سورة الأحزاب 033 - الدرس (18): تفسير الأيات (72 – 73)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الأحزاب 033 - الدرس (18): تفسير الأيات (72 – 73)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الأحزاب

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الأحزاب ـ (الآيات: 72 - 73)

13/06/2012 17:50:00

سورة الأحزاب (033)
الدرس (18)
تفسير الآيات : (72 ـ 73)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم ، مع الدرس الثامن عشر والأخير من دروس التفسير لسورة الأحزاب .
 
الآيات التالية تحدد هوية الإنسان و مهمته ومرتبته بين المخلوقات :   
 
وصلنا إلى آخر مقطعٍ من مقاطع هذه السورة ، وهي قوله تعالى  :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) ﴾
(سورة الأحزاب)
أيها الأخوة الأكارم ، هذه الآيات من أدق آيات هذه السورة ، بل إن هذه الآيات تحدد هوية هذا الإنسان ، وتحدد مهمته ، وتحدد مرتبته من بين المخلوقات ، بادئ ذي بدء ، الإنسان كائن موجود أودع الله فيه قوةً تعرُّفِيَّة ، قوة إدراكية ، الإنسان يفهم ، الإنسان يعقل ، الإنسان يُدرك ، هذا العقل الذي أودعه الله في الإنسان له مهماتٌ محدودة ؛ فبإمكانه إذا نظر في الكون أن يحكم بوجود خالقٍ لهذا الكون ، وهذا الخالق هو ربٌ ، وهو إلهٌ ، وهو غنيٌ ، وهو قويٌ ، إلى آخر أسماء الله الحسنى ، العقل يحكم من خلال الكون بوجود الله عزَّ وجل ، هذه من مهمة العقل .
والعقل كما يقول العلماء مناط التكليف ، لولا العقل لما كُلِّفَ الإنسان ، والعقل بإمكانه إذا قرأ هذا الكتاب أن يكتشف إعجازه ، وإذا اكتشف إعجازه يحكم أن هذا الكتاب كلام الله عزَّ وجل ، وهذا أيضاً من مهمات العقل ، والعقل يستنبط أن هذا الذي جاء بهذا الكتاب وهو المعجز لا بدَّ من أن يكون رسول الله .
 
مهمة العقل أن يصل إلى الله إيماناً وأن يصل إلى الإيمان بكلامه وبرسوله : 
 
إذاً عقلك يمكن له أن يصل إلى الله إيماناً ، وأن يصل إلى الإيمان بكلامه وبرسوله ، هذه مهمة العقل ؛ لكن العقل لا يستطيع أن يكشف ماذا كان في الأحقاب السحيقة من التاريخ ، كيف نشأ الإنسان ؟ كيف خُلِق ؟ يا ترى خلقت المخلوقات دفعةً واحدة ؟ كيف خلق الكون ؟ هذا الماضي السحيق ربنا عزَّ وجل حسمه بآية قال :
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا(51)﴾
 (سورة الكهف )
هذه الآية  :
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِم  ﴾
مرةً شرحتها بمثل : لو فرضنا أب تزوج بالخمسينات ، وبالستينات جاءه مولود فرضاً ، هذا المولود كبر حتى صار شاباً ، والأب كان مستأجراً محلاً تجارياً بالثلاثينات  ، وكان الأب جالساً مع أصحابه يقول : هذا المحل أخذته من فلان الفلاني ، بأجرة قدرها كذا ، والملابسات كذا ، والقصة كذا ، فوقف هذا الابن وقال : لا ليس كذلك أخذته من فلان لا من فلان ، وبهذا المبلغ لا بذاك المبلغ ، بماذا يجيبه الأب ؟ أين كنت يوم استأجرت المحل التجاري ؟ أين كنت وقتها ؟ لم تكن شيئاً مذكوراً ، فالإنسان حينما يتنطَّع إلى تفسير بداية البشرية ، فيقول : الإنسان الحجري وما إلى ذلك ، فحينما يلغي البداية التي شرحها الله في القرآن الكريم ، نقول لهذا الإنسان : كيف عرفت بداية الخلق ؟ إن عقلك لا يكفي .
 
الإيمان نوعان إيمان تحقيقي وإيمان تصديقي :
 
العقل البشري مهمته أو قدرته استدلالية ، ومعنى استدلالية أي ينظر إلى الشيء ، فيحكم من خلال هذا الشيء على صانعه ، فالعقل يرى الكون فيرى المكون ، يرى النظام فيرى المنظم ، يرى الأثر فيرى المؤثِّر ، يرى الخَلق فيرى الخالق ، أما أن ينتقل العقل إلى مئات ألوف ملايين السنين ، إلى ملايينِ ملايين السنين ، قبل أن نخلق جميعاً ويقول لك : كان كذا وكذا ، وجرى كذا وكذا ، وحصل كذا وكذا ، الإجابة الحاسمة من قبل الخالق جلَّ وعلا أن :
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِم ﴾
لذلك نحن في بداية الخليقة لا نعرف إلا ما ذكره الله لنا ، نقطة دقيقة جداً ، الإيمان نوعان ؛ إيمان تحقيقي وإيمان تصديقي ، الشيء الذي أُنيط بعقلك أن يعقله هذا أنت مكلفٌ به ، والشيء الذي أخبرت عنه ليس لك إلا أن تصدِّق الخبر الصادق ، لذلك بداية الحياة ربنا عزَّ وجل في هذه الآية أشار إليها .
نحن إذاً بادئ ذي بدء أمام خطين كبيرين من خطوط العقيدة ، خط التحقيق وخط التصديق ، الأمور المتعلقة بإيمانك بوجود الله تحقيقاً ، إيمانك بأسمائه الحسنى تحقيقاً ، إيمانك برسالة النبي عليه الصلاة والسلام تحقيقاً ، إيمانك أن معه معجزة تحقيقاً ، إيمانك بأن هذا الكلام كلام الله تحقيقاً ، أما إيمانك ببداية الخلق تصديقاً ، لأن هذا الشيء يعجز عنه عقلك أن يصل إليه ، وكل شيءٍ عجز عقلك عن الوصول إليه لا بدَّ من التصديق فيه ، فنحن فيما كان في الماضي السحيق لا نعرف ، وليس بإمكاننا أن نعرف إلا ما أخبرنا الله به ، ونحن فيما سيكون في المستقبل البعيد لا نعرف ، وليس بإمكاننا أن نعرف إلا ما أخبرنا الله به .
 
الإنسان بين تحقيقٍ فيما وُكِّلَ إلى العقل وبين تصديقٍ فيما عجز عنه العقل :  
 
الإيمان بعالم الأزل وعالم الأبد ، ما بعد الموت ، البرزخ ، الصراط ، الصور ، الصحف نُشِرَت ، الجنة ، النار ، هذا كله إيمان تصديقي ، والإيمان بالبدايات الأولى للعالم هذا إيمان تصديقي ، لكن الإيمان بوجود الله وبأسمائه الحسنى إيمان تحقيقي ، هذا من مهمة العقل، وقد أُنيط هذا بالعقل ، والعقل بإمكانه أن يصل إلى هذا ، الإيمان برسالة النبي إيمان تحقيقي ، الإيمان بأحقية هذا القرآن إيمان تحقيقي ، أما الإيمان بما كان في الماضي السحيق ، أو في المستقبل البعيد ، أو الإيمان بذات الله عزَّ وجل ، بصفات ذاته ، هذا الشيء لا نملك إلا أن نصغي إلى القرآن الكريم ، فأنت بين تحقيقٍ فيما وُكِّلَ إلى عقلك ، وبين تصديقٍ فيما عجز عنه عقلك .
لكن الله سبحانه وتعالى رحمةً بنا أخبرنا عن الشيء الذي عجز عقلنا عن إدراكه ونحن في أمس الحاجة إليه ، إخبار الصادق ، فإن حَكَّمْتَ عقلك فيما أخبرك الله به فإيمانك بالله ضعيف ، الذي أخبرك الله به ، هو الذي يحكم عقلك ، وليس عقلك الذي يحكم ما أخبرك الله به .
لذلك أية نظريةٍتقرءونها عن أصل العالم ، الإنسان أصله قرد كما يقول دارون ، الإنسان نشأ نشأةً بدائيةً متوحشة ، هذه النظريات لا تزيد عن تخمينات ، ولا تزيد عن إلقاء الكلام على عواهنه ، وكلما تقدَّم العلم كشف خطأ ما فسَّره العلماء المنحرفون  .
على كلٍ ربنا عزَّ وجل فيهذه الآيات ـ وهي من أدق آيات القرآن ـ يحدد هوية الإنسان ، قال الله عزَّ وجل  :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا (72) ﴾
أولاً يُستنبط في الأعم الأغلب وفي بعض أقوال المفسرين ، يستنبط أن السماوات والأرض والجبال نفوسٌ عرضت عليها الأمانة ، يؤكِّد هذا التفسير أن الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أخرى :
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾
(سورة الإسراء : من آية " 44 " )
لو قلت : إن هذا الشيء الذي خلقه الله عزَّ وجل خَلْقَاً رائعاً ، إذا نظرت إليه سَبَّحْتَ بحمده ، نقول لك : لا ، لست أنت المُسَبِّح بل هو المُسَبِّح ، هو المسبح بطريقةٍ لا تعرفها أنت .
 
الأمانة لها تفسيراتٌ كثيرة :  
 
حينما يقول الله عزَّ وجل :
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾
(سورة الإسراء : من آية " 44 " )
هذه ما من شيءٍ لاستغراق أفراد النوع ، ما من شيءٍ في الكون إلا وهو يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، يفهم أن السماوات والأرض والجبال نفوس ، وهذهالنفوس مخلوقات عرضت عليها الأمانة .
الآن ما الأمانة ؟ هذه الأمانة لها تفسيراتٌ كثيرة ، أوجه هذه التفسيرات : أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليسعدهم ، خلقهم ليسعدهم ، والإنسان يسعد بعطاء خالق الكون ، لكن عطاء خالق الكون متفاوت ، فلو أن الإنسان تأهَّلَ لأخذ أكبر كميةٍ من هذا العطاء ينال عطاءً لا نهائياً ، فإذا لم يتأهَّل ، فمثلاً يوجد متعة بالعلم ـ وهذا شيء بسيط بين أيديكم ـ لا يستطيع الإنسان أن يذوقها إلا إذا تعلم ، أما ككائن بإمكانه أن يذوق الطعام ويستمتع به ، شأنه شأن أي مخلوق حتى الحيوان ، أن تأكل وأن تستمتع هذا قاسمٌ مشتركٌ بين كل المخلوقات ، لكن أن تنعُم بنعمة العِلم هذا شيءٌ لا يمكن أن تُعْطَاه ، لا بدَّ من أن تأخذه أنت ، لا بدَّ من أن تتعلم حتى تذوق طعم العلم ، أنا أضرب الأمثلة لأن الموضوع دقيق جداً ، فالله عزَّ وجل خلق الخلق ، وخلقهم ليسعدهم ، ولكنهم إذا أَهَّلوا أنفسهم يسعدوا سعادةً لا نهائية ، فصار هناك عرضٌ على المخلوقات أن يسعدوا سعادةً بلا حدود .
 
حمل الأمانة عرض له مكاسب كبيرة جداً وفي المقابل فيه مخاطر كبيرة :
 
قال تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا (72) ﴾
لكن هذا العرض عرض له مكاسب كبيرة جداً ، وفي المقابل فيه مخاطر كبيرة ، مكاسب ومخاطر ، فكيف نحن عندما نعطي الطيار راتباً ضخماً جداً مائة ضعف عن راتب سائق السيارة العادية ، مائتي ضعف ، هذا الراتب الضخم ، لأنه لو صار خطأ بالجو ، لا يوجد حل وسط ، سيفقد حياته وحياة الركاب ، أما سائق السيارة في الأرض ، لو صار هناك خطأ يجعلها على يمين الطريق ، ويذهب إلى صاحبها ، ويقول له : تعال وأصلح مركبتك ، فكلما عظمت المسؤولية ، كلما علا قدر الإنسان عظمت مسؤوليته ، فربنا عزَّ وجل عرض على المخلوقات عرضاً خاصاً ، أي أن يسعدوا سعادة لا نهائية ، سعادةً بلا حدود ، سعادةً يصعب على العقل تصورها ، فهذه المخلوقات السماوات ، الأرض ، الجبال ، المجرَّات :
﴿ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا (72) ﴾
أبين ، وأشفقن ، أشفقن منها أي خِفنَْ منها .
﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72) ﴾
ما هي الأمانة ؟ هذا المخلوق جُعِلَت نفسه أمانةً بين يديه ، فإذا استطاع أن يعَرِّفها بربها ، وأن يحملها على طاعته ، وأن يجعلها تتقرب إليه تعالى ، سعد هذا المخلوق وإلى الأبد ، وإذا نسي هذا المخلوق ربه ، وانغمس في شهواته ، ونسي الأمانة التي حُمِّلْهَا ، ونسي التكليف الذي كلف به شقي إلى الأبد ، هذه هي الأمانة ، الأمانة أن تكون نفسك بيدك ، موضوعةً أمانة عندك .
 
الأمانة أن تكون نفسك بين يديك أنت مكلفٌ أن تطهرها و تسمو بها :  
 
يقول الله عزَّ وجل في بعض الآيات :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) ﴾
(سورة الشمس(
بإمكانك أن تزكي نفسك ، بإمكانك أن تحملها على طاعة الله ، بإمكانك أن تجعلها مستقيمةً ، بإمكانك أن تطهرها ، بإمكانك أن تزكِّيها ، بإمكانك أن تسمو بها ، وحينما تلتفت إلى الدنيا ، وتنغمس في حمأتها ، وتلهث وراء شهواتها ، تدنِّسها ، وإذا دنستها استحققت العذاب الأبدي ، هذه هي الأمانة ، الأمانة أن تكون نفسك بين يديك ، أنت مكلفٌ أن تطهرها وأن تسمو بها .
بالطبع هذا الموضوع طويل وله فروع كثيرة جداً ، ربنا عز‍َّ وجل حينما حَمَّلَ الإنسان الأمانة أعطاه المقومات ، أعطاه الوسائل ، إليكم هذه الوسائل ، الإنسان قَبِلَ أن يحمل الأمانة ، الأمانة أن يعرف ربه وأن يزكي عمله ، الأمانة ألا يكون جهولاً لربه ، وألا يكون ظلوماً لعمله ، أما إذا كان ظلوماً جهولاً فقد ضيَّع الأمانة واستحق المهانة ، وشقي في الدنيا والآخرة ، فالدين كلمتان : ألا تكون ظلوماً جهولاً ، وأن تكون عالماً في عقلك ، صالحاً في عملك .
 
الإنسان في الدنيا له مهمتان أن يعلم وأن يعمل بما علم :   
 
أنت في الدنيا لك مهمتان ، أن تعلم ، وأنت تعمل بما علمت ، أن تتعرف إلى الله وأن تحسن إلى الخلق ، أن تعرف الله عزَّ وجل وأن تزكي نفسك ، حتى تتأهل لتكون إلى الأبد في جنةٍ عرضها السماوات والأرض ، الأمانة إذاً نفسك التي جُعِلَت أمانةً عندك ، إن زكَّيْتَها ، إن عرفتها بربها ، وطهرتها ، وزكيتها ، وسموت بها ، سعدت في الدنيا والآخرة ، وإن تركتها جاهلةً ، ودنستها بالشهوة ، شقيت في الدنيا وفي الآخرة ، هذا ملخص الملخص ، كيف تسمو بها ؟ كيف تطهرها ؟ كيف تسعد بها ؟ كيف تزكيها ؟ جاء الجواب  :
أولاً : الله سبحانه وتعالى أعطى هذا الإنسان كوناً هو في الحقيقة مظهرٌ لأسماء الله الحسنى ، يستحيل على الإنسان في الدنيا أن يرى الله ، لأن مادِّيَتَهُ لا تحتمل:
﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾
(سورة الأعراف : من آية " 143 ")
أي أن الإنسان في الدنيا لا يستطيع أن يرى الله عزَّ وجل ، كيف السبيل إلى معرفته ؟ السبيل أن يرى خلقَه ، فخلقه يُجَسِّدُ أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى ، خلقه مظهرٌ لكماله ، فإذا نظرت إلى خلقه عرفته ، لذلك الله عزَّ وجل سَخَّرَ لكم ما في السماوات والأرض جميعاً منه ، الكون كله مسخرٌ من أجل أن تتعرف إليه ، الكون كله بالنصِّ القطعي ، الدلالة :
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ﴾
(سورة البقرة : من آية " 29 ")
 
مقومات حمل الأمانة :
 
1 ـ الكون أول مقومٍ من مقومات حمل الأمانة :
قال تعالى :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾
(سورة الجاثية : من آية " 13 ")
الكون أول مقومٍ من مقومات حمل الأمانة ، تريد  أن تعرف الله عزَّ وجل ؟ انظر إلى جسمك ، انظر إلى أعضائك ، إلى أجهزتك ، إلى حواسك ، إلى طبيعة نفسك ، إلى فطرتك ، إلى نظام التوالد ، إلى نظام الزوجية ، تريد أن تعرف الله عزَّ وجل ؟ انظر إلى طعامك ، تريد أن تعرف الله عزَّ وجل ؟ انظر إلى الماء الذي أنزله من السماء فاهتزت به الأرض وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ، تريد أن تعرف الله عزَّ وجل ؟ فكر في الهواء الذي تستنشقه ، فكر في الجبال ، في الأنهار ، في البحيرات ، في البحار ، في السهول ، أنواع الطيور ، أنواع الأسماك ، أنواع المخلوقات ، في الخضراوات ، في الحقول ، كل ما في الكون :
وفي كل شيءٍ له آيةٌ             تدل على أنه واحد
* * *
هذا أول مقوم .
الآن الإنسان إذا استفاد من الكون استفادة مادية ، وما استفاد منه في معرفة الله ، فقد عَطَّلَ السبب الأول لخلق الكون ، الدليل الآية الكريمة  :
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ ﴾
(سورة الملك : من آية " 3 ")
في آية ثانية  :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنّ َ﴾
(سورة الطلاق : من آية " 12 ")
لماذا ؟
 
العلة الأولى لخلق الكون معرفة الله عز وجل :  
 
قال  :
﴿ لِتَعْلَمُوا
(سورة الطلاق : من آية " 12 ")
خلق الكون لتعلم:
﴿  لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12) ﴾
(سورة الطلاق : من آية " 12 ")
العلة الأولى لخلق الكون هو أن تعرفالله عزَّ وجل ، فإذا لم تهتم بهذه الناحية ، واهتممت كيف تستفيد من هذه الأرض ؟ وكيف تستخرج الثروات ؟ وكيف تربح ؟ وكيف تسعد في الدنيا ؟ فقد عَطَّلْتَ الهدف الأكبر والأول من خلق الكون ، إذاً الكون هو المقوم الأول .
2 ـ العقل ثاني مقومٍ من مقومات حمل الأمانة :
ثانياً : العقل هو المقوم الثاني ، الله عزَّ وجل أودع في الإنسان عقلاً ، يتوافق العقل في مبادئه مع مبادئ الكون ، يوجد بالكون نظام السببية ، والعقل لا يفهم الشيء إلا عن طريق السبب ، و نظام الغائيَّة ، الكون فيه نظام أن كل شيء له غاية والعقل لا يفهم الشيء إلا بغايةٍ ، غايةٍ كافيةٍ لوجوده ، الكون ليس فيه تناقضٌ والعقل يرفض التناقض ، فالعقل أداة معرفة الله عزَّ وجل ، وهو مناط التكليف ، فأنت إذا فكَّرت في الكون عن طريق العقل الذي يتوافق مع بنية الكون تتعرف إلى الله عزَّ وجل ، فالعقل مقوم من مقوِّمات حمل الأمانة ، والكون مقوم آخر من مقومات حمل الأمانة .
3 ـ الشهوة هي المقوم الثالث من مقومات حمل الأمانة :
الإنسان لولا هذه الشهوات التي أودعها الله فيه كيف يرقى إلى الله ؟ كيف تحس أن الله يحبك إن لم يودع فيك شهوةً ؟ وإن لم تعاكس هذه الشهوة ؟ أودع فيك حب النساء ، فكيف ترقى إلى الله عزَّ وجل إن سرت مع هذه الشهوة ؟ إذا غضضت بصرك عن محارم الله، إذا ترفَّعت عن مالٍ حرام ، إذا أنفقت المال المحبب في سبيل الله ، ترقى ، لولا الشهوات لما ارتقى الإنسان إلى رب الأرض والسماوات .
عن طريق الشهوة يرقى مرتين ، يرقى مرةً صابراً ، ويرقى مرةً شاكراً ، فإذا أخذ ما أبيح له يشكر فيرقى ، وإذا ترك ما نهي عنه يصبر فيرقى .
إذاً الكون مقوم ، والعقل مقوم ، والشهوة مقوم ، أودع الله فيك الشهوات ، هذه الشهوات يجب أن تعلم علم اليقين أن الله ما أودعها فيك إلا لترقى بها إلى الله عزَّ وجل  .
4 ـ الفطرة هي المقوم الرابع من مقومات حمل الأمانة :
شيء رابع : خلق الكون ، وأودع فيك العقل ، وأودع فيك الشهوات ، وفطرك فطرةً عاليةً نقيةً بيضاء ليلها كنهارها ، إذا انحرفت عن طريق الحق تشعر بانقباض ، كل الآلام التي يتحدث عنها علماء النفس ؛ تارةً وخز الضمير ، تارةً الانقباض ، تارةً الكآبة ، ما هي إلا الفطرة التي خلقها الله عزَّ وجل ، فإذا حِدَّتَ عن منهج الله عزَّ وجل عذبتك فطرتك وأنت لا تدري .
إذاً هناك كون ، هناك عقل ، هناك شهوة ، هناك فطرة ، هذه الذي تحدث الله عنها عزَ وجل فقال  :
 
﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾
(سورة الروم : من آية "30 " )
الفطرة ، دعك من كل علمٍ ، إن أخذت ما ليس لك تشعر بضيق ، إن أسأت إلى والدتك تشعر بضيق ، إن ظلمت إنساناً تشعر بضيق ، إن أسأت إلى حيوان تشعر بضيق ، ما هو الضيق ؟ هي آلام الفطرة النقية  :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾
(سورة الروم : من آية " 30" )
 
5 ـ القوة هي المقوم الخامس من مقومات حمل الأمانة :
أعطاك الله كوناً ، وأعطاك عقلاً ، وأعطاك شهوةً ، وأعطاك فطرةً ، وأعطاك قوةً فيما يبدو ، بإمكانك أن تقوم ، وأن تسير ، وأن تتحرك ، وأن تقول ، وأن تفعل شيئاً ، أعطاك قوة ، وشهوة ، وفطرة ، وعقلاً ، وكوناً .
6 ـ حرية الاختيار هي المقوم السادس من مقومات حمل الأمانة :
لكن لو لم تكن مخيراً وكنت مقهوراً مجبراً ؛ لا قيمة لعملك ، لا يمكن أن يكون لعملك قيمة إلا إذا كنت مخيراً ، لذلك أعطاك حرية الاختيار ، حرية الاختيار تُثَمِّنُ عملك ، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أن الله أجبر عباده على المعصية لبطل العقاب ، ولو أنه تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، فأنت مخير أيضاً .
 
أدلة من القرآن الكريم على أن الإنسان مخير :
 
قال تعالى :
 
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) ﴾
( سورة الإنسان)
وقال :
 
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (148) ﴾
( سورة البقرة )
قال أيضاً :
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
(سورة الكهف : من آية " 29")
لو لم تكن مخيراً فلا جنة ولا نار ، ولا حساب ولا عقاب ولا عذاب ، ولا ثواب ولا جزاء ، ولا سيئة ولا حسنة ، كل شيءيتعطل ، فأنت مخير ، ومُشتهٍ ، وذو فطرةً عالية، وذو عقلٍ ، وكونٌ سخره الله لك ، لكن لعل العقل يضل ، ولعل الفطرة تُطْمَس بالضبط ، جعل الله لك شرعاً .
7 ـ الشرع هو المقوم السابع من مقومات حمل الأمانة :
جعل هذا الشرع ميزاناً على ميزان العقل والفطرة ، فعندك كتاب ، فهذا الكتاب عرفك بذاتك ، وعرفك بربك ، وأطلعك على بداية الخلق ، وهذه الآية من هذه الآيات ، أطلعك على ما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون ، وعرفك بذات الله عزَّ وجل ، هذه كلها من مقوِّمات التكليف .
 
حينما ينسى الإنسان ربه والمهمة الخطيرة التي أُنيطتبه فقد كان ظلوماً جهولاً :  
 
أنت المخلوق الأول ، أنت المخلوق المكرم ، حينما ينسى الإنسان ربه ، وحينما ينسى المهمة الخطيرة التي أُنيطتبه ، وحينما تستهلكه الحياة ، وحينما ينغمس في الشهوات الدنيئة إلى قمة رأسه ، وحينما يأكل ويشرب وينام ويستمتع كما تفعل البهائم تماماً ، فقد كان ظلوماً جهولاً ، الآية الكريمة  :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ (72) ﴾
عرض مُغْرٍ :
﴿عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72) ﴾
يا ترى هل كان الإنسان بحملها ظلوماً جهولاً ؟ أم كان محسناً وعالماً وصالحاً ، أن تعرف الله وأن يصلح عملك ، فعكس المعرفة الجهل ، وعكس الإحسان الظلم ، فهو إن لم يأخذ بما عاهد الله عليه ، إن لم يأخذ هذه الأمانة فيطهِّرها ، ويزكيها ، ويسمو بها ، فقد كان ظلوماً جهولاً ، فلو فرضنا أن أباً حوله خمسة أولادقال لهم : يا أولادي أتحبون أن تعملوا في محلي أو في دكاني ولكم كل شهر مبلغ تعيشون به ، أم تحبون أن تتابعوا دراستكم العُليا إلى أعلى شهادة ، وعندئذٍ أمنحكم كل شيء ، أمنحكم مبلغاً بلا حدود ؟ فهؤلاء الأبناء مالوا إلى الراحة ، قالوا : لا ، نحن نعمل في الدكان ونستريح ، أحد هؤلاء الأولاد قال : لا ، أنا لها ، أنا أقبل هذا العرض وسأحصل على أعلى شهادة في العالم ، الأولاد اشتروا بيوتاً وتزوجوا وعاشوا حياةً معتدلة ، لهم دخلهم من هذا الدكان ، لكن هذا الذي قَبِلَ أن يكون في أعلى درجة علمية في العالم ، وتبرع أبوه له بمبلغٍ لا حدود له من أجل أن يعود ويحمل أعلى الشهادات ، هذا الشاب إن ذهب إلى هناك وغرق في الملذَّات والنوادي والملاهي ، وصاحب فتاةً ، ونسي هذه المهمة الكبيرة التي أنيطت به ، سيعود بعد حين بلا شهادة ، وبلا مكانة ، وبلا بيت ، وبلا دخل ، هؤلاء الذين خافوا من هذه المهمة أفضل منه ، أما إذا عاد بهذه الشهادة العليا ورُفِعَ مقامه في البلد وفي المجتمع سبق هؤلاء ، فيا ترى حينما قبل هذا العرض المغري أكان ظلوماً جهولاً ؟ لا ، كان طموحاً ، أما إذا خان الأمانة ودَنَّسَ نفسه كان ظلوماً جهولاً ، فلا يوجد حل وسط ، كما يقول سيدنا علي :
" رُكِبَّ الإنسان من عقلٍ وشهوة ، رُكِّبَ الحيوان من شهوةٍ بلا عقل ـ الحيوان متعته مادية ولا حساب عليه ـ ورُكِّبَ المَلَك من عقلٍ بلا شهوة ـ متعته روحية ولا حساب عليه ـ ورُكِّبَ الإنسان من كليهما من شهوةٍ وعقلٍ ، فإن غلب عقله شهوته كان فوق الملائكة وإن غلبت شهوته عقله كان دون الحيوان " .
 
أنت مخلوق أول يمكن أن تكون أعلى مخلوقات الكون :
 
لا يوجد حل وسط ، والدليل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7) ﴾
((سورة البينة
أي خير ما برأ الله:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾
 (سورة البينة (
شر ما برأ الله ، أنت مخلوق أول ، يمكن أن تكون أعلى مخلوقات الكون ، قال تعالى  :
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا(70) ﴾
((سورة الإسراء
 
حينما قبل الإنسان حمل الأمانة أمامه خياران إما أن يكون أعلى كل المخلوقات أو أسفلها:   
 
إذا دَنَّسَ الإنسان نفسه كان في أسفل سافلين  .
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4) ﴾
((سورة التين
فإذا لم يعرف ربه:
﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ(5) ﴾
((سورة التين
انتبه أنت المخلوق الأول ، هذا درس خطير جداً ، يجب أن تعرف من أنت ؟ أنت إنسان ، لأنك إنسان معناها قبلت حمل الأمانة ، وحينما قبلت حمل الأمانة أمامك خياران لا ثالث لهما ، إما أن تكون أعلى كل المخلوقات ؛ وإما أن يكون هذا الإنسان أسفل كل المخلوقات ، النبي الكريم وصف رجلاً زنى بجارته ، قال : خان صاحبه ، جار أوصى جاره بأهله ، فلما سافر الجار ، جاره خانه ، فجاء كلبٌ وأكله ، فقد قيل : خان صاحبه ، والكلب قتله ، والكلب خيرٌ منه .
الكلب خير منه ، الإنسان عندما يخون تدنس نفسه ، تنحط أخلاقه ، يبني مجده على أنقاض الناس ، الكلب خيرٌ منه ، لأن  الكلب غير مكلف ، الإنسان مكلف ، فالموضوع يجب أن نعرف من نحن ؟
أنا مرةً طرحت سؤالاً : واحد سافر لبلد ، لا أعتقد في سؤال أخطر من أن يقول لنفسه : لماذا أنا هنا ؟ سافر لهذه البلدة ، وصل بالطائرة ، ركب سيارة إلى الفندق ، وصل مُتْعَباً ، نام تلك الليلة ، واستيقظ في صبيحة اليوم الأول ، إلى أين سيتحرك ؟ سيتحرك بحسب مهمته ، جاء تاجراً على المعامل ، طالباً على الجامعات ، سائحاً على المقاصف والمتاحف والآثار ، الحركة لها علاقة بمعرفة المهمة .
أنا أقول : أخطر سؤال تطرحه على نفسك ويجب أن تعرفه بشكلٍ يقيني لماذا أنت في الدنيا ؟ لئلا تتجه إلى طريقٍ مسدود ، لو لم نجب عن هذا السؤال الدقيق لسرنا في طريق مسدودة ، إلى أين أنتماشٍ ؟ يجمع من الأموال الطائلة ، حتى إذا أصبح في مرتبةٍ عَلِيَّةٍ ومكانةٍ مرموقةٍ ، وحتى إذا سكن هذا البيت الفخم ، وهذه المركبة الفخمة ، وهذه المكانة العلية يأتيه ملك الموت : تفضل ، الآن ؟ نعم الآن ، الطريق مسدود ، جاءه في أزهى لحظات حياته ، أما عندما يعرف الإنسان في وقت مبكر لماذا هو في الدنيا ؟ يجهد ليل نهار في العمل لما بعد الموت ، فإذا جاء ملك الموت ، قال : أهلاً وسهلاً ، أنا على شوق ، أنا أنتظرك .
المشكلة هنا ، كلنا سيموت هذه حقيقة ، لكن المؤمن يُعِدُّ لهذه الساعة ؛ أما غير المؤمن يفاجأُ بها ، أعد لكل شيءٍ إلا هذه الساعة ، إلا الموت أخرجه من حسابه ، أما المؤمن أهمل كل شيء وأعد لهذه الساعة عدتها . ففرقٌ كبيرٌ جداً بين رجل جاءه ملك الموت ، وكان طول حياته يستعد لهذه الساعة ، وكما قال الإمام مالك بن دينار وكنيته أبو يحيى ، وقد خاطب نفسه قائلاً : " لهذه الساعة كان دأبك أبا يحيى " .
سيدنا سعد بن أبي وقاص لما جاءه ملك الموت بكى ابنه : " لِمَ تبكي يا بني ؟ إن الله لا يعذبني أبداً ، إنني من أهل الجنة " .
 
الإنسان إن لم يُعَرِّفُ نفسه بربها وإن لم يسمُ بها كان ظلوماً جهولاً :    
 
الشيء العجيب إذا قرأت تاريخ الصحابة الكرام ـ والله شيء لا يصدق ـ تشعر أن هؤلاء الصحابة فيأعلى درجات سعادتهم ساعة الموت ، الموت عرس المؤمن ! لقاؤك في الجنة عرس ،فبين أن تسعى لمعرفة الله ، وتطبيق أمره ، والدعوة إليه ، وخدمة الخلق ، جهدك الجهيد ، دأبُك العنيد ، أن تطيع الله عزَّ وجل ، فلذلك  :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾
إن لم يطبق ، إن لم يُعَرِّفُ نفسه بربها ، وإن لم يحملها على طاعته ، وإن لم يطهرها من دَنَسِ الشهوة ، وإن لم يسمُ بها كان ظلوماً جهولاً ، كان ظلوماً لأنه كان جهولاً ، جهل فظلم ، جَهِلَ فَظَلَمَ فَظُلِم .
ماذا سيكون بعد الموت ؟ قال  :
(( فو الذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار)) .
[ أخرجه البيهقي من رواية الحسن ]
 قال تعالى :
     
﴿ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) ﴾
في العالم يوجد تقسيمات كثيرة ، الحقيقة الصريحة ، الناس جميعاً مهما اختلفت بيئاتُهُم ، مهما اختلف أجناسهم ، مهما اختلفت عقليَّتُهُم ، مهما اختلفت أعراقهم ، مُعطياتهم ، مراتبهم ، مستوياتهم ، أحوالهم ،مهما اختلفت مشاربهم ، الناس رجلان ؛ مؤمنٌ وكافر ، عالم منضبط محسن سعيد ، وجاهل متفلِّت مسيء شقي ، الأساس العلم ، عالم ، فلما عرف ربه ، وعرف نفسه ، وعرف منهج ربه ، أطاع ربه ، عالمٌ مطيعٌ منضبطٌ محسنٌ ، سعيدٌ في الدنيا والآخرة ، جاهلٌ متفلتٌ عاصٍ مسيء للخلق ،قيٌ في الدنيا والآخرة ، هذا هو التقسيم الحقيقي الذي لابدَّ منه .
 
الذين أشركوا بالله عزَّ وجل تمزقوا وتبعثروا وتشرذموا وخافوا فتشعَّبت نفوسهم :   
 
لذلك  :
﴿ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ (73) ﴾
المنافقون والمنافقات أذكياء ، عاشوا بمجتمع إسلامي أو مجتمع ديني ، فمن أجل مصالحهم نافقوا ، لكنهم في الحقيقة كفار ؛ بل في الدرك الأسفل من النار :
﴿ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ (73) ﴾
ما رأوا ربهم هو كل شيء ، رأوا آلهةً كثيرة في الدنيا ، خافوا من زيد ومن عبيد ومن فلان وعلان ، تشعَّبت نفوسهم ، قال عليه الصلاة والسلام  :
(( اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها )) .
[ أخرجه ابن عدي ، والديلمي عن أنس ]
وقال :
(( من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله سائر همومه)) .
[كنز العمال : عن : ابن مسعود]
حينما أشركوا بالله عزَّ وجل ، تمزقوا ، وتبعثروا ، وتشرذموا ، وخافوا ، قال عليه الصلاة والسلام  :
(( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا
 
 إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ .))
[ سنن الترمذي : عَنْ " أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]
 
هذه الآية تعريفٌ لهوية الإنسان فأنت المخلوق الأول والكون كله مسخرٌ لك بنص القرآن الكريم :    
 
أيها الأخوة الأكارم ، شيء مألوف جداً إنسانٌ يُسْتَهْلك ، تستهلكهالدنيا ، مِنْ عَملٍ لعمل ، من لقاء للقاء ، من اجتماعٍ لاجتماع ، من مشروع لمشروع ، يأكل ، ويشرب ، ويعمل ، ويكسب ، ويتعب نفسه ، ويأتيه الموت ونسي لماذا هو في الدنيا ! نسي مهمته كلها ! فلذلك هذه الآية تعريفٌ لهوية الإنسان ، أنت المخلوق الأول ؛ أنت المخلوق المكرَّم ، اسمع : الكون كله مسخرٌ لك ، بنص القرآن الكريم .
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾
(سورة الجاثية : من آية " 13 " )
ما دام الكون قد سُخَّرَ لك ، والمُسَخُّرُ له دائماً أكرم من المُسَخَّرَ ، أنت مُسَخَّرَ لك الكون ، أنت المكرم ، أعطاك الله عقلاً أداة المعرفة ، ومناط التكليف ، ومناط المسؤولية ، بإمكانك أن تؤمن بالله ، وبكتابه ، وبرسوله ، هذا هو العقل ، يأتي النقل ليعرِّفك ما عجز عقلك عن إدراكه ، هذا هو التصديق ، النقل هو أداة معرفة ما في الماضي السحيق ، في المستقبل البعيد ، في ذات الله عزَّ وجل ، وهذه الآية تبيِّن لنا ماذا كان في بدء الخليقة ؟
تم عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، أبين أن يحملنها ، أشفقن منها ، حملها الإنسان ، إن قام بهذه الأمانة على خير ما يرام ، لم يكن ظلوماً جهولاً ، بل كان عالماً صالحاً ، آمنوا وعملوا الصالحات ؛ عكسها جهلوا وأساءوا ، ظلوماً جهولاً ، وإن نسي الأمانة ، ولم يطبِّق أمر الله عزَّ وجل ، وأهمل نفسه ، أبقاها جاهلة ، أبقاها مدنسة ، أبقاها غارقة في الشهوات :
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾
النهاية معروفة :
﴿ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) ﴾
والحمد لله رب العالمين
 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب