سورة المائدة 005 - الدرس (23): تفسير الآيات (042 - 043) سمات أهل الكتاب سمّاعون للكذب أكّالون للسحت

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة المائدة 005 - الدرس (23): تفسير الآيات (042 - 043) سمات أهل الكتاب سمّاعون للكذب أكّالون للسحت

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة المائدة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة المائدة - تفسير الآية: (042 - 043) - سمات أهل الكتاب سمّاعون للكذب أكّالون للسحت

21/03/2011 05:18:00

سورة المائدة (005)
الدرس (23)
تفسير الآيات: (42-43)
سمات أهل الكتاب سمّاعون للكذب أكّالون للسحت
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
الإنسان المعرض عن الله فيه صفتان جامعتان مانعتان أنه سَمَّاعٌ للكذب أَكَّالٌ للسحت:
 
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث والعشرين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الثانية والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾
أيها الأخوة الكرام، هؤلاء الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وصفهم القرآن الكريم بقوله:
﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
[ سورة النساء: 159]
وصف بعضهم بأنهم:
 ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ

الإنسان المعرض عن الله عز وجل هو الذي يتبع هوى نفسه، وما من صفتين ألصق به من هاتين الصفتين، أنه سَمَّاعٌ للكذب، أَكَّالٌ للسحت، وفي اللغة العربية دقة بالغة في بناء الكلمة، فكلمة:
﴿ سَمَّاعُونَ ﴾
جمع سَمَّاعٍ، والسَمَّاعٌ صيغة مبالغة من سامع، فهناك فعل سمع، واسمع الفاعل سامع، وصيغة المبالغة من اسم فاعل سماع.
 
الذي يستمع لينقل وكأنه يتجسس هذه صفة المنافقين وصفة البعيدين عن الدين :
 
هناك آكل، وهناك أَكَّالٌ:
﴿ أَكَّالُونَ ﴾
جمع أَكَّالٍ، السماع ليس الذي يسمع لمرة واحدة، فأي واحد منا قد يكون في مكان ويقال فيه كلام ليس صحيحاً، وكأنه سمع كذباً، لكن لأنه ليس مكلفاً أن يكون إقراره تشريعاً كما هي حالة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون من الحكمة أن يسكت أو أن ينطق بالحق، على كلٍ ما منا واحد إلا وكان في مجلس ما وقد ألقى أحدهم كلمة كذب، كلمة نفاق ليست صحيحة، هذا اسمه سامع، ولكن الذي اتخذ سماع الكذب ديدنه، يسمع الكذب، ويروج للكذب، ويقبل الكذب، وينطق بالكذب فهو سَمَّاعٌ، والذي ينبغي أن يكون معلوماً لديكم أن الكذب يتناقض مع الإيمان، ومعنى كلمة يتناقض أي أن الكاذب ينفي عن نفسه الإيمان دون أن يشعر، لأن المؤمن لا يكذب، بل إن المؤمن:
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ))
[ أحمد عن أبي أمامة الباهلي ]
لمجرد أن يكذب أو أن يخون فليس مؤمناً، فالذي يسمع الكذب مرةً واحدة، والحكمة تقتضي ألا يرد عليه لأسباب كثيرة، أو يرد عليه فهو في الحقيقة سمع الكذب، ولكن الذي يتخذ سماع الكذب ديدنه، وقبول الكذب ديدنه، وترويج الكذب ديدنه، بل الذي يستمع لينقل، وكأنه يتجسس، فهذه صفة المنافقين، وصفة البعيدين عن الدين:
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ
أي الكسب الحرام، ويسمى في المنهج الإلهي سحتاً، فالذي يأكل المال الحرام غصباً، أو اختلاساً، أو سرقةً، أو خطفاً، أو احتيالاً، أو عن طريق الربا، أو عن طريق الاحتكار، أو عن طريق الكذب، أو عن طريق التدليس، أو عن طريق الغش، فهو كسب غير مشروع، وهو في المنهج الإلهي سحت، فهذا الذي بَعُد عن الله، ولم يعبأ بالآخرة، ولم يحرص على طاعة الله، وفسدت عقيدته، وانحرف سلوكه، ففيه صفتان جامعتان مانعتان، أنه سَمَّاعٌ للكذب، أَكَّالٌ للسحت.
 
وُصِف الإنسان في آخر الزمان بأنه أعور دجال :
 
أيها الأخوة الكرام: لو أردت صفةً جامعة مانعة للمؤمن فهي الصدق، فهو يصدق ولا يكذب، ولا تأخذه في الله لومة لائم، بل إن المؤمن إذا كان من خصائصه الثابتة أنه صادق فهذا في الدعاة إلى الله من باب أولى، لأن الله سبحانه وتعالى حينما وصف الدعاة إلى الله قال:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾
[ سورة الأحزاب: 39]
لمجرد أن تخشى غير الله فتسكت عن الحق خوفاً أو إرضاءً، وتنطق بالباطل خوفاً أو إرضاءً فقد انتهت دعوتك، ويمكن أن نصف آخر الزمان بأنه عصر الكذب، فكل ما يقال يفعل عكسه، والإنسان بذكائه يستطيع أن يقول كلاماً يرضي من حوله، ولكن المعول عليه فعْلُه، وقد وصف الإنسان في آخر الزمان بأنه أعور دجال، أي يرى الدنيا ولا يرى الآخرة، يرى مصلحته ولا يرى مصالح الآخرين، يرى حظوظه ويمنع الآخرين من حظوظهم، يرى وجوده ويحب أن يلغي وجود الآخرين، يعتز بمبادئه ولا يعتز بالحق الذي مع الآخرين، هذا اسمه أعور، أما أنه دجال فلأنه يتكلم كلاماً أحلى من العسل، وله فعل أمرُّ من الصبر، هذه المفارقة الحادة في شخصية الإنسان الشارد عن الله، فهو أعور دجال، وسماع للكذب، أكال للسحت، وهي صفة البعيدين عن الله عز وجل، وقد تلبَّس بعض الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب بهاتين الصفتين:
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ
المهم أن يأخذ المال، ولا يعبأ أمن حلال هو أو من حرام، المهم أن يعيش حياةً مرفهة، ولا يهتم كثيراً بأنه بنى حياته على أنقاض الآخرين، أو بنى غناه على فقرهم، أو بنى عزه على ذلهم، أو بنى أمنه على خوفهم، المهم أن يحيى حياةً تروق له من دون مبادئ.
 
لكل عصر سمة وسمة عصرنا المصالح لا المبادئ :
 
لذلك أيها الأخوة، العصور التي مرت بها البشرية متنوعة، ففي حقبة من الحقب كانت مبادئ الأمة الإسلامية هي التي تحكم، فلما جاء ملك الغساسنة إلى سيدنا عمر، وطاف حول الكعبة، وداس أعرابي من فزارة طرف ردائه، فانخلع عن كتفه، فالتفت نحوه، وضربه ضربةً هشمت أنفه، فهذا الإنسان اشتكى لسيدنا عمر، اشتكى على من؟ اشتكى على ملِك، سيدنا عمر جاء به، وصاغ بعض الشعراء المعاصرين هذا الحوار شعراً، قال له عمر: أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟ قال: لست ممن يكتم شيئاً، أنا أدبت الفتى، أدركت حقي بيدي. قال: أرضِ الفتى، لا بد من إرضائه، مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك. قال: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ هو سوقة، وأنا عرش وتاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً. فقال عمر: نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً. فقال جبلة: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني. فقال: عنق المرتد بالسيف تجز، عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
في هذه الحقبة كان أثمن شيء فيها المبدأ والآن نضحي بأكبر إنسان من أجل المبدأ، وها قد ضحى سيدنا عمر بجبلة وقد ارتد عن إسلامه وفر إلى بلاد الشام من أجل المبدأ.
في عصر آخر كان التركيز على شخص لا على مبدأ، فالحق ما نطق به، والباطل ما لم ينطق به، وإشارته توجيه، وحركته توجيه.
في حقبة أخرى، التركيز على الشخص، لكن لو سألت هذا العصر الذي نحن فيه: ما سمته الأساسية؟ المصالح، تداس المبادئ كلها من أجل المصالح، وهؤلاء الذين رفعوا شعارات رائعةً في العالم الغربي كأن تقول: حرية الإنسان، كرامة الإنسان، كفاية الإنسان، تكافؤ الفرص، الديمقراطية في المجتمع، مثلاً، حينما هددت مصالحهم تنكروا لها، وضربوا بها عرض الحائط، وانقلبوا إلى وحوش كما ترون. إذاً نحن في عصر المصالح، لا في عصر المبادئ، يمكن أن تتغير بألف لون ولون من أجل أن تحرص على مكاسبك، فلذلك هؤلاء الذين ذمهم الله عز وجل قال عنهم إنهم:
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ
يستمع إلى الكلام الكاذب، يرضى به، يقبله لأنه يحقق مصالحه، يروجه لأنه يحقق مصالحه، يثني على الكاذب، ويمدحه مدحاً فيه إفراط لأنه يحقق مصالحه، فلذلك المصلحة أولاًَ، والكذب وسيلة لتحقيق المصلحة.
 
الصادق الذي يعبأ بطاعة الله والإخلاص له يخضعه الله لقانون العناية الإلهية :
 
الإنسان كما قال بعض المفكرين: يستطيع أن يخدع بعض الناس لكل الوقت، أو أن يخدع كل الناس لبعض الوقت، أما أن يستطيع أن يخدع كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل، والله عز وجل يقول:
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
[ سورة آل عمران: 179 ]
لا بد من أن يكشف الإنسان.
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾
[ سورة العنكبوت:2- 3 ]
فالآية أيها الأخوة، تصف هؤلاء أنهم سماعون للكذب، والإنسان حينما يكذب يتوهم أنه يكسب، أو أنه يزداد في مكانه قوة، أو أنه يبعد نفسه عن قسوة أعدائه، هذه القواعد استنبطت من حركة الحياة، لكن الإنسان حينما يصدق، ولا يعبأ بهذه القوانين التي استنبطت، بل استنبطها الناس من حركة الحياة، ويعبأ بطاعة الله والإخلاص له، هذا الإنسان الصادق الذي أثار حفيظة من حوله بصدقه يخضعه الله لقانون لا يعلمه معظم الناس، إنه قانون العناية الإلهية، وقد ذكرت مرة أن أحد كبار التابعين، وهو الحسن البصري قام بأمانة التبيين التي كلف الله بها العلماء، وميز بعض النقاط السلبية في حياة الحَجاج، ولما بلغ الحجاج مقالة الحسن البصري غضب أشد الغضب، وأرغى، وأزبد، وقال لمن حوله: واللهِ يا جبناء لأروينكم من دمه، وأمر بقتله، وكان قتل الرجل عند الحجاج أهون من قتل حشرة، جاء بالسياف، وجيء بالحسن البصري، فلما دخل على مجلسه، ورأى السياف مستعداً لقطع رأسه، وأن النطع قد مد على الأرض حرك شفتيه، ولم يفهم أحد ماذا قال، فلما دخل على الحجاج وقف له، وقال: أهلاً بأبي سعيد، أنت يا أبا سعيد سيد العلماء، وما زال يدنيه من مجلسه حتى أجلسه على سريره، واستفتاه في موضوع، وأكرمه، وضيفه، وشيعه إلى باب المجلس، الذي صعق السياف والحاجب، تبعه الحاجب، وقال: يا أبا سعيد، لقد جيء بك لغير ما فعل بك، فماذا قلت وأنت داخل؟ قال: قلت: يا مؤنسي في وحشتي، يا ملاذي عند كربتي، اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
 
المؤمن لا يكذب ولا يخون :
 
إذاً أنت حينما تصدق، وقد يكون الصدق ضاراً بك بمقاييس أهل الأرض، وقد يكون الصدق مهدداً لمصالحك بمقاييس أهل الأرض، وقد يكون الصدق أحياناً مدمراً لك بمقاييس أهل الأرض، يخضعك الله لسلسلة قوانين أنا أسميها قوانين العناية الإلهية، هذه تقلب كل الموازين. لذلك المؤمن لا يكذب، قد تجد مؤمناً حاد الطبع، وقد تجد مؤمناً لين الطبع، وقد تجد مؤمناً متفاعلاً مع من حوله، وقد تجد مؤمناً منزوياً، وقد تجد مؤمناً كثير الأناقة، وآخر أقل أناقة، وقد تجد مؤمناً كثير الإنفاق، مؤمن أقل إنفاقاً، هذه كلها طباع مقبولة عند الله عز وجل، ولكن المؤمن لا يكذب، ولو كان الثمن باهظاً:
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ))
[ أحمد عن أبي أمامة الباهلي ]
فهو ليس كاذباً، كثيرو الكذب، وسماع في اللغة صيغة مبالغة اسم الفاعل تعني شيئيين؛ الكم والنوع، قد يروج أكبر كذبة، وقد يروج مليون كذبة، إما نوعاً أو كماً:
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾
لو ألغي الكذب من حياتنا لحلت معظم مشكلاتنا، قال قاتل أخ سيدنا عمر: يا أمير المؤمنين: أتحبني؟ قال: والله لا أحبك، قال: هل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي؟ قال: لا والله، قال: إذاً يأسف على الحب النساء.
سيد الخلق وحبيب الحق، يسأل عمر: كيف أصبحت يا عمر؟ قال: أصبحت أحبك أكثر من أهلي وولدي ومالي إلا نفسي التي بين جنبي، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام وقد أكبر فيه هذه الصراحة التي ليس فيها كذب أبداً، قال: لما يكمل إيمانك يا عمر، وفي لقاء آخر قال: يا رسول الله أنت اليوم أحب إلي من أهلي وولدي ومالي ونفسي التي بين جنبي، قال: الآن يا عمر.
 
صفة المجتمع المؤمن أنه مجتمع صادق ورع :
 
أحد أصحاب رسول الله، وقد يكون أقلهم شأناً صلى خلف النبي، صلى الظهر ركعتين، اسمه ذو اليدين، قال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: كل ذلك لم يكن، فأصر، وقال بعضهم: قد كان، فسأل النبي أصحابه فإذا قد صلى ركعتين فعلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما نُسّيت كي أسن.
صفة المجتمع المؤمن أنه مجتمع صادق، وصفة المجتمع المؤمن أنه مجتمع ورع، يركل بقدمه مئات الملايين إذا كانت حراماً، أو إذا كان فيها شبهة، فهات ورعاً وصدقاً، وخذ نصراً وتأييداً، أما إذا فهمنا الدين عبادات تؤدى أداء أجوف، وأفعالنا كذب بكذب، وانحراف بانحراف، فأنى نطمع أن ننتصر على أعدائنا؟
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ ﴾
هم عندهم التوراة، وعندهم الإنجيل، وفيها حكم الله، ولكن حكم الله للزاني في التوراة والإنجيل هو الرجم، مع أنهم لم يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعبؤوا بها، وكذبوها، ولكن لعل عند رسول الله حكماً ليس في مستوى الرجم، هم يعبدون مصالحهم، مع أنهم يملكون كتاباً سماوياً فيه حكم الزنا، والحكم واضح جداً، إنه الرجم للمحصن طبعاً، جاؤوا النبي ليسألوه عن حكم الزنا، فإن جاء بحكم ملطف يتوافق مع مصالحهم ويعينهم على اقتراف شهواتهم وانحرافاتهم قبلوا به، مع أنهم كفروا به كرسول، وقبلوا بحكمه كمفتٍ، قال:
﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾
أنت مخير، لا تلام إذا حكمت بينهم، أو أعرضت عنهم، لأنهم ما أرادوا الحقيقة، أرادوا حكماً يتوافق مع مصالحهم، أرادوا حكماً يتمشى مع أهوائهم، هم لا يطلبون الحقيقة ولو كانت مُرّة، هم يطلبون حكماً مخففاً يدغدغ شهوتهم، قال تعالى:
﴿ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ﴾
إن شئت فاحكم، ولست ملاماً، وإن شئت لا تحكم، فلست ملاماً أيضاً:
﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾
 
من أراد أن ينطق بكلمة الحق فالله معه :
 
أيها الأخوة، كلام دقيق جداً:
﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ﴾
في موضوع ما، وعندهم التوراة والإنجيل، وفيها حكم الله، إذاً لماذا جاؤوك مع أنهم لم يؤمنوا بك، ولم يصدقوك، ولم يقبلوا أنك نبي، لأنهم أرادوا حكماً على أهوائهم، فإن جاء حكم وفق أهوائهم ممن يكذبون به قبلوه، إذاً هم يعبدون أهوائهم، يعبدون مصالحهم، وهذا نمط شائع في العصر الحديث، العبرة أن يحقق شهوته، وأن يسعى إلى مصلحته، من أي طريق، وبأي عقيدة، وبأي مذهب، المذهب في خدمة المصلحة، والاعتقاد في خدمة المصلحة، هذا شأن إنسان الشهوة، لذلك هناك عبد الشكر، وجمعه عباد، وعباد الرحمن، وهناك عبد القهر وجمعه عبيد، هو عبد لشهوته، وعبد لمصلحته، وعبد لملذاته، فأينما تحققت فهو مع الذي يحققها له، هذه سمة العصر. قال عز وجل:
﴿ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ
لو أنك رفضت حكمهم اطمأن فلن يصلوا إليك، الأمر بيد الله، وإن كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرب أجلاً:
﴿ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ﴾
والله عز وجل ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده، فلا تخش في الله لومة لائم، ولا تحمل نفسك على مجاملتهم خوفاً منهم، إنهم لن يضروك، هذا قانون إلى يوم القيامة، إن أردت أن تنطق بكلمة الحق فالله معك.
 
اللهمع المؤمنين بنصره وتوفيقه وتأييده وحفظه :
 
وقف موسى عليه السلام أمام أكبر طاغية في العالم.
﴿ قَالَا رَبَّنَا ﴾
[ سورة طه:45]
كبشر:
﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى* قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾
[ سورة طه:45- 46 ]
وفي اللحظة التي ترى أن الله معك، وأنه يحفظك، وأنه يؤيدك، وأنه يوفقك، وأنه ينصرك، ويثبت قلبك، وهو معكم بعلمه، لكنه مع المؤمنين بنصره، وتوفيقه، وتأييده وحفظه:
﴿ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ
أنت مخير:
﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾
أي:
﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة المائدة:8 ]
اعدل مع من تبغض، اعدل مع الطرف الآخر، اعدل مع من يكيد لك.
 
الله عز وجل هو العدل وكل من طبق العدل في حياته أحبه الله :
 
قال تعالى:
﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾
[ سورة المائدة: 8 ]
أقرب إلى طاعة الله، وإنك بالعدل مع الطرف الآخر تقربه إلى الله، وإنك بالعدل مع الطرف الآخر تقربه إلى ذاتك، أما إذا ظلمته فضِفْ إلى عداوته لك عداوة جديدة، أما إذا ظلمته فيضاف إلى كرهه لك كرهاً، أما إذا ظلمته فسيضيف هذا الظلم إلى حقده عليك حقداً جديداً:
﴿ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾
الله عز وجل هو العدل، وكل من طبق العدل في حياته أحبه الله، أما الظالم فينتظره يوم القيامة ظلمات بعضها فوق بعض، الظلم ظلمات يوم القيامة، لذلك أنت لست قاضياً، أنت مهندس، مدرس، تاجر، بائع، لكنك شئت أم أبيت تعد قاضياً في آلاف الحالات وأنت لا تشعر، أنت قاضٍ بين أولادك، أنت قاضٍ بين أصهارك، أنت قاضٍ بين زوجتك وبين نفسك، أنت قاضٍ بين زوجة ابنك وابنتك، هل تحكم بالعدل بينهما؟ أنت قاضٍ في عملك، هل تنصف الموظفين؟ أم الذي يحابيك تعطيه ما لا يستحق، وأما الذي يحترمك من دون أن يخضع لك، ويتملق لك تسحقه، شئت أم أبيت، تقف في اليوم الواحد عشرات المرات موقف القاضي، لذلك المؤمن يحكم بالعدل. قال النعمان بن البشير:
 ((اشهد يا رسول الله أن نحلت ابني حديقة، قال عليه الصلاة والسلام: ألك ولد غيره؟ قال: نعم، قال: أنحلتهم كما نحلت ابنك هذا؟ قال: لا، قال: اشهد غيري، فإني لا أشهد على جور))
[متفق عليه عن  النعمان بن البشير ]
أنت مكلف بالعدل بين أولادك، بين بناتك، بين أصهارك، بين جيرانك، بين زملائك، بين أصدقائك.
 
أهل الكتابيصدقون بأن محمداً نبياً فيما بينهم وبين أنفسهم :
 
أيها الأخوة الكرام: آية دقيقة جداً، هؤلاء الذين أعرضوا عن الله:
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾
أي لمَ يحكّموك:
 ﴿ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ﴾
عندهم كتاب يدعون أنه كتابهم، إنه كتاب من عند الله عز وجل، لماذا يرفضون حكم الله في كتابهم، ويبحثون عن حكم من إنسان لا يصدقونه نبياً؟ إذاً هم يصدقونه نبياً فيما بينهم وبين أنفسهم.
 
الذي يتقلب بين الحكم الشرعي وحكم القانون مراعاةً لمصالحه قطعاً لا يعبد الله :
 
قال تعالى:
﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾
أي لا يقبلون حكم الله، هم أرادوا حكماً يتوافق مع مصالحهم، فلما جاء حكم النبي بأن الزاني يرجم ما استفادوا شيئاً، لذلك:
﴿ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾
[ سورة التوبة: 76]
قال سبحانه:
 ﴿ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾
نحن في حياتنا اليومية كم من مسلم له مشكلة لا تحل إلا عند العلماء؟ القوانين لا تحلها، ولنضرب على ذلك مثلاً قضية الإيجار، فقبل صدور القانون الجديد هذه القضية لا تحل في القانون، المستأجر ملك البيت، يأتي هذا الإنسان الذي له بيت مؤجر إلى العلماء، يا سيدي أريد حكم الله، أنا أريد الشرع، يقول كلاماً رائعاً، لأنه يعلم في أعماقه أن هذا البيت لا سبيل إلى استرداده بحكم قضائي، أما إذا كانت القضية محرمة عند العلماء كقضية إيداع المال بالبنوك، يا أخي نحن عندنا قوانين، أجبرونا على ذلك، لماذا في موضوع تلجأ إلى العلماء وفي موضوع تلجأ إلى القوانين؟ هو يعبد مصلحته، فإن تحققت عند العلماء لجأ إليهم، وإن تحققت في المحاكم لجأ إلى المحاكم، قد يقول واحد منهم: نحن نعيش في بلد لها قوانين، والقوانين هي الأصل في التعامل، وقد يكون القانون غير منصف أحياناً، فأنت مع مصلحتك إن كانت قانوناً أو شريعةً، إذاً أنت في الحالتين لا تعبد الله، ولست مواطناً صالحاً، إنك تعبد مصلحتك وشهوتك، والمال الذي تراه هو كل شيء في الحياة.
 
حقيقة هذا الدين خضوع لأمر اللهلا أن تخضع خضوعاً انتقائياً فهذا ليس من الدين :
 
هذه حالة بشرية موجودة، أنت مع المصلحة:
﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ َومَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾
الآن لو نشب خلاف بين زوج وزوجة في بلاد الغرب، لا تلجأ الزوجة المسلمة إلى الحكم الشرعي الذي يعطيها المهر فقط، بل تلجأ إلى قاضٍ غربي ليعطيها نصف أملاك زوجها، ترفض حكم الشرع الإسلامي وهي مسلمة، وتطلب حكم الغرب في بلادهم، لأن حكم الغرب يعطيها نصف أملاك زوجها، فهذا الذي يتقلب بين الحكم الشرعي، وحكم القانون مراعاةً لمصالحه قطعاً لا يعبد الله:
﴿ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾
إنما يعبد مصلحته من دون الله، أحياناً في قوانين الإرث يعطى للذكر مثل الأنثى بقانون قديم توارثناه من الحكم العثماني، في الأراضي الأميرية، فالذي يعبد الله لا يقبل إلا أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، والذي يعبد مصلحته يقول: لا، هذا حكم، هذا قانون، هذا قضاء، أنا لا أتراجع، ولا أتنازل عن حقي.
إذاً هناك من يعبد نفسه من دون الله، وهناك من يعبد الله، وحقيقة هذا الدين خضوع لأمر الله، لا أن تخضع خضوعاً انتقائياً، الخضوع الانتقائي ليس من الدين، هؤلاء الذين ذمهم الله عز وجل يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، فالأحكام التي تتوافق مع مصالحهم يقبلونها، والأحكام التي تتناقض مع مصالحهم يرفضونها، تصف الآية الكريمة من كانوا حول النبي من أهل الكتاب، أو تصف بعض من كانوا حول النبي من أهل الكتاب:
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾
 
الحمد لله رب العالمين

 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب