سورة الصّافات 037 - الدرس (6): تفسير الأيات (50 – 74)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الصّافات 037 - الدرس (6): تفسير الأيات (50 – 74)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الصّافات

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الصّافات ـ (الآيات: 50 - 74)

26/08/2012 17:44:00

سورة الصافات (037)
 
الدرس (6)
 
تفسير الآيات: (50  ـ 74)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
        أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس السادس من سورة الصَّافَّات ، ومع الآية الخمسين:
 
 
﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴾
     ولكن أريد أن أعود مرة ثانية إلى الآية التي كانت محور الحديث في الدرس السابق، لأني شعرت أن فيها معاني عظيمةً لم نأتِ عليها كلها ، فربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾
 
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ
 
مَن رأى أنّ الأمر بيد غير الله فقد استكبر عن كلمة التوحيد :
 
     الإله هو المعبود ، من الذي ينبغي أن تعبده ؟ من بيده كل شيء ، حينما قال الله عزَّ وجل :
 
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾
(سورة هود : من الآية 123)
       إذاً : لا يُعْبَد إلا من كان الأمر كله بيده .
       إذا اعتقدت الفتاة أنها إن لم تسفر ، وإن لم تبدِ محاسنها فلن تتزوج ، هذا الاعتقاد مخالفٌ للحق ، لأن الأمر كله بيد الله ، وأن التزويج بيد الله ، وأن الحياة الزوجية السعيدة بيد الله ، فكلما اعتقد الإنسان أنه إذا فعل شيئاً مخالفاً لشرع الله يسعد به ، ويربح به ، ويغتني به ، ويرتقي به ، فهو استكبر عن ( لا إله إلا الله ) .
    إذا اعتقد التاجر أنه إذا روَّج بضاعته عن طريق إعلانٍ لا يرضي الله عزَّ وجل ـ لا تروج البضاعة إلا بهذه الطريقة ـ فيستخدم أسلوباً مخالفاً للشرع ، إنه استكبر عن ( لا إله إلا الله ) .
      فحينما تتوهم إنك إذا فعلت هذا مخالفاً لأمر الله تسعد ، أو تغتني ، أو تزداد قوتك ، أو يزداد مالك ، أو تزداد مكانتك ، فهو استكبارٌ عن قول: لا إله إلا الله ، لأن كلمة : ( لا إله ) أي : لا معبود ، مَن الذي يعبد ؟ ومن الذي بيده كل شيء ، فأمرصحتك بيده ، أمر زواجك بيده ، أمر رزقك بيده ، أمر طمأنينتك بيده ، أمر تخويفك بيده ، فالإنسان كلما أعتقد أنه إذا فعل كذا أو كذا مخالفاً بهذا أمر الله عزَّ وجل يسعد ، ويزداد قوةً وغنى فقد استكبر عن أنه ( لا إله إلا الله ).
       الآية عميقة جداً ، ولها مدلولاتكثيرة جداً ، إن اعتقدت أن القوة وحدها تستطيع أن تتفوق بها على عدوك ، القوة فقط ، ازدد قوةً تنتصر على عدوك ، فإنك عندئذٍ استكبرت عن قول ( لا إله إلا الله ) ، لأن أمر النصر والهزيمة بيده ، قد ينصر الضُعفاء ، ويذل الأقوياء ، إذا تناولت دواءً فيه ما حرَّم الله عزَّوجل ، واعتقدت أن فيه الشفاء فقد استكبرت عن أنه ( لا إله إلا الله ) .
      وانك إن اعتقدت شيئاً خلاف ما ورد في القرآن والسُنة فقد استكبرت عن أنه (  إله إلا الله ) ،.
      إن طرقت أبواب الأسباب ، ورأيتَها وحدها تحقق لك النتائج فقد استكبرت عن قول : ( لا إله إلا الله ) ، لأن كلمة معبود أي بيده كل شيء ، والدليل :
 
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾
(سورة هود : من الآية 123)
       ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله راجعٌ إليه ، إذاً : في التجارة ، في الصناعة ، في الزراعة ، إذا غششنا نربح خلافا للسُنَّة ، هذا يعني أنه استكبر عن ( لا إله إلا الله ) ، فالله عزَّ وجل يقول للإنسان : اعبدني ، ولا تخشَ شيئاً ، الأمر كله بيدي ، ما عليك إلا أن تعبدني ، الأمر كله ، صغيره وكبيره ، جليله وحقيره ، ما هو مباشر ، وما هو غير مباشر ، كل القوى بيد الله عزَّ وجل ، فلذلك عندما ينحو الإنسان منحى المخالفة ، أو التقصير ، أو المعصية ، ويبتغي الخير بها فقد استنكف عن قول : ( لا إله إلا الله ) ، ( لأن لا إله إلا الله ) تعني أن الأمر كله بيد الله ، وعليك أن تطيعه .
      لو أن هناك معبوداً غير الله لاختلف الأمر ، ولكن الله عزَّ وجل يقول لك : لا إله غيري ، لا معبود يستحق العبادة إلا أنا ، عليك أن تعبدني ، أن تطيعني ، وإيَّاك أن تطيع سواي ، لذلك فالقرآن الكريم كله لُخِّصَ في قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110) ﴾
(سورة الكهف)
       إن اعتقدت أن هذا الدواء يطيل العمر خلافا لقوله تعالى الذي جعل لكل مخلوقٍ أجلاً لا يستقدم ولا يستأخر ، فأنت استكبرت عن قول ( لا إله إلا الله ) .
     إذا اعتقدت أن زيداً ينفعك ، وعليك أن تطيعه في معصية ، استكبرت عن قول ( لا إله إلا الله ) .
     إذا اعتقدت أنك إن لم ترضِ زوجة فلان القوي ، ولم تصافحها فإنه يغضب منك زوجها ، وسوف يقصيك عن عمله ، فأنت عصيت الله من أجل أن تبقى في عملك ، واستكبرت عن قول ( لا إله إلا الله ) .
      إذا اعتقد كما يعتقد الباعة أنه بالغش ، والتدليس ، والكذب تروج بضاعتك ، وتبيعها وتربح ، فقد استنكفت عن قول ( لا إله إلا الله ) ، والاستكبار أي الرفض .
       إذا فسرت الأحداث الكبرى تفسير أرضياً ، ولم تقبل تفسير الله لها ، فقد استكبرت عن قول ( لا إله إلا الله ) ، فهذه الكلمة التي ضغط بها الدين كله ..
 
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
(سورة الأنبياء)
       الله هو الإله ولا إله غيره ، سيدنا موسى قال له الله سبحانه:
 
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ﴾
       أنا الله الذي تبحث عني ..
 
﴿ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾
(سورة طه : من الآية 14)
       لا يوجد إله ثانٍ ، وأن ما يبدو لك أن فلاناً وفلاناً وفُلاناً ، وأنَّ فلاناً قوي ، وفلاناً غني ، وفلاناً يحرِّك الأمور ، وفلاناً يجمِّدها ، هذا كله نظر قاصر ، الأمر كله لله .
       أردت من هذه العودة السريعة إلى الآية أن يتضح إلى كل أخ كريم على مستوى التصور ، على مستوى الاعتقاد ، على مستوى السلوك ، على مستوى الدقائق ، على مستوى التفاصيل ، على مستوى الجُزيَّئات ، على مستوى الأسباب ، إذا اعتقدت أنك إذا خالفت منهج الله عزَّ وجل ؛ تربح ، وتغتني ، وتقوى ، فقد خرجت عن مفهوم هذه الكلمة ، كلمة الإسلام الأولى ( لا إله إلا الله ) .
 
رزقُ أهل الجنة معلوم لا ينازعهم فيه أحدٌ :
 
      في الدرس الماضي تحدثنا عن أن أهل الجنة ، وهم في الجنة يتنعمون ، وقد وصف الله لنا طرفاً من نعيمهم:
 
﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ﴾
     أي لهم رزق ثابت ، لا يعتريه النُقصان ، لا يخشى صاحبه أن يفقده ، مهيَّأ له تهيئة تامة ، ليس هناك من ينازعه عليه ، ليس هناك قلق من أن يفقده صاحبه .
 
﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ(41)فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ﴾
 
1 ـ الفواكه والإكرام :
 
     والفاكهة كما تحدَّثنا قضية تكريم أكثر منها غذاء ، الإنسان يقتات بالطعام والشراب ويكرَّم بالفاكهة .
﴿ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ(42)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(43)عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾
 
2 ـ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
 
 
     الإنسان يكون مرتاحاً ، وقد تناول الطعام الشهي ، وشرب الشراب اللذيذ ، وجلس يسمرُ مع إخوانه الذين هم في مستواه .
 
﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ﴾
 
3 ـ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
 
    المعين الذي لا ينقطع ..
 
﴿ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾
     أي أن هذه الكأس فيها كل اللذات ، وقد انتفت عنها كل المكارِه ..
 
﴿ لَا فِيهَا غَوْلٌ ﴾
 
 
خمر الجنة لا تغتال العقل ، ولا تُقطَع عنهم :
 
     خمر الدنيا تغتال العقل ، يثمل بها الإنسان ، ويسكر ، ويغيب عقله عنه ، وفي الجنة لا شيء من هذا كله ..
﴿ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾
      وكؤوس الشراب هذه لا تقطع عنهم ، بل مستمرة ، وليس لها تأثيرٌ سلبي ، وهم في نشوة سرورهم ، ونعيمهم ، وإقبال بعضهم على بعض يذكرون ماضيهم..
 
﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(50)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾
 
حوار أهل الجنة في الجنة :
 
1 ـ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
 
      الإنسان لا يخلو في عمله ، من بين أقربائه ، من بين جيرانه ، مِمَن يقاربه في السن ، من أبناء لداته كما يقولون ، أنه على غير شاكلته ، لا يعتقد بما تعتقد ، بل يعتقد أن الدنيا هي كل شيء ، يعتقد أن الدنيا كلها مال ، أن الدنيا كلها ملذات ، فهذا الذي تعيش معه أحياناً بحكم جوارك ، بحكم عملك ، سواء أكان جاراً ، زميلاً ، قريباً ، قد يكون ابناً ، وقد يكون أباً ، قد يكون أخاً ، قد تكون زوجة ، وأيّ واحدٍ من هؤلاء هو لك قرين .
﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(50)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾
 
2 ـ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ
 
     كان لي صاحب ، هذا القرين يقول مستهزئاً ، مستخفاً ، متعجباً ، ساخراً :
 
﴿ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ ﴾
     باللغة الدارجة : ( أأنت قابضها ؟ ) ، وأن هناك بعد الموت جنة ، وهناك حساب ، كل هذا عقلك فيه صغير ، ليس هناك إلا الدنيا ، الغني هو السعيد ، والفقير هو الشقي ، القوي هو السعيد ، والضعيف هو الشقي ، فهو لا يرى إلا الدنيا ، الدنيا مبلغ علمه ، ومنتهى أمله ، يرى أن الغني هو الذي يسعد فيها ، وأن القوي هو الذي يسعد فيها ، وأن الفقير إنسان شقي ، شقي وانتهت الحياة بالموت ، وانتهى كل شيء ، مع أن الله عزَّ وجل يقول :
﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى( 36 ) ﴾
(سورة القيامة)
        بلا حساب ، أي أنَّ هذا عاش فقيراً محروماً ، وهذا عاش غنياً مُتْرَفاً ، ويأتي الموت ، وينهي حياة الفريقين بلا حساب ؟! الغني لا يُسأل عن ماله من أين اكتسبه ، وفيمَ أنفقه ؟ والفقير لا يعطى نظير فقره في الدنيا وصبره على فقره ، ما يغطي له ذلك في الآخرة ؟!
﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)
(سورة النجم)
       هناك عدلٌ ، وتسوية حساباتٍ ، وهناك يوم الدين ، الذي هو يوم الجزاء ، فلذلك الكافر لا يرى إلا الدنيا ، يرى أنها كل شيء ، ومن أجل أهدافه الخسيسة يسلك أقذر الطرق ، هدفٌ خسيس هو المال أو القوة ، فمن أجل هدفه الخسيس يسلك أقذر طريق ؛ بالكذب ، والتدجيل ، والخداع ، والنفاق ، والتزوير ، والضغط أحياناً ، ليس عنده شيءٌ محرَّم ، هدفه الكبير أن يبلغ الدنيا .
   هذا القرين كلما سمع أقوال الصالحين ، أقوال المؤمنين ، كلما سمع أقوال القرآن الكريم تتلى عليه ، سخر منها ، واستخف بها وقال :
﴿ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ ﴾
      يا أخي هذه غيبيات ، هذه كلها ما وراء الطبيعة ، هذا الذي أخَّرنا عن ركب الحضارة ، مثل هذه العقائد أخَّرتنا ، انظر إلى الأمم الأخرى فقد بلغوا القمر ، اخترعوا ، تغلبوا ، حاربوا ، فتحوا ، انظر إلى حياتهم ، إلى رفاه عيشهم ، فالكافر دائماً لا يرى إلا الدنيا ، فإذا رأى الأغنياء سال لُعابه ، إذا رأى الأقوياء ساخت الأرض من تحت قدميه ، يقول هذا :
 
﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾
 
3 ـ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ
 
      فهل أنت تظن أنَّ هناك حساباً ؟ بعد أن يكون الإنسان قد مات ، ولحمه تفسخ، والعظم أصبح كالرميم ، وانتهى كل شيء ، أيُّ حسابٍ هذا ؟ فهذا غرق في الباخرة ، وهذا مات في الطائرة ، يقول لك : مات جميع ركابها ، فأين هم الآن ؟ لم يعد لهم أثر ، فاعتقاد الكافر أن الموت نهاية كل شيء .
 
﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾
      والكافر يقول : هل الله سيحاسبنا ؟ أين كنا نحن ؟ كيف يجمعنا ؟ كيف يعيد خلقنا ؟ يبدو أن في الجنة قوانين أخرى ، أنت الآن في الدنيا لك ابن في حلب مثلاً ، اشتقت له ، فليس من طريقة إلا أن تركب بالسيارة وتذهب إليه ، تركب وتسير في الطريق إليه مدة خمس ساعات ، تقرع عليه الباب ، يقال لك : واللهِ الآن خرج ، عنده درس بالجامعة ، تنتظره ساعتين ليرجع مثلاً ، لكن في الجنة هناك قوانين أخرى ، فبمجرد أن يخطر في بالك شيء تراه أمامك ، هذا منتهى الإكرام .
       فهذا الأخ الكريم المؤمن في الجنة ، يحدث إخوانه الذين معه ، يحدثهم عن قرين كان في الدنيا وكان كافراً ، كان مكذباً بالآخرة ، مكذباً بالدين ، يرى أن المال كُل شيء ، ويرى أن القوة كلُ شيء ، فقال هذا الصديق لإخوانه في الجنة :
 
﴿ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ﴾
 
4 ـ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ
 
       هل تحبون أن تروه ؟ قال تعالى:
 
﴿ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴾
 
5 ـ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ :
 
    سواء الجحيم يعني في وسطها .
 
الإنسانُ بين رحمة الله في الدنيا وعدلِه يوم القيامة :
 
    النقطة الدقيقة : أنك في الدنيا قد تحققت من اسم الله القوي ، الأرض وزنها كم طنا ؟ فمن يحركها ؟ الله عزَّ وجل قوي ، وهذا تراه في الدنيا ، الله عزَّ وجل غني ، وهذا تراه في الدنيا ، إذا أعطى أدهش .
      سمعت من هذه السنة أنَّ الأرض عندنا قد غلَّت من القمح ثلاثة ملايين طن ، واستهلاكنا مليون واحد ، أعلى إنتاج للقطن في العالم كان عندنا ، إذا أعطى أدهش ، الفواكه كثيرة جداً ، والله عزَّ وجل تراه غنياً في الدنيا .
 
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ
(سورة الحجر : من الآية 21)
       معدل الأمطار في الشام منذ ثلاثين سنة ، أو أربعين سنة ، أو خمسين سنة ، مئة وثمانون ميليمتراً ، أما في هذه السنة فثلاثمائة وأربعون ، الآبار تفجَّرت ، والأنهار سالت ، فالله عزَّ وجل ترى قدرته في الدنيا ، ترى غناه في الدنيا ، ترى جماله من خلال خلقه ، انظر إلى بعض الورود يتجلَّى الله فيها باسم الجميل ، انظر إلى العواصف والبحار إذا هاجت باسم الجبَّار ، ترى جبروته ، ترى جماله ، ترى لطفه أحياناً ، أحد الركاب سقط من طائرة على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم ، الطائرة انفجرت واحترقت ، عند مكان الانشطار سقط أحد الرُّكاب ، فنزل على منطقةٍ في جبال الألب تغطيها غابات الصنوبر ، كما تغطيها خمسة أمتار من الثلج ، فخمسة أمتار من الثلج مع مرونة الأغصان ، نزل واقفاً على قدميه ، سقط من ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم ، ونزل واقفاً عل قدميه ..
وإذا العناية لاحظتك جفونها     نَمْ فالمخاوف كلهن أمـان
***
        أنت ترى في الدنيا لطفه ، ترى قدرته ، ترى غناه ، ترى جماله ، ترى رحمته .
       في الهند جبال في قمتها نبع ، بعض الوعول تعيش في قمم الجبال ، فمن أجل أن يَتَيَسَّر لها ماؤها فجَّر الله لها نبعاً في قمة جبل ، وإخواننا الفيزيائيون يعرفون أن النبع الذي يتفجَّر في قمة جبل لابدَّ له من خزانٍِ في جبلٍ أعلى منه ، قد يكون على بعد مئات الكيلو مترات مجرى هذا النبع من خزان في جبل آخر بعيد ، رحمته ظاهرة ، فالأدلة على رحمته ، وعلى لطفه ، وعلى حنانه ، وعلى قوته، وعلى غناه ، وعلى جماله شيء لا يحصى .
       لكن عدالته ، لا تبدو بشكلٍ واضحٍ كالشمس كما تبدو يوم القيامة ، في الدنيا قد تجد كافراً قويًا ، هو كافر لكنه غني ، يسخر من كل الأديان ، ويزداد غنىً ، هذا ممكن ، مثل هذه الظواهر تحيِّرك ، ولكنك إذا أردت أن ترى عدالة الله جلَّ جلاله ، وأن ترى اسم الحق متحققاً ، فلن ترى هذا الاسم جلياً واضحاً كما تراه يوم القيامة .
     فكل هؤلاء الذين كذَّبوا الرسل ، وانحرفوا ، وطغوا ، وبغوا ، وأجرموا ، واختالوا ، وتعجرفوا ، وتغطرسوا ، واستخفوا بالأديان ، وسخروا منها وكذبوها ، وسخروا بالأنبياء ، وادَّعوا الألوهية هم لأنفسهم ، لن ترى ذلهم وهوانهم واضحاً وضوح الشمس إلا يوم القيامة ، بإمكانك أن تنظر إليهم في أية لحظة .
     أنت مع من عشت في الماضي ؟ لك صديق بالمقعد مثلاً كان فاسقاً ، كان فاجراً ، كان زانياً ، كان يشرب الخمر ، كان يسخر منك ، ومن دينك ، ومن عقيدتك ، ومن سخافاتك على حد زعمه ، بإمكانك أن تراه يوم القيامة أين هو ؟ استنباطاً من هذه الآية :
 
﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ(51)يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ(52)أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ(53)قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ(54)فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴾
     آكلو الربا ، شاربو الخمر ، الزناة ، الذين يكسبون أرزاقهم من إفساد أخلاق الشباب ، يبحثون عن بضاعةٍ رائجة ولو كانت أفلاماً رخيصة  ، يبحثون عن ربحٍ وفير ، ولو كان مقهى تقدَّم فيه المشروبات المحرمة ، يبحثون عن المال بأية وسيلة ، ولا يعبئون بالدين ، ولا بحرمة الدين ، ولا بنهي الله عزَّ وجل ، يقول لك : حلال على الشاطر ، مثل هؤلاء الناس إذا تفقَّدهم المؤمنون رأوهم في سواء الجحيم ، ربنا عزَّ وجل رحمةً بنا ينقل لنا مشهداً حيَّاً من مشاهد يوم القيامة ، يبدو أنه بإمكانك أن تراه ، وبإمكانك أن تخاطبه في الوقت الذي أنت في الجنة ، وهو في وسط جهنَّم .
      الآن يتبجَّح أهل الغرب أنهم اخترعوا ( تليفوناً تلفزيونياً ) ، ترى الذي تخاطبه على الشاشة ، تراه وتحدِّثه ، فهذا يوم القيامة في الجنة مُتاح لأي مؤمن ، أي إنسانٍ عشت معه في الدنيا وبدافع الفضول إنْ أردت أن تعرف مصيره في الآخرة ، فبإمكانك إذا خطر في بالك أن تراه أين هو ، قال :
 
﴿ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ﴾
 
6 ـ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ
 
     والله كنت ستهلكني ، ألقيت لي الشبهات ، سخرت من أفكاري ، سخرت من عقيدتي ، قلت لي : هذه أفكار كلها غيبيَّات ، هذه أفكار تجاوزهاالزمن ، نحن في عصر العلم ، نحن في عصر المادَّة ، كان يقول : الشيء الذي لا نراه لا نؤمن به مثلاً ، فهذه إذاً أقوالك ، ونظرياتك ، وفلسفتك ، وزخرفة كلامك ، وحيلك ..
﴿ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ(56)وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي ﴾
 
7 ـ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ
 
     لولا أني اعتصمت بالله عزَّ وجل ، لولا أنني أطعته ، لولا أنني اخترت رضاه لأرديتني ، ولأهلكتني ، ولكنت الآن معك .
       أيها الإخوة الأكارم ، إن مما يضاعف سعادة المؤمن في الجنة أن يرى مصير من لم يؤمن ، إن مما يضاعف سعادة المؤمن في الدنيا أن يرى مصير الكافرين .
     أضرب مثلاً من الدنيا للتقريب : لو أن شريكين اقترح أحدهما أن يتَّجر ببضاعةٍ ممنوعة قانوناً ، فالشريك الأول رفض ، وقال : أنا لا أوافق ، قال الآخر : توافق أو لا توافق فالربح كثير ، وأنا ماضٍ ، فقال الآخر : أنا لا أوافق ، فإذا كنت مصراً فافصم هذه الشركة ، فَصَمَا الشركة وتَخَالَصا ، والذي اقترح التجارة الممنوعة قانونا اشترى وباع ، ثم ألقي القبض عليه ، وأودع في السجن ، فذهب شريكه الأول ليزوره في السجن ، أليست سعادة الأول بقراره الحكيم تتضاعف حينما يرى شريكه في السجن يعَذَّب ، وقد صودرت أمواله كلها ، ودفع الثمن باهظاً ، إذا رآه وهو في مكانه الذي يستحقه تضاعفت سعادته ، لا شماتةً ، لا والله ولكن شكراً لله عزَّ وجل على قراره الحكيم ، وعلى حزمه المتين ، وعلى موقفه الصُلب ، لولا أنني وقفت هذا الموقف الصُلب ، وهذا القرار الحكيم لكنت معك الآن ، لو بقينا شركاء لكنت معك الآن .
      إذاً : الإنسان في الدنيا يحتاج إلى موقف صلب ، يحتاج إلى عقيدة متينة ، يحتاج إلى يقين ساطع ، يحتاج إلى إرادة قوية ، يحتاج إلى أن يؤمن أنه لا إله إلا الله ، وأن يلزم أمر الله عزَّ وجل .
 
﴿ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ(56)وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(57)أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58)إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
 
8 ـ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58)إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
 
      الآن يسخر من قرينه الذي كان يسخرُ من مقولاته ، كان يقول قرينه : ليس هناك إلا الموت ، وما بعد الموت لا شيء ، ولا عذاب ، ولا حساب ، ولاجنة ، ولا نار ، كلها أقوال خرافية ، أنا لا أؤمن بها ، قال له صاحبه : فما قولك الآن ؟
 
﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58)إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
    عندئذٍ يقال :
﴿ إِنَّ هَذَا ﴾
 
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
 
      وأنت في الجنة ، وأنت تتقلَّبُ في نعيمها ، وأنت مع الحور العين ، وأنت في جنةٍ عرضها السماوات والأرض ، وأنت مع إخوانك المؤمنين على سررٍ متقابلين ، وأنت في هذا النعيم المقيم ، وأنت في جنَّة رب العالمين ..
 
 
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24) ﴾
(سورة الحاقة)
       هذا الملك العظيم.
 
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا(20)عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا(21) ﴾
(سورة الإنسان)
 
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
 
الفوز الحقيقي يوم القيامة :
 
        هذا هو الفوز ، هذا هو الربح ، هذه هي السعادة ، هذا هو النجاح ، هذا هو الفلاح ، هذا هو التفوَّق ، هنيئاً لهذا ، فالناس اتفقوا على أن يهنئوا بعضهم بعضاً في الدنيا ، يُهنأ الإنسان ببيت ، بزوجة ، بشهادة ، بمنصب ، بمركبة ، بشركة ، بتجارة ، لكن الله عزَّ وجل قال : إن هذا .. وليس ذاك ..
 
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
      هناك من يقول لك : عندي أنجح شركة ، أنا معي وكالة حصرية ، أنا أربح آلافاً مؤلَّفة كليوم ، كل إنسان فَرِح بما هو فيه ؛ هذا فرح بشكله ، هذا فرح بماله ، هذا بمنصبه ، هذا بذكائه ، هذا باختصاصه ، هذا بِحِيَلَهُ ، هذا بتجارته ، هذا بزراعته ، هذا بمزرعته ، هذا بمتجره ، هذا بمعمله ، هذا بمنصبه ، هذا بأولاده ، الله عزَّ وجل يقول :
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
    أنت فرحٌ بزوجة جميلة جداً ، أو بمال ، والله تعالى يقول عن نعم أهل الجنة :
 
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
أنت فرِح بهذا المعمل ، لديه حماية جمركية ..
 
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾
أنت فرح بهذا المحضر الذي ربحت فيه ثلاثمائة بالمائة ..
 
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾
أنت فرِح بهذه الشهادة العليا ، لا يوجد غيرك بالكمبيوتر ..
 
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾
فكلما فرح الإنسان في دنياه بشيء من زخارفها ليذكر قول الله عزَّ وجل :
 
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾
      مر معنا بالدرس الماضي أن أقلّ جزاءٍ على العمل الصالح عشرة أمثال ، وأعلى جزاء على العمل السيئ ، مثل واحد ، أقله عشرة أمثال ، وأكثره:
 
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾
(سورة البقرة : من الآية 261)
       سبعمئة ، إلى سبعة آلاف ..
﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
(سورة الزمر : من الآية 10)
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾
 
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم
     
       واستمعوا يا أيها الإخوة إلى قوله تعالى :
 
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾
      نشاطك ، وقتك ، عضلاتك ، ذكاؤك ، طاقتك ، فكرك ، اهتمامك ، وقتك لمثل هذا ..
 
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾
       شدَّةُ قدميك ، شدة يديك ، سهر الليل ، عمل النهار ، كَدُّك ، عرق جبينك ، تفكيرك ، اهتمامك لمثل هذا ، هذا الذي يستحق أن تعمل له ، هذا الذي يستحق أن تمضي وقتك من أجله ، هذا الذي يستحق أن تعادي الناس من أجله ، تعاديهم على الدنيا ؟! عرضٌ زائل ، تخاصمهم على لقيمات ، على دريهمات ، تقاتل من أجل بيت ، من أجل دكان ، من أجل شركة ، تحتدم الخصومة فتصاب بأزمة قلبية ، من أجل دكان ، من أجل دنيا ، يقول لك : ثماني عشرة سنة في القضاء في قضيةٍ هزيلة ، دفعت مئات الألوف للمحامين من أجل دكان ، قال الله تعالى :
 
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾
     تبذل قصارى جهدك ، يقول لك : سهرت للساعة الثانية صباحاً كل يوم ، أمضيت ثلاثاً وعشرين سنة دراسة من أجل كلمة بورد من أمريكا ، فقط ؟
 
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾
       تجد أشخاصاً سواء في التجارة ، أو الصناعة ، أو الزراعة ، أو الحقل العلمي ، أو الحقل التجاري ، أو الحقل القيادي ، يعملون ، يجتهدون ، يسهرون ، يفكرون ، يختصمون ، يقاتلون ، من أجل الدنيا الفانية ، ربنا قال :
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾
      يا خسارتك يا عبدي ، طاقاتك الفكرية ، عضلاتك ، وقتك الثمين ، صحتك ، أجهزتك ، ذكاؤك ، تفكيرك ، طلاقة لسانك ، طليق اللسان من أجل زيد أو عبيد ؟! بلاغتك وشعرك كله من أجل فلان !! ليس من أجل الله عزَّ وجل ، وأنت وجودك من الله عزَّ وجل ، وأنت مصيرك إلى لله .. " خلقت كل ما في الكون من أجلك فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضه عليك " ..
      إن الإنسان لم يخلق ليعبد إنساناً مثله ، خلق ليعبد الله ، لم يخلق لعمارة الدنيا فقط ، خلق لجنةٍ عرضها السماوات الأرض .
      قد تجد شخصاً يعتني بتأثيث بيت ، وكأنه سيعيش مئة ألف عام ، ليلاً ونهاراً ، يحاسب على أدق العيوب ، يُقيم أعظم الخصومات ، إلى أن يجهز هذا البيت ، يقولون لك : بعد خمسة أيام مضت توفي ، الإنسان كم يكون خاسراً لو ضيَّع دنياه ، ولم يجعلها مطيةً للآخرة ، فسبحان الله ! فأنا أتمثَّل بهاتين الآيتين :
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(60)لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾
     هذا هو الفوز ، الفوز أن تكون مؤمناً ، الفوز أن تكون مستقيماً على أمر الله ، الفوز أن تعمل عملاً يرضي الله ، الفوز أن يرضى الله عنك ، الفوز أن تستحق الجنة ، هذا هو الفوز ، والعمل من أجل هذا ، لذلك طلب العلم ، قراءة القرآن ، تدبُّر القرآن ، فهم القرآن ، العمل بالقرآن ، فهم السنة ، العمل بها ، الأعمال الصالحة ، رعاية الأيتام ، رعاية الأرامل ، إطعام الفقراء ، الدعوة إلى الله ، نشر العلم ، تعلُّم العلم ، القُرُبَات ، الصَدَقَات ، هذا العمل فقط هو الذي يبقى وما سوى ذلك يفنى .
       النبي عليه الصلاة والسلام مرة وزع شاةً ، يبدو أن السيدة عائشة اشتهت أن تأكل منها ، فوزَّع ، ووزع حتى لم يتبق منها إلا قليل ، فقالت : " يا رسول الله لم يبق إلا كتفها ـ لم يبق شيء منها فدعْ هذه لنا نأكلها ـ فقال عليه الصلاة والسلام : بل بقيت كلها إلا كتفها " ، الذي وزعناه بقي ، وسنسعد به ، أما الذي سنأكله هو الذي سيذهب ، " بل بقيت كلها إلا كتفها " .
       أنا أتمنى على الله وعليكم ، أتمنى عليكم أن تعيش هاتين الآيتين في نفوسكم طوال الأسبوع :
 
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(60)لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾
     هذا هو الفوز ، الفوز أن تتعرف إلى الله وأنت صحيحٌ شحيح ، وأنت في مقتبل العمر ، وأنت قوي ، وأنت غني ، وأن تبذل صحتك ، ووقتك ، ومالك ، وجهدك ، وفكرك ، وذكاءك في سبيل الله ..
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا ﴾
 
الجانب الآخر من يوم القيامة :
 
     هذا المقام الكريم ، في جنةٍ عرضها السماوات والأرض ، حورٌ عين ، ولدان مخلَّدون ، فواكه وهم مكرمون ، أطلب تُعْطَ ، أي خاطرٍ يخطر على بالك تجده أمامك ، قال :
 
﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ(62)إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ(63)إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ(65)فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66)ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ(67)ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ﴾
       مفارقة كبيرة ، صورتان متناقضتان ، قمة النعيم ، وقمة التكريم ، وقمة الأمن ، وقمة الرضا ، وقمة السرور ، وقمة السعادة ، إن كانت إلا بالله أو كانت بما خلق الله لك في الجنة :
 
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46) ﴾
(سورة الرحمن)
﴿ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ(162) ﴾
(سورة الرحمن)
 
1 ـ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
       أكل ذاك النعيم أو هذه الشجرة التي تنبُت في أصل الجحيم، طلعها أي ثمارها ، كأنها رؤوس الشياطين ، أبشع منظر ، وأخوف منظر ، وأشد المناظر إفزاعاً رأس الشيطان ، يتوهَّمه الرسَّامون صورة مخيفة جداً ، فأُكُلُ هذه الشجرة كأنه رؤوس الشياطين ، وكأن هذه الشجرة هي الدنيا التي تعلَّق بها أهلها ، وأكلوا من مالها الحرام ، واستمتعوا بشهواتها المُحَرَّمة ، فتمثَّلت لهم في جهنم شجرة عليهم أن يأكلوها ، يأكلوا من ثمرها ، يعني أن أعمالهم السيئة ، انحرافاتهم ، زناهم ، أكلهم الربا ، انحرافاتهم الأخلاقية ، ظلمهم للآخرين ، أعمالهم السيئة المتعلقة بالعدوان والإثم معاً تمثَّلت في أنها :
 
﴿ شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾
 
2 ـ طعام أهل جهنم : شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
 
      مفزعة ، مرارة على شَوْك ، على منظر قبيح ، فجمع في هذه الشجرة كل السيِّئات ، اللون كريه ، الطعم كريه ، شوك ، وطعمٌ كالصبر .
 
﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ(65)فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ ﴾
 
3 ـ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَِ
 
     يجب أن تأكل ، لاتستطيع أن تقول : لا أقدر ، أنا متغدٍ قبل قليل ، والله فاسمحوا لنا ، ليس لك أن تعتذر ..        
﴿ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴾
      يجب أن تأكل ، وتثقل في الأكل أيضاً ، وهذا إجباري ..
 
﴿ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴾
 
4 ـ شراب أهل جهنم : ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ
 
   يريد أن يشرب ، قال:
﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ﴾
      الشراب مثل النار يغلي ، الشجرة طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، مرارة ، على شوك ، على كراهة ريح ، على كراهة طعم ، طعمها نَتِن ، طعمها مر ، وريحها نتن ، وفي الحياة روائح كريهة جداً ، الجيفة إذا مر أحد أمامها يغلق أنفه نهائياً ، ويغلق نافذة السيارة رأساً ، يقول لك : شيء لا يطاق ، فهذا الطعام ذو طعم مر لا يحتمل ، على رائحة نتنة ، على شكل قبيح ، على شوك ..
 
﴿ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ ﴾
     هذه الدنيا التي أكلوها حراماً ، هذا المال الذي أكلوه حراماً ، هذه الشهوات التي استمتعوا بها حراماً ، هذا العدوان الذي اعتدوه في الدنيا..
 
﴿ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66)ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ﴾
      هذا الطعام ، يقول لك : نريد شيئاً لكي نبلع اللقمة به ، نريد كأساً من الشاي مع الأكل ، والله لم يبلع معنا الطعام بدون الشاي ، فهذا إذاً هو الطعام ، وهذا الشراب الذي معه هو حميم ، ماءٌ يغلي ..
 
﴿ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ(15) ﴾
(سورة محمد)
       هذا كلام خالق الكون ، فلا مجال للواحد منا أن يأخذ القضية كوصف أدبي ، لا ، فهذا كلام خالق الكون ..
﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ﴾
   وأحياناً السجناء يؤخذون فيعذبون ، بعد انتهاء التعذيب إلى أين نرجع ؟ إلى الزنزانة ..
 
﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ﴾
 
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ
 
      أين سيستقر ؟ في الجحيم ، يريد أن يأكل بشكل قسري ، وأن يملأ بطنه منها ، والشراب ماء يغلي ، ليس ماء فقط ، لكنه صديد ، قيح ، فما فيالدنيا من سوائل مكروهة كالمياه السوداء ، فعليه أن يشرب منها ، ويقال له : تفضل اشرب ، فالمياه الفاسدة ، الملوثة ، مياه المجاري ، الصديد ، القيح ، النَتَن ، وهو يغلي ، رائحة ، على كراهة ، على اشمئزاز ، على حرارة  لابدَّ أن يشرب منها ..
 
﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ﴾
        أيها الإخوة الأكارم ، الإمام الغزالي رحمه الله تعالى خاطب نفسه فقال لها كلاماً بمنتهى الدقة ، أتمنى أن تدققوا فيه قال لها : " يا نفس ، لو أن طبيباً منعك من أكلةٍ تحبينها ، أغلب الظن أنك تمتنعين عنها ـ إذا كان واحد يحب أكلة وهو متعلق بها تعلقاً شديد ، وقال له الطبيب : هذه الأكلة تسبب لك أزمة قلبية ، وقد تودي بحياتك ، فهل يأكلها ؟ مهما يكن هذا الطعام محبباً ، مهما يكن هذا الشراب لذيذاً ـ لو أن طبيباً منعك من أكلةٍ تحبينها فأغلب الظن أنك تمتنعين ، يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟ ـ فهل تصدقين طبيباً ، ولا تصدقين الله ؟ هذا كلام الله عزَّ وجل ، هذا مصير آكلي الربا ، هذا مصير الزناة ، هذا مصير العصاة ، هذا مصير المنافقين ، هذا مصير الفُجَّار ، هذا مصير الذين لا يصلون ، هذا مصير الذين لا يتصدقون ، هذا كلام الله عزَّ وجل ـ قال لها : " يا نفس أيكون الطبيب عندك أصدق من الله ؟ إذاً ما أكفركِ " .
     يقول بعضهم : نحن صدقنا الله عزَّ وجل ؛ لكن صحتنا أغلى من مصيرنا بالآخرة ، أيكون المرض أشد عندكِ من النار ؟ إذاً ما أجهلكِ ، معنى ذلك أنَّ الإنسان حينما يعصي ربه لا يمكن أن تفسر معصيته لله إلا بكفرٍ أو جهلٍ ، وإذا قلت : والله أنا مصدقأن جهنم مخيفة ، ولكنك وجدت أن المرض أشد عليك من جهنم فما أجهل هذا الإنسان .
      وإذا صدقت الطبيب فيما يحذرك منه ، مثلاً : شخص يملك بيتاً في الدور الرابع ، كساه في خمس سنوات ، بعد ما انتهى تجهيزه قال له الطبيب : بعه فوراً ، فهذا لا يناسبك ، فهذا التعب ، وهذاالديكور ، وهذا الجبصين ، في اليوم الثاني يعرضه للبيع ، معنى ذلك أنه صدّق الطبيب ، صدقه تماماً ، أفلا تستحي من الله أن تصدق الطبيب دون أن تصدق الله عزَّ وجل ؟ فلذلك هذا كلام خالق الكون .
       يا إخوان ، قبل أن تقترف مخالفة ، قبل أن تقترف معصية ، قبل أن تقصِّر بواجب ، قبل أن تدع ما أمر الله به ، فكر ملياً هذا كلام خالق الكون ، أهذا النعيم المقيم ، أهذه الجنة بحورها العين ، بولدانها المخلَّدين ، بطعامها ، بشرابها ، بكل ما فيها من نعيمٍ مقيم ، بالتكريم ، بالسعادة ، بالسرور ..
 
﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ(62)إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ(63)إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ(65)فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66)ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ(67)ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ(68)إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ﴾
 
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ
 
لا حُجّةَ بالتقاليد وعادات الآباء :
 
       هنا محط الشاهد ، يقول بعض الناس : هكذا ربينا ، فانظر كيف ربيت ؟ لعلك تربيت على خلاف الشرع ، هكذا نشأنا ، هكذا عادتنا ، هكذا تقاليدنا ، هكذا يريد أبي ، من أبوك ؟ هل أبوك مشرع ؟ أبوك على العين والرأس ، ولكن ليس مشرعاً ، الله عزَّ وجل قال :
 
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
(سورة الإسراء : من الآية 23)
       الأب يُحْسَن إليه ، أما إذا أجبرك على معصية فلا طاعة عندئذٍ ، لا طاعة لمخلوق .
      أمّ سيدنا سعد قالت له : " إن لم تكفر بمحمد فسأموت جوعاً " ، قال لها : " يا أمي ، لو أن لكِ مائة نفسٍ فخرجت واحدةً واحدة ما كفرت بمحمد ، فكلي إن شئتِ أو لا تأكلي " ، فأكلت بعد ذلك ، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق ، فقبل أن تقول : أبي ، هكذا ربينا ، وهكذا نشأنا ، هكذا علمونا ، ونحن لا نستطيع أن نخالف ، قال تعالى :
 
﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ(69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾
 
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
 
      مثلما قال الشاعر الجاهلي يلتزم سيرة الآباء ولو كانوا أهل ضلال :
وما أنا إلا من غزية إن غوت      غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
***
       لا يكن أحدكم إمَّعة ، أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، ولكن وطِّن نفسك على أن تحسن إن أحسنوا ، وعلى أن تحسن إن أساءوا .
 
﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ(69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾
      هكذا أبي ربَّانا ، فأنت لماذا إذاً تريد أن تسكن بيت غير بيتاً والدك؟ يقول لك : يا أخي ، الحياة تغيَّرت ، وفي الدنيا تجدُّد ، تريد فرشاً جديداً ، تريد ترتيباً جديداً ؟ أنت في الدنيا لا ترضى بما فعله أبوك ، تريد أن تقيم دنيا على نمطٍ خاص ، على طريقةٍ أنت تحبها ، فلماذا في مجال الإيمان اعترضت وقلت : أبي هكذا يريد ، بينما في شهوات الدنيا أنت غيرت وبدلت ؟ كلام الإنسان إذاً ليس له حجة ، ولا نهجه مثالاً يُحتذى ..
 
﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ(69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ(70)وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ(71)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ ﴾
 
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ
 
الله تعالى أنذر الناسَ بجميع أنواع النذر :
 
     القرآن نذير ، والنبي نذير ، والأمراض نذير ، والمصائب نذير ، وموت الأقارب نذير ، وسن الأربعين نذير ، والشيب نذير ، والله عزَّ وجل ينذر وينذر إلى أن يأتي الوقت المعلوم ..
 
﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ﴾
 
    فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ
 
      هؤلاء الذين أنذرناهم انظر إلى عاقبتهم ، انظر إلى مصيرهم .
       أيها الإخوة الأكارم ، هذا قرآنٌ كريم ، وهذا كلام رب العالمين ، وهذا وصفٌ صادق لما سنكون عليه ، فإما إلى جنةٍ يدوم نعيمها ، وإما إلى نارٍ لا ينفد عذابها ، فالإنسان عليه بطاعة الله ، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق .
       مرة قلت لكم قصة : كان الحسن البصري من كبار التابعين ، عند أحد ولاة يزيد بن معاوية ـ على ما أعتقد ـ فجاء أمر من يزيد إلى هذا الوالي ، يبدو أن هذا الأمر لا يرضي الله عزَّ وجل ، وقع الوالي في موقفٍ حرج ، إن نفَّذ هذا الأمر أغضب الله ، وإن لم ينفذ هذا الأمر أغضب يزيد ، شيء صعب ، وكان بجانبه الحسن البصري قال له : ما قولك يا إمام ؟ قال له كلمة هذه يجب أن نحفظها : " إن الله يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله " .
       إذا آثرت جانب الله ، فالله يحميك من كل الناس ، أما إذا آثرت جانب الناس ، فهؤلاء الذين آثرتهم وعصيت ربك لا يحمونك من أحد ، فعلاقتك مع الله ، حتى لو أن الإنسان جاء النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو سيد الخلق وحبيب الحق المعصوم جاء في خصومة ، فعرض وجهة نظره بلسانٍ طليق ، وحجةٍ قوية ، وبيانٍ ساطع ، فالنبي حكم له وهو ليس محقاً ، لا تنجو من عذاب الله ، حتى لو أن النبي حكم لك ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ
 
 قِطْعَةً مِنْ النَّارِ )) .
[ البخاري ]
وفي رواية :
(( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ أَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ ، وَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ ، فَلْيَأْخُذْهَا ، أَوْ
 
 لِيَدَعْهَا )) .
[ البخاري ]
       أنا أنبهك يا أيها الأخ الكريم : لا تعتمد إلا على الله ، ولا تثق إلا بالله ، ولا تُرضي مخلوقاً بمعصية الله ، مهما كبُر هذا المخلوق ، مهما أعطاك من المغريات ، مهما طمأنك ، لأن هذا الإنسان الذي أطعته ، وعصيت الله عزَّ وجل لا يمنعك من الله ، ولكنك إذا آثرت جانب الله فهو يمنعك من هذا الإنسان ، ولذلك : راجع عاداتك وتقاليدك كلها راجعها ، أتقول لي : أبي ، وهكذا نشأنا ، وهكذا ربينا ، انظر إلى الشرع ، وإذا لم أظهرْ أمام النساء في العرس تغضب أمي ، أما أنت فقل لها كما قال سعد بن أبي وقاص : << لو أن لكِ مائة نفسٍ فخرجت واحدةً واحدة ما كفرت بمحمد ، فكلي إن شئتِ أو لا تأكلي >> .
      هذا موقف الصحابي ، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق ، ربنا عزَّ وجل بيَّن أن أحد أسباب هلاكهم الطاعة العمياء ، التقليد الأعمى ، كلمة تقاليد ، عادات ، أعراف ، يا أخي هكذا ربينا ، لا نقدر ، وأنا استحي ، أتخشون الناس والله أحق أن تخشوه .
 
﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾
هؤلاء لهم حديث آخر في الدرس القادم إن شاء الله تعالى :
 
﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ(75)وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾
 
والحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب