سورة الأحزاب 033 - الدرس (15): تفسير الأيات (59 – 63)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الأحزاب 033 - الدرس (15): تفسير الأيات (59 – 63)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 274 - مقبرة مأمن الله           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 14 - متى ينطق الشجر والحجر للمسلم - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - الرحمة بعباد الله           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 395 - سورة المائدة 019 - 026           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 22 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 13 - واجبنا في ظل الظروف - الذي أطعمهم من جوع         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الأحزاب

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الأحزاب ـ (الآيات: 59 - 63)

10/06/2012 18:41:00

سورة الأحزاب (033)
الدرس (15)
تفسير الآيات: (59 ـ 63)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الخامس عشر من سورة الأحزاب .
 
الآية التالية هي أول آيةٍ نزلت في الحجاب :   
 
وصلنا في الدرس الماضي في سورة الأحزاب إلى قوله تعالى  :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
( سورة الأحزاب)
أيها الأخوة الأكارم ، هذه أول آيةٍ نزلت في الحجاب ، الحجاب نزل على ثلاث مراحل ؛ المرحلة الأولى أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بسترِ العورات ، والمرحلة الثانية أمر الله سبحانه وتعلى المؤمنات بالحجاب ـ وفي سورة النور جاءت الآيات تبيِّن كمال الحجاب ـ نحن الآن في سورة الأحزاب ، فالله سبحانه وتعالى يخاطب النبي ، وحينما يقول الله عزَّ وجل :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ (59)
لأنهن القدوة ، وما لم تكن للمؤمنين قدوة فلن يفلحوا ، أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ، وبنات النبي عليه الصلاة والسلام يجب أن يكن قدوةً لنساء المؤمنين ، والنبي كما تعلمون له مهمتان ؛ مهمة التبليغ ، ومهمة القدوة ، فالتبليغ وحده لا يكفي إن لم تكن القدوة الحسنة ، والسيرة الصالحة ، والمثل الأعلى ، والأسوة التي يتأسَّى بها المؤمنون  .
 
الدعوة إلى الله تقوم على القدوة والبيان :    
 
قد يقول قائل : إن هذه الآيات نزلت في نساء النبي وبنات النبي فما بال بقية النساء ؟ فإذا كانت نساء النبي وهن المطهرات عن السفاح ، والمحرَّمات علىالمؤمنين بالنكاح ، وهن اللاتي وصفن بالقرآن الكريم بأنهن أمهات المؤمنين ، إذا أمرن بالحجاب فنساء المؤمنين من باب أولى ، وهذه قاعدة أصولية ، ولكن الله سبحانه وتعالى دفعاً لهذا القيل والقال ، ودفعاً لهذا الالتباس نصّ في هذه الآية على أن الأمر بالحجاب عامٌ مطلق،فقال تعالى  :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ (59)
بقوله تعالى  :
﴿ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ (59)
أية شبهةٍ متعلقةٍ بأن هذه الآية نزلت في نساء النبي تُرَدُّ بهذا النص الدقيق ، على كلٍ لو أن الآيات نزلت في حق نساء النبي وفي حق بنات النبي فقط ، فلأن يَشْمَلْنَ عامة المؤمنات من باب أولى ، هذه قاعدة ، وقاعدة أخرى: أنه دائماً خصوص السبب لا يلغي عموم اللفظ .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ (59)
سيدنا عمر كما تعلمون كان إذا أمر الناس بأمرٍ جمع أهله وخاصته وقال : " إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وأيم الله لأوتين بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه ، إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني " .
هذا أثر القدوة ، وقد بينت لكم من قبل أن الله سبحانه وتعالى تولى بنفسه تطهير أهل بيت النبي ، لِعِظَمِ خطورة أهل بيت النبي في حقل الدعوة ، فالدعوة إلى الله تقوم على القدوة وعلى البيان ، البيان تولاَّه النبي ؛ لكن القدوة يجبأن تكون في شخصه ، وفي أهل بيته ، وفي نسائه ، وفي بناته  .
 
الإدناء هو التقريب وفي هذه الآية مُضَمَّنٌ لمعنى الإرخاء والإسدال بـ (على) :
 
الحقيقة موضوع الدين لا يتعلق برأي زيدٍ أو عُبيد ، الإنسان أحياناً يتمنى أن يكون الحكم هكذا ، أو يتمنى أن يكون الحكم هكذا ، الحقيقة نحن مع الدين ليس لنا رأيٌ شخصيٌ أبداً ، وما قيمة الرأي الشخصي فيمنهج الله عزَّ وجل ؟! ما قيمة الرأي الشخصي في منهج الله ؟! فنحن نتقصى الحكم الشرعي في هذا الموضوع ، وما أجمع عليه العلماء الأجلاَّء ، وما ورد في كتب التفسير ، وما جاء به الصحابة الكرام ، على كلٍ نبدأ بتفسير هذه الآية كلمةً كلمة ، قال الله عزَّ وجل  :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ (59)
الإدناء هو التقريب ، فلان دنا من فلان ، أي اقترب منه ، أدناه قَرَّبَهُ ، دنا لازم ، أما أدنى مُتَعَدٍِّ ، فالإدناء إذاً هو التقريب ، لكن أدنيت هذا الشيء إلى هذا الشيء ، فالإدناء يتعلَّق بكلمة (إلى) ، أما إذا تعلق بكلمة (على) فهو في معنى الإرخاء والإسدال ، الفكرة دقيقة إذا قصدنا الإدناء أي التقريب فالإدناء يتعلق بـ (إلى) ، أدنيت هذا الكتاب إلى هذه الطاولة ، أما إذا عَدَّيْتُ الإدناء بـ (على) فضُمِّنَ معنى الإرخاء والإسدال ، لأن أرخيته على ، وأسدلت على ، فلذلك ما دام فعل الإدناء هنا متعدياً بـ (على) فهو يفيد الإرخاء ويفيد الإسدال ، هذا أول استنباطٍ لغويٍ من هذه الآية ، فالإدناء هو التقريب ، والإدناء هنا في هذه الآية مُضَمَّنٌ لمعنى الإرخاء والإسدال بـ (على) لأنه تعدى بـ (على) .
ويقال : إذا زَلَّ الثوب عن وجه المرأة ، إذا زل أي انزلق الثوب عن وجه المرأة يقال لها : أدنِ ثوبكِ على وجهكِ ، ما دام أدنِ ثوبك على وجهكِ أي أرخِ ثوبكِ على وجهكِ ، هذا كله مستفاد من كلمة على ، لأن أدنى إلى وأسدل على ، أي أرخيه وأسدليه .
 
المقصود بالجلباب أي رداءٌ فَضْفَاضٌ واسعٌ يستر بدن المرأة كله :   
 
إذاً :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ (59)
الإدناء هنا بمعنى الإرخاء والإسدال ، لماذا ؟ لأن نساء الجاهلية كُنَّ يضعن على رؤوسِهِنَّ الخُمُر ، ويسدلنها ـ أي يرخينها ـ إلى وراء ظهورهن ، الأمر بالعكس ، جاء الأمر أن يدنين عليهن من جلابيبهن ، المعنى الثاني :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ (59)
معنى الجلباب ، الجلابيب جمع جلباب ، والجلباب هو الثوب الذي تستتر به المرأة ، أو تستر به المرأة بدنها كله من فوق ثيابها التي تستر عورتها ، فهناك ثوبٌ يستر أعضاء المرأة ، وهناك ثوبٌ يستر زينة المرأة ، وأما الجلباب فهو الذي يستر بدن المرأة كله، الجلباب فيما أجمع عليه العلماء : الثوب الذي تضعه المرأة فوق ثيابها ، إذا كانت ثيابها تستر أعضاءها وأماكن الزينة فيها ، فإن الجلباب رداءٌ فَضْفَاضٌ واسعٌ يستر بدن المرأة كله ، من فرقها إلى قدمها ، هذا معنى قوله عزَّ وجل :
﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ (59)
الإمام الطبري في تفسيره ، روى عن ابن سيرين أنه قال : سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية ، فرفع ملحفةً كانت عليه فتقنع بها ، وغطى بها رأسه كله حتى بلغ الحاجبين ، وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شِقِّ وجهه الأيسر . وروى مثل ذلك ابن عباسٍ رضي الله عنه .
هذا تفسير العلماء لهذه الآية ، مرةً ثانية أقول لكم : لا قيمة للرأي الشخصي في هذا الموضوع ، هذا دين ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم )) .
[ مسلم عن ابن سيرين]
 
من أوجه التفسير لهذه الآية أن المرأة إذا بالغت في التحجُّب والتَصَوُّن قطعت كل طمعٍ فيها :    
أخرج عبد الرزاق وجماعةٍ عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية:
﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ (59)
خرج نساءٌ من الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان ، من أكسيةٍ سودٍ يلبسنها ، أي فهم الناس في عهد النبي هذه الآية ستر الوجه والرأس معاً ، أما قول الله عزَّ وجل         ﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ (59)
من أوجه التفاسير لهذه الآية ما نقله ابن حبان أن الله عزَّ وجل حينما قال  :
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ (59)
أن يعرفن بالعفة والتَصَوُّن ، فلا يتعرض لهن  الفُسَّاقُ ولا الفُجَّار وهذه قاعدة وهي : أن المرأة إذا بالغت في التحجُّب والتَصَوُّن قطعت كل طمعٍ فيها ، فإذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ (59)
أي أن يعرفن بالعفة والتصون ، ما دامت هذه المرأة لا يرى منها شيء ، إذاً ؛ إنها تعلن للناس أنها عفيفةٌ ، أنها حصانٌ ، أنها مُعْرِضَةٌ عن كل رغبةٍ فيها إلا الذي أباحه الله لها  .
 
هذه الآية من آيات الأحكام وهذه الآيات دقيقةٌ جداً :
 
طبعاً هذه الآية من آيات الأحكام ، وآيات الأحكام دقيقةٌ جداً ، وتُدَرَّس هذه الآيات في كتبٍ مستقلة ، ومن أرقى كتب آيات الأحكام جاءت هذه الحقائق في كتاب : تفسير آيات الأحكام .
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ (59)
متى تؤذى المرأة ؟ الجواب : إذا ظهرت مفاتنها ، متى تؤذى المرأة ؟ إذا أبدت ما يجب أن تخفيه ، حينما تبدي المرأة ما يجب أن تخفيه إنها تعلن بشكلٍ أو بآخر أنها ترغب في الرجال ، أما إذا سَتَرَت ما أمر الله به أن يُستر ، فهي تعلن أيضاً أنها عفيفةٌ حَصَان ، فلذلك قول الله عزَّ وجل :
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ (59)
يعرفن أنَّهُنَّ عفيفاتٌ طاهرات ، وأنهن لا يبغين إلا ما أمر الله عزَّ وجل:
﴿ فَلَا يُؤْذَيْنَ (59)
الآن هناك آراءٌ لبعض العلماء في هذه الآية ؛ ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول : أمر الله نساء المؤمنين أن يُغَطِّيَن رؤوسهن ووجوهَهنَّ ، بالنص الدقيق ، أما معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ (59)
أي هذا هو الحد الأدنى ، أي إذا تحجبت المرأة فهذا هو الحد الأدنى في إيمانها وليس الحد الأقصى ، الحد الأقصى عِلمها ، الحد الأقصى أعمالها الطيِّبة ، الحد الأقصى خدمتها لزوجها ، الحد الأقصى رعايتها لأولادها ، أما ألا تؤذي عباد الله في الطريق فهذا هو الحد الأدنى ، أي هذا أقل شيء يُعْرَفْنَ به صالحاتٍ عفيفاتٍ طاهرات ، مع أن الصلاح والعفاف والطهر أكبر من الحجاب ؛ نفسٌ طيبةٌ ، نفسٌ مطواعةٌ ، نفسٌ متواضعة ، نفسٌ منصفةٌ ، تخدم زوجها ابتغاء مرضاة الله ، هناك صفاتٌ تعلو بالمرأة عن الحجاب ، ولكن الحجاب هو الحد الأدنى ، هذه هويتها ، ما دامت قد أخفت زينتها عن الأجانب فهي تعلن أنها مسلمة ، أنها عبدةٌ من عباد الله ، أنها تأتمر بما أمر الله وتنتهي عما نهى الله .
 
إذا ترك الحجاب إنكاراً لفرضيته فهذا كفرٌ وإذا ترك تقليداً للأجانب فهذا فسقٌ وفجور :   
 
الحقيقة قد يكون إيمان الرجل في قلبه ، لكن المرأة إيمانها ظاهر وباطن معاً ، إيمانها في حجابها ، فإذا بَرَزَتْ للرجال من دون حرج ، واختلطت مع الرجال فكأنها تتخلى عن هويتها ، وكأنها تتخلى عن شخصيتها المسلمة ، وكأنها تُعْلِن أنها لا تأتمر بأمر الله .
القرآن الكريم أمر بستر العورات ، ثم أمر بالحجاب ، ثم أمر بغض البصر ، وعدم إبداء الزينة إلا لرجالٍ جاء ذكرهن في سورة النور ، الأمر بستر العورات أولاً ، ثم الأمر بحجاب النساء المؤمنات ثانياً ، ثم الأمر بغض البصر وعدم إبداء الزينة للأجانب ثالثاً ، فكأن هذه الآية جاءت في الوسط ، وكأن الله سبحانه وتعالى دَرَّجَ أحكام الحجاب بحسب الظروف وبحسب تطور الدعوة الإسلامية .
الملاحظة الدقيقة أن المرأة التي تترك الحجاب إنكاراً له ، إنكاراً لفرضيَّتِهِ فقد كفرت ، وإذا تركتهتقليداً للأجانب فقد فسقت وعصت ، لكن المرأة المؤمنةتعتقد بوجوبه وتلتزمه ، إذا ترك الحجاب إنكاراً لفرضيته فهذا كفرٌ ، وإذا ترك الحجاب تقليداً للأجانب فهذا فسقٌ وفجور ، أما حينما تطبق المرأة أمر الله عزَّ وجل وتحتجب فهذا هو الحد الأدنى في إيمانها ، فلذلك هناك حالة من الحالات وأنا أقول عنها ـ هي حالة مرضية أحياناً ـ هي : أن المرأة إذا تخلت عن حجابها أرادت التعويض ، أي بالغت بأشياء كثيرة ، هذه المبالغة لإحساسها بالخلل ، ولإحساسها بالنقص في شخصيتها ، فإذا بالغت في أشياء شكلية من أمور الدين وهي قد خرجت سافرة ، فهذه المبالغة نوعٌ من أنواع التعويض الذي يرمم الخلل الذي أحدثه ترك الحجاب في شخصيتها .
الحقيقة كما قلت لكم سابقاً : إن المؤمنين يخاطبون دائماً بفروع الدين ؛ بينما الكفار وعامة الناس يخاطبون بأصول الدين ، أنت أيها الإنسان ، وأنتِ أيتها الإنسانة ، ما دمتِقد آمنتِ بالله خالقاً ، ومربياً ، ومسيراً ، وما دمتِ قد أعلنتِ عن عبوديتكِ لله عزَّ وجل، فالحد الأدنى من عبوديتكِ لله عزَّ وجل أن تأتمري بأمر الله عز وجل ، فلا تؤذَين ولا تؤذِين ، فحينما تبرز المرأة مفاتنها للناس في الطريق ، ماذا فعلت ؟ آذت عباد الله بكل أصنافهم ، وحينما تؤذيهم يؤذونها ، فهناك أذى متبادل ، إنها تؤذي عباد الله بمفاتنها ، ويؤذونها بتعليقاتهم ، وبتصرُّفاتهم ، وبالتحرشات التي يفعلونها معها .
 
السياسة الشرعية و التكليف الشرعي :  
 
إذاً :
﴿ فَلَا يُؤْذَيْنَ (59)
لا تؤذي ولا تؤْذَى ، لكن المرأة التي ليست مؤمنةً لو عاشت في مجتمع مؤمن إنها تؤمر بالحجاب ، لا لأنها مكلفةٌ به ؛ بل لأن السياسة الشرعية تقتضي ذلك ، ففي المجتمع المسلم لا نسمح لامرأةٍ كافرةٍ أن تبرز مفاتنها للناس ، فنؤذي شباب المسلمين ، إذاً حينما تؤمر المرأة المؤمنة بالحجاب هذا أمر تكليف ، وحينما تؤمر الكافرة بالحجاب فهذا أمر من نوع السياسة الشرعية ، أي أن أولي الأمر المؤمنين يرون أنه صوناً للمجتمع المسلم لا ينبغي لامرأةٍ كافرة أن تبرز مفاتنها للناس ، وأي مجتمعٍ يطبق الإسلام تطبيقاً دقيقاً يفرض على كل الأجنبيَّات ، وعلى كل النساء غير المسلمات اللاتي في البلد ، أن يأخذن بالحجاب من باب السياسة الشرعية لا من باب التكليف الشرعي .
فهناك تكليف ، إذاً هناك أمر تكليفي ، وهناك أمر سياسي ، صوناً للمجتمع المسلم لا نسمح لامرأةٍ كافرةٍ في المجتمع المسلم أن تبرز ، وأن تفتن ، وأن تصرف الناس عما خلقوا له من معرفة الله عزَّ وجل وطاعته .
شيءٌآخر ، لو أمرنا فتاةً في سن العاشرة بالحجاب في سنٍ مبكرةٍ ، فهذا ليس أمراً تكليفياً بل اسمه أمرٌ تأديبي ، كيف أن الطفل الصغير يؤمر بالصيام ؟ هل يعقل أن يدع الصيام إلى أن يبلغ ، فإذا بلغ أمر به ؟! قد لا يطيقه ، لا بدَّ من أن يؤمر به تأديباً ، حتى إذا بلغ سن التكليف رأى نفسه مُرتاحاً في الصيام ، كذلك الفتاة الصغيرة يجب أن تؤمر بالحجاب لا على أنها مكلفةٌ به ؛ بل على أن هذا أمرٌ تأديبيٌ يجب أن تألفَهُ الفتاة الصغيرة ، حتى إذا أصبحت مشتهاةً كان الحجاب بالنسبة إليها شيئاً عادياً ، هذا توجيهٌ للآباء ، أي أن الطفلة الصغيرة إذا تعلمت قواعد الأدب ، وإذا تعلَّمت أصول التعامل ، وإذا تعلمت أن تستر ما ينبغي أن يستر ، حينما تكبر وهي في سنٍ صغيرة فهذا من باب التأدب من آداب الإسلام .
*   *   *   *
 
أقوال العلماء في الحجاب :
 
أكثر العلماء في هذه الآية يتحدثون عن ما فهموه منها ، فابن الجوزي يقول : يغطون رؤوسهن ووجوهَهُنَّ .
أبو حيان يقول : أمر الحجاب شاملٌ لجميع النساء ، ولجميع بدن المرأة ، وينبغي أن يُغَطَّي الحجاب وجهها  .
أبو السعود يقول : يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعيةٍ من الدواعي . أي إذا خرجن في الطريق لأمرٍ مشروع .
والسُدِّي يقول : تغطي المرأة إحدى عينيها  .
هذه بعض أقوال العلماء في شأن هذه الآية ، لكن اتفق العلماء على أن للحجاب الشرعي ستة شروط  :
1 ـ الشرط الأول أن يكون الحجاب ساتراً لجميع بدن المرأة :
الشرط الأول : أن يكون الحجاب ساتراً لجميع بدن المرأة ، أي أن تستر عضواً وأن تبرز عضواً أن تقول : هذا عورة ، وهذا ليس بعورة ، إتباعاً للهوى ، أو إرضاءً للمجتمع ، أو إرضاءً للزوج تستر شيئاً وتخفي شيئاً ، تبرز شيئاً ، هذا شيء ليس من صفات المرأة المسلمة ، الحجاب يجب أن يكون ساتراً لجميع بدن المرأة .
2 ـ الشرط الثاني أن يكون الحجاب كثيفاً غير رقيق :
الشيء الآخر : أن يكون الحجاب كثيفاً غير رقيق ، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وصف النساء الكاسيات العاريات ، فكيف نفهم هذا الحديث ؟ كيف أنها كاسيةٌ عارية ؟ أي هو عليها ثوب ولكنه يشفُّ عما تحته ، الثياب الرقيقة ليست من الحجاب في شيء ، فأحياناً تغطي المرأة وجهها بحجابٍ رقيقٍ جداً ، هذا الحجاب الرقيق يخفي العيوب ويبرز المفاتن ، فالشيء الشفَّاف الرقيق جداً هذا ليس حجاباً قولاً واحداً ، أول شرط أن يكون ساتراً لجميع بدن المرأة ، والشرط الثاني أن يكون الحجاب كثيفاً غير رقيق .
3 ـ الشرط الثالث ألا يكون الحجاب زينةً في نفسه :
الشرط الثالث : ألا يكون الحجاب زينةً في نفسه ، أي أن المِعْطَف الملوَّن ، المزركش ، المطرَّز ، ألوان فاقعة ، ألوان وهَّاجة ، ألوان برَّاقة ، هذا إذا كان الثوب الخارجي زينةً في نفسه فهذا مما نهى عنه العلماء ، لأنه ماذا يحدث ؟ يلتفت الناس إلى ثوبها أولاً ثم إليها ثانياً ، كأنها تلفت النظر إليها ، فهناك نساءٌ يضعن على رؤوسهن شيء مطرَّز ، وشيء محبوك ، وفيه ألوان ، فالألوان والتطريز الذي على الحجاب هذا يُلفت النظر إلى الحجاب أولاً ، فإذا نظر الرجل إلى الحجاب تابع النظر إلى صاحبة الحجاب ، فالثوب يجب أن يستر كل بدن المرأة أولاً ، وأن يكون كثيفاً غير رقيقٍ ثانياً ، وألا يكون زينةً في نفسه ، والدليل قول الله عزَّ وجل :
﴿ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
(سورة النور : من آية " 31 ")
الزينة التي يمكن للمرأة أن تظهرها أو أن لا تظهرها يجب أن لا تظهرها ، إذا كان شيء ضمن إمكان المرأة ، أما الشيء الذي يبدو من دون إرادتها كأن تكون طويلة مثلاً فطولها ليس في إمكانها إخفاؤه ، لذلك قال الله عزَّ وجل :
﴿ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
(سورة النور : من آية " 31 ")
أما الشيء الذي يمكن أن تخفيه المرأة يجب أن يُخْفَى ، لو أن الله عزَّ وجل قال : إلا ما أظهرن منها ، صار أظهرن شيئاً وأخفين شيئاً ، أما :
﴿ إِلا مَا ظَهَرَ
(سورة النور : من آية " 31 ")
ظهر تعني قوامها ، تعني طولها ، تعني امتلاؤها ، أما الوجه بإمكانها أن تظهره وبإمكانها أن تخفيه ، إذاً الآية الكريمة :
﴿ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
(سورة النور : من آية " 31 ")
ولم يقل الله عزَّ وجل : إلا ما أظهرن منها :
﴿ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
(سورة النور : من آية " 31 ")
الشرط الأول : أن يكون ساتراً لجميع بدن المرأة ، والشرط الثاني أن يكون كثيفاً غير رقيق ، فالثياب الرقيقة تشفُّ عما تحتها ، وهذه ليست حجاباً ؛ بل هي فتنةً كما يقال .
النبي عليه الصلاة والسلام حينما حدثنا عن آخر الزمان ، عن نساءٍ كاسياتٍ عاريات ، مائلاتٍ مميلات ، على رؤوسهن كأسنمة البخت ، فالعنوهن لأنهن ملعونات .
4 ـ الشرط الرابع أن يكون الحجاب فضفاضاً غير ضيِّق :
الصفة الأولى في هذه المرأة أن ثيابها رقيقة ، وألا يكون الثوب كما قلت : زينةً في نفسه ، أن يكون فضفاضاً غير ضيِّق ، لأن الثوب يشف عن العورة بحالتين ؛ إذا كان رقيقاً يشف عن لون العورة ، وإذا كان ضيقاً يشف عن حجمها ، فأي ثوبٍ يشف عن حجم العضو أو عن لونه فهذا ليس حجاباً وليس ثوباً شرعياً ، ولا ينبغي للمرأة أن ترتديه في الطريق ، فالثياب الضيقة في حد ذاتها ثياب محرمة ، لأنها تصف خطوط جسم المرأة ، أما الثياب الفضفاضة لماذا أمر الشارع بها ؟ لأنها تخفي ملامح الجسم ، وتخفي خطوطه الخارجية ، فأن يكون الحجاب غير رقيق ، ألا يكون زينةً في نفسه ، أن يكون فضفاضاً ليس ضيقاً.
5 ـ الشرط الخامس ألا يكون الثوب مُعَطَّرَاً :
الشرط الخامس : ألا يكون الثوب مُعَطَّرَاً لقول النبي عليه الصلاة السلام  :
(( أيما امرأة استعطرت ، فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية ))
[ سنن النسائي عن أبي موسى الأشعري]
كل أنواع العطور النسائية التي تستعمل في الطريق ، هذه تصف النساء بأنهن زانيات ، لأنها بهذا العِطر تريد لفت النظر إليها ، تريد أن ينقاد إليها الشباب ، والرجال ، وهذا درجة في المعصية كبيرة جداً .
6 ـ الشرط السادس ألا يكون الثوب فيه تشبُّهٌ بالرجال :
الشرط السادس : ألا يكون الثوب ثوباً فيه تشبُّه بالرجال ، ثوب المرأة إذا كان مشبهاً لثوب الرجل فأيضاً محرَّم ، فإذا ارتدى الرجال السروال لا ينبغي للنساء أن يفعلن ذلك لأنه تشبهٌ بالرجال .
 
الحجاب الذي فرضه الله على المرأة ليس حرماناً لكنه تكريمٌ وتشريف :
 
إذاً لا ثوباً ضيقاً ، ولا ثوباً رقيقاً ، ولا ثوباً مُنْحَسِرَاً ، وليس زينةً في نفسه ، وليس معطراً ، ولا يشبه ثوب الرجال ، ستة شروطٍ لثياب المرأة المسلمة ، فثياب المرأة المسلمة متعلقة في دينها ، لأنها قد جعلها الله سكناً لزوجها ، فحينما تبرز مفاتنها لغير زوجها فقد تجاوزت حدود الله عزَّ وجل ، وقد خرجت عن طاعته ، وأفسدت وفسدت ، وآذت وأوذيت .
يجب أن تعلم المرأة علم اليقين أن الحجاب الذي فرضه الله عليها ليس تضييقاً ولا حرماناً ؛ ولكنه تكريمٌ وتشريف ، هناك نقطة مهمة جداً ربنا عزَّ وجل قال  :
﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)
((سورةسبأ
في هذه الآية دقةٌ في النظم بالغة ، هو أن الهدى جاء قبله على ـعلى هدى ـ وأن الضلال جاء قبله ـ في ـ فما حكمة أن يأتي الهدى مسبوقاً بـ (على) في أكثر آيات القرآن :
﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
(سورة البقرة : من آية " 5 " )
هؤلاء في ضلالٍ مبين ، ما حكمة أن يأتي الهدى مسبوقاً بـ (على) ، وأن يأتي الضلال مسبوقاً بـ (في) ؟ الحقيقة توجد حكمة بالغة هي :
أن الهدى يرفعك لأن على تفيد الاستعلاء ، الهدى يرفعك المعنى الأول ، وأنت أعظم من الهدى ، المهتدي أعظم من الهدى ، الهدى يرفعك يرفع شأنك ، يرفع مقامك عند الناس وعند الله ، يجعل خطَّك البياني صاعداً صعوداً مستمراً ، هذا الهدى :
﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمى(124)
((سورة طه
 
النفس المؤمنة طليقة بينما النفس الكافرة مقيدة وأسيرة :   
 
الهدى يرفعك ، وأنت فوق الهدى ، بمعنى أن الإنسان إذا اهتدى إلى الله فهو مُكَرَّمٌ عند الله تكريماً عظيماً ، لقولهم فاعل الخير خيرٌ من الخير ، وفاعل الشر شرٌ من الشر.
أي أنك إذا عرفت الله واهتديت إليه ، الهدى رفعكإلى مقامٍ عَلِيّ :
﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا( 57 )
 ((سورة مريم
الهدى حررك من العبودية لغير الله عزَّ وجل ، الهدى أشعرك بالطمأنينة ، الهدى أشعرك بالتوازن ، الهدى أشعرك بالثقة بالله عزَّ وجل ، الهدى نفى عنك القلق ، نفى عنك الخوف ، نفى عنك الحزن ، نفى عنك الضياع ، نفى عنك اختلال التوازن ، وهذه كلها أمراض ، إذاً جاء الهدى مسبوقاً بـ (على) .
أمافي ، هذا الإنسان إذا عصى الله عزَّ وجل يبدو للناس أنه حرٌ طليق ، ولكنه دخل في دوامة العقاب ، فيرتكب خطأً فيصبح أسير خطئه :
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
((سورة المدثر
النفس المؤمنة طليقة ؛ بينما النفس الكافرة مقيدة ، حبيسة ، أسيرة ، أسيرة ذنبها ، وانحرافها ، وخطئها ، إذاً  :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ (59)
معنىيدنين عليهن ، أي يرخين عليهن :
﴿ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ (59)
هذا الثوب الواسع الفضفاض الذي يستر المرأة كلها.
 
بعض المعاني المستفادة من آية الحجاب الأولى :   
 
قال تعالى :
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى (59)
هذا هو الحد الأدنى في المرأة المسلمة ، هذه هويتها الظاهرة ، لكن هويتها الباطنة ؛ علمها ، وفقهها ، وإخلاصها لزوجها ، وحَدَبُهَا على أطفالها ، ذلك أدنى أن يعرفن بالصلاح ، وبالعِفَّة ، وبالطهر :
﴿ فَلَا يُؤْذَيْنَ (59)
من قبل الفُسَّاق ، وكأن الله عزَّ وجل أشار بهذه الآية إلى أن أية امرأةٍ تبرز مفاتنها للناس كأنها تنتظر أن يوقع الأذى بها ، كأنها تدعو الناس إلى أن يؤذوها ، تدعو الشباب إلى أن يسمعوها الكلمات المقذعة ، تدعو الرجال إلى أن يرمقوها بنظرةٍ شهوانية ، يحرجونها ، ما دامت قد سَفَرَت وأظهرت ما يجب أن تخفيه فكأنما تدعو الناس إلى إيذائها .
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا (59)
لما سلف :
﴿ رَحِيمًا (59)
بكم في شأن هذه الآية ، هذه بعض المعاني المستفادة من آية الحجاب الأولى .
أعيد عليكم مرةً ثانية من باب التوضيح والترسيخ شروطالحجاب : ألا ينحسر الثوب عن بعض أعضاء المرأة ، وأن يكون كثيفاً ، وأن يكون فضفاضاً ، وألا يكون زينةً في نفسه ، وألا يكون معطراً ، وألا يكون مشبهاً بثياب الرجال ، ستة شروطٍ يجب أن تأخذ بها المرأة المسلمة .
 
كلما كانت المرأة مرموقة في عين زوجها كلما كانت أرضى لله عز وجل :
 
أما إذا لبست ما يروق لها لزوجها فهذا شيءٌ لا علاقة له بالحجاب ؛ بالعكس إنما قد أمرت به في بيتها ، لأن المرأة كلما كانت في عين زوجها مرموقةً أكثر ، كانت أرضى لله عزَّ وجل ، لأنها تسهم في إحصانه ، وفي أن يكون أغَضَّ للبصر ، طبعاً المؤمن لا بدَّ من أن يغض بصره ، لكن إذا كانت له زوجةٌ على ما يريد فإن هذا أغض لبصره ، إذاً تُسْهم في طاعة زوجها لله عزَّ وجل ، فأن ترتدي ما تشتهي في البيت هذا بحث آخر ، هذا ليس خاضعاً للدرس ، الدرس متعلق إذا خرجت المرأة من بيتها لشأن شرعيٍ لا ينبغي أن تظهر بثيابٍ تؤذي بها المسلمين ، فالآية تتحدث عن خروج المرأة من بيتها ، إذا خرجت من بيتها فعليها أن تأتمر بأمر الله عزَّ وجل المتعلق بثيابها .
﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
الشيء الدقيق في الدرس أن الإنسان يجب أن يأمر بناته الصغيرات اللواتي لم يبلغن بعد بالحجاب المُخَفَّف ، لأن هذا الأمر أمر تأديبي وليس أمراً تشريعاً ، كما لو أن الأب أمر أولاده الصغار بالصيام ، هذا أمر تأديبي ليتأدَّبوا بآداب الإسلام وليس أمراً تكليفياً ، والمرأة غير المسلمة لا يحق لها في المجتمع المسلم أن ترتدي ما تشاء ، فتفسد شباب المسلمين ، لذلك يأمرها أولو الأمر بالحجاب ، لا على أنها مكلفةٌ به ؛ بل على أنه أمرٌ من أمر السياسية الشرعية التي أعطيت لأولي الأمر كي يصونوا بها مصالح المسلمين ويأخذوا بأيدي المسلمين إلى طريق سعادتهم .
 
المنافقون دائماً يريدون السوء بالمؤمنين :   
 
ثم يقول الله عزَّ وجل :
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
الحقيقة أن المنافقين دائماً يريدون السوء بالمؤمنين ، فقد سألني أخ مرة سؤالاً : أيعقل  :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا
(سورة النور : من آية "19")
لم يفعل شيئاً ، لم يتكلم ولا كلمة ، فكيف لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة ؟
﴿ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ
(سورة النور : من آية "19")
ماذا فعل ؟ ما ارتكب معصيةً ، لكنه يحب أن تشيع الفاحشة ؟
الجواب هو : إن الذي يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا هو حتماً في موقع المنافقين ، وحتماً ليس مؤمناً ، وحتماً في موقع الكفار ، فلو أنه مؤمنٌ لما تمنى ذلك ، والنفاق الأكبر كما تعلمون أساسه أنه كافر لكن مصالحه متعلقةٌ بالمؤمنين ، لذلك سايرهم في بعض أمورهم ، وهذا ما يفهم من حديث رسول الله :
(( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب )) .
[ رياض الصالحين : " متفق عليه" عن عبد الله بن مسعود]
أي هو في الأصل ليس مؤمناً ، هو في الأصل كافر ، وفي الأصل منافق ، لكن تعلقت مصالحه بالمسلمين ، فسايرهم وداراهم ، هذا الذي يصف الإنسان بأنه منافق .
 
لا يستقيم إيمانٍ عبدٍ حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه : 
 
إذاً :
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ (60)
أي من يتتبع عورة أخيه المسلم فضحه الله في عقر داره ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن :
((قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة)) .
[رواه الطبراني عن حذيفة]
لا يستقيم إيمانٍ عبدٍ حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، أن يطلق لسانه فيما نهى الله عنه ، أن يخوض في أعراض المسلمين من دون تحقق ، من دون تثبُّت ، من دون يقين ، من دون دليل ، أن يروِّج بعض الآراء ، أن يروِّج بعض القصص ، أن يشهِّر ببعض المؤمنين من أجل أن يلفت النظر إليه ، أو أن يمتع الحاضرين بقصةٍ يعرفها قال : هذا عند الله أمر عظيم .
 
من صفات المؤمن أنه لا ينقل حديثاً إلا بعد التثبُّت والتأكد :
 
قال تعالى :
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ (60)
المرجفون الذين يشيعون الأخبار السيئة ، فأنت كمؤمن ليس لك أن تشيع الأخبار السيئة ، الخبر السيئ اجعله في نطاقٍ ضيق ، نشر الخبر السيئ يضعف العزيمة ، يوهن القوى ، يسيء الظن بالمؤمنين ، وقد يكون هذا الخبر السيئ عارياً عن الصحة ، قد يكون إشاعةً ، وقد يكون افتراءً ، وقد يكون كذباً ، فمن صفات المؤمن أنه لا ينقل حديثاً إلا بعد التثبُّت ، لقول الله عزَّ وجل :
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)
((سورة الحجرات
طبعاً هذه الآية تهديد  :
     
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا (61)
أي أينما وجدوا :
﴿ أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62
الفتنة كما قلت لكم أشد من القتل ، فأن تلقي فتنة ، أن تلقي شبهة ، أن تشوِّه سمعة إنسان ، أن تشوه سمعة امرأة مؤمنة ، أن تغري زوجها بتطليقها ، أن تضعف الثقة بين الإنسان وأخيه ، أن تفسد الناس على علمائهم ، أن تقطع ما أمر الله به أن يوصل ، هذا كله من صفات المنافقين والكفار ، فالمؤمن لا ينبغي له أن يفعل هذا أبداً .
 
من عَدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت :   
 
قال تعالى :
﴿  يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
الحقيقة من عَدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت .
﴿  وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
هناك ساعتان ؛ الساعة الأولى ساعة نهاية الإنسان ، والإنسان أحياناً ينتهي أجله على أتفه سبب ، وفي أسرع وقت ، بينما هو قائم فارق الحياة ، بينما هو نائم فارق الحياة ، بينما هو يبني فارق الحياة ، بينما هو مسافر فارق الحياة ، فساعة كل إنسان لا يعلمها إلا الله سبحانه ، والمؤمن العاقل يحتاط لهذا الأمر قبل وقوعه ويستعد لها ، فإذا جاءت كان مستعداً لها .
والحمد لله رب العالمين

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب