سورة الصّافات 037 - الدرس (2): تفسير الأيات (06 – 10)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الصّافات 037 - الدرس (2): تفسير الأيات (06 – 10)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 273 - مقبرة باب الساهرة2           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 11 - يد الله تعمل في الخفاء - د.عمر عبدالكافي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية-437-المسلم صاحب همة عالية-الشيخ صالح المعطان           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 392 - سورة المائدة 009 - 012           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الصّافات

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الصّافات ـ (الآيات: 06 - 10)

22/08/2012 18:44:00

سورة الصافات (037)
 
الدرس (2)
 
تفسير الآيات: (6 ـ 10)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
       أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس الثاني من سورة الصافات ، ومع الآية السادسة ، والتي هي قوله تعالى:
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾
 
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ
 
1 ـ الصيغ القرآنية في التحدّث عن أفعال الله وصفاته :
 
      ( إنَّا ) تشير إلى أن أفعال الله جلَّ جلاله يدخل فيها كل أسمائه الحسنى ، وقد جرى عادة البيان الإلهي على أنه إذا تحدَّث الله عن ذاته قال :
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا ﴾
(سورة طه : من الآية 14)
       وإذا تحدَّث عن أفعاله قال:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى ﴾
(سورة يس : من الآية 12 )
 
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾
(سورة الحجر)
 
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾
 
2 ـ أفعال الله وصفاته كلّها حسنى :
 
        أي إن أفعال الله فيها كل أسمائه الحُسنى ؛ فيها اسم القدير ، واسم الجليل ، واسم الغني ، واسم العليم ، واسم العَدل ، وكل أسمائه داخلةٌ في أفعاله، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا أصابه ما يكرهه كان يدعو ويقول :
((لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )) .
[صحيح البخاري عن ابن عبَّاس]
       وفي هذا الدعاء إشارة إلى أن الفعل فعل الله ، ولا إله إلا الله ، ولا رافع ولا خافض ، ولا قابض ولا باسط إلا الله ، وأن أسماء الله جلَّ جلاله حسنى ، إذاً : أفعاله حسنى ، فما دام الفعَّال هو الله ، والله ذو الأسماء الحسنى ، إذاً أفعاله تعود بالخير العميم على كل خلقه ..
 
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ﴾
 
3 ـ كلُّ ما علاكَ فهو سماءٌ :
 
       كل ما علاك كما تعلمون فهو سماء ، لكن ما علاك من طبقة الهواء هذه سماء دنيا ، والهواء يسمح بانتقال الشعاع ، وبانتثار الضوء ، ولذلك لو خرج الإنسان عن طبقة الهواء إلى الفضاء الكوني فهو لا يرى في الكون إلا ظلاماً ، ومن خلال هذا الظلام تبدو بعض النجوم ، فلا يرى ضياءً ، بل يرى منابع ضوئيَّة فقط وظلاماً دامساً ، لعدم وجود الهواء الذي ينثر الضوء ، فالضياء الذي تراه في النهار هذا بسبب الهواء ، الله جلَّ جلاله زيَّن السماء الدنيا ..
﴿ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ(6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ(9)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾
 
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِب
 
    هذه الآيات أيها الإخوة إذا قرأناها ، وقلنا : كيف يهوي هذا الشهاب الذي نراه في السماء ؟ وهذا الشهاب بنصِّ هذه الآية قذفٌ من الله عزَّ وجل لشيطانٍ أراد أن يسمَّع للملأ الأعلى ، قبل الحديث عن هذه الظاهرة ـ ظاهرة الشهاب الثاقب ، أو ظاهرة رجم الشياطين ـ قبل الحديث عن هذا أريد أن أضع بين أيديكم موضوعاً دقيقاً جداً .
 
1 ـ في القرآن الكريم دعوةً إلى التفكُّر :
 
       هذا الموضوع هو أن في القرآن الكريم دعوةً إلى التفكُّر ، وفي القرآن الكريم إخبار من الله عزَّ وجل ، بحثت عن مثلٍ يوضِّحُ هذه الحقيقة وأنا في طريقي إلى المسجد ، إنسان فتح محلاً تجارياً ، هو في أمسَّ الحاجة إلى ميزان ، لكن ماذا سيبيع في هذا المحل ؟ سيبيع المواد الغذائيَّة ، أي من زنة كيلو إلى خمسة إلى عشرة كيلو ، هو بحاجة ماسّة إلى ميزان دقيق جداً حسَّاس جداً ، ولكنه لا يحتاج إلى استعمالات تفوق عشرين كيلوا ، إذاً : يحتاج إلى ميزان حسَّاس ضمن هذا الاستعمال .
      لكنه لو أراد أن يعرف وزن مركبته ، هذه بالأطنان ، عنده برَّاد ضخم كم وزنه يا ترى ؟ هذا الميزان الحسَّاس الذي بين يديه لا يُمَكِّنَهُ من وزن هذه الأوزان الكبيرة ، يمكن أن نقرأ كتيِّبَ التعليمات للشركة الصانعة فتقول : وزن هذه المركبة ألف ومائتا كيلو ، وهذا ممكن .
      وقد أردت من هذا المثل أن أوضِّح لكم أن اللهحينما أودع العقل في الإنسان إنَّما أودعه لمهمَّةٍ محدودة ، وهي الاستدلال ، فبالعقل ترى شيئاً مادياً تستنبط منه أشياء كثيرة ، من الماديِّات إلى المُغَيَّبات ، ترى آثار عجلة سيارة فتقول : هذه سيَّارة صغيرة ، لأن المسافة بين العجلتين قليلة ، وعرض العجلة قليل ، ويمكن أن تكتشف حجم المركبة ونوع المركبة من آثار عجلاتها ، فهذا شأن الفِكر ، وشأن الاستنباط ، تريه شيئاً مادياً فيكتشف ما وراء المادَّة ، تريه عملاً مُتقناً فيكتشف أن المصمِّم والصانع مُتقَن ، وينتظر عملاً منظَّماً فيكتشف أن وراء هذا النظام مُنَظِّم ، وعملاً محكماً فيكشف العقل أن وراء هذا الإحكام عقلاً راجحاً مُحْكِماً ، هذه مهمَّة العقل .
     ولكن إذا كلَّفنا العقل أن يبحث عن أشياء غائبةً عنه ، لا يعرف ، لا يعرف إلا أن يُخْبَر ، ميزان هذا المحل التجاري يسمح بوزن من كيلو إلى عشرين كيلوًا ، لكنه لا يسمح بوزن مركبة ، إلا أن الشركة الصانعة أخبرتني أن وزن المركبة ألف ومائتا كيلو ، ولا يعقل أن تكذب .
 
2 ـ عالَم الجنّ غيب يثبت بالدليل الشرعي :
 
      إذاً : أنا أمام القرآن الكريم بين موضوعاتٍ تحقيقيَّة ، وموضوعاتٍ تصديقيَّة ، أي بين موضوعاتٍ خاضعةٍ للبحث والدرس ، والنظر والتأمُّل ، وبين موضوعاتٍ خاضعةٍ للتصديق فقط ، فنحن الآن أمام آيات لا يمكن أن نُحَكِّم عقولنا بها ، أو أن نكتشفها بأنفُسنا ، فلو صعدنا إلى الفضاء الخارجي بمركبةٍ ، أين هي الشياطين ؟ لا نرى شيئاً ، لأن الله عزَّ وجل يقول :
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ﴾
(سورة الأعراف : من الآية 27 )
          لو خرجنا إلى الفضاء الخارجي لنبحث عن الشياطين فنحن لا نجدهم ، ما اسم هذا الموضوع ؟ موضوع إخباري ، خالق الكون أخبرنا عنه ، فأنت إذا آمنت به ؛ آمنت بوجوده ، وآمنت بوحدانيَّته ، وآمنت بكماله ، وآمنت بأن كلامه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكلَّما نما إيمانك بالله عزَّ وجل نما مع إيمانك بالله تصديقك له فيما أخبرك عنه ، والله عزَّ وجل يخبرك عما يعجز عقلك عن إدراكه ، والشيء الذي يعجز عقلك عن إدراكه يخبرك به ، فالحاجةُ في المحل التجاري التي يعجز ميزانك عن وزنها ، ترى الصانع قد كتب لك وزنها كذا ، فهذه اللوحة التي أُلْصِقَت على هذا البرَّاد الضخم كُتِبَ عليها أن وزنه ألفا كيلو ، وهذه المركبة التي يعجز ميزانك عن وزنها قالت لك الشركة الصانعة : وزنها ألف ومائتا كيلو ، أنت قد تكون أمام شيء بإمكانك أن تزنه بنفسك ، وأن تتحقَّق منه ، أحياناً يحضر الإنسان اثنين كيلو من الفاكهة ، فيشعر أنه من غير المعقول أن يكون وزنها كذلك ، وعنده في البيت ميزان يزينهم ، ميزان البيت للتأكُّد لعل في خطأ ، لكن ميزان البيت مصمَّم لوزن حاجات لا تزيد على عشرين كيلوا ، ولكن هناك أشياء ضخمة لا يوجد عندك ميزان تزنها به ، فالصانع أخبرك أن وزنها كذا.
      نحن الآن أمام آيات ليست خاضعة لميزاننا ، فميزاننا يحتاج إلى أشياء محسوسة ، الجن نحن لا نراهم بنصِّ القرآن الكريم ، نحن نرى أن شهاباً يسقُط ، فالشُهُب نراها بأعيننا ؛ ولكن خالق الكون أخبرنا أن هذه الشُهُب الثاقبة إنما هي رجومٌ للشياطين .
 
3 ـ الحكمة من إيراد موضوع إرسال الشهب على الجن :
 
      وقد يسأل سائل : لماذا ساق الله لنا هذا الموضوع ؟ لأن العرب كانوا يزعمون أن بين الله وبين الجِنَّةِ نسباً ، وأن الشياطين يعلمون الغيب ، ولأنهم يعلمون الغيب كان بعض العرب يعبُد الشيطان من دون الله ، ولماذا يعلمون الغيب ؟ لأنهم يتصلون بالملأِ الأعلى ، إذاً حينما ساق الله عزَّ وجل هذه الآيات لينفي أسطورةً شاعت في الجاهليَّة وهي : أن بين الله وبين الجِنَّة نسباً ، وأن الشياطين يعلمون الغيب لاتصالهم بالملأِ الأعلى ، إذاً : لابدَّ من أن يُعْبَدوا من دون الله .
      ولذلك ربما عزَّ وجليحدثنا في هذه الآيات الإخباريَّة عن الجن ـ من الآن فصاعد يجب إذا قرأت القرآن أن تعرف أن هذه الآية إخباريَّة خاضعةٌ للتصديق فقط ، وأن هذه الآية تحقيقيَّة خاضعةٌ لوزنها بميزان العقل ـ الأشياء التي توزن بميزان العقل ، ويجب أن تكون ضمن طاقة العقل ، يجب أن تكون ماديَّة محسوسة ، أنا أنظر إلى آلةٍ أتأمَّل ، أدقِّق ، أحقِّق ، أستنبط أن صانعها على أعلى درجة من الإتقان ، أو أن هناك بعض الإهمال ، أو أن هناك نقصاً في علمه ، أو على التجريب كانت سريعة العَطَب ، إذاً لم تكن متقنةً ، كل هذا أكشفه بعقلي ، ولكن هناك أشياء ليس عندي جهاز يكشف الخَلَل ، إذاً استسلم فيها لمقولة الصانع .
       إذاً : نحن أمام آيات تتحدَّث عن الجن ، وعن اختراقهم للسماء .
 
4 ـ الجن لا يعلمون الغيب :
 
     أولاً : القرآن الكريم يبيِّن بشكلٍ واضحٍ قطعي الدلالة أنه لا يعلم الغيب إلا الله ، الله وحده يعلم الغيب ، لذلك أنت يجب أن تدقق الآن أيةقراءةٍ ، أية مقولةٍ ، مثلاً ظهرت بالصين ، بجنوب شرق آسيا قبل أسابيع جماعة تدَّعي أن يوم القيامة يوم كذا ، وقد مضى هذا اليوم ولم يحدث ، أربعة عشرَ مليوناً ـ العدد كبير جداً ـ يعتقد أن فلاناً أو علاناً يعلم متى يوم القيامة ، وجاء هذا اليوم ولم يحدث شيء ، فأنت يجب أن تعلم علم اليقين أنه لا يعلم الغيب إلا الله ، النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد الخلق لا يعلم الغيب ، والآية :
﴿ قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 50)
       أما إذا أخبرنا عن أشراط الساعة ، وعن آخر الزمان ، فهذا ليس علماً بذاته ، إنما هو إخبار من الله عزَّ وجل ..
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾
(سورة الجن)
       فأنا كأي مسلم بعقيدة ، ولا أقبل أن يدعي إنسان كائناً من كان أنه يعلم الغيب ، وأرفض هذا ، وأسخر منه معتمداً على نصٍ قطعي الدلالة في كتاب خالق الكون إذ يقول :
﴿ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ ﴾
(سورة النمل : من الآية 65)
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ﴾
(سورة الجن)
      هكذا المسلم معه نور من الله عزَّ وجل ، ومعه مبادئ ثابتة ، وأدلَّة قاطعة ، ولا يستسلم لخرافةٍ ، ولا لمقالةٍ قرأها ، ولا ( لشطحةٍ ) سمِعها ، ولا لفريةٍ وصَلَت إليه ، المسلم معه مقاييس ، وهذا الموضوع مرفوضٌ شكلاً ومضموناً ، لأنه لا يعلم الغيب .
      في السماء الملائكة ، والملائكة مخلوقاتٌ مكلَّفةٌ بمهمَّات ، ولعلَّ بعض المهمات إهلاك القُرى ، فالزلازل ، والأمطار ، ونقل أعمال العباد إلى الله عزَّ وجل ، تنزُّل الملائكة بأوامر الله عزَّ وجل ، والملائكة مخلوقات مقرَّبة إلى الله عزَّوجل ، دائماً تسبِّحه وتمجِّده ، وقد كلَّفها الله بمهمَّات ، ولعلَّ الشياطين كانوا يسترقون السمع   .
       فلو انعقد مجلس وزراء ، واتخذ قراراً بتقديم الساعة ، ولم يعلن القرار بعد ، سمع الآذن وهو يقدِّم القهوة عن تقديم الساعة ، فجلس في قريته أو بين عشيرته ، وقال : أنا أعلم ما سيكون ـ هو أخفى أنه سمع هذا القرار ـ بعد أسبوع سوف تُقَدَّم الساعة ، فهذا الآذن استرق السمع ، وبدأ يتاجر بهذا الفكرة ، ويتصدَّر بها المجالس ، ويقول : سيكون كذا وكذا ، وسيفعلون كذا وكذا ، والله عزَّ وجل قال :
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ﴾
 
5 ـ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ
 
       والشيطان المارد هو الشيطانالعاتي ، المتمرِّد على طاعة الله عزَّ وجل ، ومعنى المارد القوي ، والمتمرِّد ، والعاتي ، والعاصي  ..
﴿ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ﴾
 
6 ـ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى
 
  أي لا يسَّمعون فيسمعون ، هم يحاولون أن يسمعوا ؛ ولكن لا يسمعون  ..
﴿ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8)دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ﴾
 
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ
 
     أي مستمر ، والآن أي تعاون بين الإنس والجن تعاونٌ غير مشروع هدفه إضلال البشر ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :
((  مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا ، أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ )) .   
[  من سنن ابن ماجة عن أبي هريرة ]
(( من أتى ساحراً فلم يصدِّقه لم تُقْبَل له صلاة أربعين صباحاً ولا دعاء أربعين ليلةً )) .
[  ورد في الأثر ]
        إذاً نحن حيال الغيب نلتزم بما قاله الله عزَّ وجل ، أما ما نراه في بعض المجلات ؛ حظُّك هذا الأسبوع ، وفلان برجه كذا ، وسيأتيه عدوٌ يأخذ منه شيئاً ، فهذا كلَّه كلام باطل ، وكلام الشياطين ، والأفَّاكين ، إنه كلامٌ مرفوضٌ نصَّاً وروحاً ، جملةً وتفصيلاً ، وقلباً وقالباً ، قبل أن نمضي في الحديث عن هذه الآية :
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾
 
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ
 
      أولاً : جعل الله سبحانه وتعالى الجمال في الكون مقصوداً لذاته ، فكل شيء خلقه الله فيه كمال في أداء الوظيفة ، وفيه جمالٌ في تكوينه ، فيمكنك أن تركب مركبة عبارة عن عمود حديدي عليه محرِّك ولها مقعد ، فالمركبات لها جمال ، إن هدف المركبة الأول نقلك من مكان إلى مكان ، إذاً : فيها محرِّك وعجلات ، لكن لها هدف آخر ؛ هو أن يروق لك منظرها ، ففيها نوافذ ، وأبواب ، وهي مطليَّة بطلاء متألِّق ، وفيها مقاعد وثيرة ، وفيها ألوان منسجمة ، وفيها جمال في خطوطها وفي انسيابها ، إذاً حينما صُنِعَت هذه المركبة مثلاً لتنقلك من مكانٍ إلى مكان ، فهناك هدفٌ آخر رافقها ، وهو أن تكون زينةً لك ، إن هذا الشيء ملاحظ في الكون .
       فالفواكه مثلاً هدفها الأول أن نتغذَّى بها ، لكن التفَّاحة لها منظرٌ جميل ، ولها لونٌ جميل ، ولها رائحةٌ طيِّبة عطرة ، فربنا عزَّ وجل يجمع في خلق الشيء بيَّن فائدته ، وأداءه لوظيفته أداءً تاماً كاملاً ، وبين تحقيق المتعة للإنسان ، إذاً ربناعزَّ وجل ، بل إن من الأدلَّة على وجود الله وعلى أسمائه الحسنى أنه جعل الجمال مقصوداً في خلقه تعالى   .
       وبعض الأطيار الجميلة مثلاً ، ترى فيها الألوان مدرَّجة بشكل معجز ، بل إن المهندسين يستوحون تصاميمهم من الألوان التي في الطيور ، والألوان التي في الفراشات ، وألوان الأزهار ، إذاً الكون لا يؤدي وظيفةً فقط ؛ بل يؤدي وظيفةً وفيه جمالٌ يعدُ صميمياً من مبادئ الكون .
       شيءٌ آخر ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾
(سورة النحل : من الآية 8)
       فالفرس لها قِوام رشيق ، ولها لون مُمْتِع ، ولها طباع ، ويركبها الإنسان لينتقل عليها ، وهو يفتخر بركوبها ، لأنها تحقِّق له متعةً ، لذلك كمال الخلق أن يحقِّق نفعاً ومتعةً في وقتٍ واحد ، أن يجمع الشيء بين جمال التكوين وأداء الوظيفة أداءً تاماً .
    إذاً : ربنا عزَّ وجل قال :
 
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾
 
وظيفة النجوم :
 
      فالكواكب كما قال بعض العلماء : لها وظائف ثلاث .
 
1 ـ الاهتداء بها في ظلمات البرِّ والبحر :
 
     أولاً : نهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر ، مثلاً نجم القطب ثابت ، وهناك نجوم ثابتة ونجوم متحرِّكة ، فالنجوم الثابتة نهتدي بها ، والمتحرِّكة نعرف من خلالها مُضِيَّ الوقت ، طبعاً نحن في المدينة لا نتعامل مع السماء بشكلٍ واضح ، لوجود الأضواء ، والكهرباء ، والشوارع المضاءة ، أما إذا سكن الإنسان في الريف ، أو قام برحلة ، واستلقى على ظهره ، ونظر إلى السماء في ليلةٍ ظلماء لرأى العجب العُجاب ، وأنا كنت أرى مجموعةً من النجوم تشرق عند المغيب ، وتغيب عند الشروق ، فإن استقيظت في الليل أعرف من الساعة في أي وقتٍ أنا في الليل ، إن رأيتها في منتصف قبَّة السماء فنحن في الساعة الثانية عشرَة تقريباً ، تماماً كالشمس تشرق وتغرب ، فالنجوم الثابتة نهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر ، والمتحرِّكة نعلم بها الوقت ، وكأنها مؤقِّت ، أو كأنها ساعة موضوعة في السماء ، فالنجوم من وظائفها أن نهتدي بها في طُرُقاتنا ، وفي مسالكنا ، ونهتدي بها في معرفة أوقاتنا .
 
2 ـ زينةً للسماء الدنيا :
       النجوم لها وظيفةٌ ثانية ، فقد جعلها الله زينةً للسماء الدنيا ، لكن هناك سؤال : كم كلفت هذه النجوم التي جعلها الله زينة ؟
      مرَّة قلت لكم : تمر الأرض في دورتها حول الشمس باثني عشرَ برجاً ، من هذه الأبراج برج العقرب ، برج العقرب مجموعة نجوم نراها في نيسان ، في فصل معيَّن ، الأرض في دورتها حول الشمس تمر باثنتي عشرة مجموعة من النجوم ، وكل مجموعة سميت برجاً ـ والله جلَّ جلاله يقول :
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾
(سورة البروج)
       من هذه الأبراج برج العقرب ، هناك في برج العقرب نَجْمٌ متألِّق اللون أحمر ، يبدو صغيراً جداً ، ولكنه يتَّسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، طبعاً المسافة بينهما مائة وستة وخمسون مليونكيلو متر ، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرَّة ، الله عزَّ وجل جعل هذه النجوم في السماء الدنيا زينة ، فكم كلَّفت هذه الزينة ؟ وكم أن الإنسان مكرَّمٌ عند الله عزَّ وجل حتَّى يجعل له هذه الكواكب الضخمة العملاقة ، وهذه المجرَّات البعيدة يجعلها له زينةً فقط ؟ أنت قد تزيِّن البيت بحبلين من الكهرباء يكلِّفونك ألف ليرة ، هل يمكن أن يكون ثمن بيت مليونين ، وأن تكلف الزينة مئتي مليون ؟ فهذا غير معقول ، ومعنى هذا أن الإنسان غالٍ كثيراً على الله عزَّ وجل ..
﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾
(سورة الملك : من الآية 5)
 
الزينة والجمال في الكون :
 
       إذاً : نحن وقفنا عند الزينة ، الإنسان يستنبط أشياء كثيرة ، طعامك فيه زينة ، الإنسان يضع في بعض الأحيان على المائدة فواكه ، قبل أن تأكلها تراها جميلة جداً ، وهناك كثير من المحلات يضعونألواحاً زيتيَّة فيها صور فواكه ، ومعنى هذا أن الفاكهة التي تأكلها لها منظرٌ جميلٌ جداً ، أحياناً الأشجار المثمرة جميلة جداً ، في قِوامها ، وفي مجموعها الخضري ، وفي شكلها الكروي ، أو شكلها المنبسط ، أو البيضوي ، الأوراق جميلة جداً ، كل شيء في الكون يؤدِّي وظيفةً تلمح فيه جمالاً أساسياً ، وهذا الجمال الذي نلمحه في الكون دليل وجود خالقٌ عظيم ، وإن الله جميلٌ يحبُّ الجمال ، ولكن هناك جمال الأفعال ، وهناك جمال الأقوال ، يقولون : جمال الرجل فصاحته ، الفصاحة جمال في الإنسان ، فأنت تشعر أن الفصاحة شيءٌ عظيم .
      وقد دخل وفد على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، فتقدَّم هذا الوفد غلامٌ صغير ، فتألَّم الخليفة وانزعج وقال :" اجلس أيها الغلام ، من أنت ؟ ليقم من هو أكبر منك سنَّاً " ، قال الغلام بأدبٍ جم : " أصلح الله الأمير ، المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً ، وقلباً حافظاً فقد استحقَّ الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمَّة من هو أحقُّ منك بهذا المجلس " ، ما هذا الجمال ؟ أعجب بفصاحته .
    ومرَّ سيدنا عمر على أطفالٍ يلعبون ، فتفرَّقوا إلا واحداً ، جذب نظره ، فلما وصل إليه قال له : " يا غلام ، لمَ لم تكن مع مَن هرب ؟ " ، قال له : " أيها الأمير ، لستَ ظالماً فأخشى ظلمك ، ولست مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك " . ( الطريق واسع ، تفضَّل مر ) الفصاحة جمال .
      دخل وفد على عبد الملك بن مروان وفيهم غلام ، عندما نظر إليه الخليفة تألَّم ، فوبَّخ الحاجب وقال له : " ما شاء أحدٌ أن يدخل عليّ إلا دخل ، حتَّى الصبيان ؟ " ما هذه (البهدلة) ؟ فقال له هذا الغلام : " أيها الأمير إنَّ دخولي عليك لم ينقص قدرك ولكنَّه شرَّفني ـ أنت كما أنت بقيت ملك ـ أصابتنا سنةً أذابت الشحم ، وسنةٌ أكلت اللحم ، وسنةٌ دقَّت العظم  " ـ الشحم يذوب ، واللحم يتآكل ، والعظم يُدَّق فينكسر ـ وبيدكم فضول مال ، فإن كانت لله فعلامَ تحبسونها عن عباده ـ نحن عباد الله ـ وإن كانت لكم فتصدَّقوا بها علينا ، وإن كانت لنا أعطونا إيَّاها " ، أي احسبها مثل ما تحب فأُعْجِب به الخليفة ، وهذا من جمال الفصاحة ، والنبي الكريم قال :
(( إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا )) .
[من صحيح البخاري عن ابن عمر ]
       وهناك جمال القِوام ، وجمال اللون ، وجمال التصرُّف ، والجمال أحياناً بالأخلاق ، ولو كان الشخص قميء المنظر ، فالأحنف بن قيس كان قصير القامة ، أسمر اللون ، ناتئ الوجنتين ، غائر العينين ، أحنف الرجل ، مائل الذقن ، ليس شئٌ من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب ، وكان مع ذلك سيِّد قومه ، إن غضب غَضب لغضبته مئة ألف سيف ، لا يسألونه فيمَ غضب ، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه .
       مرَّة أحرجه معاوية بن أبي سفيان بموقف ، عندما أخذ البيعة لابنه يزيد ، أثنى كل الحاضرين على يزيد ، وأشاد بتقواه وصلاحه ، وبقي الأحنف ساكتاً ، قال له : يا أحنف تكلَّم ، فقال : " أخاف الله إن كذبت ، وأخافكم إن صدقت " ، فكان تلميحاً أبلغ من تصريح .
        فالذي أريد أن أقف عنده ، قول ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾
      أي أن عنصر الجمال واضحٌ جداً في الكون ، لو لم يكن هناك  تفاعلات ذاتيَّة لصار الجمال غير مقصود ، فنحن لدينا أسماك زينة ليس لها هدف ، فهي صغيرة ، لا تؤكَل أساساً ، وزنها أقل من غرام ، فسفوريَّة أو شفَّافة ، وهذه لمن خُلِقَت ؟ خُلِقَت للإنسان ليستمتع بها ، وكذا أنواع الورود ، والأبصال ، والنباتات الخضراء ، فهي بالآلاف ، من يعملون بحقل الزراعة وحقل نباتات الزينة يرون العجب العجاب ، هناك كتب ، ومجلَّدات تقدِّم لكم صوراً لهذه النباتات بالألوف ، بمئات الألوف ، أنواع منوَّعة ، وكل نبات له طبع ، وله زهر معيَّن ، وله نظام معيَّن ، وله سُقيا معيَّنة ، إذاً : إنك ترى في الكون أداءً لوظائف ثابتة وجمالاً في التكوين .
     انظر إلى الهيكل العظمي لإنسان تجده مخيفاً ، حتى إذا أرادوا أن يحذِّروا إنساناًمن التوتُّر العالي يضعون جمجمة وعظمتين ، وازن بين جمجمة ووجه مكسو بالعضلات المستقيمة ، وبالجلد المشدود ، ولون أزهر ، فرق كبير جداً بين هيكل عظمي وبين الإنسان في أحسن تقويم، بين عضلاته وبين جلده ، إذاً في الإنسان جمال التكوين ، بيت من دون طينة فرضاً ، من دون دهان قد تكون غرفة واسعة ، وأبوابه محكمة ، كله جيِّد لكنه مزعج ، منظره مزعج جداً ، فالله أودع بالإنسان حب الجمال ، وربنا عزَّ وجل خلق الكون على نحوٍ يؤدي الوظيفة أداءً كاملاً ، ويؤدي متعةً جماليَّةً ، وهذا مما يدلُّ على اسم الجميل ..
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ(6)وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ﴾
     فالذي أخبرنا الله به عن عالَم الجن ، وعن عالَم الملائكة ، وعن رَجم الشياطين ، وعن استماع الشياطين ، هذا لا نملك إلا تصديقه ، لأنه موضوعٌ إخباري ، غير خاضع للتحقُّق ، لكن خاضعٌ للتصديق ، فكل إنسان أراد أن يناقشك بآيات متعلِّقة بالغيبيَّات فقل له : هذا موضوع إخباري لا تجوز المناقشة فيه ، لأن الميزان لا نملكه ، ميزاننا يقودنا إلى الله ؛ وجوداً ، وكمالاً ، ووحدانيَّةً ، وإلى معرفة كتاب الله ، وإلى معرفة رسول الله ، ولكن ميزاننا لا يستطيع أن يقدِّم لنا حقيقة هذه الإخباريَّات ، لأنه أضعف من ذلك ، وهذا ليس نقصاً فيه ؛ بل لأنه مصمَّم لموضوعاتٍ محدودة لا لموضوعاتٍ مُطْلَقَة .
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى
 
       إذاً : هؤلاء الذين يعبدون الشياطين ، أو الجن ، أو يتعاونون معهم لإضلال البشر ، ويزعمون أن الشياطين يعلمون الغيب ، نقول لهم : هذا كذبٌ محض ، فالشياطين لا يعلمون الغيب ، والدليل أن الله عزَّ وجل يقول  :
﴿ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ﴾
 
1 ـ وقفة مع كلمة ملأ :
 
   ففي الحديث القدسي :
(( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي ، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ )).
[ مسلم عن أبي هريرة ]
       ما معنى الملأ ؟ الملأ في المعجم أشراف القوم ، أي أنهم يملئون العين مهابة ، هناك شخص تمتلئ عينك بجمال طلعته ، وكمال قوامه ، وفصاحته ، وجماله وأناقته ، فالملأ هم أشراف القوم الذين يملئون العين لا بقوامهم فقط بل بأفعالهم ، بأخلاقهم ، بعلمهم ، قد يسمع الإنسان محاضرة من إنسان ، وزنه الجسمي قليل ، ولكنه يقول لك : بقيت شهراً متأثراً بهذه المحاضرة ، فالإنسان قيمته بعمله وبأخلاقه ، فكلمة ملأ أي يملأ العين ، والسمع ، والذهن ..
﴿ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ﴾
2 ـ مَن هم الملأ الأعلى ؟
        
      مَن هم الملأ الأعلى ؟ الملائكة ، فهم موكَّلون بأعمال كالزلازل ، والأعاصير ، ولعل الأعاصير التي حصلت أعمالٌ أوكلها الله للملائكة، فنحن نقول : هؤلاء أقوياء ، وهؤلاء أغنياء ، وهؤلاء بيدهم مقاليد الأمور ولكن الله عزَّ وجل على كل شيء قدير ، هواءٌ سرعته ثلاثمائة كيلو متر في الساعة ، جعل بلاداً بأكملها قاعاً صفصفاً ، الأبنية دُمِّرَت ، الأشجار قُلِعَت ، المركبات حُطِّمَت ، واليخوت في البحر تلاطمت ، الطائرات حُطِّمَت ، إنها رياحٌ عاتية سرعتها ثلاثمائة كيلو متر في الساعة ، واسمها الأعاصير ، أحرقت الأخضر واليابس ، فلعلَّ الزلازل والأعاصير ، وما شاكل ذلك ، هذه مهمَّاتٌ أوكلها الله للملائكة ، فهؤلاء الجن ، الشياطين الذين تمرَّدوا على أمر الله عزَّ وجل وعصوه ، هؤلاء ما كان لهم أن يستمعوا لهذه الأخبار الغيبيَّة ، لهذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ﴾
 
 
 
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى
 
      فإذا حاولوا الاستماع ليأخذوا هذه المعلومات ، ويتاجروا بها في الأرض أصابهم شهاب ثاقب ، فلو فرضنا فرضاً أن مجلساً ينعقد لتداول أمورا اعتياديَّة ، يمكن لمستخدم أن يسمع بعض الكلمات في أثناء دخوله أو خروجه ، مثلما قلنا قبل قليل ، ثم يتصدَّر بعض المجالس في قريته ، ويقول لك : سيصير كذا ، وسيصير كذا ، وأنا معي معلومات دقيقة ، وأخذوا رأيي بالموضوع ، هو دخل يقدِّم القهوة فقط ، ولم يأخذوا رأيه ، لكن لو فرضنا أن هناك أمراً خطيراً جداً فهو يُمْنَع من الدخول ، فحينما جاءت بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى :
﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8)وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(9) ﴾
(سورة الجن)
       لم يبقَ هناك أي مجال ، كان الجن يتاجرون بهذه المعلومات التي يسترقون السمع من الملائكة ، فلمَّا جاءت رسالة النبي ، مُنِعَ الشياطين من أن يستمعوا ضمانٌاً لنقائها ، فإذا حاولوا جاءهم شهابٌ ثاقب ، وهذا الموضوع ليس خاضعاً للمناقشة ، ولا للتحقُّق ، لأنه موضوعٌ إخباري ، وقال علماء الأصول : إن أي موضوعٍ إخباري لا يجوز أن نزيد عليه إطلاقاً ، لأن أية زيادةٍ فيه زيادة ظنية لا تقوم على برهانٍ ولا على دليل ..
 
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8)دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ
 
﴿ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8)دُحُورًا ﴾
مدفوعين ..
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ﴾
 
أي مستمر ، قال :
﴿ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾
 
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
 
     أي أنه إذا تمكَّن هذا الشيطان أو ذاك الجني من أن يستمع إلى بعض مهمَّات الملائكة ، وأن يأخذها ليتاجر بها ، تبعه شهابٌ فأحرقه ..
﴿ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾
الآن:
﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾
 
     فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ
 
     انظر إلى هذه المجرَّات ، وإلى هذه الكواكب ، وهذه المذنَّبات ، وهذه المجموعات الكبيرة من النجوم ..
﴿ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ﴾
     تجد باخرة تحمل مليون طن ، ناقلة نفط حمولتها مليون طن أصابتها عاصفةٌ بحريَّة فشقَّتها شقين ، أين هذا الجسم العظيم الحديد المتين ؟ الله عزَّ وجل هو أشدُّ خلقاً ، فأي شيءٍ رأيته قوياً فالله عزَّ وجل أشدُّ قوة منه .
 
ملخص الدرس :
 
1 ـ المبصرات ، والمسموعات ، والمشمومات ، والملموسات وسبيل معرفتها :
 
       أيها الإخوة ... ملخَّص الدرس على الشكل التالي : الإنسان أحياناً يرى شيئاً مادياً فسبيل معرفته الحواس ، لهذا المصباح متألِّق ، أرى  بعيني أنه متألِّق هذا يقين حسي ، أستمع إلى الآذان ، فهذا الصوت انتقل إليَّ عن طريق الأذن ، فهذا يقين حسي ، وأحياناً ألمس شيئاً صُلباً هذا يقين حسي ، أشم رائحةً عطرة فهذا  يقين حسي ، فالمبصرات ، والمسموعات ، والمشمومات ، والملموسات هذه كلُّها أشياء ماديَّة ، والحواس الخمس تكفي لمعرفتها ، فالشيء الذي ظهرت عينه سبيل الوصول إليه الحواس ، ويشترك الإنسان وغير الإنسان في معرفة الأشياء الماديَّة .
      فالدابَّة ترى حفرةً فتحيد عنها ، ضع يدك أمام نملة تقف وتغيِّر الطريق ، فالحيوانات عندها حواس ؛ أي عندها بصر ، وسمع ، وشم.. إلخ .
      دقِّقوا الآن ، لكن الشيء إذا غابت عينه وبقيت آثاره ، فسبيل معرفة هذا الشيء العقل ـ الآن دخلنا في موضوع جديد ـ أنا أرى أن هذه المروحة تدور ، وأن هذا المصباح متألِّق ، أنا أحكم بعقلي حُكماً قطعياً أن الكهرباء موجودة في المسجد ، فمن هذا الصوت الذي يُضَخَّم ، ومن هذه المروحة التي تدور ، ومن هذا المصباح المتألِّق ، أما عين الكهرباء فقد  غابت عني لا أراها بالعين ، إذا نظرت إلى أحد الأسلاك الكهربائية هل فيه كهرباء أو لا ، هل تعرفه بالعين ؟ لا تعرفه ، لكن تعرفه من المصباح ، أو من الصوت ، أو من الحركة ، أو من التبريد ، فإذا غابت عين الشيء وبقيت آثاره فالآن هذا دور العقل ، يستنبط من آثار الشيء صفات عين الشيء ، هذا اليقين الاستدلالي .
       فاليقين الأول يقين حسي ، والثاني استدلالي ، أما إذا غابت عين الشيء وآثاره فلا سبيل لمعرفته إلا الإخبار ، لأن العقل معطَّل ، فأنت تجلس في غرفة الجلوس وتقول : هذه ثريَّا ، وهذه مروحة ، وهذا طقم استيل ، وهذا مطرح ، وهنا اللون مناسب للطقم ، يمكن أن تتفكِّر وتتأمَّل ، لكن هناك غرفة داخليَّة هل تعرف ما فيها من أثاث ؟ لا تعرف إلا أن تسأل صاحب البيت ، فالشيء الذي غابت آثاره وغابت عينه لا سبيل لمعرفته إلا الإخبار .
2 ـ التصديق بخبر الله :
 
     أردت من هذا الدرس أنه كلَّما مرَّ معكم مقطع إخباري ، إذا وجد من هو ضعيف الإيمان يقول : هذا غير معقول ، هذا موضوع لا شأن للعقل به ، هذا موضوع إخباري ، موضوع تصديقي لا تحقيقي ، فهذا الموضوع لو كان حسياً لعرفته الحواس ، ولو غابت عين الشيء وبقيت آثاره الفكر يعرفه ، وما دامت قد غابت عينه وآثاره فلا سبيل لمعرفته إلا بالتصديق .
      لا تتعب نفسك ، إن رأيت آيات متعلِّقة بالجن ، والملائكة ، ويوم القيامة وبالحوض، والصراط ، بالصراط فوق جهنَّم ، والصور ،  والبرزخ ، والقبر ، فهذه أشياء كلها إخباريَّة ، أنت عليك أن تؤمن بالله أولاً من خلال الكون ، وأن تؤمن بهذا القرآن أيضاً من خلال إعجازه، وتؤمن بنبوَّة النبي من خلال قرآنه ، وبعدئذٍ تتلقَّى من الله الأخبار.
      أخبرك عن قوم عادٍ وثمود ، وأخبرك عن بدء الخلق من آدم وحوَّاء ، وعن نهاية الأرض ، إذا نفخ في الصور ، هذا كلُّه أخبار ، لكن قيمة الأخبار من قيمة المُخْبِر ، من هو المخبر ؟ هو الله عزَّ وجل، فبقدر إيمانك بالله عزَّ وجل تصدِّق أخباره ، وبقدر ضعف إيمانك بالله عزَّ وجل تُشكِّك في أخباره ، وبقدر ضعف إيمانك تقول : غير معقول ومعقول ، هذا بقدر ضعف الإيمان ؛ أما كلَّما قوي الإيمان بالله قوي معه تصديق أخبار الله عزَّ وجل .
       فلذلك قال بعض العلماء : حينما قال الله عزَّ وجل :
﴿ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾
(سورة الفيل)
       طبعاً الجواب : لا، والله أنا ما رأيت ، لمَ قال الله :
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾
       قال : لأن إخبار الله عزَّ وجل يرقى إلى مستوى الرؤية لصدقه ، إذاً : هذا المقطع وهو قوله تعالى :
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾
  بزينةٍ هي الكواكب ، هذه إعرابها بدل ..
﴿ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ(6)وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ﴾
   لا يسَّمعون بمعنى أنهم يحاولون السمع ولكن لا يسمعون ،  هو يسَّمَّع ، ولكن لا يسمع ..
﴿ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8)دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ(9)إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ(10)فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾
      هذه آيةٌ نبدأ بها إن شاء الله تعالى الدرس القادم .
 
والحمد لله رب العالمين
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب