سورة القصص 028 - الدرس (13): تفسير الأيات (64 – 72)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (13): تفسير الأيات (64 – 72)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 163 - أنا عند ظن عبدي بي           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 16 - متى تصبح القدس عاصمة الخلافة - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - فضل الدعاء           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 397 - سورة المائدة 028 - 032           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 24 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 15 - معاملةالأسرى في الإسلام - د. راغب السرجاني         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 064 - 072)

21/01/2012 16:42:00

سورة القصص (028)
 
الدرس (13)
 
تفسير الآيات: (64 ـ 72)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
  
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
      أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثالث عشر من سورة القصص ، لا زلنا في الآيات التي ردَّ الله بها على قول كفَّار مكة :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
(سورة القصص : من الآية 57)
 
﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾
(سورة القصص : من الآية 64)
 
 تذكير بما سبق :
 
لو أن الإنسان أحجم عن الهدى أو رفض الهدى ، أو لم يعبأ به ، اتباعاً لكبراء القوم ، وانصياعاً لسادتهم ، وإرضاءً لأسياده ، فالله سبحانه وتعالى قَصَّ علينا مشهداً من مشاهد يوم القيامة ، حيث يتخلى هؤلاء الكبراء عن أتباعهم ..
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا ﴾
(سورة القصص)
أي يدَّعون أننا أغويناهم ..
 
﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾
(سورة القصص)
فليسوا مقهورين ، بل هم مخيَّرون ، وإنما وافقت شهواتهم دعوتنا فظلوا معنا ، إذاً : يُسْتَنتج من هذه الآية أنه لا يستطيع أحد أن يُضِلَّ أحداً ، لسببٍ بسيط هو أنه لا سلطان لأحدٍ على أحد من حيث التفكير والسلوك ، والدليل :
 
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾
(سورة إبراهيم  : من الآية 22)
 
﴿وَقِيلَ ادْعُوا﴾
هذا شُرِحَ في الدرس الماضي .
 
﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾
(سورة القصص)
ولكن الوقفة التي ينبغي أن نقف عندها ..
 
﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
 المفهوم الواسع للآية :
 
لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ :
        أي إذا جاء العذاب ، فهذا الذي أطعته ، وعصيت الله عزَّ وجل ، هل يستطيع أن يصرف عنك العذاب ؟ وهذه الآية لو وَسَّعنا مفهومها في حياتنا اليومية ، أي لو أن إنساناً أطاع شخصاً ، وعصى الله عزَّ وجل ، واقتضت هذه المعصية عقاباً من الله عزَّ وجل ، فهذا الذي أرضاه ، وأطاعه هل يستطيع أن يمنع عنه هذا العذاب ؟ الجواب : لا يستطيع ، لذلك : (( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) .
[ أحمد عن علي ]
وقبل أن تطيع فلاناً ، وتعصي الله فَكِّر ملِياً لو أن مرضاً خبيثاً عضالاً أصابك ، هل بإمكان الذي أَرْضَيته ، وعصيت الله عزَّ وجل أن يصرفه عنك ؟ ولو أن فقراً شديداً قَدَّره الله عليك فهذا الذي أطعته ، وأرضيته ، وعصيت الله فهل بإمكانه أن يصرفه عنك ؟ فأجمل تعليقٍ يقال في هذه الآية حينما قال أحد التابعين لوالٍ من ولاة يزيد ، وقد جاءه توجيهٌ من يزيد بخلاف ما أمر الله عزَّ وجل ، فقال : ماذا أفعل ؟ فقال هذا التابعي الجليل : " إن الله يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله ".
        فقبل أن تعصي الله ، وقبل أن ترضي الناس ، وتُرضي شريكك ، وزوجتك ، ومَن هو فوقك ، قبل أن ترضي مَن هو دونك ، قبل أن ترضي جارك ، ورفقاءك ، أي حينما تُرضي أشخاصا ، وتعصي خالق الكون ، هؤلاء الأشخاص على كثرتهم وقوَّتهم ، واتصالهم الشديد ، وحبهم لك فهل بإمكانهم أن يمنعوا عنك مصيبةً قدَّرها الله عزَّ وجل ؟ لا ، بل يتعاطفون معك بكلماتٍ معسولة ، إذ يقولون لك : والله نحن تألَّمنا لهذا المصاب كان الله بعونك ، وإذا كان الأجل أرسلوا إكليلاً من الورود وعليه عبارةٌ لطيفة ، وانتهى الأمر ، هذا كلُّ ما يفعله الناس إذا أرضيتهم ، وعصيت الله عزَّ وجل ..
 
﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾
(سورة القصص)
 
عدم استجابة الشّركاء لمتّبعيهم :
 
     هؤلاء الذين ادَّعَيْتُم أنَّهم آلهة ، في عصر النبي عليه الصلاة والسلام قالوا : اللات والعُزَّى آلهة ، وإذا كنتَ في عصرٍ آخر توَهَّمت أن شخصاً ما بيده الخير والشر ، فبيده أن ينفعك أو أن يضرك ، وأنت لم تقل : إنه إله ، ولكنك أعطيته صفات الإله ، فإذا توَجَّهت إليه بكليَّتك ، ورأيت أن غضبه خطير ، وأن رضاه كبير ، فإنَّك جعلته إلهاً وأنت لا تدري ، ليست العبرة أن تقول : هذا الإنسان إله ، هذه لا يقولها أحد ، وفي عصر النبي والعصر الجاهلي كانوا يقولون : إن ودّاً ويغوث ويعوق ونسرا آلهة ، ولكن عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ بَكَى ، فَقِيلَ لَهُ : مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ : شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ فَذَكَرْتُهُ فَأَبْكَانِي ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا ، وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا ، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ

 أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ
)) .
[ أحمد ]
إذا اتجهت نفسك إلى الأشخاص لترضيهم ، وهم في نظرك كبار جداً بيدهم نفعك  وَضَرّك فهذا الشيء ، هو الذي يعيق الإنسان عن طاعة ربه ، فلذلك ..
 
﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾
 
لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ
 
لو أنهم كانوا يهتدون إلى الله عزَّ وجل لما عبدوهم ، ولما أطاعوهم ، ولا خضعوا لهم ، واستسلموا لمشيئتهم ، ولما رأوا حجمهم كبيرا ، ولكن يرون الله أكبر ، فهذه كلمة ( الله أكبر ) ، والله لو أن الإنسان قالها ألف مرة ، وأطاع مخلوفاً ، وعصى ربه ما قالها ولا مرة ، لأنك لو رأيته أكبر من هذا لما عصيته ، دائماً لو أنه جاءك أمر من شخص مهم وشخص أقل أهمية ، ترعى حق المهم ، لمجرد أن تطيع الله عزَّ وجل ، وأن تعصي زيداً أو عبيداً ، ولو لم تقل بلسانك : الله أكبر قلتها بنفسك ، أما بمجرد أن تعصي الله عزَّ وجل كي تطيع إنساناً فأنت في أعماقك ، بل في شعورك ، بل لسان حالك يقول : فلانٌ أكبر من الله ، لأنك أطعته ، وعصيت الله ، إذاً :
 
﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾
(سورة القصص)
وقفت في الدرس الماضي وقفةً أُخرى عند هذه الآية :
 
﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾
 
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ
 
     ليست العبرة أن تجيب ، فأنا أذكر طبيباً نصح مريضاً بترك التدخين ، ونصحه في وجودي ، وكنت معه ، وبعد أشهرٍ عِدَّة أصابه مرضٌ عضالٌ بسبب التدخين ، فهذا المريض سكت لم يجب ، الطبيب نصح ، والمريض سكت ، ما هي الإجابة ؟ لو أنه هزَّ برأسه فليست هذه هي الإجابة ، فما موقف هذا المريض من التدخين ؟ هل امتنع عنه ؟  إذاً : أجابه بالإيجاب ، وهل تابع التدخين ؟ إذن أجابه بالسلب .
فما موقفك من هذه الدعوة ؟ وما موقفك من هذا الأمر الإلهي ؟ ما موقفك من هذا الحكم ؟ ومن هذا التوجيه ؟ هذا معنى قوله تعالى :
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾
        ما الموقف الذي وقفتموه ؟ هل ناصرتموهم ؟ وهل عاديتموهم ؟ أو صَدَّقتموهم ؟ أم كَذَّبتموهم ؟ واستجبتم لدعوتهم ؟ أم رفضتم هذه الدعوة ؟ .
 
﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
لا مخرج إلا بالتوبة :
 
دائماً وأبداً الله سبحانه وتعالى يفتح باب التوبة ، فما من شيءٍ يبُثُّ الأمل في النفس أشدَّ من أن الله سبحانه وتعالى جعل باب التوبة باب النجاة ، فالتوبة صَمَّام أمان ، فإذا زاد الضغط على الإنسان تأتي التوبة صمَّام أمان ، وإذا غرق الإنسان في ذنوبه تأتي التوبة حبل نجاة ، وإذا أُحْكِمَت عليه السبل كانت التوبة باب الخلاص ، فكُلَّما ضاقت بك الأمور ، وسُدَّت أمامك السبل فالله سبحانه وتعالى يفتح لك باب التوبة ..
 
﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾
(سورة القصص)
       إن كلمة ( عسى ) تفيد الرجاء ، وترجيح الرجاء ، وهذا الذي يبقى ، والذي يُخِلُّ بصِحَّة التوبة وبصحة الإيمان هو عدم الإخلاص ، فإذا كان مخلصاً :
 
﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾
 
 الردّ القرآني السادس على قول المشركين :
 
والآن جاء الردُّ السادس على قول هؤلاء المشركين :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
(سورة القصص : الآية 57)
ربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾
(سورة القصص : الآية 68)
 
مشيئة الله مطلقة صحيحة : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ
 
      مشيئة الله عزَّ وجل مشيئةٌ صحيحة ، لأن الإنسان أحياناً قد يختار شيئاً وهو مكرهٌ ، ومضغوط عليه ، وقد يختار شيئاً بدافع الرغبة والإغراء ، فإذا كان الإنسان تحت تأثير الضغط أو الإغراء يختار شيئاً غير صحيح ، وغير حكيم ، وقد يكون جاهلاً ، أو مُسَيَّراً ، فمشيئة الإنسان ليست كمشيئة الله عزَّ وجل ، فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ، وليس في الكون كلِّه جهةٌ تستطيع أن تمنع الله أن يفعل ما يشاء ، ولا أن تدفعه إلى أن يفعل ما لم يشأ ، والله حكيمٌ وعليمٌ وقديرٌ وغنيٌ ، إذاً : مشيئته هي المشيئة الصحيحة .
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾
يخلق ماذا ؟ عندنا خلق تكويني ، أي لا يقع في الكون فعلٌ إلا بمشيئة الله ، فهذه الفكرة استيعابها سهل ، أما أن تعيش هذه الفكرة فقد طهرت نفسك من كل قلق ، فإذا شعرت أن هذا الكون العظيم بمجَرَّاته ، وبسماواته وأرضه ، وبالبشر جميعاً الأقوياء منهم والضعفاء ، وبالذين يملكون أسلحةً فتَّاكة ، فإذا شعرت أنه لا يقع شيءٌ في الكون إلا بمشيئة الله ، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم ، وهو العليم ، وهو العادل ، وهو القدير ، وهو اللطيف ، إذاً : هذا التشعُّب ، وهذا التشرذم والضيق والشرك هو الذي يأكل القلوب .
 
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
(سورة الشعراء)
أساساً : من علامات قيام الساعة كما قال الله عزَّ وجل :
 
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾
(سورة يونس  : الآية24)
      أي شعر بعض البشر الأقوياء أنَّهم قادرون عليها ، أن الأرض كلَّها في قبضتهم ، يرون ما يشاءون ، ويفعلون ما يريدون ، ولكن الله سبحانه وتعالى كذَّبهم في آياتٍ كثيرة ، فقال تعالى :
 
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾
(سورة الفتح : الآية 10)
قال تعالى :
 
﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾
( سورة هود : الآية 56)
 
 لا يقع شيء ٌ في الكون إلا بإذن الله عز وجل:
 
الفكرة هنا أنه لا يقع شيءٌ في الكون ، ولا يحدث حادث ، ولا يتحرَّك متحرِّك ، ولا ينطلق حجر ، ولا يهبط بناء ، ولا يتزلزل جبل ، ولا ينفجر بركان ، ولا يفيض نهر ، ولا تشِحُّ الأمطار إلا بإذن الله عزَّ وجل ، هذا هو جوهر الإيمان ، إذا شعرت أن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء .
أفعال العباد فيها للإنسان الكسب فقط ، أو الانبعاث إلى العمل ، فأنت تختار أن تذهب إلى المسجد ، وعن هذا الاختيار الله سبحانه وتعالى يعطيك القوة كي تُحَقُّقه ، فمجيئك إلى المسجد هو باختيارك ، ولكنه بفعل الله عزَّ وجل ، وإذا أراد إنسان أن يؤذي إنساناً ، فالإنسان له المشيئة والاختيار ، والكسب والانبعاث ، ولكن القوة التي يؤذيه بها هي قوة الله عزَّ وجل ، وهذا هو التوحيد ، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة ، أي أن الأشياء لا تفعل بذاتها ، بل بمشيئة الله ، عندها لا بها ، وهذا معنى قول الله عزَّ وجل :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
الأفعال كلها من خلق الله ، فهذا الذي يقول :
 
﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
كأنَّه مُشْرك ، وكأنه يرى أن الله عزَّ وجل لا دخل له بأفعال العباد ، ماذا قال الله عزَّ وجل :
 
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾
(سورة الزخرف)
 
﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾
(سورة النحل : الآية 51)
فحينما توَهَّم هؤلاء بقولهم :
 
﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
        الفعل بيد من ؟ فلو كان بيد جهة أخرى غير الله عزَّ وجل ، فالكلام مقبول وصحيح ، ولكن الفعل كلَّه بيد الله ، فكيف يُعْقَل أن تهتدوا إلى الله وأن تأتي جهةٌ ، وتوقع فيكم الأذى ؟ .
مثلاً : لو أن مؤسسةً ، أو وزارةً ، أو معملاً ، أو منشأة لها مدير عام بيده كل شيء ، ولا يمكن أن يحدث شيء في هذه المُنْشَأة إلا بعد موافقة المدير العام ، فإذا كان هذا المدير العام قد أرسلك في مهمَّة ، تقول له : أخشى أن أُعاقب غداً بسبب الغياب عن الدوام ؟ يقول لك : من يعاقبك غيري ؟ أنا الذي أعاقب ، وأنا أرسلتك بمهمة ، أيعقل أن أعاقبك على أنَّك نَفَّذت هذه المهمة ؟ إذ لا ينفذ قرار عقابك إلا بتوقيعي ، وإذا قال هذا الموظف لهذا المدير العام الذي بيده كلُّ الأمور : أخشى أن أنفذ هذه المهمة فأعاقب غداً لتخلُّفي عن الدوام ؟ يقول لك : عجباً ! هل في هذه الدائرة إلا مديرٌ واحد ؟ وهل ينفذ كتاب عقابٍ إلا إذا وقَّعته أنا ؟ أنا الذي أرسلتك .
 
﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
الله عزَّ وجل ردَّ عليهم فقال :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
(سورة القصص : الآية 68)
 
 الله خالقُ أفعال العباد :
 
      هو الخلاَّق ، وهو الذي يخلق أفعال العباد ، والعباد لهم الاختيار فقط ، أما الذي يخلق أفعالهم فهو الله عزَّ وجل .
      فحينما توهَّم المعتزلة أن الإنسان خالق أفعاله ، ضلُّوا ضلالاً مبيناً ، فالإنسان لا يخلق أفعاله ، بل ينبعث إلى أفعاله ، ويكسب أفعاله فقط ، أما فعلُ الإنسان فهو فعل الله عزَّ وجل ، والإنسان له الثواب أو العقاب على انبعاثه لهذا العمل ، وعلى كسبه له ، وهذا معنى قوله تعالى:
 
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
(سورة البقرة : الآية 286)
فمعنى هذه الآية :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
مشيئته هي النافذة .
 
﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
(سورة الكهف)
 
﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾
(سورة هود : الآية 65)
 
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ 
(سورة الفتح : الآية 10)
َ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
 
 
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾
(سورة الأنفال : الآية 17)
 
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾
(سورة الأنفال : الآية 17 )
هذه الآيات كلها تؤكِّد ذلك ..
 
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾
(سورة الأعراف)
إن الإنسان أحياناً يبيع طائرة ، ولكن أمر هذه الطائرة ليس للشركة الصانعة ، ولمن يركبها ، وقد تهوي ، وقد تقصِف ، فهذا الشيء لا ينطبق على خلق الله عزَّ وجل ، فكلُّ شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل ..
 
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
(سورة الأعراف  )
       أي أن أمر هذا المخلوق بيد الله عزَّ وجل ، الله خالق كل شيء ، وهو على كل شيءٍ وكيل .
لو أنكم تقرؤون كتاب الله عزَّ وجل ، وتبحثون عن آيات التوحيد ، فآيات التوحيد تَبُثُّ في النفس الطمأنينة ، والشعور بالأمن ، فالأمر بيد الله عزَّ وجل ، كن مع الله ولا تبال .
كن مع الله تر الله معك      واترك الكلَّ وحاذر طمعك
***
أساساً : ما يجري من الناس من خوف ، ومن قلق ، ومن شعور بالقهر ، فهذه كلُّها مشاعر الشرك ، لأنك ظننت أن زيداً أو عبيداً بيده كلُّ شيء ، وبيده أن ينفعك ، أو أن يضرُّك .
       عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ :
(( يَا غُلَامُ ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ
 
 اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ )) .
[ الترمذي ]
هذا هو الاعتقاد الصحيح ..
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
       هذا الخلق التكويني ، أي أنه خلق الشمس ، وخلق القمر ، والليل ، والنهار ، والأمطار ، وشُحَّ الأمطار ، بيده الأمر ، فقد خلق الغنى والفقر ، والقوة والضعف ، وهو الذي خلق هذا الزلزال ، وأجرى هذا البركان ، وفاضت الأنهار ، أو شَحَّت الينابيع ، يخلق ما يشاء ، هذا الخلق التكويني ، وفلان تطاول على فلان ، وفلان ذاق بأس فلان ، والآية معروفة :
 
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
(سورة الأنعام : الآية 65)
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
هذا الخلق التكويني ، خلق الكون ، ومظاهره ، وخلق الأفعال ، فالأفعال كلها بيدِ الله ، لذلك من أجمع عبارات التوحيد ، أن كلَّ شيءٍ وقع أراده الله ، وأن الله إذا أراد شيئاً وقع ، فلك أن تفهم هذه العبارة على شكلين ، شاء الله أن يكون هذا الأمر فكان ، وكان هذا الأمر ، إذاً : شاءه الله ، ومادام هذا الأمر قد كان ، إذاً : شاءه الله ، مادام الله قد شاء هذا الأمر فلابدَّ من أن يكون ، وهذا قول النبي الكريم :
(( وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ )) .
[ أبو داود]
ومشيئته متعلقةٌ بالحكمة ، وحكمته متعلقةٌ بالخير المطلق ، دائماً مشيئته حكيمة ، وكل شيءٍ وقع لو لم يقع لكان نقصاً في الحكمة .
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
 
 معنى :  وَيَخْتَارُ
 
والآن .. ويختار ، أي يختار ماذا ؟ ويختار ما يشاء ، قال العلماء : يختار أي يختار لكم التشريع المناسب ، وربنا عزَّ وجل خلق الإنسان ، وعلَّمه القرآن ، وخلق السماوات والأرض ، وأنزل على عبده الكتاب ، فهناك خَلق وتوجيه ، التوجيه أمر تكليفي ، أما الخَلق فأمر تكويني ، والخلق كن فيكون ، ولذلك يوجد فرق كبير بين الأمر التكويني والأمر التكليفي ، فربنا عزَّ وجل إذا قال لهذا الجبل : زُل يزول فوراً ..
 
﴿كُنْ فَيَكُونُ ﴾
 
(سورة يس)
 الأمر التكويني والأمر التكليفي :
 
فوراً ، هذا أمره التكويني ، أما أمره التكليفي ؛ فقد أمرنا بغض البصر ، وهناك آلاف الأشخاص يطلقون أبصارهم ، إذا عُصِي أمر الله التكليفي فشيء طبيعي جداً ، هو لم يأمر أمراً تكوينياً ، بل أنه أمر تكليفي .. ونحن نضع إشارة منع المرور بلوحة صغيرة حمراء على عمود على يمين الطريق ، فهل معنى ذلك أن هذه اللوحة تمنع المركبة من السير في هذا الطريق ؟ لا تمنعها ، ولكن تُحَذِّر ، فهذه اللوحة منع للمرور هذا أمر تكليفي ، أما إذا وضع في عرض الطريق قطع إسمنتية كبيرة ومكعبات كبيرة جداً ، فكل مكعب خمسة أمتار مكعَّبة مع إسمنت مسلح ، نقول : هذا أمر تكويني ، وهذه الحواجز تمنع مرور المركبات فهو منع تكويني ، أما لوحة " ممنوع المرور " هذا أمر تكليفي ، فيجب أن نفرِّق دائماً بين الأمر التكويني ، والأمر التكليفي ، الأمر التكويني :
 
﴿كُنْ فَيَكُونُ ﴾
       زُل فيزول ، فليس في الكون كله شيءٌ يستعصي على أمر الله ، فإذا استعصى إنسان على أمر الله ، لأن الأمر تكليفي لا تكويني ، ولو أن ربنا عزَّ وجل أراد لنا الهدى القسري لجعل تكاليفه أوامر تكوينية لا أوامر تكليفية .
إذاً يمكن أن أمنع المرور من الطريق لا بأمرٍ تكويني بل بوضع مكعّبات من إسمنت مسلّح كبيرة لا .. لا ، أنا أمنع المرور بأمر تكليفي بلوحة صغيرة ، والإنسان بإمكانه أن يخترق هذا الأمر ، أن يعصيه ، لأنه أمر تكليفي ، أما الأمر التكويني فهو المنع ، فلذلك ربنا عزَّ وجل قال :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
هذا الأمر التكويني ، ويختار هذا الأمر التكليفي ، ففي كل شيء الله خلقك ، وأعطاك توجيهاً ، فأنت مخير إما أن تستجيب أو لا تستجيب ، فربنا عزَّ وجل نصحك بأن تستجيب ، قال :
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
(سورة الأنفال : الآية 24)
إذاً :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾
(سورة القصص : الآية 68)
المعنى دقيق جداً ، هذا المعنى الأول ينطبق على قوله تعالى :
 
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
(سورة الأحزاب : الآية 36)
 
 المعنى الوّل لقوله : مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
 
1 – وجوبُ الانقيادِ إلى حُكم الله ورسوله من غير تردد لا نقاش :
       إنّ الإنسان إذا أمره الله بأمر فالعاقل ليس له مع أمر الله رأي إطلاقاً ، لأن الله عزَّ وجل اختار لنا هذا التشريع ، فنحن ليس لنا خيار فيه ، لأنه من عند حكيمٍ عليم ، فأن تقول : أنا أفعل أو لا أفعل ، أنت مخير ، ولكن إذا اخترت ألاّ تفعل فهناك ثمن باهظ ، وإذا كنت عاقلا تختار أن تفعل ، في الأصل أنت مخير ، لك أن تفعل أو ألا تفعل ، ولكن رأي العبد الحادث الضعيف لا شيء أمام هذا التشريع الحكيم ، وأنت أيها الإنسان ليس لك اختيار إذا كنت عاقلاً .
 
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾
إذا أعطى الله عزَّ وجل في موضوع حكماً فالأمر لله عزَّ وجل .
2 – مخالفة أحكام الله سببٌ في الهلاك :
مثلاً أعطى حكمه في الربا ، وقال :
 
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾
(سورة البقرة : الآية 276)
هذا حُكم الله عزَّ وجل ، فتقول لي : رأي الشخصي ، وقناعتي ، وأنا قارئ مقالة ، وفلان له رأي في الموضوع ، فأقول : هذا كله كلام فارغ ، رأي وقناعة ورؤية ، وحقيقة ، وقضية نسبية ظروف صعبة ، فمعنى ذلك أنك تبدي مع الله رأياً ، ومعنى ذلك أنك ترى أن حكم الله عزَّ وجل فيه خلل ، وأنت ترممِّ هذا الحكم ، لذلك الآية :
 
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾
(سورة الأحزاب : الآية 36)
والشيء اللطيف أن سيدنا عمر كان وَقَّافاً عند كتاب الله ، هكذا يأمر الله عزَّ وجل فسمعاً وطاعةً يا رب ، وهكذا يأمر النبي عليه الصلاة والسلام فسمعاً وطاعةً يا رسول الله ، وهكذا الإيمان بالله العظيم ، آمنت به رباً عظيماً ، وخالقاً حكيماً ، ورؤوفاً رحيماً ، وهذا أمره ، فكلما وقع الإنسان في مشكلة فهناك جواب مُسكِت ، أتحب الله عزّ وجل ؟ نعم ، فأنت واثقٌ من حكمته ؟ وواثقٌ من عدالته ؟ ومن رحمته ؟ نعم ، ولطفه ؟  فهذه مشيئته ، إن لم ترضَ بها فأنت لا تعرفه ، وأنت لست مؤمناً به ، وهذا هو الإيمان ، ولذلك فالنبي الكريم إذا جاءت الأمور كما يحب كان يقول :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ )) .
[ ابن ماجه عن عائشة ]
وإذا جاءت على غير ما يحب يقول :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ )) .
[ ابن ماجه عن عائشة ]
والحديث المعروف ، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ )) .
[ مسلم ]
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾
خلقك ، واختار لك هذا الشرع الحكيم ..
 
 
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
(سورة فاطر : الآية 1)
 
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
(سورة الأنعام : الآية 1)
 
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾
(سورة الكهف: الآية 1)
       خلق الكون ، وأعطاك التوجيهات ، مثل بسيط ومبسَّط : شُقَّ الطريق ، ووضعت الشاخصات ؛ فهنا منزلق خطر ، وهنا تقاطع خطر ، وهنا طريقٌ ضيِّقة ، وطريقٌ صاعدة ، ومنعطفٌ حاد ، وهذه لوحات قبل مسافات ، قبل ألف متر ، قبل خمسمائة ، شُقَّ الطريق وضعت الشاخصات ، خلق الكون أُنزل الكتاب ، خلق الله الكون ونَوَّره بالقرآن :
 
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
(سورة النور: الآية 35)
      عندك آلة ومعها تعليمات ، وشيء مادي ومعه توجيهات ، فأنت آلة ، مخلوق من أعقد الآلات في الكون ، ومعك كتاب تعليمات الصانع ، وهو القرآن الكريم :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾
(سورة القصص : الآية 68)
 
 المعنى الثاني للآية : مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
 
هناك معنى آخر دقيق ، والمعنى الآخر أنه عندما يختار الإنسان شيئا فاختياره جزئي لا كُلي ، ولماذا جزئي ؟ لأن الفعل ليس له ، لو فرضنا إنسانا اختار أن يقتل إنساناً ، وهو اختار فقط ، أما المشيئة فتحتاج إلى اختيار ، وإرادة وقدرة ، فهو يملك الإرادة ، لكنه لا يملك القدرة ، إذاً : مشيئته ناقصة حتى يسمح الله ، فهذه عقيدة مريحة جداً ، فلو كان لك عدو مخيف فقوته بيدِ الله عزّ وجل ، قد ينوي لك هذا العدو شراً كبيراً ، لكن لا يستطيع أن يوقع من شرِّه إلا بالقدر الذي يسمح الله له به .
إذاً : أما أنتم أيها البشر فما كان لكم الخيرة الصحيحة الكاملة ، لأن قوتكم بيدِ الله عزّ وجل ، فتختارون شيئاً فالله عزّ وجل إما أن ينفِّذ أو لا ينَفِّذ ، فلو وُجد مخلوق مربوط بزمام متين ، وأنت أرخيت الزمام فيتحرك ، وهو يبدو لك أنه حر ، ويتوهم أن حركته حرة ، لكن في أية لحظة يُشَدُّ الزمام فإذا هو في القبضة .
فإذاً المعنى الأول : أن الإنسان لعلمه الناقص ، ولعبوديته لله عزّ وجل ، ولأنه كائن حادث محدود ، علْمُه من علم الله ، فما كان لهذا الإنسان أن يكون له اختيار مع اختيار الله عزّ وجل ، وما كان له أن يبدي رأياً مع شرع الله عزّ وجل:
 
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾
لا في الخَلق ، فخلق الله أكمل خلق ، فأي تغييرٍ في خلق الله يدفع الإنسان الثمن باهظاً ، والآن هناك ، أمراض العصر كلها بسبب تغيير في خلق الله ، فمثلاً : هذه الدجاجة يجب أن تنمو في أربعين يوماً ، إذاً : يجب أن نعطيها الهرمونات التي تُسَرِّع النمو ، ولكن هذه الهرمونات إذا تراكمت في جسم الإنسان فقد تسبب السرطان ، فالإنسان خُلِقَ ، ولكنه غير كامل ، وأي شيءٍ صممه الإنسان على المدى البعيد فله أخطار وبيلة ، ويبدو لأول وهلة وفي المدى القريب أنه رائع ، ومريح ، وكامل ، لكن كل شيء يغيِّر الإنسان فيه خلق الله عزّ وجل فالثمن التلوث ، والتلوّث الآن هو الطامة الكبرى في العالم ، ما التلوث ؟ هو تغيير في تصميم الخلق ، المركبة تسبب أمراضاً وبيلة جداً ، أما الحصان فيقي من أمراض القلب ، ومن أمراض الكبد ، والكليتين .
 
 خلاصةُ المعنيين في الآية :
 
المعنى الأول : أن ربنا عزَّ وجل خَلَقَه الخَلقَ كاملاً ، وربنا صمم طبيعة نظيفة ، ونحن لوثناها بهذه الغازات والسموم ، جعل طبقة أوزون تحمي الناس من أشعة الشمس القاتلة ، خرقناها بالأقمار الصناعية إلى أن تخلخلت ، وعندما تخلخلت ارتفعت نسبة سرطان الجلد إلى سبعين في المئة في أماكن التخلخل ، وفي تلك البلاد ، فالأوزون تخلخل ، والحرارة ارتفعت ، فأصبح في البلاد التي لم تألف المكيَّفات أصبح المكيف ضرورة ، بسبب أن الحرارة في الأرض ارتفعت درجة ، كلمة درجة شيء مخيف جداً ، ارتفعت درجة بسبب ازدياد غاز الفحم في الجو ، وهذا من تغيير خلق الله عزّ وجل ، والبحث يطول ، فهذه المبيدات نستعملها بشكل كبير جداً ، هذه قتلت كل الكائنات الطبيعية ، وكان يوجد توازن بين الكائنات ، هذه الحشرة تقضي على هذا المن فلمَّا أبدنا الحشرات بالكيميائيات أصبح هناك خلل بالتوازن ، أي أنه في الصناعة ، والتجارة ، والبيئة ، والأجواء ، حتى في مساكننا ، الضجيج، والتلوث ، وهذا كله خطأ أو تغيير لخلق الله ، وربنا عزّ وجل قال ذلك قال :
 
﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾
 (سورة النساء : الآية 119)
       فالإنسان ما كان له أن يختار شيئاً أكمل من خَلق الله عزّ وجل ، لله الكمال المطلق ، وما كان له أن يختار شرعاً أكمل من شرع الله ، فشرع الله هو الكامل ، فأنت إنْ في الخلق ، وإن في التشريع أمام كمال مطلق في الخلق ، وكمال مطلق في التشريع ، بل إن معظم الأمراض التي يعاني منها الناس اليوم إنما هي أمراض بسبب خلل في تطبيق منهج الله عزّ وجل ، والدليل ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾
(سورة الشعراء)
        ما قال : وإذا أمرضني فهو يشفين  ، بل قال : وإذا مرضت ، المرض عُزِيَ إلى الإنسان لخلل في حياته .
إنّ رجلا كان في بلد غربي فالتقى مع شخص فقال له : أنا من بلد مسلم ، وسمى له اسم البلد ، فمن حديث إلى حديث قال له : الإسلام سببُ تخلُّفِنا نحن ، فهذا الشخص الأجنبي أخذه من يده إلى أضخم مستشفى في هذه البلدة في أوروبا ، وقال له : اقرأ ، كُتِبَ على هذه المستشفى بحرفٍ كبير : " نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع " ، وكُتب تحتها : محمد بن عبد الله ، قال له : هذه الكلمات هي الطبُّ الوقائي كلُّه .
فأنت أولاً ليس لك الحق أن تصوِّر خلقاً آخر غير خلق الله عزّ وجل ، هو الخلق الكامل ، وحتى في التشريع فإن تشريع الله هو الكامل .
فأول معنى :
 
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾
ما كان لهذا الإنسان أن يختار خلقاً آخر ، أو أن يختار تشريعاً آخر فالخلق كامل .
والمعنى الآخر : أن الإنسان اختياره جزئي ، فالعمل يحتاج إلى إرادة وإلى قدرة ، والإنسان يملك الإرادة ، أما القدرة فلا يملكها ، لذلك يأتي اختياره ناقصا :
 
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾
(سورة القصص)
يا ترى عندما قالوا :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
(سورة القصص : الآية 57)
 
 وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
 
َ       أحياناً الإنسان يحتجّ ، بأن يقول : أنا ليس عندي وقت لأن أحضر الدروس ، فالله يعرف الحقيقة ، أليس عندك وقت أم أنت لا ترغب ؟ فالإنسان له أن يقول ما يختار ، وله أن يدَّعي ما يشاء ، وأن يعلن ما يشاء ، ولكن ما يكِنُّه صدره من الداخل يعلمه الله عزّ وجل :
 
﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
( سورة طه )
       يعلم السر الذي تكتمه عن الناس ، ويعلم الشيء الذي يخفى عنك ، هذا علم الله عزّ وجل ، ثلاثة مستويات ، يعلم علانيَّتك ، أي ما تقوله ، ويعلم سرك ، ويعلم ما يخفى عنك :
 
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾
(القصص )
ولذلك إذا شعر الإنسان أن الله يراقبه يستقيم قلبه ، فالغِل ، والحسد ، والضغينة ، والتنافس ، والغيرة أحياناً ، هذه كلها مشاعر مرضية يعلمُها الله عزّ وجل ، فالإنسان رأس ماله القلبُ السليمُ :
 
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
(سورة الشعراء)
هذا الذي لا ينطوي على حقدٍ ، ولا على ضغينة ، ولا على شعورٍ بالعلو ، هذا القلب السليم رأس مال الإنسان يوم القيامة ، لأن كل شيء يفنى ، فكل متاعه ، وكل دنياه تفنى ، ويبقى القلب السليم :
 
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ﴾
(القصص : الآية 70)
 
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
 
الله مصدر النعم في الدنيا والآخرة :
 
        في الدنيا وفي الآخرة هو مصدر كل النعم ، له الحمد ، لو قال الإنسان : الحمد له ، تعني الحمد له ولغيره ، أما له الحمد ، فحينما قدمنا له على كلمة الحمد أصبح هنا معنى القصر ، أي الحمد كلُّه لله عزّ وجل ، وأيُّ نعمةٍ جاءتك من إنسانٍ إنما هي من الله في حقيقتها ، ولذلك إذا جاءت الإنسانَ نعمةٌ من إنسان فأول شيءٍ يشكرُ الله عزّ وجل ، لأنه خلق هذه النعمة ، ومكَّن منها هذا الإنسان ، وألهم هذا الإنسان أن يقدمها لك :
 
﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ﴾
       الحكم له ، أي الرأي الأخير له ، كل شيء متوقفٌ على حكم الله عزّ وجل ، المرض يشفى أو لا يشفى ، له الحكم ، يوفَّق هذا التاجر أو لا يوفَّق له الحكم ، ينجح هذا الزواج أو لا ينجح ، له الحكم :
 
﴿وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
( سورة القصص )
 
وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
 
        ما دُمت راجعاً إليه وسوف يحاسبك لابدَّ من أن تستقيم على أمره ، أي لابد من أن تعبده ، ولذلك قال بعض الفلاسفة  : " لا معنى للأخلاق من دون إيمانٍ بالله ، وإيمانٍ بيوم الحساب ، وحسابٍ في هذا اليوم "
       أي هناك إيمان بالله ، واليوم الآخر ، والحساب ، فإذا اختل أحد هذه الثلاثة فإن الإنسان لا يستقيم على أمر الله ، ولن يستقيم إلا إذا آمن بالله، وآمن باليوم الآخر ، وآمن بالحساب الدقيق في هذا اليوم :
 
﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
أما آخر آية في هذا الرَدّ على قول هؤلاء المشركين :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
        لماذا لا يطيع الإنسان الله عزّ وجل ؟ لأن معرفته بالله ضعيفة ، أنت لا تطيع إنساناً إلا إذا عرفت قيمته ، وإلا إذا عرفت ما عنده من خيرٍ وإذا أطعته ، وما عنده من عقابٍ أليمٍ إذا عصيته ، إذاً : معرفة الآمر يجب أن تكون قبل معرفة الأمر ، فكيف تعرف الله عزّ وجل ؟ هذا الكون الذي أمامك ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ*
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
الردُّ السابع على قول المشركين :
 
كلمة أخيرة : ربنا عزّ وجل انتقل فجأةً إلى آيةٍ كونية ، الحديث عن قول الكفار :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
واللهُ رد على هؤلاء أول رد ، والثاني ، والثالث ، والرابع ، والخامس ، فجأةً :
 
 
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
 
 علاقة هذه الآيات بما قبلها :
 
قد يسأل سائل ما علاقة هذا الموضوع بالموضوع المتسلسل ؟ الحقيقة توجد علاقة متينة جداً ، فهؤلاء الذين قالوا :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
        لم يروا عظمة الله عزّ وجل ، ولا وحَّدوه ، كيف نعظمه ، وكيف نوحده ؟ إذا فكرنا في مخلوقاته فربنا عزّ وجل رسم الطريق ، أي أن هذا التوهُّم بأن الطاعة تضر والمعصية تنفع ، وهذا الظن ، وهذا الشرك ، والخوف ، والقلق ، كلُّ هذه الأمراض الناتجة عن الشرك ، وكل هذه المعاصي أساسها ضعف الإيمان بالله ، فالآن خذ لنفسك مقياساً ، حينما تعصي الله فاعلم علم اليقين أن معرفتك بالله لازالت قاصرة ، وهي في حجمٍ لا يكفي لطاعته ، ومتى يكون حجم المعرفة كافياً ؟ إذا حَمَلَتْك المعرفة على طاعة الله عزَّ وجل ، فإذ وُجدت المعاصي فمعناه أن حجمَ المعرفة قليل ، إذ لم تعرف الخالق العظيم ، ولا المسيِّر الحكيم ، ولم توحِّد خالقك ، ولم توحِّد الألوهية ، ولم توحِّد الربوبية ، ولا رأيت رباً واحداً ، ولا إلهاً واحداً ، ولا خالقاً واحداً ، ولكن رأيت زيداً وعبيداً ، إذاً : هناك شرك ، فإذا كان للطاعة والمعصية عداد أو مؤشّر فتأكَّد أن هذا المؤشر يتزامن ويتوافق مع مؤشِّر الإيمان ، فكلما ازداد إيمانك ازدادت طاعتك ، وازداد ورعك ، وازداد خوفك ، وازدادت خشيتك ، وكلما ضعف الإيمان ضعفت الطاعة ، والورع ، والخشية ، والشوق وما إلى ذلك ، فربنا عزّ وجل دلَّنا على الطريق فقال : إنكم لن تستطيعوا أن تطيعوني إلا إذا عرفتموني ، ولن تستقيموا على أمري إلا إذا خفتم مني ، ولن تعملوا الأعمال الصالحة إلا رجوتم جنَّتي ، فإذا لم تعرفوا قدر الله عزّ وجل ، وما عنده من نعيمٍ مقيم ومن عذابٍ أليم ، فقد تضعف الطاعة ، فربنا عزّ وجل رسم الطريق طريق النجاة ، أي فكروا في الليل والنهار .
وإن شاء الله في الدرس القادم نفصّل في هذه الآية .
مرة ثانية ، إذا فكَّر الإنسان فيها فيما بينه وبين نفسه فشيء رائع جداً بعد صلاة الصبح :
 
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ﴾
 
 سِرُّ الليلِ والنهار :
 
         ما سِرُّ الليل والنهار ؟ أي متى يصبح النهار سرمداً ، والأرض تدور فتتوقف عن الدوران ، أو الشمس انطفأت ، أو دارت دورةً مع دورتها حول الشمس كالقمر ، فيصبح الليل سرمداً والنهار سرمداً ، أو دارت على محور أفقي ، نهار وليل ، موضوع دقيق جداً أي متى يكون الليل سرمداً والنهار سرمداً ؟ في أي الأحوال ؟ الأرض كرة لها محور مائل تدور حول نفسها ، دورة حول الشمس ، فهذه الموضوعات موضوعات علمية ، فربنا عزّ وجل يُلْفِت النظر لهذا الموضوع :
 
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً﴾
 
 من قدرةِ وحِكمة الله في الخلق :
 
        النهار سرمد ، أي الحرارة ثلاثمائة وخمسون درجة ، فوق الصفر ، والليل سرمد أي الحرارة مئتان وخمسون تحت الصفر ، فالحياة مستحيلة ، فلو جعل الله الليل سرمداً أو النهار سرمداً لكانت الحياة مستحيلة ، يقول الله عزّ وجل :
 
﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾
        فهل هناك جهة قوية في العالم تجتمع ، وتتخذ قراراً ، وتصنع الليل ، لا يوجد عندكم ليل ؟ هذا ليل ، فأية فئة ، وأية دولة قوية ، وأية مجموعة ، وأية منظَّمة ، تجتمع ، وتقرر إحداث الليل ، أو إحداث النهار :
 
﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾
﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
        إذاً : هذه الآية الكونية من هنا الطريق إلى الله عزّ وجل ، فكِّر في خلق الله عزّ وجل حتى تعرفه ، وتعرف عظمته ، وربوبيَّته ، وألوهِيَّته ، ووحدانيته ، وتستقيم على أمره ، إذاً : هذه الآية فيها مفتاح الخلاص ، لئلا يقول الإنسان :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
تأتي هذه الآية لتبيِّن للإنسان الطريق إلى معرفة الله عزّ وجل .
 
 
والحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب