سورة سبأ (034)
تفسيرالآية: (1)
الدرس (1)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الأول من سورة سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
1 ـ الناس يستوون في الإقرار بالنعم :
أيها الإخوة الأكارم ... ليست القضيَّة في هذه الآية قضية إثبات النِعَمِ أو نفيها ، لكن القضيَّة لمن تُنسَب هذه النِعَم ؟ لو أن أحداً أخذ بيدك إلى وليمةٍ عالية المستوى ، وتذوقت أطيب الطعام ، تسأله : من صاحب الدعوة ؟ الأكل نفيس ، الإكرام بالغ ، تريد أن تعرف من صاحب الدعوة لتشكره ، النعم التي أكرم الله بها الإنسان ؛ المسلم وغير المسلم ، الكافر ، والجاحد ، نعمة الوجود ، نعمة الزوجة ، نعمة الحواس ، نعمة الكون ، نعمة دقائق ما في الكون ، هذه نِعَمٌ يَنْعُمُ بها كل الناس ، لا شكَّ فيها ، ولا خلاف عليها ، ولا تردد في تصديقها ، بأن هذه نعم أو ليست بنعم ، أو هذه نعم عظيمة أو ليست عظيمة ، لا ، فقد أجمع بنو البشر على أنهم متمتِّعون ، متنعمون بنعمٍ لا تُعدُّ ولا تحصى ، بل إنَّ أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان استمتاعاً بهذه النِعَم ، كل شيء درسوه ، ودقَّقوا فيه ، واستفادوا منه ، وحَسَّنوه ، حتَّى أصبحت الدنيا عند هؤلاء في أعلى درجاتها ، وفي أجمل مظاهرها ، وفي أعلى زينتها ، بل إن الله سبحانه وتعالى أثبت لأهل الكفر أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا .
ويستوي في التنعُّم بهذه النعم كل إنسان ؛ عالماً كان أو جاهلاً ، غنياً أو فقيراً ، بدليل أن الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به ، فأنت قد تشتري جهازا بالغ التعقيد ، وتستفيد منه بالغ الفائدة، وتنعم به ، ولا تفقه شيئاً عن طريقة تشغيله ، أو عن آليَّة عمله ، أو عن مبدأ عمله ، وقد يشتري إنسان يجهل كل شيء أغلى سيَارة ، ويركبها وينتفع بها ، ولا يدري كيف صُنِعَت ، ولا كيف صُمِّمت ، ولا كيف رُكِّبَت ، ولا على أي مبدأٍ عَمِلَت ، لذلك قالوا : الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به ، قد تشتري جهاز تكييف ، وتنتفع بتعديل الجو من دون أن تفقه مبدأ عمله .
إذاً الناس جميعاً ؛ في كل زمان وفي كل مكان ، من كان منهم عالماً أو جاهلاً ، ذكياً أو غبياً ، قوياً أو ضعيفاً ، متعلِّماً أو جاهلاً ، يستوون جميعاً في هذه النِعَمِ ، والدليل إذا حدث خللٌ في العين فإن أيّ إنسان يبادر إلى الطبيب ، وهو يقلق قلقاً لا حدود له ، معنى هذا أن العين نعمةٌ كبيرة ، إذا حدث تشويش في السمع تبادر إلى الطبيب ، إذا حدث مولود مشوَّه لا تنام الليل ، إذاً ما دامت الأمور منتظمة فأنت في نعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى .
المشكلة ليست أن نقنعك بأن هذه نِعَم ، إنها نعمٌ تعرفها بالفطرة ، المشكلة ليست أن نقدِّر لك مستوى هذه النِعَم ، إنك تعلم علم اليقين أنه لا شيء يعوِّض النعم التي أودعها الله فينا .
فهذا الذي أسنانه الأصليَّة في فمه كالذي يضع أسناناً اصطناعيَّة ؟ فرقٌ كبير بينهما ، هذا الذي يضع على رأسه شعراً مستعاراً كالذي برأسه شعرٌ كثيف ؟ هذا الذي يستخدم جهازاً للتنقُّل كالذي يستخدم رجلين ؟ فالشيء الذي أودعه الله فينا لا يقدِّر بثمن ، والدليل أن كل واحدٍ مستعدٌ بكل تأكيد من دون تردُّد أو تحفّظ أو دراسة أن يدفع كل ماله من أجل استمرار حياته ، أن يدفع كل ماله من أجل استرداد بصره ، أو إصلاح كليته ، أن يدفع كل ماله من أجل صمَّامٍ بقلبه .
إذاً : موضوع النعمة لا يختلف فيها اثنان ، ليست محل خلاف ، فقد كنت مرَّةً أنظر إلى أناسٍ مدعوين من شتَّى الملل ، والنحل ، والاتجاهات ، والمذاهب ، والمشارب ، وكنت أعجب أن كلهم يستمتعون بهذا الطعام ، مع أن لهم منطلقات متباينة ، وأفكاراً مختلفة ، ومشارب متعدِّدة ، وانتماءات متباعدة ، ومع ذلك هذه النِعَم يقذفون بها ، أثنوا على هذا الطعام .
قد تستمتع بمنظر جميل ، وبهواءٍ طلقٍ مُنعش ، قد تستمتع بكأس ماءٍ عذبٍ زلال أنت وغيرك ، ولا خلاف عليه أبداً ، نحن جميعاً بحاجة إلى الأمطار ، وها نحن نشكر الله عزَّ وجل على هذه الأمطار الغزيرة ، الناس كلٌّهم مرتاحون بهذه الأمطار .
قرأت البارحة خبراً : أن ما نزل من الأمطار في محافظة ريفدمشق ستة أمثال ما نزل في العام الماضي لهذا التاريخ ، إذاً : أتمنى عليكم بادئ ذي بدء أن نفهم دقة هذه الآية ، وهي في الحقيقة في أول الفاتحة.
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
(سورة الفاتحة )
2 ـ اختلاف الناس في نسبة هذه النعم :
النعم ثابتة ، متَّفق عليها ، لا خلاف عليها ، لا شكَّ فيها ، لا تردُّد في قبولها ، لكن لمن هذه النعم ؟ هنا الافتراق ، فالمؤمن يرى المنعم وهو الله سبحانه وتعالى ، وغير المؤمن إما أن يرى جهده ، أو ذكاءه ، أو سعيه ، أو فلان أنعم عليه ، من شأن الكفر أن تعزو النعمة إلى غير المنعم ، لهذا ورد في الحديث القدسي :
((إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري )) .
[الجامع الصغير عن أبي الدرداء بسند ضعيف]
(( خيري إلى العباد نازل ، وشرُّهم إليَّ صاعد ، أتحبَّب إليهم بنعمي ، وأنا الغنيُّ عنهم ، ويتبغَّضون إليَّ بالمعاصي ، وهم أفقر شيءٍ إليّ )) .
[ورد في الأثر]
إذاً : حينما تقرأ قوله تعالى في أول سورة سبأ :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
فيجب أن تعلم علم اليقين أنه لا خلاف على النعم ، ولا خلاف على ما نحن فيه من نعمٍ لا تعدُّ ولا تحصى ، لكن القضيَّة لمن تعزو هذه النعم ؟ إن عزيتها إلى صاحبها فأنت على حق ، وأنت المؤمن وربِّ الكعبة ، وإن عزوتها إلى غير صاحبها فهذا هو الكفر ، والجحود ، والجهل ، جهل مع كفر مع جحود ـ (( أخلق ويُعْبَد غيري ، وأرزق ويُشْكَر سواي )) .
خيار الإيمان خيار وقتٍ :
قلت لكم مرَّةً في دروسٍ سابقة : قضية الإيمان ليس أن تؤمن أو أن لا تؤمن ، لا ، قضية الإيمان متى تؤمن ؟ لأنه لابدَّ من أن تؤمن عند الموت ، لأن أكبر كفَّار الأرض الذي قال :
﴿ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى ﴾
(سورة النازعات )
حينما جاءه الموت قال:
﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾
(سورة يونس)
متى يجب أن تؤمن ؟ إما أن تؤمن فيالوقت المناسب ؛ أو في الوقت غير المناسب ، إما أن تؤمن قبل فوات الأوان ؛ أو بعد فوات الأوان ، هذه هي القضيَّة ، والآن هذه النعم ، من يجب أن تعزا له ، فأنت في صحَّةٍ جيِّدة أتعزوها إلى بنيتك القويَّة التي ورثتها عن والديك ؟ هذا الكلام كُفر ، أتعزوها إلى عنايتك البالغة في طعامك وشرابك ؟ هذا الكلام كفر ، أتعزوها إلى التدريبات الرياضيَّة القاسية التي تجريها كل يوم ؟ هذا الكلام كفر ، لا يمنع أن تعتني بصحَّتك ، ولا يمنع أن تجعل لكل شيءٍ حظُّه من عنايتك ؛ ولكن المشكلة أن تظنَّ أن هذه القوَّة ، وهذا النشاط ، وهذا التفكير السديد هو من عندك ، ماذا قال قارون ؟ قال :
﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾
(سورة القصص : من الآية 78)
النبي عليه الصلاة والسلام حينما عاتب الأنصار الذين وجدوا عليه في أنفسهم قال :(( أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا ـ ما قال : فهديتكم ـ قال : فَهَدَاكُمْ اللَّهُ )) .
[ أحمد عن أبي سعيد الخدري ]
لأن صاحب النعمة هو الله .
3 ـ شكرُ الناس على معروفهم لا ينافي عزو النعم إلى الله :
إذاً : الكلمة الأولى والأخيرة في هذه الآية :أن النعم كلَّها ؛ جليلها وحقيرها ، كبيرها وصغيرها ، عاجلها وآجلها ، ما كان منها مادياً ، وما كان منها معنوياً ، إنَّ كل هذه النعم نعزوها إلى الله وحده ، وإذا شكرت إنساناً لقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ )) .
[الترمذي عن أبي هريرة ]
فللأسباب التالية : لأن هذا الإنسان مخيَّر ، وهو باختياره أراد أن ينفعك ، من الذي سمح له ؟ من الذي خلقه ؟ من الذي ألهمه ؟ من الذي سمح له ؟ من الذي وجَّهَهُ نحوك ؟ هو الله عزَّ وجل ، إذاً إذا أسدى إليكَ إنسان معروفاً فالشكر بالدرجة الأولى لله عزَّ وجل ، ثم ـ لا تقل و لأنها شرك ، أما ثم إيمان ـ ثمَّ لهذا الإنسان الذي سيقت إليكَ النعمة عن طريقه، لذلك الشكر لله أولاً ، وعندما نزلت للسيدة عائشة آيات براءتها، توجَّهت إلى الصلاة ، ولمَّا دُعيت إلى أن تشكر النبي عليه الصلاة والسلام قالت : " والله لا أشكر إلا الله " ، فالنبي لم يتأثَّر قال : (( عرفت الحقَّ لأهله )) .
[ ورد في الأثر ]
فلذلك :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
إذاً : أنت لأنك موجود ، وصاحب هذه النعمة هو الله ، هذه نعمة الوجود ، جاءتك عن طريق والديك ، إذاً :
﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
(سورة النساء : من الآية 36 )
نعمة الإمداد ؛ هذا الهواء من الله ، نعمة الماء ، نعمة الطعام والشراب ، نعمة العقل ، نعمة الحركة ، نعمة السمع ، نعمة البصر ، نعمة البيان ، نعمة الأعضاء ، لك بيت ، لك مأوى ، لك أهل ، لك أولاد ، نعمة الأم والأب ، ترتيب ربنا عزَّ وجل يأخذ بالألباب ، هذا الطفل الصغير جعله محبَّباً عند والديه ، يعملان من أجله ليلاً ونهاراً :
﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾
(سورة طه : من الآية 39 )
أي لولا أني أودعت في قلب أمِّك وأبيك هذا العطف والحنان لما عشت ، فإذا رأيت الناس يحبونك فاعلم أن الله أودع فيهم هذا الحب ، ولو نزع الله هذا الحب لتخلوا عنك ، ولتخلَّى عنك أقرب الناس إليك ، فلذلك :
يُنادى له في الكـون أنَّا نحـبُّك فيسمع من في الكون أمر محبِّنا
***
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
نعمك ، كل نعمك ؛ الظاهرة والباطنة ، العاجلة والآجلة ، الكبيرة والصغيرة ، الماديَّة والمعنويَّة ، نعمة الإيمان ، هذا كلُّه يجب أن يُعزا لله عزَّ وجل ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
إذاً : أول فكرة ( الحمد لله ) ، القضيَّة في هذه الآية لمن نعزو النعمة ؟ الله عزَّ وجل يقول :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
للمنعم ، للخالق ، للمربي ، للمسيِّر ، للعظيم ، للملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، الغني ، القدير ، اللطيف ، الرحيم ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الرافع الخافض ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
يجب أن تعرف أن هذه النعمة من الله عزَّ وجل ، لذلك المؤمن في أثناء حديثه يقول : أنجزت هذا العمل ، والفضل لله عزَّ وجل الله فهو مكَّنني ، ليس هذا الكلام يقوله تقليداً ، ولكن هذا شعوره ، إذا أكل طعاماً طيباً يقول : الحمد لله الذي أطعمني فأشبعني ، وأسقاني فأرواني ، هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ، أية حركةٍ ، وأية سكنةٍ ، وأي شيءٍ تَنَعَّمَ به ، كانت تعظُم عنده النعمة مهما دقَّت .
4 ـ كيف أنت لو فقدتَ النِّعمَ ؟
طلب هارون الرشيد كأس ماء ، وكان في مجلسه أحد العلماء فقال له : مهلاً ، يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس لو منِعَ عنك ؟ وكان مُلكُ هارون الرشيد واسعاً لا تغيب عنه الشمس ، نظر مرة إلى سحابة في السماء فقال : اذهبي أينما شئتِ يأتني خراجك ، بلاده مترامية الأطراف ، يا أمير المؤمنين هذا الكأس من الماء بكم تشتريه إذا مُنِعَ عنك ؟ قال : بنصف ملكي ، قال : فإذا منع إخراجه ؟ قال : بنصف ملكي الآخر .
ما الإنسان لو توقَّفت كليتاه ؟ الإنسان إذا أفرغ مثانته هل يفكَّر أنه في نعمةٍ لا تقدَّر بثمن ؟ لو تعطَّلت كليتاه ، أو لو انخفض عمل الكليتين ، لو بقي بعض حمض البولة في الدم ، ماذا يفعل ؟ لو عجز عن الحركة ، وضعف التروية ماذا يفعل ؟ لو ضاقت شرايينه قليلاً ، كيف نوسِّعها ؟ كم من المال نحتاج كي نوسِّع هذه الشرايين ؟ لذلك المؤمن يعزو النعمة إلى الله عزَّ وجل .
في صحَّته ، الحمد لله الذي جعلني سليماً معافىً ، تحرَّك ، الحمد لله الذي أعطاني هذه القوَّة ، أخدم نفسي بنفسي ، مهما كنت لامعاً ، ذكياً، حصيفاً ، غنياً ، مقتدراً ، لو تعطَّلت هذه الحركة ، أول يوم الشراشف البيضاء ، العناية البالغة ، الخدمة بعد أسبوع ينزل مستواها ، بعد شهر تنزل ، بعد سنوات يتمنى موتك أقربُ الناس إليك ، أحبُّهم إليك ، أكثرهم إخلاصاً يتمنَّى موتك .
إذاً : إذا خدمت نفسك بنفسك ، فهذه نعمةٌ لا تقدَّر بثمن ، إذا تحرَّكت على قدميك من دون أن يحملك أحدٌ فهذه نعمةٌ لا تقدَّر بثمن ، فإذا تحرَّكت هل ترى أن هذه النعمة من الله ، فجلطة دماغيَّة تسبب شللاً ، يجب الذهاب إلى فرنسا ، شلل نصفي ، نقطة دم تجمَّدت في الدماغ ، لم يبق هناك حركة ، والدعاء النبويُّ الشريف :
" اللَّهُمَّ مَتِّعْنا بأسْماعنا وأبْصَارِنا وَقُوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا "
[ الترمذي عن ابن عمر ]
وعقولنا ، فإذا كان عقلك أصابه مسّ أو خلل ، أقرب الناس إليك يقابل أكبر إنسان من أجل أن يُسمَح له بالإقامة في مستشفى الأمراض العقليَّة ، تحتاج إلى واسطة ، لا يحتملك أحد في البيت ، بيتك ، أنت اشتريته ، وأنت رتبته ، وأنت زيَّنته .
لي صديقٌ له صديقٌ له منصبٌ رفيعٌ جداً في بعض الوزارات ، يحمل شهادة من دولة متقدِّمة ، دكتوراه ، ويحتل منصباً رفيعاً ، فقَدَ بصره ، في الأسبوع الأول مجاملات ، وفي الثاني مجاملات ، البريد إلى البيت ، بعد شهر أعفي من منصبه ، زاره صديقي ، فقال له : " والله يا فلان أتمنَّى أن أجلس على الرصيف وأتسوَّل ، وأن يردَّ الله لي بصري " ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
عقلك في رأسك ، ترى بعينيك ، تسمع بأذنيك ، تنطق بلسانك ، تتحرَّك برجليك ، الكلية تعمل ، المعدة تعمل ، الرئتان ، صمَّامات القلب سليمة ، الضغط جيِّد ، هذه نعمة الصحَّة لا يعرف قيمتها إلا من فَقَدها ، فلهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيت الخلاء كان يقول :
(( الحمد لله الذي أذاقني لذتهـ أي الطعام ـ وأبقى في قوته ، وأذهب عني أذاه )) .
[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]
الحمد لله ، فالمؤمن الصادق بصحَّته ، الحمد لله الذي عافاني ، الحمد لله الذي أعطاني ، الحمد لله الذي زوَّجني ، الحمد لله الذي آواني ، الذي وفَّقني ، الذي أرشدني ، الذي هداني ، الذي أكرمني ، لا ترى إلا الله ، لا ترى منعماً إلا الله ، لذلك قلبك ممتلئٌ بالحبِّ لله ..
هم الأحبَّة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهمُ معدلٌ و إن عدلوا
والله وإن فتَّتوا في حـبِّهم كبدي باقٍ على حبِّهم راضٍ بما فعـلوا
***
1 ـ قلَّة من الناس مَن يعرف حقيقة النعم :
هذا حال المؤمن ، حال حمد ، حال امتنان من الله عزَّ وجل ، أول هذه النعم نعمة الوجود ، وثاني هذه النعم نعمة الإمداد ، خلق الهواء ، وخلق الرئتين ، خلق التفَّاحة ، وخلق جهاز الهضم ، فتعطُّل البنكرياس في إفراز الأنسولين سبَّب متاعب كبيرة جداً ، يحتاج إلى أنسولين يومياً بشكل حقن ، ويحتاج إلى دواء معيَّن ، ومراقبة التحليل باستمرار ، إذا ارتفعت نسبة السكر أكثر من ثلاثمئة فهناك خطر على حياته ، خطر فقدِ بصره ، هذه نعمة أن النِسَب في الدم صحيحة ، كذلك هذه نعمة لا نعرفها .
ماذا لو انحرفت الشمس عن مسارها ؟
قلت لكم مرَّةً : هذه الأرض تدور حول الشمس ، لأن دورانها ثابت نحن قد لا نحفل بهذه النعمة ، أما لو خرجت عن مسارها ، وتاهت في الفضاء الخارجي ، لدخلت في الظلام التَّام ، ومع الظلام التام الصفر المُطلق ، ومعنى الصفر المطلق ، أي مائتي وسبعين درجة تحت الصفر ، انتهت الحياة من على سطح الأرض .
كيف نستعيدها إلى دورانها حول الشمس ؟ نحتاج إلى مليون مَليون حبل فولاذي ، قطر الحبل خمسة أمتار ، في حين أن الفولاذ يتحمَّل قِوى الشد في كل ميليمتر مئتي كيلو ، الحبل خمسة أمتار يتحمَّل مليوني طن ، نحن بحاجة إلى مليون مَليون حبل ، يتحمل قوة شد مقدارها مليونين ، إذاً : مليون مَليون ضرب مليونين ، هذه قوَّة جذب الشمس للأرض ، وهذه القوة تجعل الأرض في مسارها حول الشمس تنحرف ثلاث مليمترات كل ثانية ، فتبقى الأرض مع الشمس ، هذه نعمة نحن لا نعرفها ، نحن في غفلةٍ عنها ، نحن نفرح بالأمطار ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾
(سورة فاطر : من آية 41)
معنى تزول أي تنحرف ، أي إذا خرجت هذه الأرض عن مسارها ماذا نفعل ؟ ليجتمع بعض أهل الأرض ، وليتخذوا قراراً بإعادتها إلى مسارها ، مثلهم كمثل نملة رأت قاطرة خرجت عن سكَّتها ماذا تفعل ؟ ماذا عندها من القدرة كي تعيد هذه القاطرة إلى السكَّة ؟ لا شيء ، فهذه النعم ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
يجب أن ترى هذه الأمطار بتقدير عزيزٍ حكيم ، بتقدير رحمنٍ رحيم ، ستة أمثال ما هطل في العام الماضي ، المياه الجوفيَّة أصبحت مقفرة ، معظم الينابيع غارت في العام الماضي ، معظم الأنهار جَفَّت ، المخزون المائي انخفض أمتارا كثيرة ، وأصبحت الأراضي عطشى ، ولا أمل ، حتى جاء إمداد الله عزَّ وجل ، فالمؤمن لا يقول لك : منخفض جوي متمركز فوق قبرص باتجاه القطب ، لا ، الحمد لله رب العالمين على نعمة الأمطار ، على نعمة الصحَّة ، على نعمة الأهل ، على نعمة المأوى ، المؤمن حالته دائماً حمد .
إذاً الآية الأولى : القضيَّة ليست إثبات نعمة أو عدم إثباتها، النعمة ثابتة عند أهل الأرض كُلِّهِم ، ولكن القضيَّة لمن تعزو هذه النعمة؟
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
يجب أن تعزوها إلى الله ، وفي أية لحظةٍ تعزو بها هذه النعم إلى غير الله فقد وقعت في الكفر والشرك معاً ، في الكفر لأنك جحدتها ، وفي الشرك لأنك اتخذت من دون الله نِدًّا ، وهذا الشيء الذي اتخذته من دون الله لا وجود له ولا أصل له ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
الذي اسم موصول ، في محل جر صفة لله ..
﴿ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
1 ـ الكون بيد الله :
أضرب مثلاً : لو فرضنا مديرية ذات شأن ، والناس تتعلَّق كل مصالحهم بها ، وقد تسلَّمها رجل صالح ، حازم ، تقي ، مستقيم ، عادل ، رحيم ، تشعر براحةلا حدود لها ، الأمور بيد فلان ، فلان رائع ، صاحب مروءة ، ورِع ، يخاف الله عزَّ وجل ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، يحب أن يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه ، لا تنفع معه الشفاعة ، ولا أي شيء آخر ، ألا تشعر بالراحة إذا علمت أن هذه المدرسة مديرها فلان ، وابنك فيها ؟ إذا علمتأن هذه المستشفى مديرها فلان ، وفلان تقي ، ونقي ، وورع ، وصالح ، ومستقيم ، والأمور منضبطة ، وحازم .
ولكن ..
﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى ﴾
( سورة النحل : من الآية 60)
﴿ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
مرَّة قال لي صديق ـ أعجبتني هذه الكلمة ـ قال لي : الحمد لله على وجود الله ، والله شيء جميل ، لأن الله يعلم ، لا تحتاج لوصل معه ، لا تحتاج ليمين ، لا تحتاج لإيضاح ، لا تحتاج لبيان ، لا تخاف أن العمل لم ينجز بعد ، فعلاقتك ليست مع شخص ، قال لي موظَّف : أداوم ست ساعات ، ثماني ساعات دواماً متقناً دؤوباً ، مرَّة رآني المدير خارج دائرة الطاولة وبَّخني ، فتركت الدوام المتقن ، صعب أن تربط نفسك مع إنسان ، الإنسان لا يعلم ، لأنه بشر ، أما الله عزَّ وجل فيعلم كم دفعت ؟ ولمن دفعت ، وحجم المبلغ ، والتضحية ، وكون المبلغ من مال حلال ، كله يعرفه ، فقال لي : الحمد لله علىوجود الله ، نعم والله ، حتَّى في خصومتك مع الناس الله هو الحق ، فإذا كنت مع الله لا تخف ، واطمئن ، هو الحق ، وهو الذي يحقُّ الحق ، وهو الذي يظهر الحق ، وهو الذي يدافع عن الذين آمنوا ، وهو الذي يدحض الباطل ، الله هو الحق ، هو الرحيم ، هو العادل ، الحمد لله على وجود الله .
فهذه السماوات والأرض أي الكون ، الحمد لله الذي له ، لو أنها لغيره ؟ والله هذه مشكلة ، وما لك طريق له ، قرَّب أناساً دون أناس ، الله عزَّ وجل عندهميزان :
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
(سورة الحجرات : من الآية 13)
كلُّنا لآدم ، وآدم من تراب ، الناس كلُّهم سواسية كأسنان المشط ، الخلق كلُّهم عيال الله ، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله ، لا أبيض ولا أسود ، لا كبير ولا صغير ، لا ذكي ولا غبي ، لا متعلم ولا جاهل ، كلُّنا عند الله سواسية نتفاضل بالتقوى ..
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
إذا كان هذا الكون تابعاً لغير الله عزَّ وجل ، فلان له جماعته مثلاً ، قرَّب أناساً ، وأبعد أناساً ، له مقاييس أخرى لكانت الطامة الكبرى ، لكن ربنا عزَّ وجل كلُّنا عباده ، أنت اعمل عملاً صالحاً فقط ، وعلى الله الباقي ، يسمع دعاءك ، يسمع ابتهالك ، يسمع رجاءك ، يرى عملك ، يرى إخلاصك ، يرى حبَّك ، يرى طاعتك له ، يرى إحسانك للخلق ، يرى إتقان عملك ، أحياناً إنسان يكلِّفك بعمل تتقنه ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل ، فهو يرى ، أما صاحب العمل فتقول له ، هنا في قطعة وضعناها زيادة تقوية ، هنا عملنا لك هذا زيادة ، لأن فيه فائدة كبرى ، هنا عملنا لك الخشب الفلاني ، لأن الشخص العادي لا يعرف قيمتها فيجب أن تبيِّن له ، أما ربنا فيعرف كل شيء ، إذا أتقنت عملك يعرف كل شيء ، يعرف نصحك للمسلمين ، يعرف إخلاصك لهم ، يعرف حبَّك لهم ، كلُّه يعرفه ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾
2 ـ الكون ملكٌ لله خَلقاً وتصرّفاً ومصيراً :
قال بعض المفسِّرين : هذا الكون ـ فكلمة الكون أو العالَم ـ التعبير القرآني لها السماوات والأرض ، حيثما وردت كلمة السماوات والأرض في القرآن تعني في المصطلح الحديث العالَم ، أو الكون :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
أما كلمة ( له ) فله خلقاً وتصرّفاً ومصيراً .
للتوضيح : أحياناً تملك بيتاً ، ولست منتفعاً به ، تملكه ، ولكن لا تستطيع الانتفاع به ، والتصرف فيه ، فأنت مستأجر البيت ، وأحياناً تنتفع بالبيت ، ولا تملكه ، لأنك مهدَّد بأي قرار يخرجك منه ، تملك ولا تنتفع ، أو تنتفع ولا تملك ، تملك ، وليس لك حقُّ التصرُّف ، أو تتصرَّف ، وليس لك الملك ، أحياناً تملك وتتصرَّف ، وقرار تنظيم يلغي لك البيت كله ، ليس لك المصير ، المصير بيد آخرين ، جئت بهذا المثال للتوضيح ، فأكمل أنواع المُلْكِيَّة ؛ الخلق ، والتصرُّف ، والمصير ..
﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(1)الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(3)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ﴾
(سورة الفاتحة )
وفي قراءة : مَالِك يوم الدين .
والحقيقة أنّ المالك هو الذي يملك ، ولا يحكم ، والمَلِك هو الذي يحكم ولا يملك ، والمَلك والمالك يملك ويحكم ، فلذلك :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ﴾
3 ـ معرفة أن الكون ملكٌ لله يبعث بالراحة :
إذا كانت علاقتك بمديرية علاقة متينة ، ويمكن أن يوقع بك موظَّفوها إيذاء كبيراً ، ثمَّ بلغك أن هذه الدائرة تسلَّمها فلان ، وفلان في أعلى درجات النزاهة ، والورع ، والاستقامة ، والرحمة ، ترتاح راحة لا حدود لها ، هذا المثل المُقَرِّب للفكرة ، فهذا الكون بيد الله عزَّ وجل ، هو الذي خلقه ، وهو الذي يتصرَّف فيه وإليه مصيره ، الخلق ، والتصرُّف ، والمصير ، ثلاث صفات مجتمعه تمثِّل أعلى درجات المُلْكِيَّة ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
لكن يجوز أن ترى في الدنيا قوياً وضعيفاً ، فقيراً وغنياً ، حاكماً ومحكوماً ، ظالماً ومظلوماً ، مقتدراً وضعيفاً، ذكياً وغبياً ، وسيماً وقبيحاً ، صحيحاً ومريضاً ، قد تجد في الدنيا أن هذه الحظوظ موزَّعة توزيعاً متفاوتاً جداً ، لكن في الآخرة تُسَوَّى كل الحسابات ، ويجزى كل إنسانٍ بعمله ، فالله عزَّ وجل كما أن :
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾
القوة البلاغية في القرآن الكريم :
هذه الآية فيها احتباك ، ظاهرة بلاغيَّة رائعة ، هناك غي أول قسم شيء محذوف ، وفي آخر قسم شيء محذوف ، لكن إذا اجتمع القِسمان يكون المعنى كما يلي : الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض في الدنيا ، والحمد لله في الآخرة الذي له ما في السماوات وما في الأرض في الآخرة ، ففي الدنيا الأمور كلُّها إليه ، وفي الآخرة الأمور كلُّها إليه ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، لكن الحمد في الأولى لا يعرفه إلا المؤمن ، لأن المؤمن مُتَفَتِّح البصيرة ، إيمانه دلَّه على عظمة الله ، وعلى أسمائه الحسنى ، وعلى صفاته الفضلى ، المؤمن يرى في الدنيا أن يدَ الله فوق أيدي الناس ، أنه هو المتصرِّف ، هو المنعم ، هو المانع ، هو المُعطي ، هو النافع ، هو الضار ، هو الخافض ، هو الرافع ، هو المعز ، هو المُذل ، هو القابض ، هو الباسط ، هذا يراه في الدنيا .
لا تنقِم على عصا الضاربِ :
لكن غير المؤمن يرى الشركاء ، يرى زيداً وعُبيداً ، هذه كلها عصي بيد الله عزَّوجل ، المؤمن لا يرى العصا ، ولكن يرى من بيده العصا ، أما الكافر فيرى العصا .
تصوَّر طالبا ضربه معلِّمه ، فصبَّ كل نقمته على هذه العصا التي آلمته ، أليس هو بهذا الغضب والحِنق ضيِّق الفكر ؟ كل نقمته صبَّها على العصا هو ، مع أنها عصا لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، ولا تنفع ولا تضر ، لكنها آلمت هذا الطفل ، لأن الأستاذ سخَّرها لإيلام هذا الطفل ، الطفل الأذكى لا يتألَّم من العصا ، بل يتألَّم من الأستاذ الذي ضربه بها ، والأذكى من الاثنين يرى الأستاذ رجلاً رحيماً ، ورجلاً عالِماً ، لا مصلحة له في إيقاع الأذى به ، لابدَّ أنه ارتكب شيئاً يستحقُّ هذا العقاب ، إما عقاباً ، أو تأديباً ، أو وقايةً ، أو ردعاً ، إذاً ينقم على نفسه .
أول طفل صبَّ غضبه على هذه العصا ، أحياناً الطفل الصغير إذا وقع على الأرض وتألَّم ، تأتي الأم وتضرب الأرض فتشفيه من غيظه ، وتنزل إلى مستواه ، فعندما يتألَّم إنسان من إنسان معنى هذا أنه مشرك ، لا يوجد إلا الله عزَّ وجل ، هو سمح له أن يفعل كذا ، هو أطلقه ، أطلق لسانه أن يقول عنك كذا وكذا ، أطلق يده أن يفعل بك كذا وكذا ، فحينما تَصُبُّ نقمتك على إنسان فأنت لا تعرف الله ، وحينما ترى أن هذا الإنسان بيد الله عزَّ وجل ، هذا مستوى أرقى ، أما أرقى من هذا وذاك أن الله عزَّ وجل ..
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
(سورة النساء : من الآية 147)
أي أنا الذنب مني ..
((مَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
[ صحيح مسلم عن أبي ذر]
انتهى الأمر ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام في أحد أحاديثه الجامعة المانعة :
((لا يخافنَّ العبد إلا ذنبه ، ولا يرجونَّ إلا ربَّه )) .
[ ورد في الأثر ]
مشكلتك مع نفسك ـ ((مَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
فلذلك المؤمن يقول :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
4 ـ الحمد لله على كل شيء :
ما في السماوات وما في الأرض في الدنيا له ، ويُحْمَد على كل تصرُّفاته ، والآخرة له ويُحمد فيها على كل أفعاله بها ، والدليل : قضيَّتك مع الله منذ أن خُلِقت وحتَّى دخول الجنَّة ، ملخَّصة بكلمة واحدة ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
(سورة يونس)
والله أحياناً أرى بعض الإخوة الأكارم ، ويكون مصاباً بمشكلة ، والله أقول له : هذه الكلمات من أعماق قلبي ، أقول له : والله لو كُشِفَ الغطاء عن حكمة هذه المصيبة ، وعما فيها من الرحمة ، والعدل ، واللطف ، والإحسان ، والعلم ، والخبرة ، إن لم تذب كالشمعة يوم القيامة حبَّاً لله ، وخجلاً منه ، وامتناناً على هذه النعمة فهذا الدين باطل ، لأنه إله ، ولا إله غيره ، هو الوحيد في الكون ، بيده كل شيء ، اللهُ ما عنده غلط ، أنت تغلط ، أما الله عزَّ وجل فمطلق ..
((ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يغفر الله أكثر)) .
[ الجامع الصغير عن ابن عساكر عن البراء]
هذا الإيمان ، لذلك لكل شيءٍ حقيقة ، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتَّى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، تجد المؤمن من داخله مثل البحر ، كل شيء إلى خير ..
(( عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ ، لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ ، وَكَانَ خَيْرًا ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، وَكَانَ خَيْرًا )) .
[ مسند أحمد عن صهيب]
يرى يد الله فوق كل يد ، يرى نعمته الظاهرة في العطاء ، والباطنة في السَلْب ، وأكاد أقول : إن تسعين بالمئة من المؤمنين عرفوا الله ، وتابوا إليه ، واستقاموا على أمره ، وسعدوا بقربه ، بسبب مصيبةٍ أنزلها بهم ، فألجأتهم إلى بابه ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، فكم من رجلٍ شاردٍ تائهٍ عاد إلى الله عزَّ وجل إثر شبح مصيبة ، عاد إليه إثر مرضٍ شديد ، عاد إليه إثر افتقارٍ مدقع ، عاد إليه إثر فقد حريَّةٍ ، آلمه فقط ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، حتى إنه قيل : الحمد لله الذي لا يُحْمَد على مكروه سواه .
المؤمن لا مشكلة عنده ، لا عقدة نفسيَّة يعاني منها ، لا حقد في قلبه ، يرى أن كل البشر عصياً بيد الله ، الذي أحسن إليه منهم ، الله ألهمه وسمح له ، وجمعه معهم ، والذي أساء إليه منهم ، الله سخَّره تأديباً له ، حتَّى إن الإمام الشعراني رحمه الله تعالى قال : " أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي " ، هذه التي عندك في البيت ، إما أن تُلْهَم أن تكون مطواعة ، وإما أن تُلهم عكس ذلك ، فإذا آلمتك يوماً ، وأرضتك يوماً ، فأنت المُتَقَلِّب وليست هي ، هي ملهمة ، دعوها فإنها مأمورة .
القضيَّة قضية أن تعرف المنعم ، إذا عرفته ، وعرفت المسيِّر ، وعرفت الرب ، وعرفت الإله ، واستسلمت إليه ، دخلت فيما يسمى بالسعادة النفسيَّة ، دخلت فيما يسمى بالوحدة ، لا بالتبعثر ، دخلت فيما يسمى بالانسجام ، لا في التناقض .
الحياة فيها متناقضات ، فيها تبعثُر ، فيها تشتُّت ، لكن المؤمن مجموع ، اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها ، من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس ، من آثر آخرته على دنياه ربحهمامعاً ..
من أحبَّنا أحببناه ومن طلب منا أعطيناه ، ومن اكتفى بنا عما لنا كنا له ، من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ، عبدي كن لي كما أريد ، ولا تعلمني بما يصلحك ، أعرف ماذا تريد ، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك .. أنت تريد ، وأنا أريد ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد .
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾
أفعاله كلُّها حكيمة ، كل شيءٍ أراده الله وَقَعَ ، كل ما أراده الله وقع ، كل ما وقع أراده الله ، إرادته متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة ، حكمته متعلِّقةٌ بالخير المطلق ..
﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير ﴾
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير
المؤمن دائم الحمد ، لعلمه أن الله حكيمٌ خبير :
أيها الإخوة الأكارم ... صفة الحمد في المؤمن صفةٌ ثابتة ، بل إنها من سماته العميقة ، فمعنى مؤمن أي أنه إنسان حامد لله ، أروع كلمةٍ أسمعها من أخ كريم : كيف الحال ؟ الحمد لله ، أنا أعلم أنه قد يكون في ضيق مادي ، قد يكون فيه مرض ، قد يكون له مشكلة في البيت ، لكن كلمة الحمد لله يقصد منها أن الله هو المتصرِّف ، وهو الحكيم ، وهو الخبير ، وهو العادل ، وهو الرحمن الرحيم ، خلقنا ليسعدنا في الآخرة ، والدنيا مدرسة ، فنحن في مدرسة ، ونحن في طور المعالجة ، ونحن في العناية المشدَّدة ، فإذا قال لك أخ مبتلى : الحمد لله ، إنه عرف الله عزَّ وجل ، عرف أن الإنسان خُلِقَ للآخرة ، خُلِق لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض ، عرف أن هذه الدنيا دار عمل ، وليست دار نعيمٍ مقيم ، عرف أن هذه الدنيا دار ابتلاء ، وليست دار جزاء ، عرف أن هذه الدنيا دار تكليف لا دار تشريف ، عرف أن هذه الدنيا لا قيمة للحظوظ فيها ، القيمة لطاعة الله عزَّ وجل ، لقوله تعالى :
﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾
(سورة الأحزاب)
شعوره أنه على الخط الصحيح ، شعوره أن الله راضٍ عنه ، شعوره أنه في الاتجاه الصحيح ، شعوره أنه في الطريق إلى هدفٍ كبير ، هذا شعور مسعد ، لذلك :
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ )) .
[ سنن الترمذي عن أنس بن مالك]
قد تجد إنساناً عظيم الهيئة ـ والقصَّة المعروفة لديكم ـ دخل رجل على أحد العلماء ، وكان في رجله ألمٌ شديد ، فمدَّها ، وقد اعتذر من تلامذته ، دخل عليه رجل طويل القامة ، عريض المنكبين ، ذا هيئةٍ حسنة ، يرتدي عِمامة على رأسه ، وجُبَّة على ظهره ، فهذا الرجل العالِم ظنَّه رجلاً عظيماً ، فرفع رجليه ، واستحيا منه ، جلس عنده ، فالموضوع كان عن صلاة الفجر ، تحدَّث عن الفجر الصادق والكاذب ، وأحكام الصلاة ، والسُنَّة القبليَّة ، وما إلى ذلك ، فهذا الرجل الذي دخل المجلس نظر مليَّاً ، ثمَّ سأل ، قال : " يا سيدي ، كيف نصلي الفجر إذا طلعت الشمس قبل الفجرِ ؟ " ، قال له : " عندئذٍ أمدُّ رجلي " .
نعمة العقل نعمة كبيرة ، المؤمن قد يكون في ضيق مادي ، قد يكون عنده مشكلة في البيت ، ولد عاق مثلاً ، أو عنده زوجة متعبة ، في عمله متاعب مثلاً ، تجارة بائرة ، عنده مشكلات كثيرة ، لكن يرى أن الله سبحانه وتعالى خلقه لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض ، ما دُمْتَ على الطريق الصحيح فلا تخف ، ما دمت في رضوان الله فلا تخف ، فالعاقبة لك ..
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
(سورة الأعراف)
الأيام تدور ، ولا تستقر إلا على إكرام المؤمن ، فتأتي ساعة للمؤمن عند فِراق الدنيا لو جُمِعَت لذّات الحياة كلّها ، لو جُمعَت نعم الحياة كلّها لا تعدل هذه الساعة ، حينما يشعر أنه نجا من عذاب الآخرة ، وأنه استحقَّ الجنَّة وما فيها من نعمٍ عظيمة ، لذلك : " يا بني ، ما خيرٌ بعده النار بخير ، وما شرٌ بعده الجنَّة بشر ، وكل نعيمٍ دون الجنَّة محقور ، وكل بلاءٍ دون النار عافية " .
إن المؤمن إذا قلت له : كيف حالك ؟ يقول لك : الحمد لله ، والله حدَّثني طبيب ، قال لي : جاءنا رجل تبدو عليه ملامح الإيمان ، مصاب بمرض خبيث في أمعائه ، قال لي : والله يا أستاذ كلَّمادخلنا عليه رأينا وجهه يطفح بالبِشْر ، والثقة بالله ، والصبر ، وكلَّما دخل عليه زائر يقول له : اشهدْ أنني راضٍ عن الله ، يا رب لك الحمد ، قال لي : ما صرخ ، ولا رفع صوته ، ولا تأفَّف منه أحد ، بل أقسم لي إن أمعاءه فُتِحت خارج مكانها الطبيعي ، أي هناك كيس فيه غائط دائماً ، أقسم لي وقال : والله رائحة الغرفة تفوح بالعطر ، وإذا قرع الجرس يتهافت عليه الممرِّضون ليخدموه ، والأطبَّاء يكثرون زيارته ، انجذبوا لهذه الغرفة ، شيءٌ عجيب ، إنسان مصاب بسرطان بالأمعاء ، وآلام السرطان بالأمعاء لا تُحْتَمَل أبداً ، طبيب صديق لي في المستشفى نفسه ، قال لي : شيء عجيب ، لا صياح ، لا ألم ، هدوء ، وبشر ، نور بوجهه ، رضى بقضاء الله وقدره ، قال لي : ما هي إلا أيَّام حتَّى توفَّاه الله عزَّ وجل على أحسن حال .
قال لي : من غرائب الصُدَف ، ومن حكم الله عزَّ وجل أنه جاء الغرفة مريضٌ آخر بالمرض نفسه ، قال لي : ما ترك نبيَّاً إلا وسبَّه ، رائحة الغائط تملأ الغرفة ، لا أحد يُلَبِّيه ، أمام الممرضين والممرضات رأوا المرض واحد ، الآلام واحدة ، الخطر واحد ، الموت قريب ، رأوا من هو المؤمن ، ومن هو الكافر ، المؤمن راض بقضاء الله ، فحينما يأتيك شيءٌ لا يعجبك وتقول : الحمد لله ، مئة على مئة نجحت ، لأن سيدنا علي يقول : << الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين >> .
فالإيمان شيء عظيم ، شيء لا يقدَّر بثمن ، أنت مؤمن ، أي أنك ترى أن الفعل فعل الله عزَّ وجل ، وأن الله رحيم ، يده رحيمة ، يده قويَّة ، عادلة ، لطيفة ، هذا الإيمان .
هذا الدرس للتطبيق ، يجب أن يكون حالك حال الحمد دائماً ، فإن لم تكن كذلك فبينك وبين الإيمان مراحل فسيحة ، جدِّد إيمانك ، ما دام هناك نقمة ، وألم ، وعتاب على الله عزَّ وجل ، لماذا لم يعطني وأعطى فلاناً ؟ ما دمت بهذا الحال فبينك وبين الإيمان المُنجي مراحل طويلة ، أما الحد الأدنى لإيمانك فأن تحمد الله على كل شيء ، على كل حال ، النبي الكريم كان إذا جاءت الأمور كما يشتهي قال :
(( الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحاتُ )) .
[ابن ماجهعن عائشة ]
وإذا جاءت الأمور على غير ما يريد كان يقول:
(( الحَمْدُ لِلَّهِ على كلّ حال )) .
[ الجامع الصغير عن عائشة ]
المؤمن كلمة الحمد لا تفارق فمه ، بل إنها أول آية بالفاتحة ، الفاتحة تقرأها في كل ركعة ، أكثر من خمسين مرَّة ، بين الصبح والظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، وإذا كان هناك نوافل ، في كل ركعةٍ تقول : الحمد لله رب العالمين ، فلذلك الحمد سمة أساسيَّة من سمات المؤمن ، على السراء والضراء ، والمنشط والمكرم ، والزواج وعدم الزواج ، والغنى والفقر ، والإنجاب والعقم ، وصلاح الأولاد وفسادهم ، وزوجة جيِّدة ووسط وسيئة ، والدخل كبير وقليل ، والتجارة رابحة وخاسرة ، على كل حال ، في المنشط والمكره ، هذا المؤمن ..
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ﴾
(سورة الأحزاب)
فهذه الآية دقيقة جداً ، وبعد ذلك ما دام الله بيده ما في السماوات وما في الأرض ، الأمور كلها بيده ، الناس كلهم بيده ، من حولك كلهم بيده ، من فوقك كلهم بيده ، من دونك كلهم بيده ، من هم أقرب الناس إليك كلهم بيده ، هكذا ، والله يعلم كل شيء ، أجمل آية ما قاله سيدنا هود في قوله تعالى :
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
(سورة هود)
كل ما في الأرض من دواب الله آخذٌ بناصيتها :
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
فهذه الآية قصيرة لكن مفعولها كبير ، قصيرة ، وهي أحد أركان الإيمان ، قصيرة إلا أن تمثُّلها سمةٌ ثابتة من سمات المؤمن ، فلا تجد مؤمنًا ناقما ، ولا مؤمنا حاقدا ، ولا مؤمنًا ساخطا على الله ، ولا مؤمنا شاكًّا في رحمة الله ، مؤمنًا شاكًّا في عدالة الله ، فهو سبحانه عادل ، ورحيم ، ولطيف ، وحكيم ، وعليم ، والأمر كله بيده ، وما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك ..
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
(سورة هود من الآية 123)
البطل الذكي مَن يحسِّن علاقته مع الله قبل الموت :
وأمرك كله مع واحد ، أحسن علاقتك بالله وانتهى الأمر ـ عبدي رجعوا وتركوك ـ أول ليلة في القبر ، هذه صعبة ، من بيت فخمٍ ، رجعوا وتركوك ، لا بلاط ، ولا دهان ، لا تبريد ، ولا تدفئة ـ رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ـ الخروج من البيت ليس سهلاً ، إلا إذا كان للجنة ، إذا كان للجنَّة فلا شيء إطلاقاً ـ رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبقَ معك إلا أنا ـ أتعلمون من البطل ؟ هو الذي يحسن علاقته بالله قبل أن يموت ، لأنه عند الموت مع الله إلى الأبد ، موظَّف في مديرية ، وآخر معه أمامه ـ مثلاً ـ وبينهما علاقات طيِّبة إلى أقصى درجة ، وصار وزيره ، يدخل بلا إذن ، ويكون من ذوي الشأن عنده ، ما دامت العلاقات طيِّبة قبل أن يغدو وزيراً .
خاتمة :
وأنت في الدنيا إذا كانت معك علاقة مع الله عزَّ وجل ، جاء ملك الموت فأنت مع الله إلى الأبد ، وانحسر عنك كل شيء ، فأنت في سعادة ، اقرءوا سير الصحابة فإنكم تجدون هذا القاسم المشترك ، إنَّ أصحاب رسول الله أسعد لحظات حياتهم حينما يلقون ربَّهم ، فبين أن يكون الموت عُرْسَ المؤمن ؛ وبين أن يكون الموت نهاية كل شيء ، وبداية جحيم لا يحتمل ، لذلك الكافر ..
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)فَيَوْمَئذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾
(سورة الفجر)
المؤمن.
﴿ قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ ﴾
(سورة يس )
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابي(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِي(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
( سورة الحاقَّة )
هنيئاً لكم ، هذه البطولة :
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
***
كن من شئت ، الكون موجود ، والإله موجود ، والعقل موجود ، والشهوات قِوى دافعه ، والاختيار مثمَّن ، والفطرة ناصحة ، والشرع ميزان ، ماذا تفعل ؟ تعبد الله في عملك بإتقان عملك ، وبالنصيحة للمسلمين ، تعبد الله في بيتك ، في أولادك ، في جيرانك ، في من فوقك ، أبداً ، فالباب مفتوح .
لكن تصور مؤمناً كامل الإيمان ، وعالي الإيمان ، ويستحق دخول الجنَّة ، وهو في الجنَّة يتحسَّر على ساعة مضت لم يذكر الله فيها ، هذه تسريب للدنيا ، أحياناً يسرِّبون الأسئلة ، فالمؤمن الذي نجا من عذاب النار ، والذي استحقَّ دخول الجنان ، والذي رضي الله عنه يتحسَّر إلا على ساعةٍ مرَّت دون أن يذكر الله فيها ، فانتبهوا ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾
(سورة الأحزاب)
في البيت ، وفي العمل ، وفي الطريق ، وفي خلواتك ، وفي جلواتك ، ومع أهلك ، ومع أولادك لأن الله عزّ وجل هو كل شيء ، وما دونه لا شيء .
والحمد لله رب العالمين