سورة الصّافات 037 - الدرس (11): تفسير الأيات (123 – 132)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الصّافات 037 - الدرس (11): تفسير الأيات (123 – 132)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 163 - أنا عند ظن عبدي بي           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 16 - متى تصبح القدس عاصمة الخلافة - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - فضل الدعاء           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 397 - سورة المائدة 028 - 032           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 24 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 15 - معاملةالأسرى في الإسلام - د. راغب السرجاني         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الصّافات

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الصّافات ـ (الآيات: 123 - 132)

06/09/2012 18:07:00

سورة الصافات (037)
 
الدرس (11)
 
تفسير الآيات: (123 ـ 132)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
       أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الحادي عشر من سورة الصَّافَّات ، ومع الآية الثانية والعشرين بعد المائة من السورة نفسها .
﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾
 
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ
 
1 ـ إلياس رسول نبيّ :
 
       قال العلماء : إلياس إنه إليا ، أرسله الله إلى قومٍ في بلادنا ـ في سوريا ـ وكانوا يعبدون صنماً اسمه بَعْل ، وبعلبك فيها هذا الصنم ، هؤلاء عبدوا من دون الله صنماً لا يسمع ، ولا ينطق ، ولا يتحرَّك ، ولا ينفع ، ولا يضُر .
﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾
      ومن هنا للتبعيض ، فإرسال المرسلين يدلُّ على رحمة الله عزَّ وجل .
 
2 ـ مع مقومات التكليف إنزال الكتب وإرسال الرسل :
 
     أتمنَّى أن أوضِّح لكم هذه الحقيقة قبل أن نتابع الحديث عن هذا النبي الكريم : الله عزَّ وجل حينما خلق الإنسان أعطاه عقلاً يهديه إلى الله عزَّ وجل ، وفطره فطرةً تكشف له خطأه ، وسخَّر له كوناً معجزاً يدلُّه عليه ، أعطاه حريَّةً كي يتحرَّك ليكون عمله ثميناً ، أودع فيه شهوات ليرقى بها إلى ربِّ الأرض والسماوات ، هذه المقوِّمات ، بعقله ، وبفطرته ، وبالكون ، وبالشهوة ، وبالحريَّة ، وبالقدرة التي تبدو أنه يمتلكها بإمكانه أن يصل إلى الله جلَّ جلاله ، وفوق هذا وذاك أنزل الكُتُبَ ، وبعث الأنبياء ، الكتب والأنبياء رحمةٌ من الله عزَّ وجل ..
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 164)
      أضرب مثلاً أقرب الفكرة وأبسطها : أب وضع ابنه في أرقى مدرسة ، ودفع له أعلى قسط ، وأعطاه كل الحاجات ، وأمدَّه بكلِّ النفقات ، وهيَّأ له جواً دراسياً كاملاً ، وفوق وهذا وذاك كلَّف أستاذاً ليعطيه درساً خصوصياً ، هذا معنى الآية ؛ العقل يكفي ، الفطرة تكفي ، الكون يكفي ، أفعال الله التي نراه رأي العين تكفي ، كلُّ شيء يكفي ، وفوق كل هذا وذاك أرسل الله الأنبياء ، وأنزل الكُتب ، ليكون الكتاب ميزاناً على ميزاني العقل والفطرة .
       وشيءٌ آخر ، كل الأنبياء الذين قصَّ الله علينا قصصهم ليسوا جميع الأنبياء ، هم بعض الأنبياء ..
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾
(سورة غافر : من الآية 78 )
      فما من بلدٍ ، ما من قومٍ ، ما من أهل قريةٍ ، ما من قارةٍ ، ما من عصرٍ ، ما من مصرٍ إلا وله نبيٌّ مُرْسَل ، فهؤلاء الذين عاشوا في سوريَّا ، وأنشؤوا هذه الآثار في بعلبك ، وعبدوا صنماً من دون الله اسمه بَعْل ، هؤلاء مَنَّ الله عليهم إذ بعث فيهم نبياً اسمه إلياس ، باللغة العِبرانيَّة إليا ..
 
﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾
 
3 ـ مع كلِّ نبيٍّ منهج ومعجزة :
 
       لكن دائماً النبي حينما يُرْسَل يأتي بمنهج ، هذا المنهج من شأنه أن يَحُدَّ من شهوات الإنسان ، هؤلاء الذين عبدوا شهواتهم من دون الله ، هؤلاء الذين حقَّقوا مكاسب من تفلُّتهم من منهج الله ، هم أعداءٌ طبيعيون لهؤلاء الأنبياء ، فأول كلمةٍ يتكلَّمون بها حينما يدعون إلى الله ورسوله يقولون : هذا ليس رسولاً ، إنه كذَّاب ، فكيف يواجه النبيُّ دعوى قومه بكذبه ؟ لابدَّ من معجزة .
       لكن هناك شيءٌ دقيقٌ جداً في المعجزة ، أن الله جلَّ جلاله جعل هذه المعجزات الحسيَّة لمن عطَّل فكره ، فالذي يؤمن بالمعجزة الحسيَّة هو إنسان أدنى مرتبةً ممن يؤمن بالكون كمعجزة ثابتة ودائمة ، فلذلك المعجزات الحسيَّة تأتي حينما يُعَطِّل الإنسان عقله ولا يفكِّر ، أما إذا فكَّر فيكون الكون أقوى معجزة ، وأكبر دليل .
       فنحن أيها الإخوة محاطون بملايين ملايين المعجزات ، لكن الكون بعظمته هو المعجزة ، يؤيِّد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام :
((حسبكم الكون معجزة )) .
[ ورد في الأثر ]
الإنسانُ نفسُه معجزة !!!
 
       الطفل كيف يولد ؟ هذا الماء المَهين ، ثلاثمائة مليون حوين في اللقاء الزوجي ، الحوين الواحد ؛ غشاء ، هيولى ، نويَّة عليها مورِّثات ، هذه المورِّثات فيها ـ دقِّقوا في الرقم ـ خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة ، هذه المورِّثات حتَّى الآن اكتُشِفَ من هذه المورِّثات ثمانمائة مورِّث ، ما من صفةٍ في جسم الإنسان إلا وقد خَطَّطَ لها مورِّث ، بالوقت المناسب ، فخلق الإنسان معجزة ، عينه معجزة .
       البارحة رأيت شيئاً يوضع عليه الثياب له اسم خاص ـ المانيكان ـ له قاعدة استناد كبيرة جداً ، الإنسان كيف يستقر ؟ كيف يقف على قدمين صغيرتين دقيقتين ؟ لابدَّ من توازن ، لابدَّ من جهاز بالغ التعقيد في الأذن ، ثلاث قنوات فيها أهداب ، وفيها أشعار ، وفيها سائل ، فإذا مال قليلاً ارتفع السائل ، بحسب استواء السائل ، وعدم تأثُّره بالميلان ، ونبَّه بعض الأشعار ، فشعر الإنسان بالميل نحو جهةٍ ، فيصحَّح استقامته ، جهاز معقَّد جداً ، فأنت محاط بآلاف آلاف الأجهزة ، والمجال لا يتسع..
       أنت الآن تتكلَّم ، كل حرفٍ من حروف الكلمة يسهم في تشكيله ، أو النطق به سبع عشرَة عضلة ، فالكلمة خمسة حروف ، وكل حرف تساهم فيه سبع عشرة عضلة ، في إلقاء خطبة كم من الجهد ، وكم من التعقيد ؟
    الأعصاب ، لا شك أن الإنسان إذا فكَّر في جسمه يُدْهَش ، وفي جسم الإنسان آياتٌ بيِّنات دالَّةٌ على عظمة الله عزَّ وجل .
    إذاً :
﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(123)إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾
 
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ
   
1 ـ معنى : تتقون :
 
    تتقون فعل مضارع ماضيه اتَّقى ، واتقى فعل مزيد مجرَّده وقى ، فالإنسان كيف يقي نفسه المخاطر ؟ الحياة كلُّها مخاطر ، وأكبر خطرٍ فيها انتهاء الحياة ، الإنسان حينما يغفل عن الموت يتحرَّك بلا وعي ، لكن حينما يقع في قبضة الله عزَّ وجل في ساعةٍ عصيبة ..
 
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8)فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) ﴾
(سورة المدثر)
       هذه الساعة ، الأذكياء والعقلاء يعملون لهذه الساعة ، يجعلون من هذه الساعة عُرْسِاً وفرحةً ، وبداية لحياةٍ سعيدة ، والأغبياء يعتنون بدنياهم ، ويهملون آخرتهم ..
 
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8) ﴾
       كانت الخسارة كبيرة جداً ، فلذلك:
 
﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾
 
2 ـ اتقوا غضب الله وسخطَه :
 
     ألا تتقون الشقاء بطاعة الله ؟ ألا تتقون المصائب بالاستقامة على أمر الله ؟ ألا تتقون الدمار ؟ ألا تتقوا المرض ؟ ألا تتقون الفقر ، هناك علاجاتٌ في الدنيا وعلاجاتٌ في الآخرة ، بشكلٍ أو بآخر عذابات الدنيا أهون بكثير من عذاب يوم القيامة ، لذلك قال الله عزَّ وجل :
 
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾
(سورة السجدة)
      كلُّ العذابات في الدنيا عذاباتٌ دُنيا ، عذاباتٌ صغرى ، لكن العذاب الأكبر حينما يشعر الإنسان أنه خَسِرَ نفسه ، الإنسان يخسر ماله ، يخسر أولاده أحياناً ، يخسر زوجته ، يخسر مكانته ، تخدش كرامته ، يخسر حقوقه المدنيَّة أحياناً ؛ لكن هناك أمل أن يقف مرَّةً ثانية ، لكن الخسارة الحقيقيَّة حينما يخسر الإنسان نفسه يوم القيامة ، هذه أشدُّ أنواع الخسارة ، وقالوا : أشدُّ خسارةٍ هي الخسارة التي ليس بعدها ربحٌ ولا فوز ، خسارة مطلقة ، خسارة حتميَّة ، خسارة نهائيَّة ..
 
﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾
     ألا نرى أن الله جلَّ جلاله يعالج الناس معالجات ؟ أحياناً يبثُّ الرعب في قلوب الناس ، ثلاثة هزَّات في يوم واحد ، من دون تهديم ، ولكن ماذا فعلت في النفوس ؟ فعلت فعلاً مخيفاً ، دفع الناس إلى أن يتجهوا نحو الطُرُقات والشوارع ، الله عزَّ وجل قال:
 
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ﴾
(سورة الحج)
      ما مِن شيء أغلى على الأم من ابنها إطلاقاً ، ومع ذلك لشدَّة هول هذه الزلزلة تذهل المرضعة عما أرضعت ، تُلقي ابنها ، وقد سمعت قصصاً كثيرة عن الفزع والرُعب الذي أصاب من ابتلاهم الله بالزلازل ، خوفٌ ما بعده خوف ، تنطلق المرأة خارج المنزل من دون ثياب ، بثياب النوم ، وهي لا تدري من شدَّة الفزع ..
 
﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2) ﴾
(سورة الحج)
 
3 ـ النجاة من المصائب من فضل الله على المؤمنين :
 
      الله يحمينا ، فهل هناك شيءٌ أثبت من الأرض ، الإنسان يخاف من الجو ، يخاف من البحر ، يخاف من المرض ، يخاف من فقر ، يخاف من سجن ، يخاف من المسؤوليَّة ، من ورطة ، أما أنه جالس في بيت مستقر ، بيت من إسمنت مسلَّح ، ومرتاح ، ومرتب ومزين ومؤثّث ، في تسع وخمسين ثانية يصبح هذا البيت أنقاضاً من الإسمنت المطحون ؟! فذلكم الله رب العالمين .
      لا ضمانة إلا ضمانة واحدة : أن يشاء الله لك السلامة ، ولن يشاء الله لك السلامة إلا إذا كنت على منهجه ، لقوله تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
(سورة الأنبياء)
       هذا كلام واضح كالشمس ، دقِّق في هذه الآيات ، ما من مصيبةٌ أعظم من أن يجد الإنسان نفسه فجأةً في بطن حوت ، ظلمة بطن الحوت ، مع ظلمة الليل ، مع ظلمة البحر ..
 
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
(سورة الأنبياء)
     سمعت في الأخبار أن رجلاً بقي تحت الأنقاض ثلاثاً وثمانين ساعة ونجَّاه الله عزَّ وجل ، ثلاثاً وثمانين ساعة بقي تحت الأنقاض ، وإلى جانبه امرأته وقد ماتت ، وأمه وقد ماتت .
    إذاً : الله عزَّ وجل الله قادر أن ينجي الإنسان ، لذلك النجاة في نصِّ القرآن الكريم من فضل الله على المؤمن ..
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
 
﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(61) ﴾
(سورة الزمر)
      الحياة كلُّها أخطار ، أخطار اجتماعيَّة ، أخطار اقتصاديَّة ، أخطار صحيَّة ، أمراض معدية وسارية ، أوبئة ، تضخُّم نقدي ، كساد تجارة ، إفلاس ، أما أرض مستقرَّة تهتزُّ من تحت أقدامنا ، فإذا كل شيءٍ كالأنقاض ؟! هذا شيءٌ مخيف ، كيف نتقي الزلازل ؟ كيف نتقي الصواعق ؟ كيف نتقي الفيضانات ؟ كيف نتقي الحروب الأهليَّة ؟ كيف نتقي الأمراض المُخيفة المُرعبة ؟
     قد يكون الإنسان في أعلى درجة من الصحة فيصيبه مرضٌ مخيف ، ماذا يفعل ؟ وقد يكون ملكاً ، إنه في قبضة الله عزَّ وجل ، فالإنسان معرَّض إلى معالجات ، لا ينجيه من عذاب الله إلا أن يكون على أمر الله ، لا ينجيه من عذاب الله إلا أن يكون مستقيماً على أمر الله ، لذلك قال تعالى :
 
﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(123)إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾
     أنا أقول لكم كلاماً واضحاً كالشمس : والله ما منَّا واحد ، وأهل هذه البلدة ، وأهل كل البلاد ، وكل من يدبُّ على وجه الأرض يحب وجوده ، ويحب سلامة وجوده ، ويحب كمال وجوده ، ويحب استمرار وجوده ، يحب ذاته ، يحب أن يكون صحيحاً ، غنياً ، سعيداً ، يحب الرفاه ، يحب أن يعمر طويلاً ، هكذا الإنسان ، هذه الأشياء التي فُطِرْتَ عليها لا تكون إلا بطاعة الله .
       هناك قصَّة أذكرها كثيراً : عالِم من علماء دمشق الذين اختاروا تربية الأجيال ، عاش ستاً وتسعين سنة ، وكان منتصب القامة ، حادَّ البصر ، مُرهف السمع ، أسنانه في فمه ، وقد أمدَّ الله بعمر زوجته فعاشت معه ، ولم يفتقدها ولا ساعة ، وكان إذا قيل له : يا سيدي ، ما هذه الصحَّة التي أكرمك الله بها ؟ يقول : " يا بني ، حفظناها في الصِغَر فحفظها الله علينا في الكِبَر ، من عاش تقياً عاش قوياً " .
       أنتم أيها الشباب ، أيها الكهول اتقوا الله ، قبل أن تتحرَّك ما الذي يرضي الله عزَّ وجل ؟ ما أمر الله عزَّ وجل ؟ الذي يسعدني أن أكون في طاعة الله ، فإذا حفظت الله يحفظك الله عزَّ وجل ..
((يَا غُلامُ ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ )) .
[سنن الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ]
       لذلك كلمة ..
 
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ(19) ﴾
(سورة الأنفال)
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(36) ﴾
(سورة التوبة)
      هذه كلمات يذوب القلب لتفسيرها ، أي إن الله معك بالحفظ ، والتأييد ، والنصر ، والتوفيق ، ولا طعم أطيب من التوفيق ، التوفيق في عملك ، لا طعم أطيب من الحفظ   ..
 
﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾
(سورة الطور : من الآية 48)
       ألا تحب أن تقطف كل هذه الثمار ؟ كل إنسان يتمنى أن يوفِّقه الله عزَّ وجل ، الخسارة صعبة جداً ، مؤلمة جداً ، مدمِّرة ، الإحباط ، أن تسعى سعياً حثيثاً ، ثمَّ تبوءُ بالإخفاق ، أن تسير في طريقٍ مسدود ، في منعطفٍ مدمِّر ، في منزلق ، لكن المؤمن في عين الله عزَّ وجل ، لذلك المؤمنون الله عزَّ وجل قال على لسانهم :
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا ﴾
(سورة التوبة : من الآية 51)
      هل من سعادةٍ أعظم من أن تشعر بالطمأنينة ؟ إن الله يعطي الذكاء والجمال والمال والقوَّة للكثيرين من عباده ، ولكنَّه يعطيالسكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين   ..
 
﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾
      التقوى أي أن تطيع الله عزَّ وجل ، أن تتقي غضبه بطاعته ، أن تتقي الشِرك بالتوحيد ، أن تتقي الكفر بالإيمان ، أن تتقي المرض بطاعة الله ، أن تتقي قلَّة الرزق بالاستقامة على أمر الله .
 
هل هناك من أسباب تنمي الأرزاق ؟
 
       هل هناك من أسباب تنمي الأرزاق ؟ نعم ، في القرآن الكريم :
 
الاستقامة :
﴿ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
(سورة الجن)
الإيمان والتقوى :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾
(سورة الأعراف : من الآية 96)
      فالاستقامة تنمي الأرزاق .
الصدقة :
     والصدقة تنمِّي الأرزاق  ..
((استنزلوا الرزق بالصدقة )) .
[ الجامع الصغير ، وفي سنده ضعف ]
الأمانة :
      والأمانة تنمِّي الأرزاق ، الأمانة غنىً ، أثمن شيءٍ تملكه أن يثق الناس بك ، الأمانة غنى .
الإتقان :
     والإتقان ، إتقان صنعتك تنمي الرزق ، فحينما يتقن الإنسان عمله ، وإذا فترت الأسواق وبارت فالمتقنون لا يتعطَّلون ، عليهم طلب شديد ، أما الدرجة الثانية والثالثة والرابعة فيصبحون بلا عمل ، فالإتقان أحد أسباب تنمية الأرزاق .
بر الوالدين :
     برُّ الوالدين أحد أسباب الرزق .
     برُّ الوالدين ، الإتقان ، الأمانة ، الاستقامة ، الصدقة ، هذه كلُّها تنمي الأرزاق ، وقوانين .
 
القرآن قوانين ثابتة :
 
     فأنت حينما تتعامل مع الدين لا على أنه تبريكات ، وتهويمات ، وطقوس ، وكهنوت ، لا ، إذا تعاملت مع الدين على أنه قوانين ، على أنه مقدِّمات ونتائج ، على أنه قواعد ثابتة ، على أنه سُنَن محكمة ، فالقضيَّة سهلة جداً ، التعامل مع القانون مريح جداً ، هذه المقدَّمة تؤدي إلى هذه النتيجة .
      والله أنا أتمنى على كل أخ منكم إذا قرأ القرآن أن يكشف القوانين .
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
(سورة النحل : من الآية 97)
       كلام خالق الكون ، من يمنعه من تحقيق وعده ؟ خالق الكون وعدك ، قال لك : اعمل عملاً صالحاً ، استقم ، تعرَّف عليَّ أولاً ، استقم على منهجي ، واعمل أعمالاً صالحة ، وأنا سأحييك حياةً طيِّبة بأي ظرف ، بأي مجتمع ، ظروف معقَّدة ، غير معقَّدة ، قبل الحرب ، بعد الحرب ، أزمان اقتصاديَّة خانقة ، فالوعد فوق كل هذه الظروف ، لك عنده حياةٌ طيِّبة ..
 
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾
(سورة طه : من الآية 124)
      جرِّب ، لا أحد يسعد على وجه الأرض وهو معرضٌ عنذكر الله ، هذا شيء مستحيل ..
﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) ﴾
(سورة طه)
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾
(سورة البقرة)
      اقرأ القرآن على أنه قوانين ، وسُنن ، وقواعد ، المقدِّمات تؤدي إلى هذه النتائج ، وكل إنسان يحب ذاته ، وربما تنجح بعملك ، تنجح بزواجك، تنجح بصحَّتك ، تنجح في علاقاتك الاجتماعيَّة ، تنجح في معرفة الله عزَّ وجل ، ممكن تشعر أنك تتحرَّك وفق المراد الإلهي .
 
﴿ أَلَا تَتَّقُونَ
       قيل : " قِوام المرء عقله " ، فكلَّما نما العقل ، الإنسان عقلٌ يدرك وقلبٌ يحب ، وأرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً .
﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلًا ﴾
 
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
 
1 ـ أَتَدْعُونَ بَعْلًا
 
      بعلاً أي صنما ؛ لا يتكلَّم ، ولا يسمع ، ولا يُبصر ، ولا يتحرَّك ، ولا يقوى على شيء ، فهذه الأصنام الآن ليست موجودة ، لكن أنت عندما تعتمد على إنسان تراه قوياً فهذا نوع من الشرك ..
 
2 ـ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
 
 
﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ﴾
 
﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) ﴾
(سورة الأعلى)
      الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم .
 
هل هناك خالقٌ غير الله ؟ فلماذا قال : أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ؟
 
      أيها الإخوة ، ليس هناك إلا خالقٌ واحد ، لكن أحياناً يسمَّى الشيء بحسب مفهوم الناس ، الله عزَّ وجل قال :
﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾
(سورة النساء : من الآية 5 )
       فالله عزَّ وجل عزا الرزق إلى الإنسان ، مع أن الله جلَّ جلاله هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين ، ولا رازق سواه ، فكيف يقول :
﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾
      أحياناً الله عزَّ وجل بحسب مفهوم الناس ، بحسب تصوُّراتهم أن فلان ينفق على فلان ، فلان يطعم فلاناً ، والناس أحياناً يقولون : هذا صمَّم هذه الآلة ، هذا صمَّم هذا البناء ، هندسته ، تصميمه على الورق ، فهذا يسمَّى تجوّزاً خالق ، يقول لك : الخَلق والإبداع .
      بالمناسبة الله عزَّ وجل لكرامة الإنسان عليه ـ دقِّقوا ـ لكرامة الإنسان عليه أعطاه من أسمائه الشيء الكثير ، فالإنسان فرد لا ثاني له ، حسب البحوث الحديثة الإنسان له قُزحيَّةٌ لا يشترك بها إنسان آخر في العالَم ، إذا في خمسة مليارات إنسان في العالَم ، كل قزحيَّةٍ لها شكلٌ متميِّز ، هذا يؤكِّد فرديَّته ، الإنسان له رائحة خاصَّة لا يشركه فيها إنسان في العالَم ، الإنسان له تركيب دم خاص ، الإنسان له بصمة خاصَّة ، الإنسان له نبرة صوت خاصَّة ، هذا من فرديَّته ومن تكريم الله له .
      والله عزَّ وجل أعطى الإنسان حريَّة الاختيار ، الله عزَّ وجل مُريد ، وجعل عبده تكريماً له مريداً ، أنت مُنِحْت حريَّة الاختيار ، شاءت مشيئة الله أن تكون ذا مشيئة ، هذا تكريم ثانٍ ، أنت فردٌ لا ثاني لك ، ومريدٌ ، ولست مقهوراً .
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
( سورة الكهف : من الآية 29)
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3) ﴾
(سورة الإنسان)
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾
( سورة البقرة : من الآية 148 )
      وشاءت حكمة الله أن يصمِّم الكون تصميماً يتيح لك فيه أن تُبْدِع ، أبدعوا بالنباتات الهجين ، أبدعوا بتهجين الحيوانات ، أبدعوا أشياء كثيرة ، هذا بإذن الله عزَّ وجل ، ربنا عزَّ وجل تكريماً للإنسان صمَّم الكون تصميماً يتيح للإنسان أن يبدع .
      ومن باب التكريم أيضاً أنه سمح لك أن تشرِّع ، الله عزَّ وجل كان كلامه في بعضه احتمالياً ، ظني الدلالة ، فالعلماء اجتهدوا واستنبطوا من هذه الأحكام الظنيَّة أحكاماً فقهيَّة ، فصار الإنسان مشرِّعاً ، لأن الأحكام الإلهيَّة بعضها ظني ، لذلك قَبِلَ الله أن يتعبَّدنا باجتهاد العلماء ، الإنسان فرد لا ثاني له ، والإنسان مريد ، والإنسان مشرِّع ، والإنسان مبدع .
      والإنسان بهذه الآية الكريمة يرزق ، يعطي الله الرزق للأب الأب  فينفق على أولاده ، فيما يبدو لهذه العين الأب رازق ، يكسب المال وينفقه على ؛ أولاده ، وزوجته ، وأخواته العوانس .. وإلخ ، فالإنسان فرد ، ومريد ، ومشرِّع ، ومبدع ، ورازق ، هذه صفات الله عزَّ وجل :
 
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾
(سورة الإسراء : من الآية 70)
      هذا التكريم .
     إذاً:
 
﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
   مثلاً : هل طرأ على الإنسان تعديل منذ أن خُلِق ؟ فهذا يعني أن خبرة الله عزَّ وجل خبرة قديمة ، الإنسان خبرته متجدِّدة ، خبرته حديثة ، تتكامل ، تتنامى ، والدليل : ضع أمامك سيَّارة مصنوعة سنة ألف وتسعمائة ، كانوا يشعلون المصابيح بالزيت ، ويشغِّلونها من أمام بالمنويل ، والدواليب مصبوبة صباً من دون نفخ ، وكانت التنقيلة واحدة فقط ، ومكشوفة ، ضع أمامها سيارة من الماركات الحديثة جداً ، فما هذا ؟ الفرق من الأرض إلى السماء ، ماذا نفهم من ذلك ؟ نفهم أن خبرة الإنسان حديثة ، وتتنامى ، الإنسان شيء ، والخالق شيء ، أما الإنسان فما فيه نقطة ضعف الله تلافاها بالخلق التالي .
      الإنسان يحمل ابنه من يده ، فمدروس دراسة دقيقة ، الأربطة في الكتف مصمَّمة لتحمل الجسم بأكمله ، وأحياناً يشدَّ بعنف ، هذه الشدَّة تضاعف المقاومة ، المعنى ، أن الأربطة تتحمَّل هذا الجسم ، فالإنسان مصمَّم تصميماً رائعاً ، هل طرأ شيء عليه ؟
      لي مأخذ على ما يقال : أن في الإنسان زائدة دوديَّة ، الأصح أن نسميها ذائدة ، أي مدافعة ، الذائدة الدوديَّة ، لأنه حاشا في خلق الله عزَّ وجل أن يكون في جسم الإنسان عضوٌ زائد ، كمال مطلق ، مبرمج.
﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ(125)اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ ﴾
     فهو الرب ، المُمِد بكل شيء ..
﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾
 
فَكَذَّبُوهُ
    
لماذا كذَّب الناسُ الأنبياءَ ؟
 
      لماذا كذَّبوه ؟ لأن منهج الرسل منهجٌ يقيِّد الإنسان في حركته ، الإنسان بلا منهج رباني كالدابَّة ، أما المؤمن فمُقيَّد ، القرآن يقيِّده ، والقيَم تقيِّده ، وإيمانه يقيّده ، وخوفه من الله يقيِّده ، وتصوُّر الآخرة يقيِّده ، فالإنسان كلَّما ارتقى تقيَّد ، هذا الذي يقول ما يشاء ، ويفعل ما يشاء ، ويأكل ما يشاء ، ويذهب إلى حيث يشاء ، وينام مع من يشاء ، هذا إنسان متفلت ، أما الإنسان المؤمن فمقيَّد ، قيَّده الشرع عن كثيرٍ من هوى نفسه ..
﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾
   لأن منهج الأنبياء تعارض مع شهوات الكفَّار ، لذلك الإنسان قد يستغرب الإقبال الشديد على المذاهب الوضعيَّة ، لماذا ؟ لأنه ليس هناك منهج يحدُّ من حركتهم ، افعل ما تشاء ، وكل ما تشاء ، وخذ من الأموال ما تشاء ، ومتِّع شهواتك بمن تشاء ، وتكلَّم ما تشاء ؛ أعلن ولاءك لهذه الجهَّة فأنت منها ، القضيَّة سهلة جداً ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فيقول :
((والله لا أمثِّل بهم فيمثِّل الله بي ولو كنت نبيَّاً )) .
[ ورد في الأثر ]
       والله عزَّ وجل قال :
 
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44)لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47) ﴾
(سورة الحاقَّة)
       موالاة الله عزَّ وجل تحتاج إلى انضباط ، أما موالاة غير الله عزَّ وجل فتحتاج إلى صُراخ .
 
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾
 
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
 
1 ـ قضية الإيمان قضية وقت فقط :
 
       المشكلة أقولها لكم كثيراً : المشكلة ليست أن تؤمن أو أن لا تؤمن ، لابدَّ من أن تؤمن ، ولكن المشكلة أن تؤمن بعد فوات الأوان ، فأنت دائماً مُحْضَر ، بأي لحظة في قبضة الله عزَّ وجل ، كلَّما توفي أحد ، فأتمنَّى على الإنسان أن يسأل : كيف توفَّى ؟ الذين جلسوا معه قبل يوم من وفاته كانوا يسمعونه وهو يخطط لعشرين سنة قادمة ، سيفتح محلاً ، يؤسِّس شركة ، يسافر لأوروبا ، يعمل ، يتزوَّج ، كيف اختُطِف ؟ كيف صار في قبضة الله فجأةً ؟ مهما كان الإنسان عظيما ، بمرض صغير في جسمه يجعله يستسلم ، ويجعله يبكي .
 
2 ـ كل إنسانٍ في قبضة الله :
 
      إذاً : نحن جميعاً في قبضة الله عزَّ وجل ، نحن نشبه كائنًا حيًّا مربوطا بحبل متين ، الحبل مرخًى ، هذا الكائن عندما وجد أن الحبل مرخى ظنَّ أنه لا يوجد حبل ، ظنَّ نفسه حراً ، فتحرَّك حركات عشوائيَّة ، تطاول ، وتجاوز الحدود ، لكن الحبل مرخى ، وفي أي ثانية يُشَدُّ الحبل فهو في قبضة الله عزَّ وجل ، ما دام المصير في قبضة الله ، كيف نعصيه ؟ كيف ننسى ؟ كيف نتجاوز الحدود ؟
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾
      فالإنسان ضمن بلده أين سيهرب ؟ يريد السفر ، فليمر من المطار يحتاج إلى ترخيص ، يحتاج إلى تأشيرة ، يحتاج إلى جواز سفر ، وعن طريق البر كذلك يوجد مركز هجرة وجوازات ، أين سيذهب ؟ وإن ذهب من طريق غير نظامي يلتقطونه ، أين جواز سفرك ؟ لا يستطيع ، هكذا الأنظمة والقوانين في الدولة ، وبين الدول اتفاقيات وأنظمة متعارف عليها ، وإذا خالف القوانين كان مسؤولاً ، فكيف مع خالق الكون ؟ بأي لحظة أنت في قبضته .
      أنت تعال باختيارك ، تعال وأنت محب ، لا تأتِ وأنت ملقى القبض عليك ، يا إمام كيف القدوم على الله ؟ قال: " أما العبد المؤمن فكالغائب رُدَّ إلى أهله ، وأما العبد الفاجر فكالعبد الآبق رُدَّ إلى مولاه" ، فهذه الحركة العشوائيَّة ، وتجاوز الحدود ، وإيذاء الناس ، والعدوان على الناس ، وانتهاك أعراض الناس ، واغتصاب أموال الناس ، لكن الحبل موجود ، ولكنه مرخى ، فإذا شُدَّ الحبل وقع الإنسان في قبضة الله عزَّ وجل.
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26) ﴾
(سورة الغاشية)
﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾
(سورة فصلت : من الآية 40)
       هذا تهديد ، اعمل وأكثر ، افعل ما شئت ..
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26) ﴾
(سورة الغاشية)
 
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
(سورة الحجر)
      هذه قصَّة رمزيَّة : رجل في بعض البلاد كان ثرياً جداً ، وقد جاءه الموت فخاف أولاده عليه من وحشة القبر ، ومن سؤال منكر ونكير ـ كما يقال ـ رأوا إنساناً فقيراً ، وأغروه بمالٍ كثير على أن ينام معه أول ليلة فقط ، رجل فقير ، وقل له : خذ عشرة آلاف جنية مثلاً ، مبلغ ضخم ، والله لا يتردد ، ليلة واحدة فقط وقت السؤال ، فهذا وضعوه معه ، جاء الملكان ، وجدوا أن هناك اثنين في القبر ، شيء غير مألوف أن يجدوا اثنين ، ارتعب ، حرَّك رجله ، فقالا : هذا حي وليس بميت ، إذاً نبدأ به ، قم ، ماذا تلبس ؟ لبس كيسا من الخيش مربوطاً بحبل ، من أين جئت بهذا الحبل ؟ من البستان ، كيف دخلت إلى البستان ؟ هل أخذت إذنًا من صاحبه ؟ ونزلوا فيه بالضرب ، بسبب حبل ، وكيف دخلت إلى البستان ، ولم تستأذن صاحب البستان ؟ كيف أخذتها من دون إذنه ؟ خرج من القبر في اليوم التالي ، وقال لهم : الله يعين أباكم .
       فلذلك الإنسان :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
(سورة الحجر)
       دائماً بطولتك في تهيئة جواب لله عزَّ وجل ، افعل ما تشاء ، قد تكون رب أسرة ؛ اظلم زوجتك ، اظلم أولادك ، قد تكون في عملك ذا شأن ، وعندك موظَّفون ضعاف ، تستطيع أن تستغلَّهم ، تستطيع أن تقهرهم ، تستطيع إعطاءهم نصف حقِّهم ، لا يستطيعون الكلام خوفاً منك ، فالله عزَّ وجل يراقبك ، افعل ما تشاء ..
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26) ﴾
(سورة الغاشية)
       فلذلك : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا " .
     قال تعالى :
﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾
 
 إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
 
      هؤلاء ليسوا محضرين ، ولكنَّهم مدعوون ، إذا دُعيت إلى حفل ، أولاً الهديَّة تصلك إلى البيت ، بعدها بطاقة أنيقة ، فيها تخطيط من الداخل ، تدخل إلى الحفل فيه الشراب ، والمقبِّلات ، والطعام النفيس ، والترحيب ، والبشاشة ، والمقاعد والوثيرة ، هذه الدعوة ، الكفَّار ألقي القبض عليهم ، وسيقوا ليلقوا مصيرهم ؛ والمؤمنون يُدعون إلى الله وفدا ، المؤمنون وفد ، الوفد معزَّز ، مبجَّل ، مكرَّم ، محترم ، مرفَّه ، قال :
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ(127)إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾
     هذا مخلَص بعد أن أخلص ، أخلص فصار مخلَص ، فأقبل على الله بإخلاصه الشديد ، فنقَّاه الله من كل درن ، من كل شائبة ، من كل شرك ، من كل شُبُهة ، من كل انحراف ، من كل ضغينة ، من كل حَسَد ، أخلص فأصبح مخلصاً ..
﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(128)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴾
 
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
 
      والله شيء جميل جداً أن يموت الإنسان ، ويمضى على وفاته سنة ، وسنتان ، وخمس ، وعشر ، ومائة ، وألف ، وذكره عطر ، العالَم الإسلامي فيه ألف ومئتا مليون ، سيدنا عمر، سيدنا الصديق ، سيدنا عثمان ، سيدنا علي ، الصحابة الكرام ، سيدنا سعد ، سيدنا سعيد ، ابن الزبير ، أبو عبيدة بن الجرَّاح ، سيدنا صلاح الدين ، عمر بن عبد العزيز ، أقول : سيدنا ، لا أجرؤ أن أقول : فلان ، هذا الذكر الحسن ، فشيء رائع جداً أن يموت الإنسان والناس يلهجون بالثناء عليه دوماً ، هذا عطاء عظيم .
      إذاً : الكافر يلقى القبض عليه ، ويُساق ليلقى مصيره المحتوم ، والإنسان في الدنيا إذا ارتكب جرماً يستحق أن يُعْتَقل ، كيف يؤخَذ ؟ يؤخذ مع اللكم ، والضرب ، والسُباب ، والشتائم ، والرَكل ، أما إذا دعي فإنه يُعزَّز ، ويُكرَّم ، فشتَّان بين من يُحضر ومن يُكرَّم ، لذلك يقول الله عزَّ وجل :
 
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُو لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61) ﴾
(سورة القصص)
       إذا أُلقي القبض عليه ، وسيق ليُعَذَّب ، وليلقى جزاء عمله ، ينسى كل متع الحياة ، والإنسان غير المؤمن مهما انغمس في النعيم ، مهما تناول من الطعام ، مهما فعل من المَلذَّات ، حينما يأتيه ملك الموت ينسى كل شيء ، يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصُعِقوا ، يقول : " لمْ أرَ خيراً قط " ، والمؤمن حينما يرى مقامه في الجنَّة ينسى كل متاعب الدنيا فيقول : " لمْ أرَ شرَّاً قط " .
      يقول الإمام علي كرَّم الله وجهه : " يا بني من خيرٌ بعده النار بخير ، وما شرٌّ بعده الجنَّة بشر ، وكل نعيمٍ دون الجنَّة محقور ، وكل بلاءٍ دون النار عافية " .
      سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبةٌ قال : << الحمد لله ثلاثاً ؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذ أُلْهِمْتُ الصبر عليها >> .
      أيّة مصيبةٍ ليست في الدين مصيبةٌ تهون ، لكن مصيبة الدين أن يعصي الإنسان الله عزَّ وجل ، أن يرتكب الكبائر ، أن يستحقَّ غضب الله عزَّ وجل .
    إذاً :
﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾
هؤلاء يذهبون إلى الآخرة وكأنَّهم وفود ..
 
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴾
    الذكر الحسن ، الذكر الحسن عمر آخر للإنسان ، الإنسان أحياناً يكون له والد حسن السيرة ، أينما تحرَّك : الله يرحم الوالد  ..
﴿ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ﴾
 
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ
 
       هذا السلام من أسماء الله السلام ، أي سلامٌ ، وراحةٌ ، وسعادةً ، وطمأنينةٌ ، الآخرة فيها سلام ، الله سمَّاها دار السلام، والله الدنيا دار القلق ، الإنسان دائماً يخاف ، يخاف إذا امتدَّ به العمر ، يا ترى ماء زرقاء ؟ هناك أمراض كثيرة ، أمراض الشيخوخة معروفة ، دائماً في قلق ؛ قلق على بصره ، قلق على سمعه ، على قلبه ، على شرايينه ، على الدسَّام ، على الضغط ، على الكلى ، يا ترى البول خف ماذا أفعل ؟ هل هناك مشكلة ؟ هل هناك بحصة ؟ دائماً هناك مشاكل في الحياة ، وقلق ، يا ترى هل ستظل التجارة رائجة ؟ أم في كساد ، سمحوا ، أم منعوا ؟ ربنا عزَّ وجل في الآخرة ؛ لا خوف ، ولا هم ، ولا حزن ، ولا قلق ، ولا ضيق ، ولا شيخوخة ، ولا متاعب ، ولا مرض ، لهذا يقول الله عزَّ وجل :
﴿ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ﴾
     سلام ، هذه دار السلام ، اللهمَّ أدخلنا دار السلام بسلام.
 
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
 
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
 
       هذا هو الثمن ، الثمن الإحسان ، الإحسان في العمل ، الإحسان في الاستقامة ، الإحسان في أداء ما عليك ، الإحسان مطلق ، حتَّى لو قتلت حيواناً ، الإحسان ضربة واحدة ، حتَّى لو ذبحت حيواناً..
((وَلْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ )) .
[أخرجه مسلم ]
      كن محسناً ، دائماً المؤمن محسن ، والكافر مسيء ، المؤمن منضبط ، والكافر متفلِّت ، المؤمن موصول ، والكافر مقطوع ، موصول منضبط محسن ، مقطوع متفلِّت مسيء ..
 
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ ﴾
      يا الله !! هذه الكلمة الله قلبها إلى قانون ، ألم أقل لكم سابقاً : القصص في القرآن الكريم ليست مقصودةً لذاتها ، مقصودةً للقوانين التي تحكُمها ، ليست مقصودةً لذاتها ، بل مقصودةٌ للقوانين التي تستنبط منها ..
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ ﴾
    الكلام لنا الآن ، نحن نعيش في عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين بعد نزول هذه الآيات بألفٍ وأربعمائة سنة .
    الكلام لنا الآن  ..
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ ﴾
    السلام في جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض ..
 
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(131)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾
 
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
 
       أي أنه آمن بالله عزَّ وجل فأحسن ، كفر فأساء ، آمن فأحسن ، كفر فأساء ، خاف فاتقى ، عطَّل فكره فتفلَّت .
       وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله ننتقل إلى قصَّة سيدنا لوط ، وقصَّة سيدنا يونس ، وبعدها تأتي الآيات لتُجْمِل المعاني التي وردت في ثنيَّات هذه القصص  .
 
والحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب