ، فيسلم ، ويسعد ، يكذب بالآيات ، فينحرف ويفسق ، فيعاقب في الدنيا والآخرة ، هذا معنى الآية : ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ .
 
أربع آيات تحدد مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم
 
قال تعالى :
 
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
( سورة الأنعام )
أخواننا الكرام ، هذا النبي الكريم الذي أرسله الله رحمة للعالمين ماذا طرح علينا؟ نفسه ، ماذا قال عن نفسه ؟ قال : أنا أعلم الغيب ؟ لا ، قال : عندي خزائن الله ؟ لا ، قال : أنا أمنح وثائق لدخول الجنة ؟ لا ، أمنع من دخول النار ؟ لا ، طرح نفسه نبياً ، مبشراً ، ونذيراً .
أيها الأخوة ، دققوا ، بعد القرآن ليس هناك من كلام ، قال تعالى : ﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ ، فأيّ إنسان على وجه الأرض يدعي أنه يعلم الغيب فهو كاذب ، واركل كلامه بقدمك ، لأن سيد الخلق وحبيب الحق قال : ﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ انتهى الأمر ، قال : لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً ، من ؟ سيد الخلق ، وحبيب الحق ، رسول الله ، سيد ولد آدم ، لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً ، والأبلغ من ذلك :
 
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً (188)
( سورة الأعراف الآية : 188 )
﴿ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِيفلا أن أملك لكم من باب أولى ، البند الرابع :
 
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
( سورة الأنعام )  
أربع آيات تحدد مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا أعلم الغيب ، ولا يملك للناس نفعاً ولا ضراً ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا ، وهو يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم ، وأيّ إنسان يدعي خلاف ذلك أقول لكم بهذه العبارة بالذات : اركل بقدمك كلامه ، أيّ إنسان يدعي أنه يعلم الغيب ، أيّ إنسان يدعي أنه يستطيع أن يفعل شيئاً ينفعك به أو يضرك ، الله عز وجل وضح مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، له مقام عند الله لا يعلمه إلا الله ، أما هو فقد طرح نفسه نبيّاً ، رسولاً مُبلِّغاً عن الله عز وجل ، أما أن نتوهم أن هذه الشيخ ، أو أن هذا الولي يحل مشكلات الأرض ويمنع الأذى ، وينجب للعقيم ولداً ، وييسّر للإنسان التائه رشداً ، هذه شطحات ما أنزل الله بها من سلطان ، وهذا نوع من الشرك .
 
لولا أن النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر : 
 
أيها الأخوة :
 
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾
أيعقل أن يرسل الله لعباده البشر رسولاً ملَكاً ؟ لو كان كذلك لقال الناس له : أنت لست بشراً ، نحن نعاني ما نعاني من الشهوات ، أما أنت فلست كذلك ، لم يكن كلامه حجة عليهم بل لكان كلام من أرسل إليهم أقوى من كلامه ، لذلك اسمعوا هذه الحقيقة ، لولا أن النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر ، الشهوات التي أودعت فينا أودعت فيه ، والضعف البشري الذي أودع في الإنسان مودع فيه ، قال :
     (( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلَا لِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبِطُ بِلَالٍ )) .
[أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن أنس ]
هذه حقيقة أيها الأخوة ، فلذلك الآية الكريمة : ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ ، هل فكر أحدكم لماذا أراد الله أن يكون النبي eضعيفاً ؟ لو أرسل نبياً قوياً ففي العالم أقوياء ، بإشارة ملايين مملينة تتحرك ، بإشارة لو كان النبي eكهذا القوي ، وبعثه الله لهؤلاء الناس ليؤمنوا به ، وبرسالته ، لوجدت الخَلق جميعاً آمنوا به إيمان نفاقٍ ، وإيمان خوف ، لا إيمان قناعة ، ولا إيمان رقيّ ، لذلك شاءت حكمة الله أن يكون النبي eضعيفاً ، يمشي رسول الله ، ويرى آل ياسر يُعذبون ، ولا يستطيع أن ينقذهم ، يقول :
(( صبراً يا آل ياسر ، فإن مصيركم إلى الجنة )) .
[ رواه الطبراني عن عثمان بن عفان ]
يقول عنه أهل مكة : إنه مجنون ، هل تستطيع أن تقول عن إنسان قوي الآن : إنه مجنون ؟‍ أتبقى سليماً ؟‍ مجنون ، وكذاب ، وشاعر ، وكاهن ، كل التهم ألصقت به ، وكُذب في الطائف ، وسخر منه ، وضُرب .
 
  حكمة الله أن يكون النبي eضعيفاً :
 
ما حكمة الله أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّمضعيفاً ؟ ليكون الإيمان به عظيماً ، آمنت به وليس معه دنيا يعطيك منها شيئاً ، آمنت به ولا يستطيع أن يحميك من أعداء الدين ، هذا الإيمان الحق ، هذا الإيمان الذي لا تشوبه شائبة ، هكذا أراد الله أن يكون أنبياؤه ضعافاً ، ضعيف لا يستطيع أن يدافع عنك ، ولا يستطيع أن يعطيك شيئاً ، ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ ، أنا بشر :
(( اللهم إنما أنا بشر ، أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر )) .
[ رواه الطبراني عن ابن الطفيل ]
لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر ، فلذلك الإنسان حينما يؤمن بالله ، ويضبط شهواته وفق منهج الله يكون فوق الملائكة ، الإنسان هو المخلوق الأول ، لكن المشكلة أن هذا الإنسان إما أن يكون فوق الملائكة ، أو يكون دون أحقر حيوان ، الدليل :
 
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) 
( سورة البينة )
على الإطلاق ، هناك آية أخرى :
 
﴿ أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) 
( سورة البينة )
 
الإنسان إما أن يسمو ويكون فوق الملائكة وإما أن يسفل فيكون دون الحيوان :
 
الإنسان إما أن يسمو ويكون فوق الملائكة ، وإما أن يسفل فيكون دون الحيوان ، وهذا الذي يجري في العالم من قتل ، ومن تدمير ، ومن اغتصاب ، ومن نهب للثروات ، ومن سحق للإنسان ، هذا الذي يجري من قِبَل إنسان ما عرف الله ، وما عرف سر وجوده ، ولا غاية وجوده ، يرى أنه إذا بنى مجده على أنقاض الشعوب ، ودمرهم من أجل أن يعيش من حوله في أعلى درجة من الرفاهية ، هؤلاء الطغاة في العالم هم أشقى خَلق الله قاطبة ، لأنهم ما عرفوا سر وجودهم ، ولا غاية وجودهم .
شعوب بأكملها تئنّ من ظلم الأقوياء ، والدليل أن الله سبحانه وتعالى حينما قال :
 
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)
( سورة الفجر )
ما قال : طغوا في بلدهم ، طغوا في البلاد ، في كل البلاد .
 
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ(11)فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12)فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13)
( سورة الفجر )
 
تتميز عاد بأن الله حينما أهلكها ذكّرها بأن الله أشد منها قوة :
 
ما أهلك الله قوماً إلا وذكرهم أنه أهلك من هم أشد منهم قوة ، إلا عاداً حينما أهلكها قال :
 
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً (15)
( سورة فصلت الآية : 15 )
تتميز عاد بأن الله حينما أهلكها ذكرها بأن الله أشد منها قوة ، وحينما نستمع إلى غطرسة الأقوياء واستكبارهم واستعلائهم ، ثم يأتي زلزال يتصادم فيه لوحان ، فتكون قوة هذا التصادم تساوي مليون قنبلة ذرية فتعرف من هو الله ، والإنسان مهما يكن قوياً فهو في قبضة الله عز وجل ، لذلك :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
( سورة الفجر )
وقال :
 
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
( سورة الشعراء )
وقال :
 
﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) 
( سورة العنكبوت )
وقال :
 
﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50)
( سورة النجم )
معنى ذلك أن هناك عاداً ثانية ، جاء أحدُهم من بلاد بعيدة جداً ، سُئل : أين كنت؟ قال : جئت من عاد الثانية .
 
انتصر النبي الكريم على بشريته فكان قمة البشر :
 
إذاً :
 
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾
إنه بشر ، يرضى كما يرضى البشر ، ويغضب كما يغضب البشر ، بشريته انتصر عليها فكان قمة البشر ، فأنت إما أن تنهزم أمام بشريتك ، أو أن تنتصر عليها ، إذا تحكمت فيك شهواتك انهزمت أمامها ، وإذا سيطرت على شهواتك انتصرت عليها ، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام في طرحه نفسه على قومه قال :
 
﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾
لا تطالبوني بما لا أستطيع ، أنا بشر ، أنا مبلغ ، أنا مبشر ، أنا منذر فقط ، أنا ضعيف ، ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ ، هناك موعظة تكتب على ظفر : " اتبع لا تبتدع ، اتضع لا ترتفع ، الورع لا يتسع " ، ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ يقول لك المثقف الآن : أنا لا أرى أن هذا الحكم الشرعي يصلح لهذا الزمان ، هو لأنه محور العالم ، هو منظّر ، هو مرجع ، عقله هو الحكم ، فلذلك :
يقولون هذا عندنا غير جائز           فمن أنتم حتى يكون لكم عند ؟
***
من أنت ؟ أنت بشر ضعيف ، هناك خالق عظيم أنزل هذا القرآن على نبيه الكريم، ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ إنسان له عينان حادتان ـ بالبصر يرى كل شيء ـ وإنسان أعمى هل يستويان ؟ هل يستوي الظلام مع النور ؟ هل يستوي من أحيا الله قلبه بالإيمان مع إنسان قلبه ميت بالشهوات ؟
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)
( سورة السجدة )
 
  آيات من الذكر الحكيم تبين استحالة الاستواء في المعاملة عند الله بين المحسن والمسيء :
 
قال تعالى :
 
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
( سورة القلم )
وقال :
 
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (61) 
( سورة القصص الآية : 61 )
وقال :
 
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (21) 
( سورة الجاثية الآية : 21 )
أخواننا الكرام ، لو أن الله عز وجل عامل المحسن كالمسيء ، والصادق كالكاذب ، والرحيم كالقاسي ، وعامل المنصف كالجاحد ، هذا الاستواء في المعاملة لا يتناقض مع عدل الله فحسب ، بل يتناقض مع وجوده ، يجب أن تؤمن أن الله لا يتخلى عنك ما دمت مؤمناً ، وأقول لكم هذه العبارة أرددها كثيراً : زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، الله عز وجل قال :
 
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً (97)
( سورة النحل الآية : 97 )
 
المؤمن كالحي وغير المؤمن كالميت ويستحيل أن يستويان :
 
قال سبحانه :
 
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
( سورة طه )
وقال :
 
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
( سورة البقرة )
هل يستوي حيّ مع ميت ؟ إنسان حيوي نشيط ، يتكلم بحديث لطيف ، يؤنس بابتسامة ، جميل الصورة ، أنيق الثياب ، حديثه رائع ، أعماله طيبة ، هذا هل يستوي مع جثة هامدة تخاف منها ؟ المؤمن كالحي ، وغير المؤمن كالميت ، هل يستوي بيت معمور مع بيت خرب ؟ هل يستوي حي مع ميت ؟ هل يستوي من كان في نور ساطع ومن كان في ظلمة دامسة ؟ لا يستويان . إذاً :
 
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ .
 
والحمد لله رب العالمين
 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب