سورة البقرة 002 - الدرس (84): تفسير الآيات (255 - 255) العلم الإلهي

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (84): تفسير الآيات (255 - 255) العلم الإلهي

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - تفسيرالآية: (255 - 255) -العلم الإلهي

20/03/2011 19:04:00

سورة البقرة (002)
الدرس (84)
استكمال تفسير الآية: (255)
العلم الإلهي
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
أول معنى من معاني العلم أنك إذا دققت في خلق الإنسان وجدت شيئاً لا يصدق :
 
أيها الأخوة الكرام؛ في الدرس الماضي كانت آية الكرسي موضوع الدرس، وآية الكرسي أعظم آية في القرآن الكريم، وفي قوله تعالى:
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾
وجدت أن شرح هذه الآية كان مقتضباً في الدرس الماضي، فلا بد من وقفةٍ متأنيةٍ عند علم الله تعالى، والإنسان إن صحَّت عقيدته، صح عمله ونجا من عذاب الدنيا ونار الآخرة، وإن فسدت عقيدته ساء عمله فهلك في الدنيا والآخرة، وإنَّ من أسباب سلامة الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة أن تصح عقيدته ليصح عمله.
أيها الأخوة الكرام؛ الله عز وجل عليم حكيم، كلمة (عليم) لها اتجاهاتٌ كثيرة، أحد هذه الاتجاهات أن هذا الكون يدلُّ على علم الله عز وجل، كما لو رأيت طائرةً تحمل ستمئة راكب، وتحلِّق على ارتفاع خمسين ألف قدم، وتنطلق بسرعةٍ عالية تزيد عن ألف كيلو متر، وهؤلاء الرُّكاب يتمتعون بهواء نقي، وضغط مناسب، وحرارة معتدلة، ويأكلون ويشربون، ستمئة راكب ينطلقون عبر الأطلس بطائرةٍ، وهذه الطائرة لا يمكن أن يكون الذي اخترعها وصممها ونفَّذها وصنعها إنساناً جاهلاً.
حينما يصعد إنسان إلى القمر بمركبةٍ، فلا بد أن تعتقد أن علم البشرية كلها في هذه المركبة؛ كيف حقّقنا لإنسانين جواً وضغطاً وطعاماً وشراباً على كوكبٍ لا حياة فيه؟
فأول معنى من معاني العلم: أنك إذا دققت في خلق الإنسان وجدت شيئاً لا يصدق، ومن أجل أن تعرف رائحة هذا العطر لا بد من نهاياتٍ تزيد عن عشرين مليون نهاية عصبية شمِّية، وكل نهايةٍ فيها سبع أهداب، وكل هُدْبٍ مغطى بمادة لزجة، تتفاعل هذه المادة اللزجة مع الرائحة، فينشأ من التفاعل شكلٌ هندسي، هذا الشكل هو رمز هذه الرائحة، وينتقل هذا الشكل إلى الدماغ ليعرض على الذاكرة الشمِّية، وقد قدَّرها العلماء بعشرة آلاف بند، فأي شكل في هذه الذاكرة توافق مع شكل الرائحة عرفت أنت أنه الياسمين مثلاً، أو أنه الورد، أو أنه نعنع، وغير ذلك من الروائح، فهذا الجهاز جهاز الشم بالغ التعقيد.
 
بعض من مناحي العلم :
 
لو نظرت إلى العين لرأيت في الشبكية عشر طبقات، وفي الشبكية مئةٌ وثلاثون مليون عُصية ومخروط من أجل تحقيق الرؤية الدقيقة، وإنّ هذه العين على صغر حجمها ترى الجبل بحجمه الطبيعي، وبألوانه الدقيقة، وتفرِّق بين لونين من ثمانمئة ألف لون، وتفرِّق بين درجتين من درجات لون واحد تزيد عن ثمانمئة ألف درجة، وأن العصب البصري يزيد عن تسعمئة ألف عصب، ولكل عصب غِمْدٌ لئلا تنتقل الإشارة من عصب إلى عصب.
إنّ دماغ الإنسان يزيد عن مئة وأربعين مليار خلية، وقشرة الدماغ تزيد عن أربعة عشر مليار خلية، وأن لكلِّ شعرة مِن شعر الإنسان وريداً، وشرياناً، وعصباً، وعضلةً، وغدة دهنية، وغدة صبغية.
إنّك قد تمسك قرصاً للكمبيوتر فيه ألف ومئتان كتاب، وكل كتاب قد يكون فيه عشرين جزءاً، هذا الكتاب بأدق الحروف، والحروف مضبوطة بالشكل، وهناك ألف طريقة للبحث، بحث بكلمة، بحث بموضوع، وكلما بحثت شيئاً جاءك الجواب خلال ثوان، هذا الجهاز يقرأ هذه الكتب كلها حرفاً حَرفاً في ثوانٍ، ويأتيك الجواب، أيعقل أن يكون الذي صنع هذا القرص جاهلاً؟ لا، هذا منحىً من مناحي العلم.
قد يذهب إنسان إلى فنلندا حيث الحرارة تسع وستون تحت الصفر، هذه أخفض درجة حرارة سجلت على الأرض، بلد يعيش الناس فيه، وأنت في هذا البلد قد ترتدي المعاطف والألبسة الصوفية، والجوارب الصوفية، والأحذية المبطنة بالفرو، وقد ترتدي القبعات، وكل شيء، ولكنك لن تستطيع أن تحجب عينيك، لا بد من أن تكون العين على مساسٍ بالهواء الخارجي، درجة الحرارة تسع وستون تحت الصفر، والعين فيها ماء، إذاً لا بد لهذا الماء إذا مس الهواء الخارجي أن يتجمد، فمَن الذي أودع في ماء العين مادة مضادة للتجمد؟ إذاً هناك علم.
لماذا ترفع الأرض سرعتها إذا انطلقت حول الشمس واقتربت من القطر الأصغر؟ لينشأ من رفع السرعة قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة، ولماذا ترتفع السرعة ارتفاعاً بطيئاً، التسارع بطيء والتباطؤ بطيء؟ لو ذهبنا نسير في هذا الاتجاه وبحثنا في المجرات، وفي المذنَّبات، وفي الكازارات، وفي الثقوب السوداء، وفي المسافات بين النجوم وفي عدد المجرَّات، لخَرَّ الإنسانُ لله ساجداً.
 
كل ما في جسم الإنسان ينطق بعلم الله :
 
لو وصلنا إلى أجهزة الجسم، هذا القلب الذي يعمل ثمانين عاماً ولا يرتاح أبداً، أيّ عضلة أخرى تصاب بالإعياء، فلو حرِّكت يدك هكذا، بعد دقيقتين تصاب بحالة اسمها الإعياء لا تستطيع المتابعة، أجر بعض التمارين الرياضية، اضغط، خمسة، عشرة، خمسة عشرة، الرياضي يضغط عشرين مرة، والمتمرِّس ثلاثين مرة، ثم بعد ذلك تتوقف، لكن هذا القلب ثمانين سنة لا يكل ولا يمل، ولا يقف إلا وقفة واحدة، عند نهاية الحياة، فمَن صمم هذا القلب؟ من صمم هذه العضلة التي لا تتعب؟
مَن صمم هذه الأوعية الدموية التي هي مرنة كالقلب تماماً؟ أنا سمعت أن الشريان التاجي يتحمل ضغط عشرين بار، البار الكيلو على السنتيمتر، أي إنه يتحمل في أثناء وضع بالون في الشريان كي تضغط حوافُّه الكلسية يتحمل ضغط عشرين بار، فما هذه المرونة بالشريان؟ والشريان قلب، حينما ينبض القلب يتمدد الشريان، ولأنه مرن يعود كما كان، فصار قلباً ثانياً، صارت كل أوعية الجسم قلوب.
هل وراء هذا الجسم الإنساني علم؟ طبعاً، الحديث طويل ولا تنتهي الدروس، ودروس، وأشهر، وسنوات في الحديث عن خلق الإنسان، وعن خلق الأكوان، أنا لا أريد أن استقصي، بل أريد أن أضرب أمثلة فقط، أفيُعقَل أنّ غدة صغيرة لا تزيد عن سلامية الإصبع، تقع إلى جوار القلب، هذه الغدة أخطر غدة في الإنسان، أيعقل أن تكون كلية حربية، تدخلها الكريات البيضاء التي معها سلاح فتاك وهي جاهلة، كي تتلقى دروساً في معرفة العناصر الصديقة من العدوة، تتلقى خلال سنتين دروساً دقيقة، وبعدها تتخرَّج خلايا بيضاء تائية مثقفة  تتولى تعليم الأجيال من بعدها.
الحديث عن الغدد، عن القلب، عن الأوعية، عن الرئتين، عن الكليتين، هناك طرق في الكليتين يبلغ مجموع طولها مئة كيلو متر، عن البنكرياس، عن الكبد، خمسة آلاف وظيفة في الكبد، عن الطحال الذي هو مقبرة للكريات البيضاء، ومعمل احتياطي للدم، ومكان تحليل،  والغدة الدرقية مكان الاستقلاب، ولا يزيد وزن الغدة النخامية عن نصف غرام، نصف غرام فقط، وهي ملكة الغدد الصمَّاء، تفرز اثني عشر هرموناً، كل هرمون تبنى عليه حياة الإنسان، هرمون النمو، هرمون توازن السوائل، لو اختل هذا الهرمون لأمضى الإنسان كل وقته إلى جانب الصنبور ودورة المياه، لشرب أكثر من عشرين تنكة ماء، هناك هرمون ضبط السوائل بالجسم.
 
الله عز وجل عليم بحاجاتنا :
 
أنا أريد كلمة واحدة: هل الذي خلق الإنسان عليم؟ إنه العلم المُطْلَق، انظر إلى مركبة صنعت في عام ألف وتسعمئة، وهي موجودة الآن بالمتاحف، عجلاتها ليس فيها هواء، صماء، ليس فيها أجهزة امتصاص صدمات، ليس فيها علبة سرعة، الإضاءة فانوس يشعل ليلاً بالكبريت والزيت، سيارة بدائية، انظر إلى سيارة صنعت في عام ألفين، من أرقى الماركات، كم هو البون شاسعٌ بين مركبةٍ صنعت عام ألف وتسعمئة، وبين مركبة صنعت عام ألفين؟ إنها خبرة الإنسان التي تتنامى، فالإنسان خبرته حادثة، تنمو بالخطأ والصواب، هل طرأ على الإنسان تطوير، هل هناك إنسان موديل ألفين؟ هل طرأ على الإنسان منذ أن خلقه الله تعديل؟ معنى ذلك أن خبرة الله قديمة، فهذا جانب من جوانب علم الله عز وجل.
هذا الكون، بمجراته، بسماواته، بأرضه، بأسماكه، بأطياره، بحيواناته، بنباتاته، بخلق الإنسان، بأجهزته، بأعضائه، بحواسه، ينطق بعلم الله.
إنّك لو اقتنيت جهازاً بالغ التعقيد، ثم رأيت الذي اخترعه، فإنك تقف أمامه بإجلالٍ لا حدود له، لأنك تعلم أنه عالمٌ كبير، وعبقريٌ فذ، فكلما دققت في آيات الله، وفي خلقه، وفي مخلوقاته، لعرفت أن الله عليم، هذا جانب.
الجانب الآخر: الله عز وجل عليم بحاجاتنا، كل حاجات الإنسان وفّرها لنا على سطح الأرض، أولاً: خلق لنا حاجةً إلى الهواء، وخلق الهواء، وجعل الهواء متوازناً؛ أوكسجين وهيدروجين، والنسب متوازنة، ونحن بحاجةٍ إلى الماء، إذاً الأرض تحوي مسطَّحات مائية كبيرة جداً، وأشعة الشمس تبخِّر هذا الماء، والماء من خصائصه التبخُّر، ثم يكون هذا البخار سحاباً، وهذا السحاب ركاماً، ثم يساق إلى بلدٍ ميت فيحيي الله به الأرض بعد موتها، والآلية معقدة جداً، وهناك مَن يدرس سنوات وسنوات في الجامعات كي يتعلَّم كيف تنزل الأمطار.
خلق لنا حاجة إلى الماء وخلق الماء، خلقه في البحار ملحاً أُجاجاً، وخلقه في الأنهار عذباً فراتاً، وخلقه في الينابيع، هذا من خلق الله عز وجل.
 
الجانب الثاني أن الله خلق لنا حاجاتٍ عالية الدقة كلها تلبى في أعلى درجة :
 
الجانب الثاني في العلم: أنه خلق لنا حاجاتٍ عالية الدقة، وهذه الحاجات كلها لُبِّيَت في أعلى درجة، فهناك حاجة إلى لحم نأكله، وعلى الأرض ستّ مليارات إنسان، إذاً هناك المواشي والأنعام التي تتوالد، لو أن هذه الأنعام تأكل أكثر مما تعطي، فلا أحد يربيها، لا بد من أن تكون في تربيتها جدوى اقتصادية، تطعمها بعشرة تعطيك مئة، إذاً تربى وتقتنى، ويُعتنى بها، نحن بحاجة إلى الثياب، هناك القطن، وهناك الكتان، وهناك الصوف، نحن بحاجة إلى بيت نأوي إليه، هناك الصخور والأحجار وما شاكل ذلك، فأي شيء خطر على بالك تجده في الأرض، وهذا نوع من أنواع العلم، الله عليم بكل حاجات الإنسان، وقد وفَّر له كل هذه الحاجات، ومن هذا نفهم معنى الربوبية..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
 
[ سورة الفاتحة: 2 ]
الذي أمد المخلوقات بكل ما تحتاج.
أما المنحى الثالث الذي أركز عليه في هذا الدرس في قوله تعالى:
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾
هو أن الله يعلم، هو عالم الغيب والشهادة، أي أن كل شيء في الكون يعلم الله حركاته وسكناته، لماذا؟ لأن الله يحركه، حينما يأتي إنسان ويمسك هذا الكأس، وينقله من هذا المكان إلى هذا المكان، وأنت تراه، أنت كيف تعلم أن هذا الكأس تحرك؟ لأنك رأيته قد تحرَّك، أما إذا أمسكته بيدك وحرَّكته، هذا علمٌ أبلغ، إنّ كل فعل لا يكون إلا من قبل الله تعالى، إذاً الله عز وجل هو الفعَّال، وهو العليم، يعلم ما يفعل، إذاً هو عالم الشهادة، وكل شيءٍ أمامك يعلمه الله علماً مطلقاً، وبأدق أدق التفاصيل.
أنت لك من الإنسان ظاهرُه، لكن الذي يعلم باطنه، وتاريخه، وصراعاته، ومنبته، ومشربه، ومطعمه، وأخلاقه، وعلاقاته، هو الله عز وجل، فهو يعلم ما تعلن ويعلم ما تُسر، ويعلم ما خفي عنك، يعلم ما تعلن، فإذا لم تعلن يعلم ما تسر.
 
المنحى الثالث في علم الله أنه لا تخفى عليه خافية فهو سميع بصير عليم :
 
هناك علمٌ لا تعلمه أنت واللهُ يعلمه، "وعلم ما لم يكن، لو كان كيف كان يكون " هذا منحىً ثالثٌ في علم الله عز وجل، لا تخفى عليه خافية، فإن تكلمتَ فهو سميع، وإن تحركت فهو بصير، وإن سكت وجمدت في مكانك فهو عليم بما يجري في داخلك، سميع بصير عليم.
وهو معكم أينما كنتم بعلمه، أينما ذهبتم، يعلم كل حركاتك، وسكناتك، يعلم خواطرك، يعلم خائنة الأعين، فإنسان مثلاً جالس في بيته، أمامه شرفة، خرجت امرأة الجيران، إن نظر أو غض بصره ليس في الأرض كلها إنسان يضبطه، هو جالسٌ في غرفته، والنافذة مفتوحة، وهو في الظلام، والنافذة تحت أشعة الشمس، إن نظر أو لم ينظر، مَن الذي يعلم خائنة عينه؟ الله جل جلاله، هذا منحى ثالث في علم الله، أي هو مع كل الخلق بالعلم، يسمع دبيب النملة السمراء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.
قد يكون على سطح القمر تضاريس، هو يعلمها، في المجرات، حركة المجرات، في رؤوس الجبال، في أعماق الأرض، هذه البراكين والزلازل مَن يعلم حركة الأرض وما فيها من ضغوط؟ الله جل جلاله، مَن مع كل سمكة في أعماق البحار؟ كم سمكة توجد في البحار؟ هناك مليون، لكن إياك أن تتوهم أني أقول مليون سمكة، بل هناك مليون نوع من الأسماك، أما الأعداد فهي أعداد بأرقام فلكية، بدءاً من سمكة الزينة التي لا تزيد عن سلامية اليد، وانتهاءً بالحوت الأزرق الذي يزن مئة وخمسين طناً، هذا الحوت الأزرق، وزنه مئة وخمسون طناً، يستخرج منه تسعين برميلاً من الزيت، وخمسون طناً من الدهن، وزن قلبه نصف طن، وليده يحتاج إلى ثلاثمئة كيلو حليب كل وجبة، يحتاج إلى ثلاث رضعات في اليوم، أي ما تساوي طناً من الحليب، بدءاً من سمكةٍ لا تزيد عن سلامية اليد، قد تكون شفافة كأسماك الزينة، وانتهاءً بالحوت الأزرق، كائنات البحر شيء لا يصدق.
علم الله عز وجل من هذا القبيل، هو مع كل سمكة، ومع كل طائر، ومع كل نملة، بل مع كل جرثومة، مع كل فيروس، الفيروسات لا ترى بالعين، الإيدز فيروس لا يرى، مَن يسوقه من إنسان إلى إنسان؟ إنه الله عز وجل، هذا منحى ثالث في علم الله عز وجل.
 
المنحى الرابع هو علم الغيب :
 
أما المنحى الرابع هو: علم الغيب، الله جل جلاله يعلم ما سيكون علم كشفٍ لا علم جبر، الآن دخلنا إلى موضوع دقيق في الدين هو: هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر؟ الإنسان مخيَّر، وفي أية لحظة توهم الإنسان أنه مسيَّر انتهى الدين، وانتهى التكليف، وألغيت الأمانة، وألغي الثواب، وألغي العقاب، وألغيت الجنة، وألغيت النار.
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
 [ سورة الكهف: 29 ]
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
[ سورة الإنسان: 3]
الله عز وجل فيما يتعلق بالغيب يعلم علم كشف لا علم جبر، "لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة "، فالله عز وجل يعلم ما سيكون لا علم جبرٍ، ومَن يعتقد أن الله أجبر عباده على المعاصي والآثام فعقيدته زائغةٌ، يرفضها القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
[ سورة البقرة: 286 ]
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
[ سورة البقرة: 148 ]
هذه أول نقطة في الدرس، الإنسان مخيَّر فيما كُلِّف، هو مخيّر؛ أمرك أن تصلي، فأنت في موضوع الصلاة مخيَّر تصلي أو لا تصلي، أمرك أن تكون صادقاً فأنت في موضوع الصدق مخيرٌ، أمرك أن تكون محسناً فأنت في موضوع الإحسان مخير تحسن أو تسيء، تصدق أو تكذب، تصلي أو لا تصلي، تحضر مجلس علم أو تحضر في ملهى، فأنت مخير، تتقن عملك أو تهمل، تربي أولادك أو لا تربيهم، تحسن إلى زوجتك أو لا تحسن، تغض بصرك أو لا تغض، تذكر الله أو لا تذكر.
 
الإنسان مخيّر فيما كلف به و مسيّر فيما سوى ذلك :
 
أنت مخيرٌ فيما كُلِّفت، هذه حقيقة صارخة، قاطعة، ثابتة، تؤيدها الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة..
أُحْضِر رجل إلى سيدنا عمر وقد شرب الخمر، فقال رضي الله عنه: أقيموا عليه الحد، فقال هذا الرجل: يا أمير المؤمنين إن الله قَدَّر علي ذلك، فقال رضي الله عنه: أقيموا عليه الحد مرتين، مرةً لأنه شرب الخمر، ومرةً لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا، إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار.
أنت مخيَّرٌ فيما كُلِّفت، ومسيَّر فيما لم تكلف، أنت ولدت في الشام مسيَّر، من فلان الفلاني مسيّر، من فلانة الفلانية مسيّر، بقدرات معينة مسيّر، بقامة مديدة مسيّر، بقامة قصيرة مسيّر، بصحة جيدة مسيّر، بصحة معلولة مسيّر، لكن هذا التسيير لصالحك، لصالح آخرتك، ولصالح إيمانك، وليس في الإمكان أبدع مما كان، أي ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني.
أنت مخيّر فيما كلفت به، مسيّر فيما سوى ذلك، لكن هذا التسيير لصالحك، ولكن بعد أن سيَّرك الله وخلقك من أب وأم وبيئة وإمكانات وقدرات معينة، هي كمالٌ لك، ثم كلَّفك التكليف الإسلامي، أنت إما أن تستجيب أو لا تستجيب.
 
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 24 ]
فإن استجبت سيَّرك نحو مصالحك الدنيوية والأخروية، كافأك بتسيير نحو مصالحك، يقدر لك زواجاً ناجحاً، عملاً جيداً، صحة طيبة، سمعة طيبة، أما إن لم يستجب، فالله عز وجل مُرَبٍّ، رب العالمين، يسوق له تسييراً بعض الشدائد كي ترجعه إلى الله، فصار مسيَّراً للتأديب، هو مسيَّر في أصل الخلق، ثم مخيّر في التكليف، ثم تُسيّر كي تؤدَّب، وتعود إلى ربك.
فيا أيها الأخوة الكرام؛ حينما تعتقد أنك مخير لا تقل حينما يقال لك: لِمَ لا تصلي؟ حتى يسمح الله لي، حتى يهديني الله، فهذا كلام غير صحيح، كلام لا أصل له، هو هداك بهذا الكون، وهداك بهذا العقل، وهداك بهذه الفطرة، وهداك بالأنبياء، وهداك بالرسل، وهداك بالكتب، وهداك بالدعاة، وهداك بأفعاله، وهداك بتربيته، هداك وانتهى الأمر، بقي عليك أن تستجيب.
 
الله عز وجل تكفل بهدايتنا وبقي أن نستجيب له :
 
إن اعتقدت اعتقاداً صحيحاً أن الله تكفل بهدايتنا:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
 [ سورة الليل: 12 ]
بقي أن نستجيب له..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 24 ]
إن الله تكفل بهدايتنا، وبقي أن نستجيب له، لذلك إذا صحَّت عقيدة الإنسان فلا يمكن أن يعزوَ تقصيره إلى القَدَر، القدر لا تفسره العيوب، ألا تصلي؟ لم يلهمني اللهُ أن أصلي، هذا كلام باطل، لمَ لا تصدق؟ الله ما هداني، تسعون بالمئة من كلام الناس هكذا، يحلو لهم أن يعزو تقصيرهم ومعاصيهم إلى الله عز وجل، ويتوهَّمون أن الإنسان مسيّر، لا، أنت مخير فيما كُلِّفت.
أيها الأخوة الكرام؛ هذا علم من النوع الرابع، علم الغيب، الله عز وجل يعلم ما يكون، ولكنه علمُ كشفٍ لا علم جبر، علم كشف، أي لو أن مدرساً له باع طويلٌ في التدريس، وله خدمات تزيد عن خمسين عاماً، ومتمرس بهذه الحرفة، وعلَّم صفاً، وقال قبل الامتحان بشهر: هذا الطالب لا ينجح، وهذا الطالب ربما كان الأول على الصف، وهذا الطالب يأخذ علامةً تامةً في الرياضيات، وهذا الطالب يأخذ علامة تامة في التاريخ ـ مثلاً ـ وكان هذا امتحان شهادة، ليس للأستاذ علاقة بالامتحان، لا وضع أسئلة، ولا تصحيح، ولا شيء، فإذا جاءت النتائج وفق ما توقع هذا المدرس فهل كثير على هذا المدرس الخبير المتمرِّس أن يعرف النتائج مسبقاً لا عن طريق الإجبار بل عن طريق الكشف؟!
أصحاب الصنعات، إذا وضعت جسراً لا يحمل هذا البناء، وقال لك الخبير: هذا البناء سوف يقع. فإذا وقع البناء فهو شيء طبيعي، لأنه علم بالقوانين. لذلك، حينما يعلم الإنسانُ أن الله يعلم علم كشف لا علم جبر، فإنّه يبرِّئ الله من الظلم، أما إذا علم علماً إبليسياً أن الله خلق الكفر في الكافر، وأجبر الكافر على شرب الخمر والزنا، ثم جعله في النار إلى أبد الآبدين، فهذه عقيدة إبليس، عقيدة الجَبْر.
 
إذا عزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري :
 
أناس كثيرون والله ـ وهذا مما يؤسف له ـ هكذا يعتقدون: ما هداني الله، الله يهدي مَن يشاء، ويضل من يشاء، وما دامت هذه الكلمة وردت الآن فإنّي أقول: إنّ الله عز وجل يهدي مَن يشاء الهداية، هذا هو المعنى، يهدي من يشاء الهداية، هو خلَقَ كل شيء يدعوك إليه، وأمرك أن تستجيب، فإما أن تستجيب أو لا تستجيب، لذلك قال العلماء: إذا عزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، قياساً على قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾
[ سورة الصف: 5 ]
لعلي أضرب هذا المثل لتوضيح الحقيقة: طالب في الجامعة لم يداوم ولا ساعة، ولم يحضر ولا ساعة، ولم يقتنِ الكتب، ولم يؤدِّ الامتحانات، أرسلت له الجامعة عشرات الإنذارات، فلم يستجب، فصدر قرار بترقين قيده، وفصله من الجامعة، أيُعدُّ هذا ظلماً؟ إن هذا القرار هو تجسيدٌ لرغبة الطالب، أراد الضلال فنفَّذ الله رغبته، هذا معنى: إذا عزي الإضلال إلى الله، فمعنى ذلك أنه الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري:
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾
[ سورة الصف: 5 ]
رفض الدين، رفض الصلاة، إذاً كل ما سوف يأتيه من الدين من خيرات حُرِمَ منها، لأنه رفض أصل الدين، فلو فرضنا إنساناً يتّجه إلى مدينة حمص مثلاً، وقبيل هذه المدينة رأى طريقين متشابهين متباعدين، ورأى إنساناً يقف على مفترق الطريقين، فقال له: بالله عليك من أين حمص؟ فأجابه: من هنا، قال له: جزاك الله خيراً، قال له: انتظر يا أخي، بعد خمسين متراً هناك تحويلة، وبعد كذا هناك منحدر خطر، وبعد ذلك هناك جسر، بعد ذلك هناك دورية. عندما قال له: جزاك الله خيراً، فقد أعطاه هذا الدليل مئات المعلومات.
لو جاء إنسان آخر، وصل إلى مفترق الطريقين، وسأل هذا الإنسان: من أين حمص؟ فقال له: من هنا، قال له: أنت كذاب، هل بإمكان هذا الإنسان أن يعطيه المعلومات بعد ذلك؟ لقد رفضه كلياً.
 
من معاني الإضلال أنك حينما رفضت أصل الدين حرمت من هذا الخير :
 
فإذا رفض الإنسانُ الدينَ هل ينوَّر قلبه؟ لا، هل يوفَّق في عمله؟ لا، كل ما عند الله من خير، أنت حينما رفضت أصل الدين حرمت من هذا الخير، هذا معنى الإضلال.
﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾
 [ سورة النحل: 93 ]
يضلُّ مَن شاء الضلالة، ومَن شاء البُعدَ عن الدينِ، لأنّ الله عز وجل خلقك مخيَّراً، إذاً ينفِّذ اختيارك، كما أنّ بعضهم يقول: في قوله تعالى:
﴿ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
[ سورة الكهف: 28 ]
(أغفلنا)، لو فتحتم كتب اللغة، ومعاجم اللغة، لوجدتم أن معنى كلمة (أغفلنا) وجدناه غافلاً، فقط هذا المعنى، عاشرت القوم فما أبخلتهم، أي ما وجدتهم بخلاء، عاشرت القوم فما أجبنتهم، أي ما وجدتهم جبناء، فوزن أفعل في اللغة لا تعني أنه خلق الجُبْن فيهم، أو خلق الغفلة فيهم، بل تعني أنه وجدهم هكذا.
﴿  وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
[ سورة الكهف: 28 ]
يا أيها الأخوة الكرام؛ في اللحظة التي تتوهَّم أن الإنسان مجبورٌ على كل أعماله، وليس له اختيار، انحرفت العقيدة انحرافاً خطيراً، ومع هذا الانحراف انحرافٌ سلوكي، لمَ الاستقامة، لم العمل الصالح؟ القضية منتهية..
ألقاه في اليَمِّ مكتوفاً وقال له     إِيّاكَ إيّاكَ أن تَبْتَلَّ بالماء
*  *  *
 
من معاني الإضلال أن الله يضل عن شركائه لا عن ذاته :
 
أيها الأخوة؛ ثم إن من معاني الإضلال أن الله يضل عن شركائه لا عن ذاته، فيوم القيامة يقول الله عز وجل:
 
﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
[ سورة غافر: 73-74 ]
لم يجدوهم..
﴿ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾
 [ سورة غافر: 74 ]
قال الله عز وجل:
﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾
 [ سورة غافر: 74]
يضلهم لا عن ذاته العلية، يضلهم عن أصنامهم، وعن شركائهم التي ليس لها سلطانٌ في الأرض. إذاً كلمة:
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾
أي يعلم حاضرهم ومستقبلهم، يعلم علم الشهادة وعلم الغيب. لكن حينما يقرأ المسلم القرآن يمر على آيات كثيرة:
﴿  وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
 [ سورة آل عمران:  142]
كلمة: ( ليعلم) هل تعني أنه لم يعلم من قبل؟ لا، فالآيات كثيرة..
﴿  لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ﴾
 [ سورة المائدة: 94 ]
﴿  فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾
 [ سورة العنكبوت: 3]
قال علماء العقيدة: حيثما وردت كلمة "ليعلم" في القرآن الكريم تعني العلم الحُصولي، تماماً كقول المدرس: هذا الطالب سيكون الأول في صفه، هذا علمُ كشفٍ، فإذا أدى امتحاناً وكان الأول في صفه، هذا علم حصولي، أي إنّ هذا علم كشف قد حصل، فالعلم الأول علم كشف قبل أن يحصل، والعلم الثاني علم حصولٍ بعد أن حصل، هكذا.
 
الشاب المؤمن يعطي كل ذي حقٍّ حقه :
 
أيها الأخوة الكرام؛ أوراق كثيرة وصلتني في هذا اليوم، لعل من أهمها أن شاباً متديناً يحضر مجالس العلم، وهو متزوج ـ وبحسب ما قرأت، وهذا الكلام متعلِّق بما قرأت ـ له زوجة تسيء إلى أمه إساءةً بالغة، وأمه بدأت تغضب عليه، وبدأت تتألم منه أشد الألم.
أيها الأخوة؛ الشاب المؤمن يعطي كل ذي حق حقه، لا يسمح لزوجته أن تتجاوز حدها مع أمه، كما لا يسمح أنْ تُظلَمَ زوجتُه، "سئل النبي عليه الصلاة والسلام: أيُّ النساء أعظم حقاً على الرجل؟ أي في عالم المرأة أية امرأة أعظم حقاً على الرجل، قال: أمه، فلما سئل: أي الرجال أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها "، ففي عالم الرجال أعظم رجل في حياة المرأة زوجُها، وفي عالم النساء أعظم امرأة في عالم النساء الأم، والمؤمن يعطي كل ذي حقٍ حقه، أما لو أن أمَّه أمرته بمعصية، أمرته أن يفعل منكراً، أمرته بالاختلاط في البيت الواحد مع نساء إخوته، أمرته أن يعصي الله، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
هذه الأم التي قالت لابنها: إما أن تكفر بمحمد، وإما أن أدع الطعام حتى أموت، وهو سيدنا سعد بن أبي وقاص، فقال: يا أمي لو أن لك مئة نفس، فخرجت واحدة واحدة، ما كفرت بمحمد، فكلي إن شئتٍ أو لا تأكلي.
 
للوالدين حقوقٌ على الأولاد غير محدودة إلا أن يؤمر الأولاد بمعصية الله :
 
أما إذا أمرته أمه أن يعينها، أن يطعمها، أن يكسوها، أن يدفع لها فواتير الكهرباء مثلاً، هذه أوامر يجب أن تنفَّذ، إذا كنت مؤمناً باراً بوالدتك، فأنا أريد من كل أخٍ مؤمنٍ يرتاد المساجد، وهو محسوبٌ على المؤمنين، أن يعطي كل ذي حق حقه، للزوجة حق، وللأم حق، فإذا لبَّى حق زوجته ونسي حق أمه فإنّه يحاسب، وإذا لبّى حقّ أمَّه ونسي زوجته فإنه يحاسب، أنا أدعو إلى التوازن، وإذا كان الزوج موفَّقاً يعطي كل ذي حقٍ حقه، فلا يسمح لواحدةٍ أن تظلم الطرف الآخر، وإنْ سمح لزوجته أن تتطاول على أمِّه، وأن تسمِعها الكلام القاسي، فالله يغضب عليه، لأن غضب الأم المحق يوجب غضبَ الله عز وجل، لمّا جاء رجلٌ إلى النبي وشكا ابنه، والقصيدة مشهورة جداً..
غذيتك مولوداً وعلتك يافعاً حتى إذا ما
بلغت السن والغاية التي كنت فيها أؤمل
جعلت جزائي منك وغلظة وفظاظـة
كأنك أنت المنعم المتفضِّـــــــل
فليتك إذ لم ترع حقَّ أبوتـــــي
فعلت كما الجار المجاور يفعـــــل
*  *  *
بكى النبي. فالأب والأم لهما حقوقٌ على الأولاد غير محدودة، إلا أن يؤمر الأولاد بمعصية الله.
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾
 [ سورة لقمان: 15 ]
أما إنْ طلبت الأمُّ أن تخدمها وأن تلبِّيَ حاجتها فهذا واجب عليك، أما لا سمح ولا قدر ـ وهذه حالات نادرة ـ إن أمرتك أن تعصي الله..
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾
 [ سورة لقمان: 15 ]
فالشاب المؤمن الذي يرتاد المساجد، والذي يُحْسَن الظن به، وهو مظنَّة صلاح، ينبغي أن يعطي أمه حقها وزوجته حقها.
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب