سورة السجدة 032 - الدرس (3): تفسير الأيات (05 – 07)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة السجدة 032 - الدرس (3): تفسير الأيات (05 – 07)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة السّجدة

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة السجدة - (الآيات: 05 - 07)

06/05/2012 18:28:00

سورة السجدة (032)
 
الدرس (3)
 
تفسير الآيات: (5 ـ 7)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
        الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس الثالث من سورة السجدة ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ¯يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾
( سورة السجدة )
 
 معنى تدبير الله لشؤون الخلق :
 
       التدبير بمعنى أن يُهيّئ تصرُّفاً إثر تصرف ، عملاً إثر عمل ، فعلاً إثر فعل ، تدبَّر الشيء أي تتبع الشيء إلى نهايته ، وهيَّأ له في كل موطنٍ تصرُّفاً ، وفي كل مرحلةٍ سلوكاً ، وفي كل درجةٍ علاجاً ، فالتدبير تقريباً يُشابه التربية ، فالله المربي أي المدبر ..
 
﴿  يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾
( سورة السجدة : آية " 5 " )
      الأمر : أمر العباد ، أمر المؤمنين ، وأمر العباد كافةً ، وأمر المخلوقات ، أمر الأحياء ، أمر الجمادات ، التدبير بمعناه الواسع التربية ، هذا التدبير من السماء إلى الأرض ..
 
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ﴾
( سورة السجدة : آية " 5 " )
 
 لا مدبّر إلا الله :
 
       أي أن الله عزَّ وجل في السماء إلهٌ ، وفي الأرض إلهٌ ، والسماء رمز العلو ، والأرض موطن الإنسان ، فأمر الإنسان إلى الله عزَّ وجل ، فهذه الفكرة التي أتحدث عنها كثيراً لماذا أُكرِرُها ؟ لأنها أصل الدين ، فما دام الإنسان يرى أن في الأرض مدبراً غير الله ، مربياً غير الله ، فاعلاً غير الله ، رافعاً غير الله ، خافضاً غير الله ، مُعزاً غير الله ، مُذلاً غير الله ، مُعطياً غير الله ، مانعاً غير الله ، إذا رأيت أن في الحياة من سوى الله ينفعك أو يضرُّك فهذا هو الشرك ، ولن تكون مؤمناً كما أراد الله عزَّ وجل إلا إذا اعتقدت أنه لا إله إلا الله ، ولا إله إلا الله كلمة التوحيد ، ولا إله إلا الله لا تكون كلمةً تقولها في ساعةٍ ، وينتهي الأمر ، إن قول لا إله إلا الله بمعناه الدقيق مُحَصِّلَةُ إيمانك كله ، فتفكرك من عشر سنين ، وحضورك مجالس العلم من عشر سنين ، ومحاكمتك ، وتدبُّر آيات القرآن الكريم ، وتأمُّلك في خلق السماوات والأرض ، ونظرك إلى الحوادث ، وما تنطوي تحتها من حكمةٍ بالغة ومن موعظةٍ كبيرة ، إن النظر إلى الحوادث والتفكر في خلق السماوات والأرض ، وتدبر آيات القرآن الكريم ، والتأمل الذاتي والتلقِّي عن الآخرين ، إن كل هذا النشاط على تنوّعه ، وعلى امتداده ، إن هذا النشاط في محصلة المحصلة ينقلك إلى الإيمان بأنه لا إله إلا الله ، فإذا اعتقدت أنه لا إله إلا الله سِرْتَ في طريقٍ ذات اتجاهٍ واحد ، سِرْتَ في ممرٍ إجباري ، لأن الإنسان المؤمن لا رأي له مع قضاء الله له .
 
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
 
( سورة الأحزاب : آية " 36 " )
         أنت متى تختار ؟ إذا كان عندك خيارات كثيرة ، أما إذا رأيت أن الأمر كلَّه بيد الله ، وأن الله وحده هو الحقيقة العُظْمى فدع الأمور إلى الله ، الإنسان ماذا يحب ؟ دقق .. بمن يتعلَّق قلبك ؟ الإنسان فُطِرَ على حب العظيم ، وحب المحسن ، وحب الجميل ، متى يتحرَّك القلب ؟ القلب ينبض بمشاعر الحب متى ؟ إذا لاقى عظيماً ، أو لاقى جميلاً ، أو لاقى محسناً ، لا عظيم إلا الله ، ولا محسناً إلا الله ، والله سبحانه وتعالى أصل جمال الكون ، فإذا عَكَفْتَ على معرفة الله ، واقتربت منه زَهِدْتَ فيما سواه ، وما تعلق الإنسان بما سوى الله عزَّ وجل إلا دليل ضعف إيمانه بالله ، لو قوي إيمانك بالله وَحَّدت الوجهة إلى الله ، إذاً ربنا عزَّ وجل يقول لك :
 
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾  
      أي أمر العباد ، الإنسان في ساعة الغفلة ، يقول لك : زيد وعبيد ، والجهة الفلانية ، والقوة الفُلانية ، والمعسكر الفلاني ، وانهيار القوى الفُلانية حاصلٌ ، والأمر صار بيد جهة واحدة ، هذا الخوض في هذه المتاهة ، متاهة الشرك ، متاهة البشر هذا يُبْعِدُك عن رب البشر، أما إذا رأيت الله عزَّ وجل هو الإله الواحد ، يده تعمل في الخفاء ، ما من فعلٍ إلا وفيه حكمة بالغة ، كل شيءٍ وقع أراده الله ، وكلُّ شيءٍ أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة البالغة ، وحكمته متعلِّقةٌ بالخير المطلق ، فعندئذٍ ترتاح نفسك .
 
 فلسفة العوام :
 
     الحقيقة أيها الإخوة ، الإنسان في الأصل فيلسوف ، حتى العوام لهم فلسفة ، فالتقِ مع رجل عامي يعطك فلسفته بالحياة ، يقول لك : " غُب على قدر ما تقدر " ، هذه فلسفة ، يأتي إنسان آخر يقول لك : " لا تؤذِ فلن تؤذى " ، هذه فلسفة ، لن تجد إنساناً إلا وله فلسفة معينة ، لا يوجد إنسان ينطلق في حركته اليومية إلا وفق تصور ، فمن هو البطل ؟ هو الذي يكون تصوُّره صحيحاً ، قلت لكم كثيراً : ما هو الجهل ؟ قد يظن الإنسان الجهل عدم المعرفة .. لا .. يا ليت ذلك ، يا ليت الجهل ألا تعرف ، لا إن الجهل أن تملك معلومات كلها مغلوطة ، تصورات خاطئة، علاقات غير صحيحة ، مقدمات لا تُفْضي للنتائج ، فالإنسان الجاهل قد يكون متعلماً ، قد يكون يحمل أعلى شهادة ، لكنه يكون ممتلئاً علاقات غير صحيحة ، مفاهيم مغلوطة ، تصورات كلها خاطئة .
      الشيء الذي أعيده كثيراً : لاحظ نفسك ؛ بجوارحك وأعضائك تهتم بها اهتماماً بالغاً ، لو أصاب العين ـ لا سمح الله ـ غلطا بسيطا ، ضعفا في الرؤية ، تشوشا في الرؤية ، ذبابة طارت أمام عينيك ، هذا أحد أمراض العين ، لو شعرت بأن خللاً في العين تبادر إلى الطبيب ، تدفع أي مبلغ ، تنتظر أي زمن في قاعة الانتظار ، لماذا ؟ كذلك يجب أن يهُمُّك أمر دينك ، هذا كلام خطير لابدَّ من الوقوف عنده .
(( ابن عمر دينك ، دينك )) .
[ الجامع الصغير ]
احرص على دينك ، الزم دينك ، تقصَّ أمر دينك ، (( دينك ، دينك ، إنه لحمك ودمك)) .
دقق ، اسأل ، لا تمر مر الكرام ، ما من مشكلةٍ تقع في المجتمع ، ما من طلاقٍ ، ما من تفليس ٍ، ما من مأساةٍ إلا وراءها معصية .
 
الفساد حركة على غير منهج :
 
ما هو الفساد ؟ هو الحركة من غير منهج الله .. انظر إلى الكون ، كلُّه يعمل وفق نظامٍ دقيق ، انظر إلى الكائنات غير المختارة تعمل بانتظام ، انظر إلى النحل، إلى النمل ، إلى أية مجموعة من المخلوقات ، إن لم تكن مختارة تعمل بأمر الله وَفْقَ أكمل صورة ، لأن الله عزَّ وجل كماله مطلق ، والأمر كله بيده ، لكن الإنسان حينما يتحرَّك بدافعٍ من شهواته من دون هدىً من الله عزَّ وجل يقع الفساد ، وإفساد الشيء إخراجه عن صلاحه ، الماء صالح للشرب ، يكون إفساد الماء إذا لوَّثته ، إذا أخرجته عن صلاحه ، إفساد الشاب إذا أخرجته عن دينه ، إفساد الفتاة إذا أخرجتها عن عفَّتها ، إفساد المواد إذا أخرجتها عن مقوِّماتها ، فالإنسان حينما يتحرَّك بدافعٍ من شهوته ، بلا منهج لا بدَّ من أن يكون فاسداً مفسداً .
       فالأمر ليس سماع مجلس علم ، سماع تفسير آية ، الأمر يتعلق بمصير كلٍ منا ، لاحظ ما من مشكلةٍ تعاني منها إلا بسبب خطأ في السلوك الناتج عن خطأ في التصوّر ، خطأ في العلم ، خطأ في السلوك ، مشكلة ، لما قال ربنا عزَّ وجل :
 
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ¯خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ¯اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ¯الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ¯عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾
( سورة العلق )
        فهذه الآية إذا تغاضينا مبدئياً عن خصوصية السبب الذي نزلت من أجله ، وهي خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، إذا أخذنا عموم اللفظ الله عزَّ وجل يقول لك : اقرأ ، والقراءة رمز التعلم ، أي تعلم لأنك إنسان ، أودع الله في الإنسان قوةً إدراكية ، أودع الله في الإنسان فكراً ، أودع الله في الإنسان عقلاً ، أودع الله في الإنسان معرفةً ، قال له : اقرأ ، فإذا لم تقرأ ما الذي يحصل ؟ لا أريد أن أقرأ ، أي إذا الإنسان قال: لا أريد هذا الدين ، إذا أدار ظهره للقرآن ، إذا نسي المبتدى والمنتهى ، إذا قال : هذا الدين باطل ، ما في مانع ، بادئ ذي بدء أن تقول هذا الكلام .
 
 ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟؟؟
 
لكن انظر ماذا ينتظرك ؟ ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟ قال :
(( بادروا بالأعمال الصالحة ، فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا )) .
[ الترمذي ]
        تصور إنساناً ما ، يا ترى هل سيبقى كل يوم يستيقظ كاليوم السابق ، وإلى ما شاء الله ؟ لا يمكن ، سنة سنتين ، خمساً ، عشراً ، وفي أحد الأيام يستيقظ على خلل في جسمه ، هذا الخلل قد يكون بداية النهاية ، إذاً هناك نهاية ، هل هناك إنسان امتد به العمر إلى ما شاء الله ؟ قد يُعَمِّر ، ولكن لا بدَّ من الموت ، إذاً قال النبي منبهاً :
(( بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا )) .
        والله الذي لا إله هو ، هذا الحديث أرويه كثيراً ، لكن لا أشبع منه ، لماذا ؟ لأنه خطير جداً ، إذا ترك الإنسان الدين ، ترك معرفة الله ، ترك طاعة الله ، ترك السير على منهج الله ، أدار ظهره للقرآن ، التفت إلى مصالحه الشخصية ، إلى تجارته ، إلى وظيفته ، إلى دراساته ، إلى حظوظ نفسه ، إلى نزهاته وقال : هذا الأمر لا يعنيني الآن .. ما الذي ينتظره ؟ قال :
(( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا .. هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوِ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوِ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
( من سنن الترمذي : عن أبي هريرة )
 قد تأتي الدنيا ، ومن يصدق أن الغنى قد يكون عقاباً ؟ من يصدِّق ؟
" عبدي ، خلقت لك السموات والأرض ، ولم أعيى بخلقهن ، أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كل حين ؟ لي عليك فريضةٌ ، ولك علي رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلطنَّ عليك الدنيا " .
        الدنيا ، النجاح في التجارة ، كسب الأموال الطائلة ، تغيير نمط الحياة ، الانغماس في الملذَّات ، في الترف ، في النعيم ، هذا الذي يظنه الناس نعمةً هو من الله ابتلاء .
" إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثملا ينالك منها إلا ما قسمته لك ، ولا أُبالي وكنت عندي مذموماً ، أنت تريد ، وأنا أريد ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثمَّ لا يكون إلا ما أريد )) . 
      فالنبي الكريم قال : (( هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوِ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوِ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
فإذا كان دخلُ الإنسان محدوداً ، وكان مستقيماً ، وبعد حين جاءه دخلٌ وفير ، فأمر امرأته أن تَسْفُر ، وسمح لنفسه أن يدخل أماكن موبوءة ، وأن يخالط أشخاصاً سيِّئين ، وأن يعطي نفسه حظوظها ، وأن يدع بعض الفروض ، أترى هذا الغنى نعمةً أم نقمة ؟ والله إنها نقمة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًىمُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوِ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوِ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
 ( من سنن الترمذي :عن أبي هريرة )
 
 انظر إلى الكون وتحرك نحو الحقيقة :
 
        الإنسان له فلسفة ، أو له تصوّر ، فالبطولة أن تبحث عن فلسفةٍ صحيحة تنطبق مع هذا الكتاب ، ما حقيقة الكون ؟ الكون مسخَّر لك ، ما هذا الكلام ؟ نعم ، الكون بمجرَّاته ، بمذنباته ، بكازاراته ، بكواكبه ، بالمجموعة الشمسية ، بدرب التبَّانة ، هذه النجوم العملاقة ، فإذا كان أكبر نجم ملتهب يبعد عنا أربع سنوات ضوئية ، فإنك تحتاج لتصل إليه بمركبةٍ أرضيةٍ إلى خمسين مليون عام ، هذا كلام الذي عنده آلة حاسبة أن يجرِّب ، أنا أقول لك : هذا الكلام صحيح : أربع سنوات ضوئية .. أي ما يقطعه الضوء في أربع سنوات تحتاج أنت لتصل إليه بمركبتك الأرضية إلى خمسين مليون عام .. ونجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية ، وهناك مجرة مليون عام ، كما أن هناك مجرة ستة عشر ألف مليون ، هذا الكون كله مسخرٌ لك ، ما هذا الكلام ؟ كلام خالق الكون .
 
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
 
( سورة الجاثية : آية " 13 " )
      لماذا سخَّره ؟ لشيئين تعريفاً وتكريماً ، ماذا ينبغي أن تعمل ؟ أن تؤمن ، وماذا ينبغي أن تعمل ؟ أن تشكر ، لذلك ما دُمت في طريق الإيمان والشُكر فأنت في بحبوحة ، قال تعالى :
 
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾
( سورة النساء )
      ما دمت في طريق الإيمان والشكر فأنت في بحبوحة ، فإذا اختل الإيمان أو ضعف الشُكر جاء العلاج ، يا الله هذه آية واضحة جداً ، لاحظ نفسك حينما يضعف إيمانك تنصرف عن الله عزَّ وجل ، والإيمان ليس اعترافاً فقط ، قد يظن بعضهم أن الإيمان تصديق ، الإيمان تصديق وإقبال ، لو كان تصديقا فقط ، ماذا فعلت أنت ؟ فأنا في رابعة النهار ، والشمس ساطعة أقول : أنا فكَّرت ، تأمَّلت ، درست ، قررت ، وقلت : إن الشمس ساطعة ، نقول له : خير إن شاء الله ، لكن المهم ماذا فعلت ؟ وإذا قلت : إن الشمس ساطعة ، ماذا قدمت ؟ ماذا أضفت ؟ الإيمان بالشيء لا قيمة له إلا إذا تحرَّكت نحوه .. انظر :
 
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾
( سورة الكهف : آية " 110 " )
       هذه المشكلة ، المشكلة هناك أناسٌ كثيرون يُقِرّون بوجود الله وباليوم الآخر ، وما داموا لا يتحركون باتجاه طريق الحق فهم ليسوا جديرين أن يسمّوا مؤمنين : " يا عبدي ماذا فعلت من أجلي ؟ هل واليت فيَّ ولياً ؟ هل عاديت في عدواً ؟ ".
     فموضوع الإيمان موضوع بعيد جداً لمن عاش في ظل أقوال يرددها ، وأماني يعلل نفسه بها .
ما قولك بأن أطغى طغاة الأرض .. فرعون قد قال :
 
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾
ولا يوجد إنسان الآن يقول : أنا ربكم الأعلى ، كما قال فرعون ، لكن فرعون قال :
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾
 
( سورة النازعات )
       وفرعون قال : ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍٍ غَيْرِي ﴾ ، لا يوجد إله غيري ، هكذا قال فرعون ، فرعون الذي ذبَّح أبناء بني إسرائيل ، واستحيا نساءهم ، حينما أدركه الغرق قال :
 
﴿قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
( سورة يونس )
 
 متى ينبغي أن تؤمن ؟
 
      فإذا آمنت فهل أنت فرح بذلك ؟ الإيمان حاصل ، المشكلة هي مشكلة وقت فقط ، المشكلة ألا تؤمن أو أن تؤمن ، يا ليت ، المشكلة متى يجب أن تؤمن ، أجل متى يجب أن تؤمن ؟ الإيمان سيحصل .
 
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾
( سورة ق )
        المشكلة متى ينبغي أن أؤمن ؟ إذا قلت : أنا أؤمن ، وفرعون آمن عند الغرق ، وما من مخلوقٍ اقترب منه الموت إلا وهو يؤمن ، فالأغرب من ذلك أنني اطلعت على كتاب ، والذي ألَّفه بذل جهداً كبيراً في تأليفه ، في جميع أنحاء العالم هناك حالات وفاة مؤقتة ، القلب يتوقف سبع دقائق ، يوجد حالات سبع دقائق ، أربع دقائق ، ثم صحا من غيبوبة ، هذا الإنسان الذي واجه الموت ، ثمَّ نال منه ، انتابته مشاعر ، هذه المشاعر سجَّلها ، جاء مؤلِّف ، واستقصى كل هذه المشاعر المكتوبة في المستشفيات ، وجَمَّعها في كتاب ، لو قرأت هذا الكتاب لصدقت أن هذا القرآن حق ، أي أن أي إنسان من أية ملةٍ ، من أي مذهب ، من أي دين، حتى المُلْحِد حينما يواجه الموت يؤمن كما آمن فرعون ، ويستعرض كل سنواته السابقة ، ويفحص عمله الصالح والطالح ، المشكلة أن الإيمان سيحْصل ، لكن الذي يعنينا أن نؤمن في الوقت المناسب ، أن نؤمن ونحن أصحَّاء ، نرجو الغنى ، ونخشى الفقر ، أن نؤمن ، ونحن أقوياء ، ونحن شباب ، ونحن في معية الصبي ، ونحن في طور الرجولة ، كي نستثمر الإيمان .
 
 مِن لوازم الإيمان :
 
الذي يقول لك : الإيمان تصديق فقط ، يجب أن تقف عنده وقفة متأنية ، الإيمان تصديق وعمل ، والكفر تكذيب وإعراض ، من لوازم الإيمان الإقبال على الله عزَّ وجل ، والاتجاه نحوه ، ومن لوازم الإيمان أن تتحرَّك نحو الله .
 
﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾
( سورة الذاريات )
        من لوازم الإيمان أن يكون لك عمل يؤِّكد إيمانك .
 
 لماذا جعل الله عز وجل طبيعة الإنسان تختلف عن التكليف ؟
 
هنا يعترضنا سؤال : لماذا جعل الله عزَّ وجل طبيعة الإنسان تختلف عن التكليف ؟ هذا الجسم يحتاج إلى النوم والأمر الإلهي أن تصلي الصبح حاضراً ، الأمر بصلاة الفجر يتناقض مع طبيعة الجسم ، الجسم يميل إلى الراحة ، الأمر بغض البصر يتناقض مع طبيعة النفس ، النفس تميل إلى النظر ، الأمر بإنفاق المال يتناقض مع طبيعة النفس ، النفس تميل إلى الأخذ ، إذاً : لماذا كان الأمر والنهي مخالفاً لطبيعة النفس ؟
الجواب : كي ترقى ، فالله عزَّ وجل جعل في الإنسان نوازع غريزية ، وجعل فيه عقلاً ، هذا العقل يدله على الخير والحق ، وهذه الغريزة تدله على الشهوة ، فهو بين نداء العقل ، ونداء الغريزة ، بين القيم والحاجات ، بين ما يبقى وما يفنى ، بين أن يرضي الله وأن يرضي نفسه ، فهذا الصراع إذا انتصرت على نفسك ارتقيت إلى ربك .
إذاً : الإيمان ليس أن تؤمن بالله فقط ، وأن تتحرك وفق شهواتك ، يجب أن تؤمن ، وأن توقع حركتك اليومية وفق منهج ربك .
 
 الخطأ في التصور يتبعه خطأ في السلوك :
 
فلذلك يا أيها الإخوة ، الأمر ـ أنا أقول ـ خطير ، وأعني ما أقول ، لأن أي خطأ في تصورك يتبعه خطأٌ في سلوكك ، وأي خطأٍ في سلوكك يتبعه مشكلةٌ فشقاء ، فلما ربنا قال :
 
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ¯خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ¯اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ¯الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ¯عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾
 
 
( سورة العلق )
قال :
 
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ¯أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾
( سورة العلق )
      إذًا : الإنسان إذا لم يقرأ ، ولم يعلم ، ويتفكر ، ويتأمَّل ، ويطلب العلم ، وإن لم يتدبَّر ، ويفكر في الكون ، وإن لم يدبر القرآن ، وينظر في الحوادث ، فسيبقي جاهلاً ، يبقي على هامش الحياة ، وماذا سيحصل له من بعد ؟ سيطغى .
 
﴿ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾
( سورة العلق )
       أي إذا جاء المال سيطغى بالمال ، إذا جاءته القوة سيطغى بها ، إذا جاءته الوسامة سيطغى بها ، إذا جاءته الحظوظ النفسية سيطغى بها .
 
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ¯أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾
 
( سورة العلق )
فلذلك نعيد عليكم الآية التي وصلنا إليها .
 
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾
(سورة السجدة : آية " 5 " )
 
 عودة إلى تدبير الله في الكون :
 
        أي أن الله سبحانه وتعالى هو الرب ، هو المدبِّر ، فهناك من يقول : لا تدبِّر ، فالله المدبر ، إذاً فاستقم على منهجه ، الله عزَّ وجل لا يغيب عنه شيء ، لا يغفل عن شيء ، ولا ينسى شيئا ، بيده الأمر ، بيده كلُّ شيء ، فربنا عزَّ وجل يقول :
 
﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ﴾
(سورة السجدة : آية " 5 " )
 
  تربية الله لعباده كاملة :
 
        أي أمر العباد ، أمر المخلوقات ، رزقهم ، إيمانهم ، طِباعهم ، أمراضهم ، نفوسُهم ، تربية كاملة ، أنا أقول : تربية جسمية وعقلية ونفسية واجتماعية .
التربية الجسمية :
يربِّيك جسمياً ؛ الخلايا تنمو ، والشرايين تتسع ، والكُتلة تزداد وزناً وحجماً ، والغذاء متوافر ، والغدد ، والأجهزة ، والأعضاء ، كلُّها تعمل بانتظام بيد الله عزَّ وجل ، لو اختل النمو لكان المرض الخبيث ، ما المرض الخبيث ؟ اختلالٌ في نموِّ الخلايا ، فالله يدبر لك جسمك ، وينمي لك عقلك ، يريك من آياته ، تقرأ آية من القرآن تتعامل مع الناس ، ثم ترى في تعاملك مع الناس ما يؤكِّد هذه الآية ، لا إله إلا الله ، يقول لك :
 
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾
( سورة البقرة : آية " 276 " )
يريك في المجتمع كيف أن المرابي محقه الله عزَّ وجل ، يقول لك :
 
﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
( سورة البقرة : آية " 276 " )
       كيف أن المتصدِّق يزداد ماله ، هذا التطابق بين كتاب الله وما يجري في الأرض ، هذا التطابق هو دليل أن هذا الكلام كلام الله ، فيدبر لك عقلك ، كما دبر لك جسمك ، ونَزَّل الأمطار ، وأرسل الرياح ، والرياح ساقت السحب ، التي انقلبت إلى أمطار ، انقلبت الأمطار إلى ينابيع ، سُقي الزرع ، ونما إلى أن صارت محاصيل من خضار ، وفواكه ، وصارت أزهارا ، كلّ هذا الشيء من أجلك ، يدبر لك جسمك ، البقرة من أجلك ، والدجاجة من أجلك ، والخروف من أجلك ، وهذه الأنعام التي خلقها الله لكم .
 
﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾
( سورة النحل : آية " 5 " )
        خلقها خصيصى لكم ، هذا تدبير الجسم .
التربية العقلية :
يدبِّر العقل ؛ يريك من آياته ، ينمو عقلك بآيات بينة ، ورغم ذلك تظن أن السبب هو خالق النتيجة ، لكن لا يلبث سبحانه أن يخرق لك هذه العادة ، ويظهر خرقاً للعادات ، من أجل أن تعلم أن الله هو الخالق ، وليست الأسباب .
التربية النفسية :
 إذاً نما عقلك ، وأصاب النفس الكبر ، فأرسل لها من يهينها فتابت إلى الله ، ربي لك نفسك ، فربنا عزَّ وجل يربي لك جسمك ، يربي عقلك ، يربي نفسك ، أنت منعزل عن الناس ، الناس أحياناً يتكلمون بحقك ، لكنك تعود إلى صف المجتمع بعلاقةٍ طيبةٍ طاهرة ، بفضل تربية الله سبحانه لك .
 
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ﴾
 
 رد فعل العبادة تجاه نِعَم الله :
 
        أمر الأمطار ، أمر النبات أمر الأرزاق ، أمر تأديب العباد ، أمر معالجتهم فرادى ومجتمعين ، الأمر مطلق ، والمطلق على إطلاقه ، من السماء إلى الأرض ، الآن الله أرسل مصيبة ، أو أرسل أمطارا غزيرة أتت بخير وفير ، الآن رد الفعل ، هل هناك من شكر ؟ هل هناك من طغى وبغى ؟ هل هناك من كفر ؟ هل هناك من استخدم المال في معصية الله ؟ هل هناك من استخدم المال في طاعة الله ؟ ردود الفعل ، الله عزَّ وجل دبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ماذا ردُّ فعل العباد ؟ هل هم شاكرون ؟ هل هم صابرون ؟ هل هم حامدون ؟ هل هم ناقمون ؟ هل هم طائعون ؟ هل هم عصاة ؟
 
﴿ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾
( سورة السجدة )
 
 
 ما يفعله الله في يوم لا يفعله العباد في ألف سنة :
 
        فلو فرضنا سكان الصين الذين يعدّون ملياراً ومئتي ألف ، لو كانوا جميعاً موظفين ، وأنت محاسب ، لا يوجد غيرك ، فكم تستغرق لإعطائهم رواتبهم ؟ لو أن كل واحد يحتاج خمس دقائق تقول له : الاسم الكريم ، وتفتح الدفتر تبحث عن اسمه ، تسلمه الراتب ، وتقول له : وقِّع ، يحتاج خمس دقائق ، فمليار ومئتا ألف كيف يتم دفع رواتبهم ؟ ولو فرضنا إنساناً على سبيل المثال والتقريب تمكَّن أن يقَبِّض كل هؤلاء المليار والمئتي ألف ، فهذا شيء عظيم جداً ، فربنا عزّ وجل من باب التقريب قد لا تكون ( ألف ) بمعناها الكَمّ ، بل بمعناها التكثيري ، ربنا عزّ وجل ما يفعله من تدبير شأن العباد في يومٍ واحد لا يستطيع البشر مجتمعين أن يفعلوه في ألف عام ، وهذا تقريب ، ولله المثل الأعلى ، تقريب لما يفعله الله من تدبير أمر السماوات والأرض .
      فإذا كنت مديراً عاماً وجاء لك هاتف ، وعليك أن ترد على المكالمة ، وعندك مراجع فتقول له : لحظة لكي أتكلم ، رفعت السماعة ، فبدأ يتكلم فجاء لك هاتف ثان .. لحظة ، أنت كبشر لا يوجد عندك إمكان أن تعالج قضيتين في آنٍ واحد ، لا تقدر ، في الوقت الواحد تنصرف إلى شيء واحد فقط ، لكن لو فرضنا عندك ألف موظف ، وأنت مدير معمل ، هل بإمكانك بوقت واحد أن تتفحص أحوالهم ، أوضاعهم المعيشية ، أوضاعهم في بيوتهم ، ما يعانونه من ضائقة ، أن تعالج المريض ، وأن توقِف المتجاوز عند حدِّه ، وأن تأمر هذا ، وأن تنهى هذا ؟ هذا شيء فوق طاقة البشر ، إلا بالتسلسل ، وإلا بالأمر العام ، وبالأمر الكتابي ، ويساعدك معاون ، ومعاون المعاون ، ونائب ، ومدير شؤون قانونية ، وشؤون ذاتية ، وشؤون علاقات عامة ، حتى تتمكَّن من أن تتحرك حركة إيجابية ، وفي الساعة التالية تقول : رأسي صار مثل الطبل .
        فربنا عزّ وجل يقرِّب لك المعنى ، أنه ما يفعله الله في يومٍ واحد لا يستطيع البشر مجتمعين أن يفعلوه في ألف عام ، أي أن خمسة آلاف مليون إنسان في ألف عام لا يستطيعون أن يدبروا ما يفعله الله في يومٍ واحد ، لذلك هذه الآية تبيِّن عظمة الله عزّ وجل وكيف أن أمره كن فيكون ، زُل فيزول .
 
  من معاني التدبير : مراقبة الله لجميع البشر في وقت واحد :
 
        إن الإنسان يلاحظ نفسه ، فهو أحياناً يخطر في باله خاطر يستوجب المحاسبة عليه ، وهذه تحدث مع المؤمنين ، فقد يفكِّر في شيء غير صحيح ، أو لا يليق بالمؤمن ، يكون ماشياً في الطريق ، وهو لا يدري فصُدم بعامود ، لأنه كان منتبهاً لجهةٍ ثانية ، تأتي الضربة على جبينه لتوقظه أنَّك في خواطر لا ترضي الله ، ماذا يفكر الإنسان ؟ أتظن أنك لوحدك في الكون ، ولا أحد غيرك ؟ لا ، فإنَّ الله معك ، كل واحد منا يشعر أن الله يراقبه ، مطَّلعٌ على خواطره ، على نواياه ، أحياناً الإنسان ينوي نية طيبة فيجد العمل الطيب مقابلها .
مثلاً : زار أحد الناس مزرعة ، فاستغرب إذ رأى نهرا ، وعلى كل ضفةٍ منه أرض ، وكل أرض لها صاحب ، وكِلا الأرضين زُرعتا قمحاً ، القمح الأول نامٍ نماءً شديداً جداً ، والقمح الثاني ضعيف ، رجل له معرفة بالله ، سأل صاحب هذه الأرض : ما قِصتك ؟! قال : والله أنا لي أخ فقير نويت أن أعطيه نصف المحصول ، فقط خاطر داخلي ، فإذا بهذا الزرع ينمو ، الأرض الثانية رأى فيها العامل ، قال : والله إن صاحب الأرض بخيلٌ جداً ، وفي نيتي أن آخذ من الغَلة شيئاً لي من دون أن يدري ، فإذا شعر الإنسان أن الله عزّ وجل على يحاسبه الخاطر فعندئذٍ يستقيم ، فالله رقيب على كل إنسان ، وكل مخلوق ، لهذا ورد في بعض الآثار :
"لا تقتل البهائم إلا بغفلة" .
إذاً :
 
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
( سورة الحديد : آية " 4 " )
        ربنا يا ترى مع زيد وعبيد وفلان ؟ مع أهل الشام وأهل مصر ، وأهل الحجاز وأهل العراق ، وأهل إفريقيا ، هذه كلها شعوب ، الله مع الشعوب ، مع الأمم ، مع البشر ، مع المؤمنين ، مع الدعاة ، مع روَّاد المساجد ، مع روَّاد المقاهي ، مع المنحرفين ، مع العصاة ، مع الأتقياء ، مع الأنقياء ، مع كل مخلوق ، حتى مع البهائم ، مع المخلوقات كلها ، طبعاً معهم بعلمه ومراقبته ، هذا التدبير ، أنت لا تقدر إذا كنت مدير مدرسة ، وعندك ستة وثلاثون مدرساً تجد نفسك مضطرباً مشتتا ، فتقول : يا أخي ، لا أقدر أن أتحمل ، صعب أن أدير مدرسة كاملة ، وتعلن أنك تحتاج إلى معاونين ، وتحتاج إلى موجِّهين ، وإلى هاتفٍ ، وتحتاج إلى أجهزة ، وتحتاج إلى من يوصل أمرك إلى الطُلاَّب ، وأحياناً تجد الطلاب غير منضبطين .
       أما خالق الكون فمع كل مخلوق ، مطلع يحاسبه على خواطره ، وعلى أعماله ، يثيبه على طاعته ، يسوق له الشدائد على معاصيه ، وهكذا ، فمعنى تدبير الأمر : أي أن الله مع كل مخلوق .
أنا أقول لإخواني المؤمنين : حينما تبدأ تشعر أن الله فعل كذا من أجل كذا ، وأصابني بما أصابني من أجل كذا ، وأكرمني من أجل كذا ، حينما تسمع نداء الحق يُلْقى في أذنك فهذا العقاب من أجل هذه الكلمة التي قُلتها.
فلو أن أحداً عنده في البراد ما لذَّ وطاب ، وقال له آخر : أريد منك حاجةً مما في هذا البراد ، فقال له : لا شيء عندي يا أخي ، ثم ترك البيت شهراً ، ورجع ، فإذا بماس كهربائي فانقطعت الكهرباء ، وأصبحت كل هذه المؤونة فاسدة ، فيجب أن تُعلن أن هناك سراً إلهياً ، أنت منعت هذا الإنسان شيئاً مما عندك وقلت له : هذا ليس عندي ، فَحُرِمْتَ ما في هذه الثلاجة كلها ، هذا تدبير إلهي .
امرأة من أحياء دمشق القديمة كان عندها شجرة ليمون تحمل أربعمئة ليمونة في السنة ، ما من إنسان يطرق الباب إلا وتعطي له ليمونة من أهل الحي ، توفيت هذه المرأة ، وبقي في البيت صبية ، وهي زوجة ابنها ، فأول ما طرق الباب قالت : لا يوجد عندها ليمون ، وفي السنة الثانية يبست الشجرة .
التدبير أن تعطي الله فيعطيك ، وإن تمنع الله يمنع عنك ، فليست القضية معك فقط ، بل مع كل مخلوق .
النقطة اليوم : أن هناك شمولا ، كل إنسان وحده يفهم أن الله معه ويحاسبه ، لكن يجب أن تتصور أن الله مع المخلوقات كلها ، مع ألف ومئتي مليون مسلم ، مع خمسة آلاف مليون إنسان ، فإذا كان الطيور في العالم وعددها فرضاً مئة مليار طائر ، إذا كان هناك خمسة آلاف مليون كل إنسان له عشرون طائرا ، كم سمكة موجودة ؟ مليون نوع من السمك في البحر ، واللهُ مع كل سمكة ، والمعتدية يحاسبها ، وكذلك كم طائرا ؟ كم حيوانا ؟ كم نملة ؟ وكلها في رقابة الله وعلمه .
 
﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
( سورة النمل )
       وجدوا في قمة جبل نبع ماء في الهند ، هذا شيء غريب جداً ، هذه الظاهرة لا يمكن أن تُفَسَّر إلا بوجود جبل أعلى ، ومستودع هذا النبع في الجبل الأعلى ، إن هذا الجبل العالي جداً وجد في قمته العالية نبع ماء ، إذاً : هناك تمديدات إلى جبلٍ بعيدٍ أعلى ، ولكن لمن ؟ قال : لبعض الوعول التي تعيش في قِمَمِ الجبال ..
 
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾
 يدبر أمر نملة سوداء ، تحت صخرةٍ صمَّاء ، في ليلةٍ ظلماء، ويدبر رزق العباد ، رزق الطيور ، رزق ما تحت الأرض ، تجد دودة تحت الأرض لها رزقها عند الله عزّ وجل ، فهذه الآية هي فعل الله كله ، وهو رب العالمين يدبر الأمر ؛ أمر العباد ، أمر المؤمنين ، أمر الكُفَّار، أمر الحيوانات رزقاً وغير رزق ، الإنسان رزقاً ، وعقلاً وجسماً ، وروحاً ونفساً ، واجتماعاً ، أي تدبير عام ..
 
﴿ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾
( سورة السجدة )
 
  موقف العباد من ابتلاءات الله :
 
       إن ربنا يتصرَّف ، ويتلقَّى نتائج تصرُّفه ، بعثنا ببلاغ ، درسناه دراسة كبيرة على مستوى القطر ، الآن تلقينا تقارير عن مستوى تَقَيُّد الموظفين بهذا البلاغ تقريباً ، دبرنا أمراً ، وتلقينا النتيجة ، فالله عزّ وجل يتصرَّف ، ويبعث للإنسان مصاباً ، فماذا يقول ؟ ماذا قال عبدي ؟ يا رب ، حمدك عبدك فلان ، اكتبوا له الأجر ، ماذا قال عبدي ؟ يقول : يا رب ، ماذا فعلت لك حتى تفعل بي هذا ؟ إذاً هذا جاهل ، وإنسان آخر يقول : يا رب ، لك الحمد ، إذاً هذا عالم ، فالله عزّ وجل يتصرف ، ويتلقى نتائج مواقف العباد ..
 
﴿ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ¯ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾
       هذا هو الله ، فإذا أنت أمضيت حياتك ، أفنيت شبابك ، أبليت عُمُرك في معرفة الله ، ليس هذا كثيراً ، بل هو قليل ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة ، لكن يا خسارة إنسان أفنى شبابه من أجل إنسان آخر ، أفنى عمره لمخلوقٍ مثله ، يأتي يوم القيامة ، وقد شعر بالخسارة الكبرى .. ذلك الذي :
 
﴿ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ¯ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ¯الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾
( سورة السجدة )
 
  انظر إلى خلوقات الله : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
 
      هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت ؟ كيف التفاوت ؟ في الخلق إحكام ما بعده إحكام ، دقق في الجَمل ، دقق في الحيتان ، في الفيل، في النملة ، في البعوضة لها ثلاثة قلوب ؛ قلبٌ مركزي ، ولكلِّ جناحٍ قلب ، أجنحتها تَرِف رَفاً دقيقاً جداً في الثانية ، أعداد كبيرة جداً ، لها محاجم ، لها مخالب ، لها جهاز رادار ، جهاز تحليل دم ، جهاز تمييع دم ، جهاز تخدير ، وطنين ، هذه هي البعوضة ..
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ )) .
( سنن الترمذي عن سهل بن سعد )
 
﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ¯الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾
( سورة السجدة )
الصوص ينشأ في منقاره رأس مدبب جداً كالمَخْرَز من أجل أن يكسر قشر البيضة عندما يحين موعد خروجه منها .
        بالمناسبة الشكل البيضوي هو أقسى ، وأمتن شكل هندسي ، الشكل المنحني ، فإن القوة موزعة على كل السطح بالتساوي ، لكن الشكل البيضوي ضعيفٌ جداً من الداخل ، متماسكٌ جداً من الخارج ، لذلك الشكل البيضوي مهما تلقى ضربات من الخارج فإنه يتحمل ، بينما من الداخل لا يتحمل ، الصوص من الداخل ، يكفي أن يدفع قشر البيضة بهذا الرأس المدبب الصغير الذي نما على منقاره حتى يخرج إلى الهواء ؟ فإذا خرج إلى الهواء تلاشى هذا الرأس المدبب ، إن الله أعطاه مفتاحاً لهذه العلبة ، مفتاحاً مؤقتاً ، يفتح القشرة نحو الأعلى ، فتنكسر البيضة ، ويخرج منها ، بعد أن يخرج منها فإن هذا النتوء يذوب شيئاً فشيئاً ليعود منقاراً عادياً ، يد من هذه ؟ هذا القلب لدى الجنين ، الجنين لا يقوم بعملية تنفس ، ولا استنشاق ، ولا رئتان تعملان ، ولا دورة صغرى ، ربنا فتح لدى الجنين ثقباً بين البطينين ، فحينما يولد الطفل .. هكذا قال لنا طبيب .. تأتي جلطة تُغْلِق هذا الثقب ، فيتحول الدم من أذين إلى أُذين سابقاً ، ويتحول من أُذين إلى رئة إلى بطين ،  من قَلب الدورة ؟ من سد هذا الثقب في الوقت المناسب ؟
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾
       يا ترى الله مع الجنين ؟ مع الطفل المولود ؟ مع الأم ؟ مع الأب ، أحياناً يكون هناك انحراف مع الأم والأب ، يقول لهم طبيب : والله المولود مُشوَه ، فيذهبون ويتوبون ، ويدفعون صدقات ، يصلون ويتوبون ، فالله عالج الأب والأم ، وبعد هذا جاء المولود سليماً ، ربنا له أساليب عجيبة جداً مع كل مخلوق .
 
 الملخَّص المفيد : معرفة الله نصف الطريق على الحق :
 
فملخَّص الدرس حينما تصل إلى أن تدرك على الله أنه فعل كذا من أجل كذا ، وكذا من أجل كذا ، وأنه :
ما من عثرةٍ ولا اختلاج عرقٍ ولا خدش عودٍ إلا بما قدَّمت أيديكم وما يعفو الله منه أكثر " .
        إذا وصلت في معرفتك بالله إلى هذا المستوى فقد قطعت نصف الطريق ، جميل جداً أن تتأمل حياتك ، لماذا أعطاني ؟ شخص عليه زكاة مال قدرها ثلاثة عشر ألف وثمانمائة وخمسون ، اختلف مع زوجته ، عندنا طقم الأرائك بحاجة إلى إصلاح ، ضغطت عليه وصرفته عن دفع الزكاة ، مركبته أصابها حادث ، فالذي دفعه إجمالاً بالقلم والورقة ثلاثة عشر ألف وثمانمائة وخمسين ، فالله يدبر الأمر ، إنه تأديب عندما جعل الله الرقمين يتطابقان تماماً ، ما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أن منع الزكاة سبب تلف هذا المال ، فالنتيجة التي أتمناها عليكم جميعاً وعلى نفسي معكم أنه كلما أصاب الإنسان شيء يتأمل لماذا أصابني هذا الشيء ؟ يتهم نفسه فلعل الله يهديه إلى سر ما أصابه .
 
 تطبيق عملي لهذه الآية :
 
      أيها الإخوة الأكارم ... كتطبيقٍ عمليٍّ لهذه الآية ، الحقيقة ليس القصد من هذه الآية أن نمضي ساعةٍ في آيةٍ واحدة ، القصد أن يَبْقى الإنسان يقظاً في تأمله لما يجري معه ، ليعلم علم اليقين أن هناك إلهاً حكيماً ؛ هو الذي أعطاه ، وهو الذي منعه ، الذي يسَّره له ، والذي عسَّره عليه ، حينما يصاب بانشراح أو بانقباض ، حينما يوفَّق في زواج أو لا يوفَّق ، حينما تنشأ مشكلة في البيت ، دقق هناك معصية اقترفها ، هناك مخالفة ، ابحث عن مخالفةٍ مع الله ، ابحث عن معصية ، هناك ارتباك في العمل ابحث عن سبب ، كلما وجدت شيئاً لا يروق لك .. الحديث القدسي معروف عندكم:
(( يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ
 
 وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ
 
 الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ )) .
[ مسلم عن أبي ذر ]
      الإنسان يستسلم إلى الله ، لكن لا يكون ساذجاً ، لا يمر مر الكرام على الحوادث ، بل يتساءل ، لماذا أعطاني ؟ لماذا منعني ؟ لماذا عسَّر عليّ هذا العمل ؟ لماذا ابتلاني ؟ دائماً اتهم نفسك ، ودائماً قل وراء ما يجري سبب وجيه ، لأن الله حكيم ، والله عزّ وجل عادل وحكيم ، ورحيم وعليم ، وخبير ، فالإنسان المؤمن العاقل لا يقول : ظروف الحياة هكذا ، لا تقل : الدهر يومان ، يومٌ لك ويومٌ عليك ، لا تقل : القدر سَخِر مني ، لا تقل : هكذا حظي ، لا تقل : حظ ، لأنه لا حظ ، بل هناك توفيق وتعسير ..
 
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ¯وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ¯فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ¯وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ¯وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ¯فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾
( سورة الليل )
الإنسان يلاحظ ، ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ¯وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾
ما قال : والذي يمرضني ، بل قال :
 
﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ﴾
 
       المرض في أصله خروجٌ عن منهج الله عزَّ وجل ، هذا هو أصل المرض ، طبعاً هناك حالات أخرى نادرة ، لكن في الأصل الإنسان مُجَهَّز تجهيزاً كاملاً ، فإذا تحرك على خلاف منهج الله أصابه خلل في جسمه .
       فيا أيها الإخوة الأكارم ... كلمة يدبِّر الأمر والله لا أشبع منها ، لأنها واسعة كثيراً ، يدبر أمرَ من ؟ أمرَ كل شيء ، لهذا قالوا في تعريف اسم العزيز : هو الذي يحتاجه كل شيءٍ في كل شيء .
يدبِّر أمر كل شيء في كل شيء ، أمر كل شيء ، أنت وزوجتك وأولادك ، أحياناً يكون لدى الزوج تقصير مع الله ، الابن ترتفع حرارته ، يأتي الطبيب فيلهمه الله أن يُكَبِّر الأمر على الأم والأب ، تجد الأم والأب يغليان غليان الحرقة على ابنهما ، إلى أن يتوبا إلى الله عزّ وجل ، فلعَلَّ مرض الابن كان تأديباً للأب والأم .
أحياناً الإنسان يأتيه الدخل الكبير تكريماً ، وأحياناً امتحاناً ، وأحياناً استدراجاً ، وأحياناً يمنع عنه المال تأديب ، وأحياناً امتحاناُ ، وأحياناً ابتلاءً ، هذا الفكر اجعله يعمل ، اجعل هذا الفكر يعمل في فهم ما يجري ، لأنه " من لم تُحدث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر " .
أنا أقول لكم : الإنسان الذي يسوق الله له من الشدائد من أجل أن يردعه عن بعض المُخالفات ، ومن أجل أن يضطَّره إلى باب الله عزّ وجل ، هذا الإنسان إذا لم يفهم على الله مراده فهو المصيبة ، ليست مصيبته في هذه المصيبة ، بل هو نفسه المصيبة ، فلذلك هذه الآية هي محور درسنا :
 
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾
 
        هو المدبر ، هو المربي ، هو المسير ، هو الخالق يعرف ما في نفسك .. " عَلِمَ ما كان ، وما سيكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون .. وليس في الإمكان أبدع مما كان ، وليس في إمكاني أبدع مما أعطاني " ، وسخَّر الله لك كل شيء من أجل أن تعرفه ، لذلك يدبِّر الأمر ، ويتلقى ردود فعلك ، بعث لك الإكرام ، فقلت : أنا يا أخي أمضيت عمري في هذه المصلحة ، أصبح عندي خبرة ، والآن آخذ قرشين نظيفين منها ، هذا شرك ، التوفيق من الله ، لكنه ترجمه إلى شرك ، إنسان آخر حرمه الله المال ، لأنه يعلم صلاح أمر دينه بهذا الحرمان ، الله عزّ وجل يدبر ، ويتلقى ردود الفعل ..
 
﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ¯ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾
 
الغيب ما غاب عنك ، وما شَهِدَّته ..
 
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾
( سورة السجدة )
الحمد لله رب العالمين
 
 
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب