سورة الأنعام 006 - الدرس (9): تفسير الآيات (031 - 032) الدنيا مزرعة الآخرة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الأنعام 006 - الدرس (9): تفسير الآيات (031 - 032) الدنيا مزرعة الآخرة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الأنعام

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة الأنعام - تفسير الآية: (031 - 032) - الدنيا مزرعة الآخرة

21/03/2011 06:30:00

سورة الأنعام (006)
الدرس (9)
تفسير الآيات: (31-32)
الدنيا مزرعة الآخرة
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس التاسع من سورة الأنعام .
 
 الإنسان حينما يؤمن أنه خُلق للآخرة تراه منطلقاً إلى طاعة الله :
 
مع الآية الواحدة والثلاثين ، وهي قوله تعالى :
 
﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)﴾ .
أيها الأخوة الكرام ، الحقيقة أن ( قد) حرف تحقيق ، فإذا جاءت قبل فعل ماضٍ يكون حرف تحقيق ، يعني خسارة هؤلاء محققة ، ماذا خسروا ؟ خسروا الأبد ، خسروا الجنة التي خلقوا لها ، خسروا أعظم ثمرة من ثمار الإيمان وهي السعادة الأبدية ، لذلك : ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ ﴾ ، المشكلة أن الإنسان حينما يؤمن أن الدنيا هي كل شيء يستغني عن طاعة الله ، أما حينما يؤمن أنه خُلق للآخرة تراه منطلقاً إلى طاعة الله ، الآية الكريمة :
 
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) ﴾ .
( سورة الليل ) .
إن صدق بالحسنى تجده يتقي أن يعصي الله ، وإن صدق بالحسنى تجد حياته كلها مبنية على العطاء ، خُلق ليعطي .
 
الحياة الدنيا أساسها العمل أما الحياة الأخروية فمبنية على التكريم :
 
أخواننا الكرام ، أنت حينما تؤمن أن قيمتك في الحياة الدنيا فيما تعطي لا فيما تأخذ ، لكن الإنسان الغافل الشارد يبني مجده على ما أخذ لا على ما أعطى ، حصلت كذا وكذا ، ثروتي كذا وكذا ، حجمي المالي كذا وكذا ، بإمكاني أن أفعل كذا وكذا ، فقيمة الإنسان من منظور الدنيا التي هي مزرعة الآخرة ، قيمة الإنسان فيما يعطي ، لذلك ترى المؤمن يسعد إذا أسعد الآخرين ، يسعد إذا قدم خدمات للآخرين ، يسعد إذا اعتنى بعباد الله أجمعين ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ﴾ ، فلما كذب بلقاء الله ، فلما كفر بالحسنى استغنى عن طاعة الله .
 
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)﴾ .
( سورة الليل ) .
هو الأصل إما أن تؤمن بالحسنى أي الجنة ، أنك مخلوق لها ، وإما أن تكذب بالحسنى ، وتؤمن بالدنيا فقط ، وقد لا ننتبه بأن الحياة التي نعيشها نحن نسميها اقتباساً من القرآن الكريم حياةً دنيا ، معنى دنيا أي منخفضة ، ولا نعبأ بالحياة التي تقابلها ، وهي العليا الحياة العليا ، الحياة الأخروية مبنية على التكريم .
 
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا (35)﴾ .
( سورة ق الآية : 35 ) .
أساسها التكريم ، والحياة الدنيا أساسها العمل .
 
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) ﴾ .
( سورة الانشقاق ) .
 
 إن كان العطاء يسعدك فأنت من أهل الآخرة وإن كان الأخذ يسعدك فأنت من أهل الدنيا :
 
الحياة الدنيا أرادها الله أن تكون حياة عمل ، حياة تجربة ، حياة ابتلاء ، حياة امتحان ، حياة غرائز ، ومعك منهج ، والمنهج يحول بينك وبين أن تلبي هذه الغرائز ، فهناك صراع ، ومجاهدة ، وتكليف ، أشياء ذات كلفة ، فالحياة الدنيا أساسها بذل الجهد ، والأوامر تكليفية ، أي ذات كلفة ، والحياة الأخرى أساسها الإكرام .
 
﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) ﴾ .
( سورة الحاقة ) .
وقال :
 
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) ﴾ .
( سورة ق ) .
لذلك أيها الأخوة ، أنت حينما تؤمن بالحسنى أي بالحياة الآخرة ، أي أنك مخلوق للآخرة ، تتقي أن تعصي الله ، بل وتبني حركتك اليومية على العطاء ، يسعدك أن تعطي ؛ أن تعطي من مالك ، من وقتك ، من جهدك ، من خبرتك ، من علمك ، من كل شيء تملكه ، تعطي وتسعد بالعطاء ، ودقق : إن كان العطاء يسعدك فأنت من أهل الآخرة ، وإن كان الأخذ يسعدك فأنت من أهل الدنيا .
إذاً لأنه صدق بالحسنى اتقى أن يعصي الله ، وبنى حياته على العطاء ، أما إن صدق بالدنيا وكذب بالحسنى استغنى عن طاعة الله ، ليس هناك داعٍ ، كذب بالحسنى ، يبنى على تكذيبه بالحسنى أنه بخل واستغنى ، بنى حياته على الأخذ ، وشهد الله أيها الأخوة أن هؤلاء البشر على كثرتهم ـ ستة مليارات ـ وعلى تنوع انتماءاتهم ، وألوانهم ، وأجناسهم ، ومذاهبهم ، ونحلهم ، وطوائفهم ، واتجاهاتهم ، وأطيافهم كما يقال الآن ، وكل التقسيمات الأرضية هي تقسيمات لا معنى لها ، التقسيم الإلهي قسمان ﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ ، ﴿ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾ ، ولن تجد نموذجاً ثالثاً ، من أي إقليم ، من أي بلد ، في أي عصر ، في أي مصر ، في أي عنصر ، من أي لون ، من أي جنس ، من أي عرق ، من أي مذهب ، من أي طائفة ، صدق بالحسنى فاتقى أن يعصي الله وبنى حياته على الخير ، كذب بالحسنى فاستغنى عن طاعة الله وبنى حياته على الأخذ ، فلذلك : ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ ﴾ الآخرة ، كذبوا بالدار الآخرة ، كذبوا بجنة عرضها السماوات والأرض ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، لكن متى المشكلة ؟ إنسان قد يستمتع بوهم مريح ، لكن متى المشكلة ؟ حينما يكتشف الحقيقة .
 
البطولة في العاقبة :
 
لو أن إنساناً يحمل بالتعبير التجاري شيكاً بمليون دولار ووجده مزوّراً ، هو لا يعلم أنه مزور ، هذا الشيك بمليون دولار يعطيه شعوراً بالغنى ، شعوراً بالتفوق ، شعوراً بالسيطرة ، شعوراً بأنه يفعل ما يريد ، يشتري ما يشاء ، لكن متى المصيبة الكبيرة ؟ حينما يكتشف أنه مزور ويزج به في السجن ، هنا المصيبة ، فلذلك البطولة لا أن تضحك أولاً ، أن تضحك آخراً ، من ضحك أولاً ضحك قليلاً وبكى كثيراً ، البطولة في العاقبة ، قال تعالى :
 
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) ﴾ .
( سورة الأعراف ) .
(( ألا يا رُبّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ، ألا يا رُبّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة ، ألا يا رُبّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ، ألا يا رُبّ مهين لنفسه وهو لها مكرم  )).
[ أخرجه ابن سعد البيهقي في شعب الإيمان عن أبي البجير ] .
العاقبة في الدار الآخرة ، من أجمل ما قاله الإمام علي رضي الله عنه : " الغنى والفقر بعد العرض على الله " ، تقول : إنسان يملك تسعين ملياراً ، بيل غيت صاحب مايكرو سوفت ، وإنسان قيل : يملك عشرة مليارات ، وقيل : يملك أربعة مليارات ، بثوانٍ معدودة أصبح خبراً بعد أن كان بشراً ، أليس كذلك ؟
 
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) ﴾ .
( سورة آل عمران ) .
لا ينفعه بعد الموت إلا أعماله الصالحة ، إذاً ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ﴾ .
 
الخسارة التي لا تعوض أن تخسر الآخرة وتخسر لقاء الله عز وجل :
 
أنت حينما تؤمن بلقاء الله ، دقق : كل حركة بكل دقيقة تربطها بلقاء الله ، الآن سأكذب ، لكن الله حرم عليّ الكذب ، فإذا كذبت لن أكون في مرضاته ، لا يكذب ، إن آمنت بلقاء الله ، أنت لاحظ إنساناً يكتب ، ويعلم أن كل كلمة يتكلمها محاسب عليها وسوف يُسأل ، وسوف يحقق معه ، كلما كتب كلمة يتصور هذه الكلمة تعد مأخذاً عليّ ، هل أحاسب عليها ؟ لأنه آمن بإنسان في الأرض قوي يحاسبه فقط ، الآن انضباط الناس عجيب في الأرض ، ينضبط انضباطاً يفوق حد الخيال ، لأنه إنسان ، إنسان بشر ، لكنه قوي ، وبإمكانه أن يوقع به أذىً شديداً ، إذاً ينضبط ، يطبق الأمر بحذافيره ، يبتعد عن الذي نهي عنه بحذافيره ، هذا مع بشر ، فكيف مع خالق البشر ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ ﴾ ، لكن هذه الخسارة متى تكتشف ؟
محل تجاري له مستودع كبير ، ولهذا المستودع بابان ، والبضاعة إلى السقف ، فالذي سُرِق من باب خلفي لا يستخدم إلا قليلاً ، سرق بضاعة بالملايين ، كشف الأمر بعد حين ، العبرة عند المفاجأة ، عندما يوقن الإنسان أنه كان مخطئاً .
 
﴿ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) ﴾ .
( سورة القصص ) .
وقال :
 
﴿ آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ (91) ﴾ .
( سورة يونس ) .
وقال :
 
﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) ﴾ .
( سورة الفرقان ) .
 ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾ ، إذاً الخسارة الحقيقية ، الخسارة التي لا يمكن أن تتلافاها ، هناك خسارات في الدنيا تعوض ، لكن الخسارة التي لا تعوض أن تخسر الآخرة ، أن تخسر لقاء الله عز وجل .
 
المؤمن آمن بساعة اللقاء لذلك حياته كلها متكيفة مع ساعة اللقاء :
 
قال تعالى :
 
﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ .
أخواننا الكرام ، دائماً وأبداً العاقل هو الذي لا يفاجئ ، والأقل عقلاً هو الذي يفاجئ ، والأقل الأقل عقلاً هو الذي يصعق عندما يأتيه خبر غير متوقع ، فهذا الإنسان المؤمن آمن بساعة اللقاء فكل حياته متكيفة مع ساعة اللقاء ، كالطالب تماماً لحظة الامتحان لن تغادر ذهنه إطلاقاً ، فإذا جاءه صديق فهو أمام خيارين ، إما أن يستقبله وأن يرحب به وأن يمضي معه ساعاتٍ وساعات ، والصديق غير مكلف بامتحان ، أو أن يعتذر منه ، كلما رأى أنه سيضع وقتاً يعتذر ، لأن ساعة الامتحان لن تغادر ذهنه إطلاقاً .
أحد الطلاب الأوائل في الشهادة الثانوية أجرى معه بعض الصحفيين حواراً ، سأله : إلامَ تعزو نيلك الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية ؟ فأجابه إجابة رائعة ، قال : لأن لحظة الامتحان لم تكن تغادر ذهني ولا لثانية بالعام كله ، لحظة الامتحان لم تكن تغادر ذهنه ولا ثانية في العام كله ، والمؤمن كذلك ، سوف ألقى الله ، هل في هذا العمل ما يغضب الله ، هل في هذا الأخذ ما يغضب الله ، هل في هذا العطاء ما يغضب الله ؟ هل في هذه الصلة ما يغضب الله ؟ هل في هذه القطيعة ؟ هل في هذه المودة ما يغضب الله ؟
 
﴿ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (22) ﴾ .
( سورة المجادلة الآية : 22 ) .
مودته محسوبة ، وابتسامته محسوبة ، وصلته محسوبة ، وقطيعته محسوبة ، وبره محسوب ، ومنعه محسوب ، كل هذه التفاصيل تنطلق من أنه سوف يلقى الله ، وسوف يسأله عن هذا العمل .
 
 ابدأ من النهاية فالبدء من النهاية يجعلك تنضبط وفق منهج الله :
 
أيها الأخوة ، اُسأل كثيراً أسئلة متعلقة بالحياة اليومية ، والتجارة ، والبيع ، والشراء ، والموظفون يسألونني حول تطبيق النظام ، وقد يكون هناك من يتأذى بسجن ، أو بضبط كبير ، فماذا أجيبهم ؟ أقول له : هيئ جواباً لله عز وجل ولا تعبأ بأحد ، بطولتك لا أن تهيئ جواباً لمن كان أعلى منك من بني جلدتك ، ينبغي أن تهيئ جواباً لله عز وجل ، والله يعلم كل شيء .
إذاً العاقل لا يفاجئ بشيء ، العاقل لا يفاجئ لأنه بدأ من النهاية ، وفي البرمجة العصبية اللغوية قاعدة رائعة ابدأ من النهاية ، النهاية الموت ، ابدأ من الموت ، فأي عمل حينما تلقى الله لا تستحي به فافعله ، وأي عمل حينما تلقى الله تستحي به لا تفعله ، لذلك ورد في بعض الأحاديث :
(( إذَا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ مَا شِئْتَ )) .
[ رواه البخاري عن أبي مسعود البدري ] .
إن لم تستحِ من الله ، ابدأ من النهاية ، النهاية هو الموت ، والموت تراه كل يوم ، الأغنياء يموتون ، والأقوياء يموتون ، والفقراء يموتون ، والضعفاء يموتون ، والأصحاء يموتون ، والمرضى يموتون ، ابدأ من النهاية فالبدء من النهاية يجعلك تنضبط وفق منهج الله.
أيها الأخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام دعانا كثيراً إلى تذكر الموت :
(( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللّذّاتِ )) .
[ رواه الحسين بن حريث عن أبي هريرة ] ,
مفرق الأحباب ، مشتت الجماعات .
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))
[ أخرجه الشيرازي في الألقاب عن سهل بن سعد ؛عن جابر ٍ] .
 
كل إنسان حينما يأتيه الموت يؤمن بكل ما جاء به الأنبياء فالقضية قضية وقت :
 
فرعون آمن ، لكن بعد فوات الأوان ، ويجب أن تعلموا علم اليقين أننا جميعاً ، وأن كل البشر ، وأن كل الكفار ، وأن كل الملحدين ، وأن كل الوثنيين ، وأن كل إنسان على وجه الأرض حينما يأتيه الموت يؤمن بكل ما جاء به الأنبياء ، فالقضية قضية وقت ، إما أن تؤمن اليوم ، أو أن يؤمن الإنسان عند فراق الدنيا :
 
﴿ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾
لذلك قال تعالى :
 
﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) ﴾ .
( سورة التكاثر ) .
أنت في نعمة الأمن ، ماذا فعلت في هذه النعمة ؟ أنت في نعمة الكفاية ، أنت في نعمة الصحة ، أنت في نعمة الفراغ .
(( اغتنم خمساً قبل خمس : حياتك قبل موتك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وشبابك قبل هرمك ، وغناك قبل فقرك )) .
[ رواه الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس ] .
 
﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ .
الآية الكريمة أيها الأخوة :
 
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) ﴾ .
( سورة المؤمنون ) .
وقال :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) ﴾ .
( سورة القيامة ) .
 
 الإنسان لم يخلق عبثاً بل سيحاسب على كل ذرة :
 
تدخل جامعة والأقساط بمئات الألوف ، قاعات المحاضرات ، والمكتبات ، والمهاجع ، والمطاعم ، ولا يوجد امتحان آخر السنة ؟! كل هذا العطاء بلا امتحان ؟! يكفي أن تقول : يرجى منحي الدكتوراه ، هل تمنح ؟ هل في الأرض جامعة تفعل هكذا ؟ لذلك أن يُخلق الإنسان عبثاً هذا من سابع المستحيلات ، وأن يُخلق سدى هذا من سابع المستحيلات .
 
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾ .
( سورة الحجر ) .
عند بعض العلماء أيها الأخوة أنه ما من قطرة دم تراق إلا ويحملها إنسان ، إلا دم الذي يموت بحد شرعي يتحمله الله جل جلاله ، أما أن تقتل مئة شخص بقصف ، بعد هذا تقول : كان هذا خطأ في المعلومات ، هؤلاء الذين ماتوا سوف يتحمل الذين أخطؤوا في تصويب الأهداف دمائهم كلها :
 
﴿ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾
أحيانا يرتكب الإنسان خطأ ماليّاً وعليه حجز ، وعليه محاكمات ، وعليه سجن ، يقول لك : لا أنام الليل ، فكيف إذا كان الخطأ مع خالق الأكوان ، وتعلقت بهذا الخطأ حقوق ، كيف إذا كنت ظالماً بنيت مجدك على أنقاض الناس ، كيف إذا بنيت غناك على فقرهم ، ﴿ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ .
أحيانا الإنسان يتكلم كلمة ويندم عليها أشد الندم ، ولا يعلم إذا ما كان سيحاسب عليها أو لا يحاسب ، لا ينام الليل ، هي كلمة ، يحمل أوزارها ، أحياناً هناك فقر ، هناك قهر، هناك أمراض نفسية ، هناك تحول نساء للدعارة ، هناك انهيار بيوت ، هناك شقاق زوجي ، هناك عقوق والدين ، كله بسبب الفقر أحياناً ، فهذا الذي يبني ثروته على أنقاض الناس ، يستمتع بالمال الوفير ويشقى الناس بالحرمان الشديد هل هذا ينجو من عذاب الله ؟ ألم يقل عليه الصلاة والسلام حينما سأله أحد الأعراب ، وهو رجل جاء ليتعلم ، فانتهى إلى قوله تعالى : ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنِ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ ، فقال : يكفني هذا وانصرف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
 (( انصرف الرجل وهو فقيه )) .
[أبو داوود والنسائي وابن حيان والحاكم عن عبد الله بن عمر ]
مثقال ذرة ، كله محسوب .
 
الذنوب أنواع : 
 
أيها الأخوة :
 
﴿ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾
أي أن هذا الحمل الثقيل الذي حملوه بأخطائهم ، وذنوبهم ، ومعاصيهم سوف يسوءهم ، بالمناسبة المخالفات التي هي حق لله عز وجل يسهل مغفرتها ، أما المخالفات التي هي من حقوق العباد فيصعب أن تغفر إلا أن تؤدى ، أو أن الذي ظلمته يسامحك ، حقوق العباد مبنية على المشاححة ولا تسقط إلا بالأداء أو المسامحة ، بينما حقوق الله مبنية على المغفرة ، فذنب يُغفر وهو ما كان بينك وبين الله ، وذنب لا يُغفر وهو الشرك بالله ، وذنب لا يترك يُغفر إذا أديته أو سامحك الذي له حق عليك . أيها الأخوة ، يقول الله عز وجل :
 
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) ﴾ .
( سورة الأنعام ) .
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا ﴾ ، هذا أسلوب في القصر والحصر ، يعني الحياة الدنيا لهو ولعب فقط ، ولا شيء غير ذلك ، ما هو اللعب ؟ يذهب الإنسان إلى الثلج ، يضع على مركبته شكل دمية من الثلج ، وهو يضع الثلج على شكل دمية ، ألا يعلم علم اليقين أن هذه سوف تنقض بعد حين ؟ هذا هو اللعب ، يعني عمل عابث ، عمل سوف ينقض ، بناء سوف ينقض ، أحياناً يصنعون على شاطئ البحر من الرمل أشخاصاً ، أحياناً كل عمل في الدنيا بلا هدف متعلق بالآخرة لا قيمة له إطلاقاً ، هذا اللعب ، يعني عمل عابث .
أيها الأخوة ، بادئ ذي بدء يجب أن نُعرِّف اللعب ، نحن أحياناً نبني جامعة ، هذه الجامعة بنيت لتبقى ، وأهداف نبيلة وراء بنائها في أن نخرج قادة للأمة ، علماء ، أطباء ، أدباء ، مربين ، فأحياناً نبني بناءاً ليبقى ، وأحياناً يقام سيرك مثلاً ، هذا البناء مؤقت ، خيمة ، بعد حين يتحول لبناء آخر ، فأن تبني ثم أن تهدم في هذا لعب ، أوضح مثل دمية الثلج ، أو دمية الرمل ، بنيت لتنقض ، لعب يعني عمل غير هادف ، أدق كلام عمل بلا هدف يعني عبث .
 
المفهوم الحقيقي للعب :
 
الآن طفل صغير يشتري سيارة صغيرة ، يحركها على قطع الأثاث ، يرافقها صوت ، وهو منغمس في لذة ما بعدها لذة ، لكن أباه يراه أنه يلعب ، وهذا نوع من اللعب ، أما حينما يكبر ويصبح شخصاً مهمّاً ، وتقدم له صوره عندما كان صغيراً ، كيف كان يحرص على هذه اللعبة ؟ وكيف كان يقاتل أخاه من أجلها ؟ وكيف كان يبكي والدموع تنهمر إذا أخذت منه ؟ وهو في مركز كبير يضحك ويقول : هذا لعب ، تعريف اللعب أنه عمل بلا هدف ، تعريف اللعب أنه ينتهي بنقيضه ، تعريف اللعب أنك تراه صغيراً حينما تتجاوزه .
الآن لو وسعت الموضوع : الدنيا كلها لعب ، بالنهاية هناك موت فالقوي يموت ، والضعيف يموت ، نحمل شهادات ، نطبع بطاقات نُعرِّف بأنفسنا ، نبني بيتاً فخماً ، جاءنا زائر نريه البيت ، غرف البيت ، مرافق البيت ، ألَّفت كتاباً تطلع الناس عليه ، هناك حركة لكن كلها تنتهي عند الموت ، لو ابتعدنا عن الآخرة ، تصور دنيا بلا آخرة لعب بلعب ، ميزات ، فكلما اطلع على آلة يقول لك : هذه فيها ذاكرة ، هذه تقف حينما لا تستعملها آلياً ، فكل إنسان عنده آلة أو عدة آلات ، ويتحدث عن الخصائص حديث ممتع ، لكن في النهاية هذا الذي اشتراه ينساه ، ثم يمله ، المعنى الصغير في اللعب عمل الأطفال ، أو عمل الكبار عند العبث واللهو ، أما اللعب بالمفهوم الحقيقي الدنيا كلها لعب ، حينما تحذف الآخرة ، وتحذف الإيمان بالله ، وتحذف الحياة الأبدية ، وتلغي الجنة والنار ، الحياة الدنيا من دون فكر إيماني ، من دون هدف كبير ، لعبٌ ولعب .
وصلنا إلى القمر ـ خيراً إن شاء الله ـ وكلفت الرحلة خمسة و عشرين مليار دولار ، واضطربت ميزانيات معظم الدول ، لأنه استطاع إنسان أن يضع قدمه على سطح القمر ، وضع العلم الفلاني ، ركز هذا العلم على تراب القمر ، هؤلاء المعذبون في الأرض ماذا استفادوا ؟ هؤلاء الفقراء ، هؤلاء المرضى ، هؤلاء الشعوب الجائعة ، ماذا استفادت من أن يطأ الإنسان القمر برجله ؟ نوع من اللعب أيضاً ، لكن اللعب مكلف ، لعب كلّف أرقاماً فلكية، يقول لك رحلة إلى القمر ، الآن يُفكر برحلات سياحية للقمر ، مبالغ فلكية ، لعب ، وإذا ذهبت إلى القمر فهو لا يصلح للحياة ، بذلة الرائد كلفت 17 مليوناً لأنه ليس في القمر هواء ، وإذا لم يكن فيه هواء فليس فيه أمواج صوتية ، تحتاج إلى أجهزة بث ، وأجهزة استماع ، وبذلات لكن لعب بلعب ، أنا لا أقلّل من قيمة الكشف العلمي إطلاقاً ، أما في النهاية أنا حينما أعيش بلا هدف عملي لعب بلعب ، يعني حركة كبيرة جداً ومظاهر ، لكن لا تنتهي بإسعاد الإنسان .
 
في النهاية الحياة لعب بلعب فيها أشياء ومبالغات تفوق حدّ الخيال :
 
أنت أحياناً يمكن أن تطوف حول الأرض في ساعة واحدة ، طائرة أسرع من الصوت ، يقول : من بيتك إلى المطار ساعة ، وحول الأرض ساعة ، ومن المطار إلى بيتك ساعة ، قطعت المسافات بزمن قياسي ، حسناً ما النتيجة ؟ ما الذي حصل ؟ تقدم تقني كبير جداً ، اتصالات ، فضائيات ، إنترنيت ، كمبيوتر ، حواسيب ، آلات تصوير رقمية ، أجهزة تفوق حد الخيال  .
أنا كنت في بلد الثلاجة ؛ كل مكان فيها فيه حساس الكتروني ، فأنا سآتي بمثل واحد ، طبعاً مكان للفواكه ، مكان للأجبان ، مكان للحوم ، مكان للعصير ، مكان للبيض ، سنأخذ مثلاً البيض ، هذه الثلاجة فيها تلفزيون ، وفيها إنترنيت ، يمكن للسيدة أن تتابع برنامجاً تلفزيونيّاً في أثناء الطبخ ، فلو أن حساسات مكان البيض أشارت إلى أنه استهلك ثلاثاً الثلاجة تخبر السوبر ماركت وتدفع ثمن البضاعة من بطاقة صاحب البيت ، ويطرق الباب ، وتأتي البضاعة ، وأنت لا تشعر ، خدمات أصبحت إلى هذا المستوى ، وبعد هذا ؟ إذا أنت اشتريت ، ماذا حصل ؟ لعب ، وثمن الثلاجة ثمن فلكي كبير جداً ، لأن كل نواقص الثلاجة يتم باتصال عن طريق الإنترنيت ، عن طريق الثلاجة نفسها ، ويعطى رقم بطاقة صاحب البيت ، وتأتي البضاعة إلى البيت بحسب النقص التي شعرت به الحساسات الالكترونية ، أليس هذا لعباً ؟
يمكن أن تجلس على كرسي يقدم لك دلكاً آلياً ، خيراً إن شاء الله ، ويمكن أن تستحم بحمام يعطيك ماء بقوة شديدة ، قال : هذا دلكٌ أيضاً ، في النهاية الحياة لعب بلعب ، فيها أشياء ومبالغات تفوق حد الخيال .
عندما قال الله : ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ ﴾ ، مرة ثانية عمل غير هادف ، عابث ، عمل ينتهي بنقيضه .
هذه الناقة من أجل السباق ، الجِمال التي تعد للسباق في دول الخليج لا تأكل إلا الفستق الحلبي ، والعسل ، والكاجو ، وجبة الجمل الواحدة تطعم أهل قرية ، فلان سبق ، ماذا حصل ؟! تجد الشيء العجيب ، الدنيا كلها هكذا ، كرة القدم لعب أليس كذلك ؟ سباق الخيول ، سباق السيارات ، صعود الجبال ، ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ ﴾ .
 
الفرق بين اللهو واللعب : 
 
اللهو : هنا السؤال ، اللهو أخطر من اللعب ، اللعب عمل عابث ، أما اللهو عمل عابث يضاف إليه أنه يصرفك عن واجب أساسي .
طالب في الصيف تعلم شيئاً عابثاً ، لعب الشطرنج فرضاً ، أذهب ثماني ساعات، لكن لعب الشطرنج في الشتاء وعنده فحص بكالوريا ، هذا لعب مضاف إليه اللهو ، اشتغل بالخسيس عن النفيس .
إله عظيم خالق الأكوان يصف لك الدنيا وصفاً جامعاً ، مانعاً ، بليغاً ، قاطعاً ، قال لك :
 
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾
عمل غير هادف ينتهي بنقيضه تحتقره بعد حين ، إما أن يكون عمل الصغار هكذا ، والأصح من ذلك أن عمل الكبار هكذا أيضاً :
 
﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ .
أما الدنيا مع الإيمان فليست لعباً ، تطلب العلم ، تعمل الصالحات كي يرضى الله عنك ، الحقيقة أن الدنيا مع الإيمان رائعة ، وقتك ثمين لا تنفقه إلا بالطاعة ، في طلب علم ، في أمر بالمعروف ، في نهي عن المنكر ، في خدمة ، في تخفيف الأعباء عن الناس ، في حل مشكلات ، فكل هذه الأعمال من أجل أن يرضى الله عنك والسعادة من عند الله تأتي ، فإذاً العمل العابث هو الدنيا من دون إيمان ، الآن مثلاً :
طالب طب يريد أربعة أشياء ، يريد سيارة ، وعيادة ، وعروساً ، وعيّاناً ، أي مريضاً ، يريد مريضاً يعطيه أجره ، وعروساً ، وسيارة ، وعيادة ، صار طبيباً لامعاً ، وأمّن بيتاً ، ومركبة ، وعروساً ، ثم ماذا ؟ الموت بعد هذا ، لو كنت أغنى أغنياء الأرض ثم ماذا ؟ الموت ، لو كنت أقوى إنسان ثم ماذا ؟ الموت .
طائرة كبيرة جداً ، غرفة نوم ، وغرفة جلوس ، ويخت في البحر لقضاء إجازة بكاملها ، وأرقام تفوق حد الخيال ، وبيت يفوق في مساحته حد الخيال ، والإنسان في ثانية صار خبراً بعد أن كان شخصاً مهماً جداً ، هذه الحياة لعب ولهو ، فاللعب عمل عابث بلا هدف ، ينتهي بنقيضه ، تستصغره بعد حين ، أما اللهو فهو عمل عابث بلا هدف ، ينتهي بنقيضه تستصغره بعد حين ولكنه يشغلك عن عمل جليل ، فالذي يلهو بالخسيس عن النفيس يعد من أكبر الخاسرين ، ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ .
 
إيمانك باليوم الآخر وانسجامك معه يقلب الدنيا من لعب ولهو إلى عمل جاد مثمر ونافع :
 
طبعاً أنا حينما أذكر هذه الأمثلة لا أقصد إنساناً إطلاقاً ، قد يكون الإنسان محسن وله أعمال طيبة ، أنا أقصد أن الحياة تنتهي بالموت ، والموت نصيب كل إنسان من دون استثناء :
 
﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ .
نحن خُلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض ، فإذا جئت إلى الدنيا وكان في ذاكرتك هذه الجنة فكل أعمالك ليست لعباً ولا لهواً ، إنما هي أعمال هادفة جادة .
إذاً ما الذي يلغي أن تكون الدنيا لعباً ولهواً ؟ أن تؤمن بالله ، فإذا آمنت بالله عز وجل أصبحت الدنيا ثمينة جداً ، لأنها مزرعة الآخرة ، ولأن كل أعمالك فيها أعمال صالحة تستحق من الله الثواب والجزاء ، ﴿ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ ﴾ ، الأبدية ، ﴿ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ ، معنى ذلك العقل يأمرك أن تسعى للآخرة ، وما من ركنين من أركان الإيمان قرنا معاً كالإيمان بالله واليوم الآخر ، فلذلك : إيمانك باليوم الآخر وانسجامك مع اليوم الآخر يقلب الدنيا من لعب ولهو إلى عمل جاد مثمر ونافع ، هذا هو الفرق ، الغرب يتمتع بالحياة بشكل مخيف ، ومع ذلك يأتي الموت فينهي كل شيء ، نتابع الآيات إن شاء الله في الدرس القادم .
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب