سورة فاطر 035 - الدرس (4): تفسير الأيات (09 – 10) الآيات الكونية هي الطريق الوحيد لمعرفة الله

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة فاطر 035 - الدرس (4): تفسير الأيات (09 – 10) الآيات الكونية هي الطريق الوحيد لمعرفة الله

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة فاطر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة فاطر ـ (الآيات: 09 - 10) - الآيات الكونية هي الطريق الوحيد لمعرفة الله

18/07/2012 17:32:00

سورة فاطر (035)
 
الدرس (4)
 
تفسير الآيات: (9 ـ 10)
 
الآيات الكونية هي الطريق الوحيد لمعرفة الله
 
 
 
لفضيلة الشيخ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة أتم والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ... مع الدرس الرابع من سورة فاطر ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾
 
مقدمة لقوله تعالى : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ
 
1 ـ ظاهرة الرياح والسحاب والمطر :
 
أيها الإخوة الأكارم ، ظاهرة السحاب ، وظاهرة المطر ، وظاهرة الرياح ، وظاهرة إحياء الأرض بعد موتها ، وظاهرة النبات ، هذه كلها أشياء مشاهدة مِن قبل جميع الناس ، ولكن الإيمان لا في مشاهدتها ، فكل الناس يرونها ، وكل الناس يلاحظونها ، وكل الناس يؤمنون أن حياتهم متوقفة عليها ، ولكن المؤمن يرى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرسل الرياح  فتثير سحاباً ، فكأن العقل البشري يصل إلى أن هذا النظام المُعجِز لا بد له من خالق ، لا بد له من مصمم ، لا بد من عقل أول ، لا بد من خالق عظيم ، لا بد من رب كريم ، لا بد من مُسيّر حكيم ، يأتي الجواب في القرآن لهذا الإنسان ، الله الذي فعل هذا ، كذا وكذا .
يا أيها الإنسان هذا الذي تراه ، هذا الذي تعاينه ، هذا الذي تتوقف حياتك عليه الله هو الذي يفعله ، هذا معنى قول الله عز وجل في هذه الآية ، وفي كل الآيات المشابهة .
 
 
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾
(سورة الرعد : 2)
 
﴿ وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً ﴾
(سورة النحل : 65)
 
2 ـ هذه الأفعال من الله تعالى :
 
كلمة ( الله ) ، الذي فعل كذا وكذا ، فهذه الظاهرة التي تراها رأي العين ، هذه الآية التي يعرفها جميع الناس هي مِن فعل الله سبحانه ، فالمؤمن يرى أن يد الله هي التي تحركها ، المؤمن يرى أن الله هو الذي يفعل ، أن الله هو الذي تفضل ، أن الله هو الذي سير ، أن الله هو الذي قدر ، فهذا معنى قول الله عز وجل :
 
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ ﴾
 الله صاحب الأسماء الحسنى ، أسماء الله الحسنى جمعت كلها في كلمة ( الله ) ، وهي علَم على الذات الكاملة ، فهذه الأسماء كلها تتلخص في وجود الله ، وفي قدرته ، وفي وحدانيته ، وفي كماله ، هناك أسماء قدرة ، وأسماء كمال ، في وجوده ، وفي قدرته ، وفي كماله ، وفي وحدانيته ، فكل هذه الصفات مجموعة في كلمة ( الله ) عز وجل ، أو في اسم الله الأعظم ( الله ) ، صاحب الأسماء الحسنى ، والصفات الفضلى .
هل عرفت مَن الذي سير الرياح ؟ هل عرفت أيها الإنسان من الذي ينزل الأمطار ؟ هل عرفت أيها الإنسان من جعل هذه الأرض تهتز وتربو وتخضر وتزهر ؟ إنه الله .
 
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
 
3 ـ الآيات الكونية من أجل معرفة الله :
 
يا أيها الإخوة الأكارم ، حينما يسوق لنا ربنا جل وعلا في كتابه العزيز بعض الآيات الكونية فما معنى ذلك ؟ ما المراد من ذلك ؟ المراد أن يا عبدي إذا أردت أن تعرفني فهذا هو الطريق ، إذا أردت أن تعرف عظمتي ، إذا أردت أن تعرف قدرتي ، إذا أردت أن تعرف تربيتي ، إذا أردت أن تعرف علمي ، إذا أردت أن تعرف حكمتي ، فأنت لا تراني ، ولن تراني ، لأن الله جل وعلا ، لا تدركه الأبصار ، ولكن إذا نظرت إلى الكون فإنه أثر من آثاره ، تتجلى فيه حكمته ورحمته ، وقدرته ، وعلمه ، وخبرته ، ولطفه ، وقوته ، وغناه ، كل أسماء الله الحسنى تتوضَّع في الكون ، بل إن بعضهم يقول : ما الكون إلا مظهر من مظاهر الكمال الإلهي ، الكون مظهر لأسماء الله الحسنى  ، وبالتعبير المعاصر الكون تجسيد لأسماء الله الحسنى ، أسماء الله الحسنى لن تراها رأي العين ، ولكن ترى آثارها ، فإذا أردنا أن نؤمن بالله حق الإيمان ، إذا أردنا أن نتوصل إلى معرفة الله حق المعرفة ، المعرفة التي لا نعصيه بها ، المعرفة التي تحملنا على طاعته ، هذا هو الطريق ، لذلك في آيات أخرى يقول الله عز وجل :
﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾
(سورة الجاثية : 6)
 
4 ـ الكون بوضعه الراهن معجزة :
 
لو أنّنا رسمنا ترياقاً وحيداً للطب ، فأي طريق آخر لن يوصل المرءَ ليكون طبيباً ، فلو قرأ طالب المجلات الطبية كلها فلن يكون طبيباً ، فشاءت حكمة الله أن يجعل من خلقه دليلاً عليه ، شاءت حكمة الله أن يجعل الكون مظهراً لأسمائه ، فإذا أردت أن تعرفه فكما جاء في الأثر : " حسبكم الكون معجزة" .
من دون خرق عادات ، بوضعه الراهن ، بوضعه الاعتيادي هو المعجزة .
هذه الأرض التي نحن عليها ، شاءت حكمة الله أن تكون كرة ، وللشكل الكروي ميزات كثيرة ، الخطوط على هذا الشكل لا تنتهي ، قال تعالى :
 
﴿  وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾  
(سورة الرعد : 3)
 
5 ـ كروية الأرض وأثر ذلك على المخلوقات :
 
الخط على جسم الكرة مستمر ، تذهب من حيث أتيت ، تدور ، فشاءت حكمة الله أن تكون أرضنا كرة ، وشاءت حكمة الله أن تكون بهذا الحجم فلو كانت أكبر من هذا الحجم ، لأصبح وزن الإنسان عليها ثقيلاً جداً ، ولو كانت أصغر من هذا الحجم لاستحالت الحركة عليها ، إذاً : شاءت حكمة الله أن تكون أرضنا كرة ، ذات شكل كروي لميزات كثيرة قدرها الله  عز وجل ، التكوير يحتاج إلى شكل كروي .
﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾
(سورة الزمر : 5)
فلو كان شكل الأرض مكعباً يأتي النهار فجأة ، والليل يأتي فجأة ، لكن هذا اللغز :
 
﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾
لاحظ بعد صلاة الفجر كيف يتداخل النهار مع الليل ، ولاحظ بعد أذانِ المغرب كيف يتداخل الليل مع النهار ، لولا الشكل الكروي لما كان ذلك .
 إذاً : شاءت حكمة الله أن تكون أرضنا كرة ، وأن يكون حجمها مناسباً  وشاءت حكمة الله أن تكون الأرض فيها قسم يابس ، أرض صلبة ، وفيها قسم سائل ، إذاً : هناك بحار ، وهناك يابسة ، والأرض مكونة من خمس قارات ، ومن بحار ، لكن هناك حكمة رابعة هي أن نسبة البحار إلى نسبة اليابسة نسبة محكمة ، لو كانت المسطحات المائية أقل مما هي عليه لأصبحت الأرض قاحلة جرداء ، هذه المسطحات المائية الواسعة التي تزيد على أربعة أخماس الأرض ، هي التي تسبب الحياة على الخمس الأخير ، إذاً : كرة بحجم معين ، وبقوام معين ، وبتوزيع بين الماء وبين اليابسة بشكل معين .
ويستحوذُ على العقل شيءٌ خامس ، تداخُل اليابسة مع المحيطات أيضاً فيها حكمة بالغة ، فكل المنخفضات متمركزة فوق قبرص ، وهذه الجزيرة تؤدي أهدافاً كبيرة جداً في طبيعة الطقس ، والمناخ ، والأمطار والرياح ، أمّا هذه الجزر ، فجزر في شمال إنكلترا ، وجزر في بعض المحيطات ، جزر شرقي إفريقية ، جزر في المتوسط ، هذه لها وظيفة كبيرة ، إذاً : فضلاً عن وجود اليابسة والماء ، وعن نسبة الماء إلى اليابسة ، تَوزُّعُ اليابسة مع الماء ، تَوَزُّعاً حكيماً ، كيف تعرف الله عز وجل ؟ من خلال التدقيق في آياته .
 
6 ـ الغلاف الغازي :
 
شيء آخر ، وهو أن اللهَ عز وجل جعل للأرض غلافاً غازياً ـ هواء ـ هذا الهواء له ميزات كثيرة ، أولاً الهواء وسيط ، وسيط لنقل الحرارة ، ووسيط لنقل البرودة ، وسيط لنقل الصوت ، ومع ذلك لا يشكل الهواء حاجزاً يمنع الرؤية ، الهواء لطيف ، وقد يتجلى اسم اللطيف في الهواء ، فهو شيءٌ موجود بيننا ، وبين كل شخصين ، لولا الهواء لما نُقل صوتي إليكم .
إنَّ رواد الفضاء وهم على سطح القمر كانوا بحاجة إلى جهاز لاسلكي ليستمع بعضهم إلى بعض ، وهم إلى جنب بعضهم ، فلا تجدُ هواءً ، عندهم إذاً لا يسمعون صوتاً ، ومن نعمة الله عز وجل علينا أن زود هذه الأرض بغلاف هوائي ، هذا الغلاف الهوائي لو كان ثابتاً والأرض تدور لدمر كل ما على سطح الأرض ، لأن سرعة الأرض حول نفسها تزيد على 1560كم في الساعة ، ونحن نعرف أنّ أشد أنواع الأعاصير تدميراً للمدن بأكملها سرعتها 800 كم في الساعة ، طبعاً سرعة 800 كم للرياح تدمر كل شيء بإذن ربها ، لكن هناك غلاف هوائي محيط بالأرض ، لكنه متحرك معها ، هذا من نعمة الله عز وجل .
 
7 ـ دوران الأرض :
 
الأرض تدور ولو أنها كانت لا تدور لانعدمت الحياة مِن عليها ، بكل بساطة ، لأن الأرض كرة ، سطح من سطوحها يقابل الشمس ، والشمس مسلطة عليها آلاف السنين ، بل آلاف ملايين السنين ، لا بد من أن ترتفع حرارتها إلى درجة مستحيلة ، العلماء قدروها بـ 350 فوق الصفر ، ولابد من أن تنخفض الحرارة في الطرف المقابل 270 تحت الصفر ، الصفر المطلق ، وعندها تنتهي الحياة ، إذاً : شاءت حكمة الله أن تكون أرضنا كرة ، وأن تكون بحجم معين ، وأن تكون بقوام معين ، وأن يوزع فيها الماء واليابسة توزيعاً حكيماً ، وأن تتداخلاً اليابسة مع الماء تداخل حكيماً ، وأن تغلف بغلاف غازي ، هو الهواء وكل صفات اللطف في الهواء ، وفوق كل ذلك شاءت حكمة الله عز وجل أن تدور الأرض .
يا أيها الإخوة الأكارم : هذه أشياء بديهية ، من مستوى طلاب الثانوي ، الأرض تدور ، لو أنها دارت على محورٍ ، موازٍ مستوي دورانِها حول الشمس ، الشمس هكذا ، وهي تدور حول الشمس ، هذا مستوى دورانها حول الشمس ، لو أن الأرض تدور هكذا ، حول محور يوازي مستوى دورانها حول الشمس ، ما الذي يحصل ؟ كأنها واقفة ، هذه الدورة هكذا تجعل نصف سطحها مقابلاً للشمس ، والنصف الآخر باردا عديم الدفء والضوء ، إذاً : لا وجود لإله حكيم ، لدارت هكذا على نحو يخالف ما هي عليه ، ممكن أن تدور هكذا ، لو أنها هكذا دارت والمحور عمودي على مستوي الدوران دارت هكذا ، الشمس جاءت موازية لكل سطح الأرض لانعدمت الفصول ، ولما كانت الفصول الأربعة ، لا صيفٌ ، ولا شتاء ، ولا ربيع ، ولا خريف ، لو كان المحور أفقياً لا نستفيد شيئاً ، ولانتهت الحياة ، لو كان المحور عمودياً تماماً لانعدمت الفصول وانعدم النبات ، فمَن الذي صمّم أن يكون محور الأرض مائلاً هكذا ، والشمس من هنا ، الكرة مائلة وتدور هكذا ، إذاً : أشعة الشمس تأتي إلى هنا عمودية ، فيكون الصيف ، وتأتي إلى هنا مائلة فيكون الشتاء ، فإذا دارت الأرض دورة حول الشمس انعكست الآية فصارت أشعة الشمس عمودية هنا فيكون صيف ، ومائلة هنا فيكون الشتاء ، هذا تصميم مَنْ هذا ؟
لي صديق ركب طائرة من شمال أمريكة إلى البرازيل رأى العجب العجاب ، في شمال أمريكة ، أو في أمريكة الشمالية حيث الصيف الحار ، والناس على شواطئ البحار ، ويرتدون الثياب الخفيفة ، فلما طارت به الطائرة إلى جنوب الكرة الأرضية رأى العواصف والأعاصير والثلوج ،  في يوم واحد ، شمال الأرض صيف ، وجنوبها شتاء ، وبالعكس ، فهذا تصميم مَن ؟ خلق مَن ؟ ترتيب مَن ؟ تنظيم مَن ؟ الله سبحانه وتعالى ، فإذا أردت أن تعرفه فهذا هو الكون يدلك عليه .
 
8 ـ الليل والنهار :
 
 
أمّا الليل والنهار فإنّ الله عز وجل قال :
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
(سورة الروم : 22)
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ﴾
(سورة فصلت : 37)
الليل يأتي بعد النهار ، لأن الأرض تدور هكذا ، والشمس من هنا فيكون النهار ، فلو أن الأرض دارت دورة كل مائة ساعة مثلاً لصار النهار خمسين ساعة ، وأنت لك طاقة محددة ، في أثناء النهار تنام ، وتستيقظ ، ثم تنام أيضاً ، والنهار قائم ، ثم يأتي الليل خمسين ساعة فتنام ، وتستيقظ ، وتنام ، والليل قائم ، من جعل سرعة دورة الأرض حول نفسها ، سرعة متناسبة مع طاقة الإنسان ، الإنسان يعمل ثماني ساعات  يأكل ويرتاح ساعتين أو ثلاثاً ، يأتي الليل يسكن فيه ، ينام ثماني ساعات ، يصلي الفجر ، يستيقظ فتشرق الشمس ، هذا التناسب بين قدرة الإنسان وطاقته ودورة الأرض حول نفسها .
 هناك كواكب سيارة تدور دورة كل خمسين عاماً ، تدور دورة في ساعتين ، والتنوع شديد جداً في الكواكب التابعة للمجوعة الشمسية ، والأرض تدور حول نفسها دورة كل 24 ساعة ، مَن صمم ذلك ؟ الله رب العالمين .
وهناك شيء آخر : طبعاً كل هذا مقدمة لهذه الآية :
 
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ ﴾
 
9 ـ كيف تتحرك الرياح ؟
 
الرياح كيف تتحرك ؟ ما دامت الأرض تدور بمحور مائل إذاً هناك منطقة حارة ، ومنطقة باردة ، المناطق الحارة في الأرض ، مناطق شمالية باردة ، وخط الاستواء حار ، والجنوبية باردة ، وهناك صحارى في أعماق القارات ، وهناك سواحل بحار ، وهناك بحار ، ما الذي يحصل ؟ إنَّ الهواء كغيره من الأجسام يتمدد بالحرارة ، وينكمش بالبرودة ، فالهواء في المنطقة الباردة ينكمش ، يزداد ضغطه ، يقول لك : ضغط مرتفع ، وفي الأماكن الحارة ،  يتمدد ، ويتخلخل ، ويقلّ ضغطه ، ما دام هناك منطقة في الأرض بارد فالهواء فيها كثيف ، مضغوط ، ثقيل .
أنا مرة في موسم الحج حينما أقلعت الطائرة بنا من جُدة شعرت أن إقلاعها في زاوية صغيرة جداً ، في دمشق أقلعت على نحوٍ ما  ، في جدة على نحوٍ آخر ، سألت أحد الطيارين فقال لي : إِن الهواء ساخن هناك مخلخل ، لا يحمل الطائرة ، تحتاج الطائرة إلى مسافة طويلة جداً كي تقلع ، لكي تصعد في الهواء ، أما في دمشق فالحرارة أدنى من جدة ، فالهواء إذا كان ساخناً يتمدد فيتخلخل فيقلّ ضغطه ، فيقال : ضغط منخفض ، كما يقال : مُنخفض جوي ، وإذا برد الهواء ، ويتكاثف يزداد ضغطه ، ويثقل وزنه ، فحينما تكون بالأرض منطقة باردة ، هواؤها ثقيل ، مضغوط ، ومنطقة حارة هواؤها خفيف وممدد ينشأ اختلاف في الضغط ، ودائماً الشيء المضغوط يهرب إلى المنطقة ذات الضغط الأقلّ ، من هنا تنشأ الرياح ، فهناك رياح تأتي من القطب الشمالي إلى خط الاستواء ، ورياح تأتي من المناطق الحارة الساحلية إلى المناطق الباردة الداخلية ، هذا هو سر تشكل الرياح على سطح الأرض ، فمن صمم هذا ؟ من جعل الهواء يتمدد ؟ من جعل البرودة تجعل الهواء ينكمش ؟ الله جل وعلا .
إذاً : هل تعرف أيها الإنسان من صمم شكل الأرض ؟ ومن صمم حجمها ؟ ومن صمم سطحها ؟ ومن وزع الماء فيها ؟ ومن وزع القارات ؟ و من وزع الجزر ؟ ومن جعلها متداخلة ؟ ومن صمم الهواء فوقها ؟ ومن صمم دورانها على محور مائل ؟ ومن صمم الليل والنهار ؟ وصمم الصيف والشتاء والربيع والخريف ؟ من صمم كل هذا ؟ مَن جعلها بسرعة مناسبة لطاقة الإنسان ؟ الله رب العالمين ، فلذلك :
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ﴾
وكذلك هناك شيء آخر ، هذا الماء في الدرجة الاعتيادية يكون سائلاً ، إذا بردته في الثلاجة يصبح ثلجاً ، من صمم العناصر ، لها درجة تَجَمُّد ، وكذلك درجة انصهارٍ ، ودرجة تبخرٍ ، كل ما على الأرض بدرجة تكون صلبة ، وبدرجة تكون سائلة ، وبدرجة تكون غازية ، يمكن أن يصهر الحجر البازلتي ، يمكن أن يُجَمّد الهواء ، وفي الأصل الهواء غازي ، وكذلك عندك هواء سائل ، مع التبريد والضغط ، وعندك هواء جامد ، هذه قاعدة عامة ، ومن تصميم ربنا عز وجل أن الماء حينما يسخن يتبخر ، إن أشعة الشمس مسلطة على مساحات واسعة جداً على سطح الأرض ، إذاً : يحدث ما يسمى بالتبخر .
 
التبخُّر :
 
ما هو التبخر ؟ التبخر يعني علاقة حكيمة صممها الله عز وجل بين الماء والهواء ، فالماء إذا تبخر تداخل في الهواء ، يقولون : هواء مشبع ببخار الماء ، وأنت ائتِ بإبريق شاي في الشتاء ، وضعه على المدفأة ، ثم أوقد هذه المدفأة ، بعد ساعتين أو ثلاثاً يفرغ ماؤه ، أين أصبح ماءه ؟ في جو الغرفة ، لو عندك جهاز رطوبة لرأين أن الرطوبة ترتفع عندك من 35 إلى 40 ، وفي الساحل الرطوبة 90 درجة ، في الداخل 30 ، في الغابات 60 أو 65 ، من صمم أن الماء إذا تبخر حمله الهواء ، إنه لقانون رائع جداً ، أن هذا الهواء عند كل درجة من درجات الحرارة يحمل كمية ماء معينة ، فمثلاً هواء في درجة فرضاً 50 ، يستوعب 20 غراماً بخار ماءٍ ، لو هبطت درجته إلى 30 يتخلى عن قسم من الماء ، وهذا هو سر تشكل الأمطار ، المنطقة الحارة يكون الهواء مشبعاً ببخار الماء ، فالله عز وجل يسوقه عن طريق الرياح الشديدة ، ويدفعه إلى منطقة باردة ، وفي هذه المنطقة الباردة يتخلى الهواء عن ذرات الماء التي احتجزها ، ومن جعل بخار الماء يختلط مع الهواء ، ويبدو شفافاً ، وفي حالات يبدو سحباً ، السحب حالة وسط بين الهواء المشبع ببخار الماء وبين الأمطار ، قطرات المياه ، إذاً : الله عز وجل هو :
﴿ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ﴾
بعض العلماء قال : الرياح الساخنة كثيرة بخار الماء ، والرياح الباردة تعيد بخار الماء إلى ماء ، الأمطار تتشكل من رياح ساخنة تبخر الماء في البحار ، ومن رياح باردة تكثفه في طبقات الجو فيغدو أمطاراً .
إذاً :
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ﴾
 
فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ
 
1 ـ فكِّر فيمن أحيا الأرض بعد موتها :
 
انظر إلى شجرة في الشتاء ، لأنها حطب ، انظر إلى أرض قاحلة في الشتاء فهي أرض ميتة ليس فيها شيء ، انظر إليها في الربيع ، اهتزت وربت ، تصبح الأرض قطعة من الجنة ، المروج كلها خضراء ، من أين جاءت هذه الأزهار بنفسجية اللون ، صفراء اللون ، حمراء اللون موزعة ، ذات ألوان وأشكال وروائح ، أين كان كل هذا ؟ انظر إلى الأرض في الشتاء ، لا شيء فيها ، موت مطبق ، الأشجار خشب يابس ، فإذا هي في الربيع ترتدي حلية قشيبةً ، الأزهار ، البراعم ، الأوراق الثمار ، من فعل هذا ؟ فقال :
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ﴾
بفضل الله عز وجل في هذا العام الأمطار وفيرة ، إذا خرجت إلى أي منطقة تجد الأزهار ارتفاعها متر أينما ذهبتَ ، الأزهار البرية التي تنبت من تلقاء ذاتها بحسب ما يظنه الناس ارتفاعها متر ، أين كان كل هذا ؟ انظر إلى أرض في الشتاء تراها ميتة ، فإذا جاءت الأمطار اهتزت وربت ، وانبتت من كل زوج بهيج ، هذا خلق الله قال :
﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
هذه الظاهرة بربكم ألا ترونها كل عام ؟ إن الذي مضى عليه 30 سنة احذفْ منها 5 سنوات إذ لم يكن مدركاً ، 25 مرة رأى الأرض يابسة ميتة ، فالأشجار خشب ميت ، جاء الربيع ازدهرت الأشجار ، والأرض اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج  ، هذه الظاهرة يراها أحدنا 40 عاماً أو 30 عاماً ، ألا يُفكّرُ في الذي خلقها من هو ؟ يدُ من ؟ صنع من ؟ خلق من ؟ الله جل في علاه .
إذاً :
﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
 
النبات معجزة من معجزات الخالق :
 
أيضاً النبات ، مَن الذي يدرك أن هذا الماء وظيفته أن يحل معادن التربة ، التربة فيها معادن ، فيها كلسيوم ، فيها مغنزيوم ، فيها فوسفات فيها آزوت ، فيها قصدير ، في كل الأسمدة معادن ، أشباه معادن يأتي الماء فيحل هذه المعادن ، تأتي هذه الشعريات المتوضعة على أدق الجذور ، هذا الجذر الضعيف في رأسه قلنسوة تفرز مادة تذيب الصخر ، وفي بعض الجبال ترى الجذور بين الصخور ، قد تعجب ، يا رب هذا الجذر الضعيف الرقيق ، والنبات اللين الغض ، كيف يدخل بين الصخر ، لأن الله عز وجل زوده برأس ليس رأسَ الماس ، ولكن هو رأسٌ هلامي فيه مادة تذيب الصخر ، وقد يمتد جذر الشجرة إلى 30 متراً تحت الأرض ، بحثاً عن الماء ، الجذر يمشي ، وعلى رأس هذا الجذر أشعار ماصة ، هنا العظمة ، شجرة فستق ، شجرة لوز ، إِجاص ، تَمْر ، مشمش ، تفاح ، عنب ، تسقى بماء واحد .
﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ﴾
(سورة الرعد : 4)
كل فاكهة لها طعم ، ولها قوام ، ولها قشرة معينة ، ولها شكل معين ، ولها صفات معينة ، وتسقى بماء واحد ، العظمة أن هذا الجذر الذي لا يعقل ، يختار من التربة ما يناسب نوع الثمرة التي سوف يحملها شجره ، التفاح فيه حديد ، واليخنة فيها فسفور ، وفيها مواد معينة ، وأكثر النباتات فيها معادن ، معادن مُنحلة ، حسناً فمن الذي أنبأ هذا الجذر أن يأخذ البوتاس ، خذ الكلسيوم ، خذ المنغنيز ، خذ الفوسفات ، خذ الآزوت ، من قال له ذلك ؟ أيعقل أن يكون هذا الجذر عاقلاً ، أم أن الله عز وجل هو الذي سير ذلك ، كل شجرة تأخذ حاجتها من التربة ، من المعادن المنحلة في الماء ، هذا السائل الذي حلت فيه بعض المعادن يصعد بأوعية ، الأوعية مدعمَّة بألياف حلزونية لئلا يكون نمو الشجرة عرضاً ، دافعاً لها لتضيق لمعتها ، وفي النسغ الصاعد أنابيب مدعمة بألياف حلزونية لئلا تضيق لمعتها عند نمو النبات ، تصميم مَن هذا ؟ يصعد هذا السائل إلى الورقة .
وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ، قرأتُ كتاباً في النبات فأدهشتني مقدمة كتبت في رأس هذا الموضوع ، قال فيها : إن أعظم معمل صنعه الإنسان اليوم لا يرقى إلى مستوى الورقة ، ما هذه الورقة ؟ هي معمل قائم بذاته ، تأخذ الطاقة من الشمس ، الفوتونات وفيها اليخضور ، وفيها شلات الحديد ، وتأخذ هذا السائل وتصنع منه نسغاً نازلاً ، هذا النسغ سائل وحده يصنع الأوراق الجديدة ، والأغصان الجديدة ، والبراعم الجديدة ، والثمار الجديدة ، قل :
 
 
﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾
(سورة البقرة : 111)
 
﴿ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
(سورة السجدة : 25)
تارة يصبح ثمرةً ، وتارة يصبح غصناً ، وتارة يصبح برعماً أو جذراً ، أو قشرةً ، أو لحاءً ، ما هذا الإعجاز في الخلق .
أيها الإخوة الأكارم ، أقرب شيء لنا جسمنا والنبات ، أنا أقول لكم : وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ فينا آيات لو أمضيت كل حياتك ، ووقفت عند دقائق جسمك لا تنتهي الآيات ، وبإمكانك أن تعرف الله من خلال خلقك ، وبإمكانك أن تعرف الله من ظاهرة النبات وحدها .
هذه الآية دقيقة جداً ، ربنا عز وجل حينما يذكر في القرآن بعض الآيات الكونية إنما يذكرها لتكون منطلقاً لنا في تفكيرنا ، وهي عناوين موضوعات ، وما عليك إلا تأخذها ، وأن تتابع التفكير فيها .
 
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
 
إثبات البعث : كَذَلِكَ النُّشُورُ
 
يا ترى ما هدف هذهالآية ؟ لماذا ؟ قال :
 
﴿ كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾
أنتم تستعظمون أن يعاد الخلق مرة ثانية ، أن تخلق هذه الأجساد البالية في القبور ، أن يعاد خلقها مرة ثانية ، ألا ترى ظاهرة النبات ؟ ألا ترى ظاهرة الأمطار ، والرياح ؟ فالذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن ينبت هذه الأجسام من جديد .
إذاً : ربنا عز وجل ساق لنا هذه الآية الكونية لتكون دليلاً ثانياً على إعادة الخلق ، قال :
 
﴿ كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾
 ألا ترى هذه الآيات جلية واضحة بأم عينيك ، الذي خلق هذا كله ، قادر على أن يعيد الخلق مرة ثانية :
 
﴿ كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾
وبعد فما الذي يمنع الإنسان من أن يؤمن ؟
 
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ
 
هنا نقطة دقيقة جداً ، وهذه النقطة تبين علاقة الآيتين بعضهما ببعض ، الإنسان أحياناً يحصّل مركزاً معيناً ، أو دخلاً معيناً ، أو تجارة معينة ، أو شأناً معيناً ، أو مكانة معينة ، ربما خاف على هذه المكانة ، هذا المركز ؛ فهو يرفض الحق حفاظاً على مركزه ، هناك عوامل كثيرة يرفضها ، وهناك أشخاص كثيرون يرفضون الدين ، لا كراهية في الدين ، لا لأنهم لم يقتنعوا به ، هم مقتنعون به ، ولكن يتوهمون لضعف إيمانهم أنهم إذا تدينوا ، أو إذا آمنوا ، أو إذا صلوا ، أو إذا تابوا ، أو إذا انضبطوا يخسرون مكانتهم أو مناصبهم ، أو دنياهم العريضة ، أو دخلهم الكبير ، أو مكانتهم في الأرض ، فهذا الوهم الخطير ، ربنا عز وجل بدده في هذه الآية ، قال :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ﴾
 
1 ـ الحاجات الأساسية للإنسان :
 
والإنسان أيها الإخوة كما تعلمون ، له حاجات أساسية .
أول حاجة من حاجاته : وجوده ، لذلك هو يبحث عن طعام ، والنفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت ، الإنسان قبل كل شيء ، فم مفتوح يأكل ، فهذه هي الحاجة الأولى .
الحاجة الثانية : الإنسان بحاجة إلى أن يبقى نوعه ، من أجل بقاء جسمه يحتاج إلى الطعام والشراب ، ومن أجل بقاء نوعه يحتاج إلى الزواج ، فشهوة البطن ، أو الحاجة إلى الطعام ، هي رقم واحد ، وثانياً الزواج ، حسناً لقد أكل وتزوج ، ثم عنده حاجة السعادة ، كإنسان مهم له شأن ، تصور أحياناً الشريك ، يكون أحد الشركاء أقوى من الثاني ، فالقوي يذل الضعيف ، وأحياناً الإنسان يحس أن كرامته قد جرحت فينسحب من كل هذه الشركة ، لا يتحمل .
أريد أن أقول : إن الإنسان عنده حاجة للطعام والشراب ، وعنده حاجة للزواج ، وعنده حاجة إلى العزة ، وإلى أن يشعر بعزته ، أن يشعر بكرامته ، أن يشعر بقيمته ، أن يشعر بشأنه ، أن ينتزع إعجاب الناس ، هذه حاجة إما أن توظف بالحق أو في الباطل ، إما أن تحقق هذه الحاجة عن طريق الالتزام بالحق وخدمة الخلق ، وإما أن تحقق هذه الحاجة عن طريق إيذاء الخلق ، هم يخافونك ، فيعظمونك ، أو تحسن إليهم فيحبونك ، فكل شهوة أودعها الله في الإنسان ، وكل حاجة أودعها فيه ، يمكن أن توظف في الحق أو في الباطل ، في الخير أو في الشر ، فالإنسان يحب أن يكون ذا شأن ، وذا مكانة ، وله قيمة ، والناس يحبونه ، أنت بحاجة ماسّة أن يحبك الناس ، وإلى أن تحب الناس ، فإذا توهمت أيها الإنسان أنك إذا آمنت بالله ، وأعلنت توبتك له ، واصطلحت معه ، واستقمت على أمره وعملت الصالحات ، إذا توهمت أن في هذا ضياعاً لمكانتك أو تشتيتاً لشأنك ، أو ذهاباً لوقارك ، فهذا هو عين الجهل ، لماذا ؟ قال تعالى :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ﴾
 هذا الكلام أقوله لكم بصراحة : الذي يحب الشأن والمكانة ، الرفعة ، الاحترام ، وأن ينتزع إعجاب الناس ، أن يعظمه الناس ، أن يبجلوه ، أن يحترموه ، أن ينادوه بأعظم ألقابه :
 
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ﴾
 أنت بحاجة إلى هذه المشاعر ، مشاعر التبجيل والتوقير والتعظيم فهي مفطورة في الإنسان .
﴿ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾
 
فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا
 
1 ـ العزة لا تُنال إلا من الله :
 
لا يمكن لما سوى الله أن يمنحك هذه العزة ، أية جهةٍ سوى الله ، أي إنسان ، أي عظيمٍ ، أي غنيٍ ، أي قويٍ ، أية جهة على وجه الأرض ، لا يمكن أن تمنحك هذه العزة إلا الله ، هنا المشكلة   ، عن ابن عباس رَضِي اللَّه عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
(( ألا ! رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ، ألا ! رب مهين لنفسه وهو لها مكرم )) .
[ أخرجه الرافعي ]
وكفار قريش لماذا كفروا بمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عرفوه رسولاً كما يعرفون أبناءهم هكذا قال الله عز وجل :
 
﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾
(سورة البقرة : 146)
لماذا كفروا به إذاً ؟ حفاظاً على مكانتهم ، حفاظاً على زعامتهم ، حفاظاً على تجارتهم ، حفاظاً على انصراف الناس لهم ، ما الذي حصل فيما بعد ، هل بقيت لهم هذه المكانة ؟ هل بقيت لهم هذه العزة ؟ ألم يُصرعوا في معارك بدر وأحد والخندق ، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام لهم : يا فلان ، يا شيبة بن ربيعه ، يا أمية بن خلف ، خاطبهم بأسمائهم واحداً واحِداً ، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ، إني وجدت ما وعدني ربي حقاً ، لقد كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وخذلتموني ونصرني الناس ، قالوا أتخاطب قوماً جيفوا ، قال : ما أنتم بأسمع لي منهم ، ولكنهم لا يجيبونني .
التاريخ بين أيدينا ، ما الذي حصل ؟ هؤلاء الذين قاوموا الدعوة ، وكفروا بها ، وكذبوا بها   ، وسفهوا النبي الكريم وأصحابه حفاظاً على مكانتهم ، حفاظاً على وجاهتهم  حفاظاً على تجارتهم ، ما الذي حصل ؟ خسروا بلدهم  وشأنهم ، ألم يقف أبو سفيان في باب عمر بن الخطاب ساعات طويلة فلم يؤذن له ؟ وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان ، فلما دخل عليه ، قال : زعيم قريش يقف في بابك ساعات طويلة ، ولا تأذن لي وهذان يدخلان متى يشاءان ، قال له : أنت مثلهما ؟! من أنت أمامهما ؟
 
2 ـ طاعة الله سبيل العزة :
 
وأقول لكم الآن : إذا توهم الإنسان أنه بمعصية الله قد يرتفع ، وإذا توهم الإنسان أنه بترك الدين يملك عزة وكرامة فهذا هو عين الجهل  هذا كلام واضح كالشمس :
 
﴿ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾
شأنك بين الناس ، مكانتك ، رفعتك ، كرامتك ، لا تكون إلا بطاعة الله ، فإذا أردتها بمعصية الله ، فلن تصل إليها . اسمعوا قول النبي الذي لا ينطق عن الهوى .
          عن عائشة رَضِي اللَّه عَنْها ، عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
(( من التمس رضا الله عنه بسخط الناس رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس )) .
 
[ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ]
وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لقد سمعت مئات القصص تؤكد هذه الحقيقة  ، نعم مئات القصص ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ، ومن ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا ، وأقرب مما اتقى :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ﴾
 يا أخي أنا بودي أن أكون محترماً ، معك حق ، هذه حاجة طبيعية عندك ، أنا أحب كرامتي ، كرامتي فوق كل شيء ، هذا حسن وجميل ، وهذا طلب مشروع ، أنا أحب أن أحفظ ماء وجهي ، هذا كذلك كلام طيب ، أنا أحب أن أكون كبيراً في بيتي ، لي مكانة عند أولادي ، جيد ، أنا أحب أن أكون لي مكانة في عملي ، جيد ، ولكن لتعلمْ أن هذه المكانة ، وهذه الرفعة ، وهذا التوقير ، وهذا التبجيل ، وهذا الاحترام لا يكون إلا بطاعة الله ، سبحان من جعل العبيد ملوك بطاعته ، وجعل الملوك عبيداً بمعصيته .
أتحب أن يحبك الناس ؟ أَحِبَّ الله ، واستقم على أمره ، فالله عز وجل يجعل قلوب المؤمنين تهفو إليك ، فإذا أردت العزة بمعصية الله نفر الناس منك واحتقروك ، وتحدثوا عنك بالأقاويل ، واخترعوا عنك الأكاذيب ، وأصبحت سمعتك في الوحل :
 
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾
 
3 ـ لا يملك العزة مخلوقٌ :
 
لم يقلْ : فلله العزة ، هناك كلمة أساسية ، وهي جميعا ، العزة كلها من الله ، وما من مخلوق في الأرض يملك هذه العزة ، لا تجد جهة إذا مشيت معها تعطيك عزة ، الأمور بخواتيمها ، الأمور بما تستقر عليه ، طبعاً الله عز وجل جعل امتحانات كثيرة ، جهات أرضية كثيرة تمنحك العزة الظاهرة ، ولكن بعد حين يَتَخَلَّوْن عنك ، فإذا جاء مرض عضال ، فإذا جاءت مصيبة كبيرة ، أين أنت ؟ فلذلك الإنسان الذي معه الحق ، موقفه قوي جداً ، موقعه قوي ، أما مع الباطل فهو عرضة لانهيار سريع  :
 
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾
 
معنى : فللّه :
     
         بقي معنى فلله .
 
المعنى الأول :
 
أول معنى : أنك إذا آمنت بالله ، خالقاً ، ومربياً ، ومسيراً ، وأن الأمر كله بيده ، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، وأنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وأنه إليه يرجع الأمر كله ، وأنه بيده الخلق والأمر ، وأنه خالق كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل ، إذا آمنت بهذا تشعر نفسك عزيزاً ولو  انقطعت علاقتك مع الناس ، كل أمرك بيد الله ، صحتك بيده ، دخلك بيده ، أهلك بيده ، أولادك بيده ، الجيران بيده ، إخوانك بيده ، من هم دونك بيده ، من هو فوقك بيده ، أعداؤك بيده ، انتهى الأمر ، وإذا آمنت ووحدت فطبيعة الإيمان فيها عزة ، انظر حال المنافق لماذا هو في الوحل ، لأنه يرى أن فلاناً بيده مصيره ، فيرضيه ، ثم يرضي خصمه ، وفي ظرف آخر يعلم الأول : لِمَ كنت عنده البارحة ، فيقول : أنا مضطر أن أذهب إليه فقد ضعف مركزه ، لأنه يرى مصيره مع كل هؤلاء ، يراهم يرزقونه ، يرفعونه ويخفضونه ، ينفعونه ويضرونه ، حينما تفكر هذا التفكير فأنت ذليل ، فأنت في الوحل ، وقد بذلت ماء وجهك ، ولا يمكن لإنسان مؤمن أن ينافق ، لماذا ينافق ؟ علاقته مع الله ، مصيره بيد الله ، الله عز وجل هو الرزاق ، وهو المحيي ، وهو المميت ، وانتهى الأمر ، إذاً : طبيعة الإيمان بخالق عظيم ، ورب حكيم ، ومسيّر كبير ، وطبيعة الإيمان بلا إله إلا الله ، تمنحك عزةً ، والمؤمن عزيز ، لا يضطر أن يتملق ، ولا يمدح مدحاً كاذباً ، ولا ينافق ، ولا يداهن ، ولا يذلّ ، ولا يخنع ، الخنوع والتذلل والضعف والنفاق والتملق هي صفات المشركين ، صفات المنافقين ، لذلك :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾
 
المعنى الثاني :
 
هناك شيء ثانٍ : الآن أنت حينما تستقيم على أمره تكون عزيزاً ، ودخلك كله حلال ، معك أدلة ، أما إذا كان الدخل حراماً فأنت تفقد شيئاً من عزتك ، يعني أول ملاحظة ، أول تفتيش ، تجد أن قلبك ارتاع ، ما دام في الدخل حرام ، ما دام لديك كذب ، ما دام عندك تدليس ، وتزوير ، ونفاق ، وسعر خُلَّبي ، وسعر حقيقي ، وهناك محضر ضبط شكلي مادام هناك لعب ، وخوف ، وتذلل ، فإذا كشف الإنسان خطأ الآخرين يصيرون عبيداً له ، أرجوك يا سيدي ، من أين جاء ضَعفُك ؟ من أين جاء تذللك ؟ من انحرافك ، فمن هو العزيز ؟ هو الموحد ، من هو العزيز ؟ المستقيم ، لمجرد أن تستقيم فأنت عزيز ، لمجرد أن تكون موحداً فأنت عزيزٌ ، فالتوحيد يكسب العزة ، والاستقامة تكسب العزة .
المعنى الثالث :
 
وكذلك شيء آخر ؟ العمل الصالح ، يكسب العزة ، لمّا الإنسان يخدم الناس بحسب أمر الله عز وجل ، يخدمهم ، يعاونهم ، يبذل ما عنده من أجلهم ، والمؤمن له طبيعة ، يسمونها بالتعبير الحديث استراتيجية ، أساس حياته العطاء ، وليس الأخذ ، بينما الكافر أساسه الأخذ ، امتصاص دماء الناس ، أخذ أموالهم ، بالحق أو بالباطل ، استهلاك جهودهم ، يريد مَن يخدمه دائماً ، أهل الدنيا يستهلكون جهود الناس ، يستهلكون أموالهم ، يعيشون على أنقاضهم ، المؤمن عكس ذلك ، أساس حياته العطاء ، يا من جئت الحياة فأعطيت ، ولم تأخذ ، والمؤمن إذا صح التعبير مركبة حياته على العطاء ، وما دامت حياته مركَّبة على العطاء فهو محبوب بين الناس ، موقر مبجل ، محترم ، يا داود ذكّر عبادي بإحساني إليهم ، فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها ، فإذا آمنت بالله ، ووحدته فأنت عزيز ، وأنت إذا آمنت بالله ووحدته ، واستقمت على أمره فأنت عزيز .
 
المؤمن المستقيم لا يؤتى من جهة المال والنساء :
 
إذا كان الشخص غير مستقيم ، وسافر إلى بلد أجنبي ، ثم زلّت قدمه فصوروه ، وأخذوا عليه وثيقة ، أمسكوا به من خوانقه ، أكثر الأشخاص يؤتون من زاوية النساء ، ومن المال الحرام ، المؤمن مستقيم ، محصن من جهة النساء بطاعة الله ، وغض البصر ، وعدم الخلوة ، ومحصن من جهة المال بكسبه الحلال ، مركزه قوي ، لا يضطر لأن يتذلل ، وكثير من أساليب القذرة جداً بدول أجنبية تفخخ الناس ، فإذا ذهب شخص مخلص لوطنه ، ويريد أن يخدمه يضعونه في مآزق ، يصورونه ، ويعرضون عليه الصور ، والنسخة الثانية عندهم فتجده انتهى واستسلم ، ولا يقدر أن يفعل شيئاً ، من أين جاء تذلّله وخنوعه ؟ من هذه الصور التي أخذوها عليه ، أما المؤمن فلا يسمح لأحد أن يدفعه إلى معصية ، استقامته في كسب المال ، وفي شرف علاقاته بالنساء سبب عزته ، وليس عنده مشكلة ، لا يشرب الخمر مثلاً ، والذي يشرب حينما يثمل يتكلم بأشكالٍ وألوانٍ مذهلة ، وبكلام غير معقول ، يكشف أسراراً ، ويحكي سقطات ، ويحكي مخازي ، ومغامرات قذرة ، في ساعة السكر يحكيها كلها ، فأين مكانته صارت ؟ لقد ضاعت عزته ، ومن أين تأتي العزة ؟ تأتي من معرفتك بالله ، من التوحيد ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ، الله الغني ، وتأتي العزة من طاعة الله عز وجل ، ليس عندك مآخذ ، ما لأحد عليك من مأخذ ، لست أسيراً لواحد له عليك مأخذ ، دخلك حلال ، عملك شريف تعمل في رابعة النهار ، تعمل تحت ضوء الشمس والقمر ، ما عندك شيء مخفي، ليلك كنهارك ، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ يَقُولُ :
(( وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ، قَالَ : قَدْ
 
 تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا ، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ )) .
[أخرجه ابن ماجه]
انتبه ثم لاحظ ؛ يأتي الذل من الشرك ، ويأتي الذل من النفاق ، ويأتي الذل من الكذب ، ومن التدليس ، ويأتي الذل من المعصية ، من كسب المال الحرام .
ذات مرة سمعت قصة ، أن رجلاً زار صديقه ، ويبدو أن لصديقه أخت ، وحدثت مشكلة ، وموقف حرج ، يقول : إني بقيت سنتين أو ثلاثاً ، كلما استعرضت هذا الموقف شعرت أنني صغير ، وأحياناً الإنسان يحتقر نفسه ، احتقاره لنفسه أشد من تعذيب الناس له ، هناك مواقف مخزية ، مواقف قذرة ، مواقف دنيئة ، فالمؤمن لأنه مستقيم مواقفه كلها مشرفة ، ليس عنده مركز ضعف في حياته ، ما من أحد يهدده لأنه مستقيم ، أما لو كانت له انحرافات ، له مداخلات ، له أساليب ملتوية مع الناس ، دائماً هو عرضة للتهديد ، وعرضة لانكشاف أمره ، أين عزته وكرامته ؟ ذهبت ، فلذلك عين الكرامة الاستقامة ، لماذا قال الله عز وجل :
﴿ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾
إذا آمنت بالله كنت عزيزاً ، وإذا استقمت على أمره كنت عزيزاً ، وإذا عملت الصالحات أحبك الناس فعظموك ، فكنت عزيزاً ، وإذا اتصلت بالله ، فذقت حلاوة القرب ، استغنيت عن مديح الناس لك ، فكنت عزيزاً ، إذا كان عند الإنسان خواء روحي ، عنده جفاف روحي ، أحب أنه يسعد بالناس ، والاستئناس بالناس من علامات الإفلاس ، لمّا يصير للإنسان صلة بالله عز وجل يستغني بها عن الناس ، يستغني بها عن سقطاتهم ، عن اللقاء بهم لقاء ساذجاً ، وسخيفاً ، لقاءاته كلها تكون مثمرة .
أنا أعطي تحليلاً دقيقاً ، حينما تؤمن فأنت عزيز ، وَحَّدْت ، لا تخاف في الله لومة لائم ، لا تنافق ، لا تكذب ، لا تدلس ، لا تتملق ، لا تخنع ، لا تخضع لما استقمت فما عليك مأخذ ، رافع الرأس دائماً ، يمكن أن تحمل حاجتك بيدك ، فما تأتي العزة بمركبة ، ولكن تأتي العزة من شرف ، من استقامة ، قد تكون فقيراً وتحمل الحاجة بيدك ، وأنت رافعٌ رأسك ، وقد تكون في أعلى درجات الغنى ، لكن الدخل مشبوه ، فأنت ذليل .
إذاً : الإيمان بالله ، الاستقامة على أمره ، والعمل الصالح والاتصال بالله عز وجل ، تُكسب الإنسان عزة :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ﴾
        هذا كلام رب العالمين ، بشكل واضح جلي بسيط ، يا عبادي ، أحبوا العزة والكرامة والشأن والمكانة ، وقد يُردّ الإنسان إلى أرذل العمر .
 
﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾
(سورة النحل : 70)
 
إياكم والعزة الموهومة :
 
أحياناً يبني عزة موهومة في شبابه على الباطل ، فربنا يُدَّفِعُه الثمن باهظاً ، قد يُذله أقرب الناس إليه ، قد تذله زوجته ، لو فرضنا واحداً أصيب بفالج ، ففي أول أسبوع العناية فائقة ، الأسبوع الثاني العناية أقل درجة ، بعد شهر ، بعد شهرين ، بعد سنة تتدنى العناية ، بقي ثماني سنوات طريح الفراش ، ينظفونه ، ثم صاروا يسمعونه كلمات قاسية ، الله يخلصنا منك ، يسمعونه هذه الكلمات ، الله يخفف عنه ، أقرب الناس له ، تزوجت زوجته بعد وفاته ، ثم أخذ منها البيت ، فلما يبني الإنسان عزته على الباطل ، يدفع الثمن باهظاً ، أما الإنسان الذي بنى شبابه في طاعة الله ، فيكون خريف عمره متألقاً دائماً ، يزداد عزة وشأناً  وكرامة .
 
﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾
 
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
 
العمل الصالح يرفه الإنسان :
 
الكلم الطيب ، الكلام الذي فيه دعوة إلى الله ، دعوة إلى العمل الصالح ، دعوة للاستقامة ، وتعريف بالله ،هذا  الكلام الذي تقطف ثماره طيبة  لكن هناك كلام خبيث ، هناك كلام طيب ، فكل كلمة طيبة أودت إلى عمل صالح ، أو إلى معرفة بالله ، أو إلى طاعة ، أو إلى إصلاح ذات بين أو إلى نشر الخير ، هذا كلام طيب ، فالكلام الطيب يصعد إلى الله ، لكن الذي يرفعك إلى الله هو عملك الصالح ، تكلم ما شئت ، تعلموا ما شئتم ، فوالله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم ، الكلم الطيب يصعد إليه ، لكن الذي يرفعك إلى الله هو عملك الصالح .
 
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
(سورة الأنعام : 132)
تكلم ما شئت ، تفلسف ما شئت ، مهما كان الكلام طيباً ومنمقاً وعظيماً ، لا قيمة له إلا إذا طبق في الحياة اليومية ، ومهما كان السامع أديباً ومصغياً ، ولا همسة ، لا قيمة لاستماعه ما لم يكن التطبيق واضحاً ، لا قيمة لكلامي إن لم أطبقه فيما بيني وبين الله ، ولا قيمة لاستماعكم إن لم يترجم إلى عمل ، هذا كلام مختصر مفيد  ، وفروا أوقاتكم ، لا المتكلم يفلح عند الله إن لم يطبق ، ولا المستمع يفلح إن لم يطبق ، يبقى الحديث كلاماً :
﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾
شيء جميل  كلامك طيب ، لكن أين التطبيق ؟
 
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
(سورة الصف : 2 ـ 3)
 
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾
 
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
 
وبعد فالمشكلة ، أنه بخطط ، يدبر ، يمكر لإطفاء الحق ، يبذل الأموال الطائلة ، والجهود ، ثم يخفق ، ويعذب .
أحياناً الإنسان يعمل عملاً ما ليحقق مصلحة ، فتفوته المصلحة ويعاقب ، شخص جاهل ، بلغه أنه إذا قلع أسنانه كلها يعفى من الخدمة الإلزامية ، ذهب لأول طبيب والثاني والثالث والرابع فما أحد رضي ، إلا واحداً رضي ، فخلع له كل أسنانه ، فلما فحصوه اعتبروه متحايلاً للتهرب من الخدمة ، فجعلوا له خدمة مضاعفة ، فقَد أسنانه كلها ، وألزموه بخدمة مضاعفة ، فهذا مثل حاد .
﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾
ـعلى مكرهم ـ
﴿ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾
 لا يفلح ويدفع الثمن ، يعني يعذب عذاباً شديداً ، ولا يحقق هدفه هكذا .
 
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾
(سورة الأنفال : 36)
فالكافر يخسر كل شيء ، والمؤمن يربح كل شيء ، أبقوها ببالكم : مَن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، لا دنيا ولا آخره ، واحد أسس دار سينما ، وكل تخطيطه أنه يشتغل بشبابه فترة فيحصل على ثروة طائلة ، يتمتع فيها طوال حياته ، يقوم بسياحة حول العالم ، يسكن ببيت فخم ، ومركبة فارهة ، فأصابه مرض عضال ، سرطان بالدم ، في ريعان حياته بعد ما حصَّل ثروة دخل عليه رجل ، كان تلميذي سابقاً ، وصاحب السينما خاله ، قال لي : كان يبكي بكاء مراً ، لأن تخطيطه لم يتحقق ، كسب المعاصي والآثام ويعذب الآن عذاباً شديداً ، والأموال لغيره  فالمشكلة إذا ترك المرء طاعة الله عز وجل ، فحياته سلسلة إخفاقات ، سلسلة نكبات ، سلسلة مصائب ، سلسلة فشل :
 
﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾
 في الدنيا والآخرة ، وفي النهاية :
﴿ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
 
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب