سورة الروم 030 - الدرس (14): تفسير الأيات (46 – 60)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الروم 030 - الدرس (14): تفسير الأيات (46 – 60)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الرّوم

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الروم- (الآيات: 46 - 60)

26/03/2012 17:11:00

سورة الروم (030)
الدرس (14)
تفسير الآيات: (46-60)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الرابع عشر من سورة الروم .
 
أفعال الله عزَّ وجل واحدة منها ما هو مادي ومنها ما هو توجيهي :   
 
مما يُلفت النظر في الآيتين وهما  :
﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
 ( سورة الروم )
ما العلاقة بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى  :
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
أي أن أفعال الله عزَّ وجل واحدة ، منها ما هو مادي ، ومنها ما هو توجيهي ، فكما أن الله سبحانه وتعالى يُرسل الرياح مبشرات بالأمطار ، والأمطار إذا هطلت ذاق الناس رحمة الله عزَّ وجل ، كذلك يُرسل الله المرسلين بالهُدى ، فإذا كان المطر حياةً للإنسان ، فإن الهدى حياةٌ للقلب ، فجوهر الفعل واحدٌ ، إن أرسل المطر تحيا به الأجسام ، وإن أرسل الرسل بالبينات والهدى تحيا بهم القلوب .
 
انتهاء الفعل المادي بإحياء الأجسام و انتهاء الفعل المعنوي بإحياء القلوب :    
 
الله عزَّ وجل يقول :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
(سورة الأنفال : من آية " 24 " )
عامة الناس يعنون بحياة الجسد ؛ بصحته ، بنشاطه ، بسلامة أعضائه ، بسلامة أجهزته ، بسلامة حواسِّه ، ولكن غاب عنهم أن النفس هي الخالدة ، حياة الجسد مؤقتة وتنتهي بالموت ، ولكن النفس هي الباقية ، فلأن يُعْنى الإنسان بنفسه ؛ بطهارتها ، بسلامتها من العيوب ، بطهارتها من الذنوب ، باصطباغها بصبغة علام الغيوب ، لأن يُعنى الإنسان بنفسه من باب أولى ، كلٌ منا إذا شعر أن في أعضائه خللاً بسيطاً بادر إلى الطبيب ، لماذا لا نبادر إلى من يطبب قلوبنا ونفوسنا إذا شعرنا أن في نفوسنا خللاً ؟!!
ربنا عزَّ وجل حينما جمع الآيتين ، أراد من هذا الجمع بين الآيتين أن يبين أن فعل الله واحد ، الفعل المادي ينتهي بإحياء الأجسام ، والفعل المعنوي ينتهي بإحياء القلوب .
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
ماذا تفهم لو أن الله عزَّ وجل قال : يُرسل الله الرياح ، لو أن لفظ الجلالة جاء بعد الفِعل ، يرسل الله الرياح ؟ وماذا تفهم كما قال الله عزَّ وجل : (الله الذي يرسل الرياح) ، لا شك أن الصيغة القرآنية تفيد القَصر ، الله وحده .
 
الله عزَّ وجل واجب الوجود وما سوى الله ممكن الوجود وهناك مستحيل الوجود :
 
هل عرفت أيها الإنسان من هو الذي يحرك الرياح ؟ هل عرفت أيها الإنسان من هو الذي يسوق السحاب ؟ هل عرفت أيها الإنسان من الذي ينزل المطر فتحيا به الأرض بعد موتها ؟ فهذا كله مستفادٌ من قوله تعالى : (الله) ، والله كما تعلمون صاحب الأسماء الحسنى ، علمٌ على الذَّات ، علمٌ على الذات الكاملة ، الواجب الوجود ، الله عزَّ وجل واجب الوجود وما سوى الله ممكن الوجود ، وهناك مستحيل الوجود ، فما يناقض أسماء الله الحسنى مستحيل الوجود ، والله سبحانه وتعالى واجب الوجود ، الله علمٌ على الذات ، أي اسم الذات .
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا (48)
لذلك الإنسان عندما يعزو هذه الأمطار ، وتلك الفيضانات ، هذه الرياح ، وتلك السحب ، وهذه النباتات والأرض المُخْضَرَّةَ ، إذا عزيت لغير الله عزَّ وجل هذا هو الشرك  .
(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري؟ )) .
[الجامع الصغير : عن أبي الدرداء]
قال تعالى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ (48)
الحقيقة أيها الأخوة عندما يذكر ربنا عزَّ وجل في القرآن الكريم بعض الآيات الكونية لا شك أن هذه موضوعاتٌ نموذجيةٌ للتفكُّر ، الموضوعات المتعلِّقة بالتفكر لا تعد ولا تحصى ، فكل ظاهرةٍ في الكون هي في الأصل موضوعٌ صالحٌ للتفكر ، ولكن عندما يختار ربنا عزَّ وجل لنا من بين مَلايين ملايين الآيات ، يختار موضوعاً ، فالأولى أن نُعْنَى بهذا الاختيار وأن نفكر فيه ، فربنا عزَّ وجل يسلك بنا طرائق شتَّى ، تارةً يعرفنا بالكون كطريقٍ إليه ، وتارةً يعرفنا بالقرآن كطريقٍ إليه ، وتارةً يعرفنا بالحوادث كطريقٍ إليه ، وتارةً يُثير فينا التفكير العقلاني ليوصلنا إليه ، إذاً الله عزَّ وجل يسلك مع الإنسان طرائق شتى ، من هذه الطرائق الكون .
 
تحريك الرياح له فوائد كبيرة جداً :     
 
حينما يختار الله عزَّ وجل آيةً من الكون فهذا موضوعٌ نموذجي هو في متناول الناس جميعاً ، لعل هناك بعض الموضوعات تحتاج إلى ميكروسكوبات ، إلى تلسكوبات ، إلى إحصائيَّات ، إلى ثقافة رفيعة جداً ، إلى درجات علمية عالية ليست في متناول جميع الناس ، لكن ربنا عزَّ وجل حينما يختار هو موضوعاً للتفكر ، هذا الموضوع موضوعٌ بين أيدي الناس ، كبيرهم وصغيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، مثقفهم وغير مثقفهم ، من كان في المدينة ومن كان في الريف قال تعالى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ (48)
تحرُّك الرياح له قوانين معقدة جداً ، الحرارة ، فبالحرارة يتمدد الهواء ، فإذا تمدد تخلخل ، وإذا تخلخل قل الضغط فيه ، يقول لك : الضغط منخفض ، أي هناك حرارة ، الحرارة مددت الهواء فصار الضغط منخفضاً ، وفي الأماكن الباردة الهواء منكمش ، كثافته عالية لذلك يكون الضغط مرتفع ، فالهواء من طبيعته أنه ينتقل من الضغط المرتفع إلى الضغط المنخفض ، الضغط المنخفض مخلخل يجذب الهواء ، تختلف درجات الحرارة بين المناطق الدافئة والمناطق الباردة ، بين سواحل البحار وبين أعماق الصحراء ، هذا الاختلاف في درجات الحرارة يحرِّك الرياح ، وهذا تبسيط بالغ للحركات ، حركات الرياح علم قائم بذاته تدرس في الجامعات لسنواتٍ طويلة ، ولكن من باب التبسيط ، كيف الإنسان أحياناً يبسط المطر ، يقول لك : إبريق ضع فيه ماءً إلى أن يغلي ، وائتِ بكأسٍ بارد ضعه على فوهة هذا الإبريق ، ترى أن بعض قطرات الماء قد تساقطت ، هذا تبسيط بالغ للمطر ، ومع ذلك لا بأس به ، فالله عزَّ وجل قال :
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ (48)
تحريك الرياح له فوائد كبيرة جداً ؛ منها تجديد الأجواء ، الأجواء تلوث أحياناً ، تأتي الرياح فتجدد هذه الأجواء ، والرياح تسوق السُحُب ، إذا ساق الله السحب من مكانٍ إلى مكان ، لو أن السحب تمركزت فوق البحار ماذا نستفيد منها ؟ فالبحر كله ماء ، لكن من رحمة الله عزَّ وجل أن هذه السحب يسوقها الله سبحانه وتعالى إلى مناطق عطشى ، إلى مناطق جدباء ، إلى مناطق محتاجةٍ إلى ماء السماء ، إلى رحمة الله عزَّ وجل .
 
الفرق بين رؤية المؤمن ورؤية الكافر للأمطار :   
 
السحب يراها كل الناس ، والأمطار يراها كل الناس ، ولكن فرقٌ كبير بين رؤية المؤمن ورؤية الكافر ، المؤمن يرى أن يد الله عزَّ وجل ، اليدُ الرحيمة ، اليد الحكيمة ، اليد الرازقة ، هي التي تحرك الرياح وتسوق السحاب ، فالمؤمن إذا رأى الأمطار تنهمر ، تنهمر مع الأمطار دموعه شكراً لله عزَّ وجل ، هذه الرؤية هي التوحيد ، وغير المؤمن يقول : هناك منخفضٌ متمركزٌ فوق المكان الفلاني باتجاه القطر مثلاً ، فدائماً يجب أن لا ننسى ، يجب أن ننتقل من النعمة إلى المُنعم ، من الكون إلى المكوِّن ، من النظام إلى المنظِّم ، من الأسباب إلى المُسَبِّب ، هذا هو الإيمان ، قال تعالى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا (48)
شيء آخر ، من صمم أن الهواء يتحمَّل بخار الماء ، الهواء يحمل بخار الماء ، يقول لك مثلاً : دمشق مستوى الرطوبة 35 ، لو ذهبت إلى الغوطة مستوى الرطوبة 70 ، على سواحل البحار مستوى الرطوبة 90 ، عندنا مقياس حرارة ومقياس رطوبة ، معنى الرطوبة أي تحمُّل الهواء لبخار الماء ، الشيء اللطيف أو الدقيق هو : أن الهواء يحمل بخار الماء بنسبٍ تتوازن مع حرارته ، فمتر مكعب من الهواء في الدرجة ثلاثين يحمل خمسة غرامات بخار ماء ، لو صارت الدرجة عشرين يتخلى عن غرامين ، كل حرارة لها كمية ماء يحملها الهواء ، في الجو الحار الهواء يحمل كميات من بخار الماء كبيرة جداً ، فإذا ساق الله هذه السحب إلى مناطق باردة ، أولا الهواء الشفَّاف يحمل بخار الماء ، هناك درجة بين الهواء الشفاف وبين الأمطار هي السحب ، السحب ذرات من بخار الماء مُنْعَقِدَة في الهواء ، فإذا واجهت هذه السحب مناطق باردة تخلت عن كميتها الزائدة ، طبعاً هذا أيضاً تبسيط للأمطار .
 
السحاب علم قائم بذاته وهو من آيات الله الدالة على عظمته :
 
قال تعالى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا (48)
السحاب علمٌ قائمٌ بذاته ، يوجد سحاب رُكامي ، يوجد سحاب خُلَّبَي ، يوجد سحاب مُتَقَطِّع ، يوجد سحاب مُتَّصل ، هذه أيضاً أشكال وأنواع وخصائص وحركات واتجاهات .
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ (48)
هناك مناظر طبيعية للسحب شيءٌ يأخذ بالألباب ، ألوان متدرجة ، سماكات متدرجة ، على كلٍ من يرى السحب وهو في الطائرة المنظر لا يصدق ، كأنها جبال ، جبال ووديان ، قمم مؤنَّفة وقمم منكسرة ، انحدارات حادة وانحدارات بسيطة ، تلال وأَكَمَات ، وكأن الثلج قد غَطَّاها ، هذا منظر السحاب من فوق السحاب ، نحن نرى السحاب من تحت السحاب ، نراه سقفاً ، ولكن إذا رأى الإنسان السحاب وهو فوق السحاب ـ في الطائرة ـ يراه كما وصفه الله عزَّ وجل كأنه جبال ، فكلمة من جبالٍ لا يتذوقها إلا من رأى السحاب من فوق السحاب ، فهذا السحاب قال تعالى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ (48)
أشكال ، وأنواع ، وكُتَل ، ومن منا يصدق أن السحابة الواحدة أحياناً سماكتها تبلغ سبعة كيلو متر ، السحابة الواحدة فيها آلاف الأطنانمن الماء .
 
لابدّ من ذراتٍ تنعقد عليها حبات المطر وهذا هو الودق :   
 
ربنا عزَّ وجل قال  :
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾
(سورة النمل : من آية " 88 " )
لها سرعة ، وبلا صوت ، وفيها الخيرات ، إذاً  :
﴿ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا (48)
معنى كسفاً أي قِطَعَاً  .
﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ (48)
لا بد من ذرات تنعقد عليها حبَّات المطر ، لا بد من ذرَّاتٍ وهي إما الغبار ، أو بعض المواد ، أو بعض الغازات ، لا بد من ذراتٍ تنعقد عليها حبات المطر وهذا هو الودق .
﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ (48)
 
الإنسان حتى لو لم يكن مزارعاً ارتباطه بالأمطار ارتباط مصيري :    
 
طبعاً حبات المطر لطيفة ، ويتجلَّى فيها اسم اللطيف ، لو أن حبات المطر أكبر من ذلك لكانت مؤذيةً ، وكلكم يسمع أو يقرأ عن حب العزيز إذا كان بحجمٍ كبير فإنه يؤذي النبات كله ، ويؤذي الإنسان والحيوان وحتى الجماد .
﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(48)
تجد المزارع ، والآن أصبح غير المزارع ، والمدني ، تعلُّق الناس بالأمطار تعلُّق عام ، لو أنك ساكن في بيت وفي أعماق المدينة فأنت مرتبط بالأمطار ، لأن أسعار الخضراوات والفواكه لها علاقة بالأمطار ، لأن انقطاع المياه عن بيتك له علاقة بالأمطار ، عندما بعث الله هذه الموجة من السحب الكثيفة والأمطار الغزيرة توقف انقطاع المياه في البيوت ، يوجد علاقة ، فالإنسان حتى لو لم يكن مزارعاً ارتباطه بالأمطار ارتباط مصيري ، مرة سمعت صاحب معمل أقمشة يقول لصديقه : هذه السنة بعنا كميات كبيرة من الأقمشة للجزيرة ، قال له : ما السبب ؟ قال له : الموسم كان طيباً ، انتبهت أنا أن معمل الأقمشة يبيع كميات كبيرة جداً إلى مناطق الجزيرة ، قال له : ما السبب ، قال له : الأمطار كانت غزيرة ، فهذا الرزق من السماء يحرك كل شيء ، إذا الأمطار غزيرة ، المزارع زرع وحصد ، فيشتري ، معناها تحركت البلد كلها .
 
الله عز وجل حرك الأمطار ليكون الناس على اتصالٍ بربهم :
 
قال تعالى :
﴿ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (48)
في موضوع المطر ربنا عزَّ وجل ثّبَّت أشياء وحَرَّك أشياء ، ثبت حركة الأفلاك مثلاً شروق الشمس ثابت ، لا يوجد عندنا دعاء للشروق : يا رب الشمس لم تشرق اليوم ، يا رب نرجوك أن تساعدنا ، الشمس تشرق بشكل ثابت ورتيب ، هكذا حكمة الله ، ثبَّت الشمس والقمر والنجوم والمجرات ، حركة الأفلاك ثَبَّتَهَا ، أما الأمطار حَرَّكَهَا ، حركها ليكون الناس على اتصالٍ بربهم :
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)﴾
(سورة نوح)
تلقي نظرة على بعض البساتين في شهر كانون الأول ، ولك أن تُلقي هذه النظرة الأخرى على بعض البساتين في هذه الأيام ، يا ترى الأرض كلها قد أنبتت ؟ من كل زوجٍ بهيج ، اللون الأخطر نضر ، الأزهار فوَّاحة ، الأرض ارتوت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج .
﴿ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
المؤمن لعمق إيمانه يفرح بماء السماء ، ولكن يفرح إذا اهتدى إلى صاحب النعمة وهو الله سبحانه وتعالى ، فدائماً الإنسان إذا فرح بالدنيا فقط ، واكتفى بالدنيا ، هناك مشكلة ، المشكلة أن الدنيا تنتهي ، ففي بعض البلاد الأجنبية الأمطار فيها ألف ميليمتر في السنة ، والبلاد كلها خضراء ، والغابات كثيفة جداً ، والأنهار غزيرة ، والينابيع فوَّارة ، يا ترى لو أن الدنيا جاءت كما نريد ولم نكن في المستوى الذي يريده الله عزَّ وجل ، هل هذه نعمة ؟ المؤمن الحقيقي يفرح بطاعته لله عزَّ وجل ، وبعمله الصالح لأن هذا الذي يسعد في الأبد .
 
المؤمن يعلم أن تقنين الله عزَّ وجل لم يكن عن عجزٍ بل كان عن تأديبٍ :   
 
قال تعالى :
﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
معنى مبلسين أي يائسين ، الإنسان لجوج ، إذا انحبست أمطار السماء ، تجد الناس يقولون : انتهى الأمر ، الأنهار جَفَّت ، دخلنا في التصحُّر ، الجفاف عَم ، المواسم انتهت ، الأشجار سنقطعها ، تجد يأسه سريعاً ، ودائماً ربنا عزَّ وجل يُخَيِّبُ آمال أو توقُّعات المتشائمين ، هناك أماكن في الغوطة مجاري المياه زرعوها ، ظنوا أن القضية انتهت ، الأنهار جَفَّت ، ولن تجري بعد اليوم ، فلما جاء تفجُّر نبع الفيجة قبل أشهر ، وصلت مياه بردى إلى العُتَيْبَة ، وعاد إلى ما كان عليه قبل سنواتٍ طويلة ، زرعوا أرضه في بعض الأماكن ، إذاً :
﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
أي يائسين ، الإنسان سريع اليأس سريع التفاؤل ، المؤمن لا يقنط من رحمة الله ، أدق فكرة في هذا الموضوع : أن المؤمن يعتقد أن تقنين الله عزَّ وجل لم يكن عن عجزٍ ؛ بل كان عن تأديبٍ ، لأنه كُن فيكون .
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾
(سورة الحجر : من آية " 21 " )
سمعت أن قرية في إيطاليا هطل فيها أمطار في الليلة الواحدة مئتين وخمسين ميليمتر ، أيأن أمطار السنة كلها نزلت في ليلة واحدة ، ونحن هنا في دمشق في بعض أوقات المطر في ليلة واحدة ، في أربع ساعات هطل ستة وستين ميليمتر ، في أربع ساعات هطل من السماء ما يوازي أمطار العام الماضي بأكمله ، أي أن الأمطار التي هطلت في العام الماضي كله في دمشق نزلت في أربع ساعات ، وانتهى الأمر ، فلذلك الأمر بيد الله .
 
المطر رحمة وانحباس المطر نِقْمَة :  
 
لا تنسوا هاتين الآيتين :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾
(سورة الأعراف : من آية " 96 " )
قال تعالى :
﴿ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾
(سورة الجن)
الآن الأمر الإلهي  :
﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ (50)
المطر رحمة ، وانحباس المطر نِقْمَة ، وآثار رحمة الله المراعي ، أحياناً تمطر السماء على البادية بأرقام قد لا تصدقونها ، أرقام فلكية ، فنوفر استيراد علف بمئات أو بألوف الملايين ، كمية أمطار تهطل على البادية فتنبت العشب ، نوفر من خلال هذه الأمطار ألوف الملايين علف مستورد .
﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (50)
أرض ميتة ، أشجار يابسة ، غُبار ، الجو كله غبار ، تأتي الأمطار فتنقي الأجواء ، تُنبت الكلأ ، تَدِبُّ الحياة في هذه الأشجار ، تزهر ، تورق ، تثمر ، الإنسان يأكل ، والحيوان يأكل ، والكل يشكر .
 
الماء تحيي الأرض والاتصال بالله عزَّ وجل يحيي النفوس البعيدة عن الله :
 
قال تعالى :
﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
أتمنى على الأخوة الأكارم أن لا يبتعدوا عن المغزى البعيد لهذه الآيات ، أيضاً الإنسان يكون مَيِّتَ القلب ، قلبه ميت ، نفسه مريضة ، مُتشائم ، يائس ، لا يفعل خيراً إطلاقاً ، يتمنى أن يأكل وحده ، وأن يعيش وحده ، وأن يموت الناس جميعاً ، فإذا دخل الإيمان في قلبه صار إنساناً آخر ، صار غَيْرِيَّاً ، صار يحب الآخرين ، يحب خلق الله كلهم ، صار لقلبه حياة ، كما أن الماء تحيي الأرض ، كذلك الاتصال بالله عزَّ وجل يحي النفوس التي ماتت بالبعد عن الله عزَّ وجل قال :
﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
لكن الرياح التي تبشِّر بالأمطار قد تكون رياحاً عاتية تدمر الحرث والنسل ، والأمطار التي ترونها تحيي الأرض بعد موتها قد تكون أمطاراً تسبب فيضانات تدمر قرى بأكملها ، فكل شيء بحده المعتدل نعمة ، وبحده المفرط نقمة ، فالنبي الكريم كان يستعيذ بالله من الريح :
(( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ))
[الطبراني والبيهقي عن ابن عباس]
الريح مدمرة تدمر كل شيء .
﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ(5)وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6)سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(8)﴾
(سورة الحاقة)
 
الكفر هو التكذيب والإعراض وإيقاع الأذى بالآخرين :   
 
الآن هذه الرياح لو جاءت باردة دون الصفر هذا هو الصقيع ، بساتين ، مزروعات ، مشاريع ، أشجار مثمرة ، خضراوات ، فواكه ، كلها تسود وتموت ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا (51)
رأوا النبات قد مات ، اصفر  .
﴿ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
انظر إلى إنسان ضعيف المعرفة بالله عزَّ وجل ، سريعاً ما يستخفُّه الفوز ، وسريعاً ما يستفزه المصاب ، فهناك أشخاص يكفرون بالله لمصيبةٍ ألَمَّت بهم ، معنى ذلك أن إيمانه صفر ، علامة المؤمن الصبر ، مهما أصابه يقول : يا رب لك الحمد ، أما هذا الذي يخرج عن طوره ، ويتكلَّم بكلماتٍ لا تليق بحضرة الله عزَّ وجل بسبب أن مصيبة أصابته ، لهو إنسانٌ لا يعرف الله عزَّ وجل ، قال :
﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
معنى الكفر هو التكذيب ، ومعنى الكفر هو الإعراض ، ومعنى الكفر هو إيقاع الأذى بالآخرين ، فالإنسان حينما يرى أن الله عزَّ وجل ما أكرمه ، أو أنزل به مصيبةً يكفر ، يكذِّب رحمته ، يكذب حكمته ، يكذب عدالته ، ويعرض عنه ، وقد يدع الصلاة .
 
الكافر مَيِّتٌ ماتت نفسه فهي لا تعي على خير :   
 
قال تعالى :
﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى (52)
هذه إشارةٌ دقيقةٌ جداً إلى أن الكافر مَيِّتٌ ، ماتت نفسه ، فهي لا تعي على خير ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه ـ أي يختم على قلبه ـ )) .
[الترمذي عن أبي الجعد]
صار إنساناً كتلة من اللحم والدم تبحث عن شهواتها ، هكذا المُنقطع عن الله عزَّ وجل مخلوق يبحث عن ملذَّاته ، عن شهواته ، من دون انضباط أو منهج ، من دون قيَم :
﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى (52)
هذا ميت ، المقطوع عن الله ميت ، غير المؤمن بالله ميت ، الذي يؤذي الناس ميت ، الذي يحب ذاته ميت .
﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ (52)
طبعاً الصُمَّ الذي لا يسمع ، فإذا دعوت إنساناً أصماً كيف يسمع ؟ لا يسمع ، لكن الإنسان من عادته أنه يتوصل إلى نقل المعلومات للأصم بالإشارات ، أليس كذلك ؟ لو أنك جلست مع أشخاص مصابين بالصمم لرأيت العجب العجاب ، هناك إشارات كثيرة جداً يعبر بمقتضاها عن أفكاره وعن عواطفه ، لكن لو أن الأصم أدار لك ظهره كيف تُسمِعُه ؟ أي أن وسائل الإعلام الصوتية والحركية قد انقطعت .
 
دائماً وأبداً يجب أن نعرف الآمر قبل الأمر :
 
قال تعالى :
﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
لو كان هذا الأصم مُقْبِلاً وكان أصماً ، يمكن أن تؤشِّر له ، تعطيه بعض الإشارات يفهم عليك مُرادك ، لكن إذا أدار ظهره لك ، إذاً انقطعت عنه كل صلةٍ صوتيةٍ أو حركيةٍ  .
﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
هذه الآية دقيقة جداً ، إذا الإنسانفكر بالكون أولاً عرف الله عزَّ وجل ، وإذا قرأ أمر الله عزَّ وجل ، أو تعرَّف إلى كتابه ، أو فهم كلامه فهماً دقيقاً جداً عرف الله عز وجل ، فدائماً وأبداً يجب أن نعرف الآمر قبل الأمر ، لأنك إذا عرفت الآمر قبل الأمر كان الأمر عظيماً عندك ، أما إذا قرأت الأمر ولم تعرف الآمر ، كان الأمر تَرْكُهُ لا يكلفك شيئاً .
﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ (53)
كيف ربنا عزَّ وجل أحياناً يقول لك  :
﴿ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6)﴾
(سورة سبأ)
 
     الله عزَّ وجل ينفي عن النبي الهدى مرة ويثبت له الهدى مرة أخرى :
 
قال تعالى :
﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52)﴾
(سورة الشورى)
يقول الله عزَّ وجل  :
﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾
(سورة القصص : من آية " 56 " )
مرة الله عزَّ وجل ينفي عنه الهدى ؛ ومرة يثبت له الهدى ، إذا نفى عنه الهدى بمعنى : أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يصل إلى قلب الإنسان فيلزمه وهو مختار ، وهو حر في اختياره ، أما إذا أثبتنا للنبي عليه الصلاة والسلام الهدى ، بمعنى أنه ينطق بالحق ، إذا كان الهدى هو أن ينطق بالحق فهو :
﴿ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6)﴾
(سورة سبأ)
أما إذا كان الهدى أن يصل هذا الكلام إلى القلب فإنه ليس في إمكانه أن يهدي الناس :
﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾
(سورة القصص : من آية " 56 " )
يكاد يكون المعنى نفسه  :
﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
 
المتقي آمن بالله أولاً وأراد أن يطيعه ثانياً فجاء الكتاب هادياً له ثالثاً :   
 
قال أصحاب النبي عليهم رضوان الله : " أوتينا الإيمان قبل القرآن " ، آمنا بالله عزَّ وجل ، بعد أن آمنا به آمنا بكلامه ، فلما ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)﴾
(سورة البقرة)
من هو المتقي ؟ أن تتقي شيئاً موجوداً ، آمنت بوجود الله عزَّ جل واتقيت أن تعصيه ، هذا المتقي ، فمتى آمنت بالله عزَّ وجل ؟ إذا فكرت في ملكوت السماوات والأرض لأن الكتاب هدىً للمتقين ، أي أن المتقي آمن بالله أولاً ، وأراد أن يطيعه ثانياً ، فجاء الكتاب هادياً له ثالثاً ، آمن ، وأراد ، وجاء الكتاب هادياً له .
﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
ومعنى(تسمع) هنا بمعنى أن يبلغ الكلام مكانه الطبيعي ، لأن :
﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(21)﴾
(سورة الأنفال)
السماع الذي أراده الله عزَّ وجل هو الذي يحملك على التطبيق ، هو الذي ينقلك من طور السماع إلى طور التطبيق  .
 
لفتة من الله عزّ وجل إلى آياتٍ في خلق الإنسان :
 
الآن عودةٌ إلى ، طبعاً الله عزَّ وجل قال  :
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾
(سورة فصلت : من آية " 53 " )
الآن لفتة من الله عزّ وجل إلى آياتٍ في خلق الإنسان ، قال  :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ (54)
لمَ لمْ يقل الله عزَّ وجل : الله الذي خلقكم ضعافاً ، ضعافاً حال ، خلقكم ضعافاً ، لكن  :
﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ (54)
أي أنك مركَّب من ضعف ، لست مخلوقاً قوياً وجاءك الضعف طارئاً ، لا ، فأنت مجبول من مادةٍ اسمها الضعف ، أي ثلاثمئة مليون حوين ، حوين من هذه الثلاثمئة مليون يدخل إلى البويضة التي لا تُرى بالعين ، ثلاثمئة مليون حوين لا يشكلون سنتيمتر مكعب ، ثلاثمئة مليون ، من حوين واحد ، هذا الحوين له رأس ، وله عنق ، وله ذيل ، وله مقدمة فيها مادة نبيلة ، هذا الحوين يدخل للبويضة ، إذا دخل البويضة ، يوجد ممر بين المبيض وبين الرحم ، تتلقح البويضة وتنقسم إلى عشرة آلاف قسم من دون أن يزداد حجمها ، فلو أن حجمها ازداد لتوقَّفت في هذا الأنبوب ، وليس في إمكانها أن تسير .
 
خُلِقَ الإنسان من مادةٍ هي الضعف فالضعف موجود فيه :  
 
إذاً أنت مخلوق من ضعف ، من حوين ، وبويضة منقسمة ، وحجمها لم يزدد ، وصلت هذه البويضة الملقحة المنقسمة إلى الرحم ، إما أن تعلق وإما أن لا تعلق ، فأنت ضعيف ، فإن لم تعلق ، سقطت ، وهناك عُقم سببه أن الرحم لا تحمل هذه البويضة ، فأنت من ضعف مخلوق ، أي بويضة ملقَّحة ، صار لها استطالة ، شبه رأس ، دماغ ، أحشاء ، أطراف ، حواس ، ظلت هذه البويضة تنمو ؛ من نطفةٍ ، إلى علقةٍ ، إلى مضغةٍ مخلقةٍ ، وغير مخلقةٍ ، إلى أن أصبح الجنين ، ويحتاج إلى الدم من أمه ، مجهز برئتين لا تعملان ، ليس في الرحم هواء ، مجهز بقلب يتحرك في وقت معين ، مجهز بحواس إلى آخره .
خرج صغيراً ، ليس في هذا الطفل الصغير إلا منعكس المص ، كتلة من اللحم والدم ، طبعاً عضلات ، وعظام ، وأوعية ، وشرايين ، وأعصاب ، ودماغ ، وأعضاء ، وحواس ، لكن لا يتكلم ، ولا يرى ، ولا يسمع ، أبداً ، إلا أن منعكس المص هو الذي زوَّده الله به ، معنى منعكس أي رد فعل غير إرادي ، مثلاً إذا لامست يد الإنسان جمرة يسحبها سريعاً ، هذا منعكس ، كذلك منعكس المَص ، حينما يولد الطفل يضع فمه على ثَدي أمه ، يحكم إغلاق شفتيه على حُلْمَةَ الثدي ويسحب الحليب ، لولا الحليب لمات جوعاً ، جعل الله له سلاحاً وحيداً وهو البكاء ، إذا لم يبك يموت الطفل ، يجوع فيموت ؛ لكن يجوع فيبكي فيطعمونه ، فكل حاجاته يُعَبِّر عنها عن طريق البكاء ، ضعيف ، يحتاج إلى أم رؤوم ، تطعمه ، وتنظفه ، وتسقيه ، وتدفئه ، الإنسان ضعيف ، يبقى محتاجاً إلى والديه إلى أمدٍ طويل .
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ (54)
أروع ما في الآية(من ضعفٍ) ، أي خلقت من مادةٍ هي الضعف ، أي أن الضعف من جِبِلَّتِكَ ، الضعف موجود فيك .
 
آيات من القرآن الكريم على ضعف الإنسان :   
 
قال تعالى :
﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً (54)
فالحقيقة الضعف :
﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)﴾
(سورة المعارج)
قال :
﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا(28)﴾
(سورة النساء)
حتى لو كبر ، نقطة دم في دماغه تجعله مشلولاً ، في مكان تجعله أعمى ، في مكان تجعله أصماً ، في مكان تفقده ذاكرته ، أي أن الإنسان ضعيف ، شيء آخر ضعيف ولو كان قوياً ، يحتاج إلى كأس ماء .
يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس إذا منع عنك ؟ قال له : بنصفملكي ، قال له : فإذا منع إخراجه ؟ قال له : بنصف ملكي الآخر .
 
الإنسان ضعيف الحوافز والدوافع التي أودعها الله فيه :
 
أنت مفتقر لكأس ماء ، مفتقر لطعام تأكله ، مفتقر إلى امرأةٍ تقيم معها ، حاجة الله عزَّ وجل أودعها بالإنسان ، فأنت ضعيف ، ضعيف في حاجاتك ، ضعيف في ميولك ، ضعيف الحوافز والدوافع التي أودعها الله فيك ، قال :
﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً (54)
الإنسان يتوهَّم أنه قوي ، صار شاباً ، فعلاً عضلاته مفتولة ، عنده قوة عضلية جيدة ، وعنده حركة نشيطة جداً ، هذا سن الشباب ، اندفاع شديد ، عضلات متينة مفتولة ، عظام متينة ، أعصاب متينة ، طُموحات ، ثوران ، اندفاع .
﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا (54)
انظر إلى إنسان متقدم بالسن وهو يصعد سلماً ، يصعده دَرجة درجة ، وبعد خمس درجات يرتاح خمس دقائق وعندما كان شاباً كان يصعد كل أربع درجات معاً ، كان يمشي ركضاً ، الآن يمشي هواماً ، صار كلما تقدمت به السن ولا سيما إن لم يكن مؤمناً في شبابه ، تضعف ملكاته ، تضعف ذاكرته ، ينسى ، يعيد القصة مئة مرة ، يصبح له صفات الطفولة أحياناً .
﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً (54)
 
مكافأة الله للمؤمن أن يمتعه بعقله وسمعه وبصره وقوته إلى آخر حياته :  
 
الحقيقة المؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام  :
(( من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت )) .
[ الجامع الصغير عن أنس]
من مكافأة الله للمؤمن أن يمتعه بعقله وسمعه وبصره وقوته إلى آخر حياته ، هذه من مكافأة الله للمؤمن ، لكن سُنَّة الله في الخلق أن الإنسان بعد سن معينة يتراجع ، قال لي أخ متقدم بالسن : أنا سبحان الله كنت قبل خمسين سنة أنشط من الآن ، قلت له : طبعاً .
﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ (54)
أي إنسان قوي أو ضعيف ، عاجز أو منطلق ، مُتَّقِد الذهن أو كثير النسيان ، مشلول أو نشيط ، هو من خلق الله .
﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
لكن بشارة لكل مؤمن ، إن حفظت الله يحفظك ، والكلمة الشهيرة : " يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً " ، فالمؤمن كريم على الله عزَّ وجل ، له على الله كرامة ، ومن كرامته عليه أنيحفظه ، والحديث الشريف القدسي أن  :
(( عبدي كبرت سنك ، وانحنى ظهرك ، وضعف بصرك ، وشاب شعرك فاستحِ مني فأنا أستحي منك )) .
[ ورد في الأثر ]
 
من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة :  
 
الإنسان إذا دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة ، بعد الأربعين سن التُقى ، الورع ، العمل الصالح ، تلاوة القرآن ، الإعداد للدار الآخرة ، هكذا ، كما قال الله عزَّ وجل في الحديث القدسي :
 )) أبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد )) .
إنسان في الخامسة والخمسين جالس بالقهوة ، يلعب النرد ، بلا صلاة ، مشكلة ، منظر قبيح جداً ، إنسان في سن متقدمة يمضي وقته في سخافات الحياة ، في القيل والقال ، في لعب النرد ، في الغيبة ، في النميمة ، هذا شيء ، وإن كانت المعصية معصية ، في أي سن ، لكن تبدو المعصية أقبح وأقذر في سن متقدمة ، فمن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة ، والإمام القرطبي يفسر :
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾
(سورة فاطر : من آية " 37 " )
النذير هو سن الأربعين ، والنذير هو الشيب ، والنذير هي المصائب ، والنذير هو القرآن ، والنذير هو النبي العدنان ، والنذير هو موت الأقارب ، هذا كله نذير  .
﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا (55)
والله الحياة حلم ، قال : الدنيا ساعة اجعلها طاعة ، كل واحد منا يسأل نفسه هذا السؤال : أنا كم عمري ؟ ثلاثين ، كيف مضت ؟ يقول لك : كلمح البصر ، البارحة طفل ، البارحة كان بالمدرسة ، الآن أصبح مهندساً ، وبعد عدد من السنين يتقاعد ، بعد فترة يأتي مَلَكُ الموت ، مراحل ؛ كنا صغاراً ، أصبحنا شباباً ، أصبحنا كهولاً ، أصبحنا شيوخاً ، أصبحنا على حافة القبر ، لو سألت شخصاً عاش تسعين عاماً يقول لك : والله مضت كأنها ساعة ، جاء رمضان وانتهى رمضان ، وأقبل الصيف ، وبعد حين ينتهي الصيف ويأتي الشتاء ، كنا في الستينات ، بالسبعينات ، بالثمانينات ، الآن التسعينات ، وهكذا ، إلى أن يأتي ملك الموت ، يختم العمل ، إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها أو إلى نار لا ينفد عذابها .
 
ساعة اللذة دقيقة ودقيقة الألم ساعة :
 
الوقت يمضي سريعاً ، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه ، ما مضى فات والمؤمَّلُ غيب ، ولك الساعة التي أنت فيها ، بين يومٍ مفقود ، يومٍ مشهود ، يومٍ موعود ، يومٍ مورود ، ويومٍ ممدود  .
﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ (55)
لكن دقيقة الألم ساعة ، وساعة اللَّذة دقيقة ، إذا الإنسان كان بنزهة يقول لك : الوقت مضى سريعاً ، كما قال الشاعر  :
إن يطل بعـدك ليلي فلـكم                بِتُّ أشكو قصر الليل معك
***
 ساعة اللذة دقيقة ، ودقيقة الألم ساعة ، الله عزَّ وجل قال  :
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)﴾
(سورة غافر)
فرعون مضى على موته ستة آلاف سنة تقريباً ، أو سبعة آلاف سنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، ضرب اثنين ، (غدواً وعشياً) ، وأصحاب النبي عليهم رضوان الله أيضاً في جناتٍ ، القبر روضة من رياض الجنة ، فالإنسان إذا كان عمله طيب الوقت يمضي سريعاً وبراحة ، وإن كان عمله سيئاً يمضي الوقت بثقلٍ شديد .
﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
أي كانوا ينصرفون إلى شهواتهم وإلى ملاذهم .
 
الله عزَّ وجل جعل الكون دالاً عليه فمن مات كافراً وخُتِمَ عمله ليس له عذر :   
 
قال تعالى :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
أي أن المدة المقررة قد أمضيتموها ، وعشتم العمر الذي رسمه الله لكم ، وقد حذركم ربُّكم وأنذركم ولم يدع طريقةً من طرائق هدايتكم إلا سلكها ، ومع ذلك أصررتم على عنادكم وكفركم  .
﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
أحياناً المُقَّصِر يعتذر ، يقبل عذره ، يقدِّم أسباباً موجبة لتقصيره يقبل منه ذلك ، لكن الإنسان إذا مات كافراً وخُتِمَ عمله ليس له عذر لأن الله عزَّ وجل جعل الكون دالاً عليه ، أعطاه العقل ، أعطاه الفطرة ، الحوادث تؤكِّد ما في القرآن ، القرآن وضَّح كل شيء ، الأنبياء بيَّنوا ، والعلماء وضَّحوا ، فالحوادث ، والفطرة ، والعقل ، والكون ، والقرآن والتشريع ، والعلماء ، والدعاة ، والأحوال ، والمنامات ، كلها في خدمة الإنسان ، ومع ذلك لم يهتدِ إلى الله عزَّ وجل .
 
(من كل مثل) لها معنيان ؛ إما كنماذج بشرية أو كأساليب تربوية :   
 
قال تعالى :
﴿ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ (56)
أي في الأجل الذي كُتِبَ لكم ، في العمر الذي رسمه الله لكم ، أي جاءتكم الليالي والأيام ، والسنون ، والفصول ، والأشهر ، والأسابيع ، والحر، والقر ، والربيع ، والخريف ، والغنى ، والفقر ، والمرض ، والصحة ، لقد تقلبتم على كل أحوال الدنيا قال تعالى :
﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (58)
هنا الآية لها معنيان : إما أن الله عزَّ وجل صوَّر الكافر ، والمنافق ، والفاجر ، والمؤمن ، والمتقي ، والمسلم ، والناجي ، والهالك ، أو أنه سلك سبيل التحذير ، والإنذار ، والوعد ، والوعيد ، والتصوير ، والتبشير ، والتخويف ، فإما أن يكون (من كل مثل) إما كنماذج بشرية ، أو كأساليب تربوية ، كلاهما صحيح .
 
من لا يوقن بالآخرة لا تحزن عليه :
 
قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ (58)
لو أنهم طلبوا آيةً معينة وجئتهم بها :
﴿ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
حتى لو جاءت الآيات المعجزة حسيَّةُ لكفروا بها ، قال تعالى :
﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
معنى لا يعلم أي لا يطلب العِلم ، إذا الإنسان لم يطلب العلم فهو في حكم من لا يعلم ، فإن رفض العِلم يطبع على قلبه ، قلبه لا يعي إلا الدنيا .
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ (60)
أي أن كل وعدٍ وعد الله به لابدَّ أن يأتي  .
﴿ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة لا ينبغي أن يدخلوا على قلبك الحزن والهم .
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب