سورة القصص 028 - الدرس (11): تفسير الأيات (60 – 61)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (11): تفسير الأيات (60 – 61)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 060 - 061)

17/01/2012 17:51:00

 
سورة القصص (028)
 
الدرس (11)
 
تفسير الآيات: (60 ـ 61)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 
 

  
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الحادي عشر من سورة القصص .
 
 والترابط والتسلسل بين آيات القرآن الكريم :
 
 حجّةُ المشركين لعدم الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسّلام :
 
أيها الإخوة الأكارم ، في القرآن الكريم ترابطٌ وتسلسل بين آياته ، وقد لا يبدو هذا لأوَّل وهلة ، فمثلاً ربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
(سورة القصص)
هذه مقولة مشركي مكة .
 
الردُّ الإلهي :
 
الردُّ الأول :
 
بماذا ردَّ الله عليهم :
 
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
(سورة القصص)
هذا هو الرد الأول .
الردُّ الثاني :
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾
(سورة القصص)
الردُّ الثالث :
 
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
(سورة القصص)
الردُّ الرابع :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ* أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
(سورة القصص)
الردُّ الخامس :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾
(سورة القصص)
        لو قُرِأَت هذه الآيات قراءةً سريعة ، ولم يتعمَّق في فهمها لظنَّ المؤمن أن هذه الآيات تعالج موضوعاتٍ متفاوتة لا رابط بينها ، ولكن إن شاء الله تعالى في هذا الدرس ، وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى سوف ترون كيف أن كل هذه الآيات تتمحور حول محورٍ واحد .
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
       وقد ردَّ الله عليهم بموضوعاتٍ شتَّى ، وبأساليب شتَّى ، قبل كل شيء عودةٌ إلى الآية الأولى .
 
عودة على الآية : وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
1 – أوامر الدين ضمان للسلامة وليست تقييدا للحريات :
الإنسان أيها الإخوة إذا فَهِمَ أن أوامر الله عزَّ وجل تقييدٌ لحريته ، فهو جاهلٌ جهلاً مطبقاً ، أما إذا رأى أوامر الله عزَّ وجل ضمانًا لسلامته ، فقد فَقُهَ في دينه ، أضرب على هذا أمثلة كثيرة كنت قد ضربتها سابقاً :
       إذا رأينا عمودَ كهرباء عليه خط توتر عالٍ ، وقد كتب في أسفل العمود : "لا تقترب ، خطر الموت " ، هل ترى أن هذا المنع تقييدٌ لحريَّتك أم ضمانٌ لسلامتك ؟ لو أن إنساناً قال : لو أنني صعدت إلى أعلى هذا العمود ، وأمسكتُ بهذا التيار ذي التوتر العالي ، يا ترى أكون مخالفًا ؟ أأُسجَن ؟ أأدفع غرامة ؟ ما المحذور ؟ هل هناك من يراقبني ؟ هل هناك شرطيٌ أو موظف كهرباء ؟ ما أسخف هذا الإنسان ، إن التيار ذا التوتر العالي وحده يعاقبك ، ولن يعاقبك أحد ، بمجرد أن يلمس الإنسان هذا التيار يصبح قطعةً من الفحم ، القضية أعمق من ذلك ، إن في هذا المنع نتائج مُقارفته ، إذا فهمت أوامر الدين هذا الفهم الصحيح أصبحت فقيهاً ، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الأعرابي الذي قال : عظني وأوجز فقال :
 
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
(سورة الزلزلة)
فقال : قد كُفيت ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
(( فَقُهَ الرجل )) .
[ ورد في الأثر ]
2 – فهمُ أوامر الدين تقييدا للحريات جهلٌ كبير :
فما دمت ترى الدين عبئًا عليك ، وأن أوامره ثقيلة ، وأنها تُقَيِّدُك من حركتك الحرة ، وأن الدَيِّن إنسان متقوقع ، وأنه حبيس هذه الأوامر والنواهي ، وأن الحياة تحتاج إلى انطلاق ، وإلى تحرر ، وإلى حرية ، وإلى أن يفعل الإنسان ما يشاء ، إذا فهمت هذا الفهم فأنت لا تعرف من الدين شيئاً .
       في الدرس الماضي قلت لكم : لو أنّ إنساناً يدعي أنه طبيب ، وقال : كلما ارتفع ضغط الإنسان فهذا دليل صحَّته الجيدة ، تحكم على هذا المُدَّعي أنه جاهل ، لا على أنه طبيب ، ولا معاون طبيب ، ولا ممرض ، ولا مثقف ، لأن هذا شيء بديهي ، إذا قال لك إنسان يدَّعي أنه مهندس : أنا بإمكاني أن أُنْشئ بناءً ارتفاعه مئة متر بلا حديد ، تحكم عليه أنه جاهل ، وعلى هذا فقس .
في مجال الدين لمجرَّد أن ترى أن أوامر الله عزَّ وجل عبءٌ عليك ، وأنها ثقيلة ، وأنها قيدٌ لحرَّيتك ، وأنها تحجزك عن مُتع الحياة ، عن مباهج الحياة ، وأن رجل الدين رجل مسكين محروم لم يذق مباهج الحياة ، إذا فهمت الدين هكذا فاحكم على نفسك بالجهل ، ولا أظن أن أحدًا من الإخوة الحاضرين هو كذلك ، فاحكم على نفسك بالجهل المطبق ، لذلك جاءت هذه الآية :
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
       أي أنك لمجرد أن تتوهم أن أمر الله يضرُّك ، وأنَّ معصيته تنفعك ، إنْ في كسب المال ، إنْ في إنفاق المال ، إنْ في إطلاق البصر ، أو في غض البصر ، إنْ في ضبط النفس ، إنْ في ضبط الحواس ، إنْ في ضبط الحركة في الحياة ، لمجرَّد أن تتوهم ، أو أن يأتي على خاطرك وهمٌ من أن طاعة الله تضرك ومعصيته تنفعك ، والكذب يُريحك ، وينجِّيك ، ويسعدك ، ويربحك ، ويجلب لك المال الوفير ، وأنَّ الصدق يحرجك ، ويتعبك ، ويكثر أعداءك ، إذا فهمت هكذا ، فاحكم على نفسك بالجهل المطبق ، لذلك النبي الكريم قال :
(( من ابتغى أمراًبمعصيةٍ كان أبعد مما رجا ، وأقرب ممن اتقى )) .
[ ورد في الأثر ]
       إذا توَسَّلت إلى هدفٍ مشروع بوسيلةٍ غير مشروعة فهذا الهدف بعُدَ عنك ، وإذا توسَّلت إلى الهدف المشروع بوسيلةٍ مشروعة هذا الهدف اقترب منك ، كلُّ هذه الدروس ، وكل  هذه الخطب ، وكلُّ تفسير القرآن وتفسير السنة النبوية ، من أجل أن توقن أن طاعة الله هي بابك الوحيد إلى سعادتك ، وأن معصية الله عزَّ وجل طريق كلّ شر وكل ضيق .
 
منطق الأحداث اليومية :
 
وقلت لكم في الدرس الماضي أيضاً : إن الله عزَّ وجل جعل للأحداث اليومية منطقاً ، وجعل للإيمان منطقاً آخر ، فقد يبدو لك أنك إذا أنفقت زكاة مالك نقص مالك ، إنّ هذا المبلغ خمسون ألفا الذي استحق عليك زكاةً لمالك هذا المبلغ إذا أنفقته حُرِمْتَ منه ، هذا منطق الناس ، هذا منطق الدنيا ، هذا المنطق المادِّي ، هذا المنطق الظاهر ، ولكن الله عزَّ وجل له سنن أخرى ، إذا أنفقت هذا المال كزكاةٍ لمالك فهناك إجراءاتٌ يجريها الله عزَّ وجل تضاعف من مالك ، في كلّ شيء ؛ لو أنك غَضَضتَّ البصر عن هذه المرأة الجميلة يبدو لك ، وبمنطق الناس أنك محروم ، ولكن الله عزَّ وجل إذا رآك عند طاعته يورثك حلاوةً في قلبك لا تنساها إلى يوم تلقاه .
(( من غضَّ بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوةً في قلبه )) .
[ ورد في الأثر]
        إذاً : هناك منطقان ، هناك مقياسان ، هناك طريقتان في مُناقشة الأمور ، طريقة أهل الدنيا ، طريقة الماديين ، طريقة الذين هم في قطيعةٍ مع الله عزَّ وجل ، هؤلاء لهم منطقٌ خاص ، ويجعل الله تدميرهم في تدبيرهم ، وفقرهم في كنز مالهم وشقاءهم في متعهم .
 
منطق العابدين لله عز وجل :
 
أما أولئك الذين عبدوا الله عزَّ وجل يخلق الله لهم من كل ضيقٍ فرجاً ، ومن كلِّ همٍ مخرجاً ، ومن كل عسرٍ يسرًا.
 
هذه الآية مركز الثقل :
 
فيا أيها الإخوة المؤمنون ، أقف عند هذه الآية لأنني أشعر أنها مركز الثقل في هذه الصفحة ، لأن الآيات كلها تردُّ على قول هؤلاء :
 
﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
       فقد يبدو لك أن هذا السلوك الإسلامي يُخَسِّرُك ، وهذه المخالفة تربحك ، قد يبدو لك أنك إذا أرضيت زيداً وعصيت الله يقوى مركزك ، وما دريت أن هذا التصرُّف إسفينٌ في مركزك ، قد يبدو لك أنك إذا طَبَّقت الشريعة الإسلامية ، في إنفاق المال فإنك سوف تحرم من بعض مباهج الحياة ، والعكس هو الصحيح ، قد يبدو لك أنك إذا عزفت عن سماع الأغاني قد حرمت نفسك شيئاً ثميناً جداً في الحياة ، وما تدري أنك إذا عزفت عن سماع الأغاني ، واستمعت إلى كتاب الله تجلَّى الله على قلبك بطريقةٍ لا يستطيع ذَوَّاقو الغناء في العالم أن يطربوا طربك ، هنا المشكلة ، فإما أن تكون عبداً ، لله وإما أن تكون عبداً لشهوتك ، إما أن تكون عبداً لله ، وإما أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم ، إما أن تستوحي مبادئ العقل ، وإما أن تستوحي دوافع الشهوة ، إما أن تعمل للآخرة ، وإما أن تعمل للدنيا ، هؤلاء كفار مكة قالوا بمنطقهم :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
الإجابة المنطقية الواقعية لكلام كفار أهل مكة :
 
           أول جواب عنهم : أنتم يا أهل مكة ، حينما كنتم مشركين أنعمت عليكم ببلدٍ آمن ، وفوق أنَّه آمن تُجْبَى إليه ثمرات كل شيء ، ربنا عزَّ وجل قال :
 
﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾
(سورة قريش)
ربنا عزَّ وجل قال :
 
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾
(سورة النحل 112)
ربنا ذكر الأمن والرزق ، أحياناً الإنسان معه مالٌ وفير ، ولكنه خائف ، قد يكون مطمئناً ، ولكنه فقير ، إذا جمعت بين الأمن وبين الرزق فقد جمعت الدنيا من طرفيها .
 
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
 (سورة النحل)
      الإجابة يا كُفَّار مكة ، يا مشركي مكة ، يوم كنتم تعبدون الأصنام حباكم الله عزَّ وجل بلدًا آمنًا فيها خيراتٌ وفيرة ، فإذا آمنتم بالذي خلقكم ، إذا آمنتم بالمنعم ، إذا آمنتم بالإله الواحد ، إذا آمنتم بربِّكم ، إذا أطعتموه تخافون ؟ أو تفتقرون ؟ أهذا هو المنطق ؟! أهذا هو المنطق السليم ؟ أي يوم كنت تائهاً شارداً الله عزَّ وجل وفَّرَ لك صحةً طيبة ، وأولاداً ، وزوجةً ، ورزقك من رزقه الطَيِّب ، فإذا عرفت الحق وأردت أن تطيعه ، وأن تدَع هذه المعصية ، وأن تقطع علاقتك بزيد وبعبيد ، الآن تأتي المشكلات ، بعد أن تبت إلى الله تأتي المشكلات ؟! أهكذا الله عزَّ وجل ؟ أهكذا يعامل عباده المؤمنين ؟ يوم كنت شارداً كان يحفظُك ، يوم كنت منحرفاً كان يرعاك ، فإذا رجعت إليه ، وتبت إليه ، وأنبت إليه ، واستقمت على أمره عندئذٍ تأتي المشكلات ، ويأتي الفقر ، ويتضعضع مركزك في المجتمع ، وتخاف على سمعتك ؟ أهذا منطقٌ سليم ؟
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا
(سورة القصص )
 
رِزْقاً مِن لَّدُنَّا
 
1 ـ الرزق كله مِن عند الله عزوجل :
يا الله .. هذا الذي يكسب المال يظنُّ أنه ذكي ، وأنه تاجرٌ ماهر ، أو صانعٌ مُتْقِن ، أو طبيبٌ ماهر ، أو مهندسٌ بارع ، أو محامٍ ضليع ، وأنه لولا جدُّه واجتهاده لما كان هذا المال الوفير ، هذا هو الشرك بعينه ، ماذا قال قارون :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي
(سورة القصص)
       هذا هو الشرك ، أنا ، ونحن ، ولي ، وعندي ، قال إبليس :
﴿أَنَاْ خَيْرٌ ﴾
[ الأعراف : من الآية 12 ٍ]
فأهلكه الله عزَّ وجل .
وقال قوم الملكة بلقيس :
﴿  نحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ
[ النمل : من الآية 33 ]
فدمَّرهم الله عزَّ وجل .
وقال قارون :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي
(سورة القصص)
فخسف الله به الأرض .
وقال فرعون :
 
﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
(سورة الزخرف)
       فإذا دخل الإنسان إلى بيته لا يتوَهَّم بأنه هو الذي اشتراه بكدِّه ، وعرق جبينه ، هو حَصَّل شهادة عُليا ، وله منصب مرموق ، أو اشتغل بمحل تجاري منذ أمدٍ طويل ، هو بذكاء بارع وجهد كبير جاءه هذا المال فاشترى هذا البيت ، لا ..
 
﴿رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا
 
2 ـ كل شيء بإذن الله تعالى :
        يجب أن ترى رزق الله عزَّ وجل ، أي امتحن نفسك بهذه المشكلة ، قد تقرأ في الجريدة أن منخفضاً جوياً قادماً إلى الشرق الأوسط متمركزاً فوق قبرص ، ماذا ترى ؟ هل ترى أنه منخفض جوي ، أم ترى أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين ؟ هل ترى يد الله فوق أيديهم ؟ فيما تستمع من أحداث ، إذا استمعت إلى بعض الأخبار هل ترى أن يد الله فوق أيديهم ؟ أن إذا طغى الإنسان وبغى ، وآثر الحياة الدنيا ، وغرق في النعيم ، ونسي الجَبَّار الأعلى ، ونسي المبتدى والمنتهى ، هناك هزاتٌ عنيفة ، الله عزَّ وجل من رحمته لا يدع الناس سدىً ، قد يكون الرفاه والنعيم حجاباً بين العبد وربّه ، فقد يزول هذا النعيم فجأةً ، قد تنقلب الأمور ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ بالله من فجأة النقمة ،
ما بَينَ غَمضَةِ عَينٍ وَاِنتِباهَتها       يَغيرُ اللَهُ مِنْ حالٍ إِلَى حالِ
***
في  ثانية ، ست ساعات ، ساعة ، انتهى كل شيء ، إذا قرأت ، أو سمعت ، أو تداولت ، فلا تنس أن الله هو كل شيء ، وأن يد الله فوق كل شيء ، لا ترى الأحداث منعزلة عن فعل الله عزَّ وجل فتقع في متاهة كبيرة .
 
 
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
(سورة الفتح)
 
 
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى
(سورة الأنفال)
أول جواب :
 
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً
      والقصة التي قلتها لكم في الدرس الماضي أن سيدنا موسى في المناجاة قال : " يا رب ارزقنا ، أمطرنا ، أغثنا ، فقال الله له : يا موسى ، إن فيكم عاصياً ، فالتفت إلى أصحابه ، فقال : من كان عاصياً لله فليُغَادرنا ، بعد قليل انهمرت الأمطار ، فناجى سيدنا موسى رَبَّه فقال : يا رب ، من هو الذي يعصيك ؟ فقال : عجبت لك يا موسى ، أأستره وهو عاصٍ ، وأفضحه وهو تائب " .
عندما كنت في الجاهلية قبل أن تعرف الله ، كنت في رعاية الله ، وفي حفظه ، والله ربَّاك ، ونقلك من حال إلى حال ، وهداك إليه ، فإذا عرفت الله ، واستقمت على أمره ، وغَضَضت بصرك تخاف على سمعتك ؟ يقول لك : لا أستطيع أن لا أصافح ، أحرج، ، ويتهمونني أنني دَيِّن ، لماذا ؟ هل الدين تهمة ؟ .
 
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
(سورة القصص)
         هذا هو الرد الأول ..
 
ثم ماذا بعد ذلك ؟!
 
الرد الثاني ، إذا خفت على مركزك الاجتماعي وعصيت الله ، أو خفت على ثروتك الطائلة من هذا المشروع ، وتابعتها مع أن فيها معصيةً كبيرة ، إذا خفت أن هذا المطعم الذي يبيع الخمر ، إذا بعت حصتك منه بعد أن عرفت الله ، إذا ظننت أنك إذا فعلت هذا تفتقر ، إذاً تابعت العمل .
دائماً أيها الإخوة ، راقبوا هذا السؤال : ثم ماذا ؟ عصينا الله ، وتابعنا العمل في هذا المشروع الذي لا يرضي الله ، ثم ماذا ؟ وحَصَّلت منه أرباحاً طائلة ، وحصلت منه رزقاً وفيراً ؟
هناك شخص له بعض المشاريع التي بُنِيَت على معصية الله ، على فراش الموت ترك ثمانمائة مليون ، فسأل أحد العلماء : ماذا أفعل كي يتوب الله عليّ ؟ فقال هذا العالم ، وكان جريئًا ، قال له : والله لو أنفقت هذه المبالغ كلها ، ثمانمائة مليون ، في سبيل الله لما قبلها الله منك ، لأنها كلَّها مال حرام .
       فقط هذا السؤال : ثم ماذا ؟ عصينا الله ، وقوي مركزنا ، شيء جميل ، عصينا الله ، وازدادت ثروتنا ، شيء جميل ، عصينا الله ، وسكنا في هذا البيت الفخم ، شيء جميل ، عصينا الله ، وركبنا هذه السيارة ، شيء جميل ، عصينا الله ، واشترينا هذه المزرعة ، ثم ماذا ؟ لا يوجد إلا الموت بعد ذلك ، والموت خسارة كل شيء في ثانيةٍ واحدة ، فربنا عزَّ وجل قال : أيها الكفار لو أنَّكم توهَّمتم أنكم إذا اتبعتم الهدى مع رسولي فسوف تتخطفون من أرضكم ، إذاً يقول لكم منطقكم : ابقوا على كفركم ، وعلى شرككم من أجل أن تكونوا زعماء في الجزيرة ، سادة هذه الجزيرة ، من أجل تبقوا في مركزكم الكبير وفي دخلكم الوفير ، شيء جميل ، ثم ماذا ؟ قال :
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا
        (سورة القصص)
 
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ
 
1 – معنى : بَطِرَتْ :
       ما معنى بطرت ؟ معنى بطرت بالضبط طغت في معيشتها .
2 – مجالات البطر :
إنْ في كسب المال ، أو في إنفاقه ، إذا طغيتَ في كسب المال أخذت ما ليس لك ، أو ضَيَّعت حقوق الناس ، أو استغللت ضعفهم وفقرهم وحاجتهم ، أعطيتهم دون ما يستحقون ونمت ثروتك ، نما غناك على فقرهم ، أو اغتصبت أموالهم ، أو استخدمت قوَّتك في كسب المال ، أو استخدمت حيلك وذكاءك في كسب المال الحرام ، أو غششت المسلمين في بضاعتهم ، طغيت في كسب المال ، ثم طغيت في إنفاقه ، أترفت نفسك حيث إذا دخل عليك إنسان تضاءل أمامك ، رأى نفسه صغيراً ، ليس عنده شيء ، عندك كل شيء ، يقول لك : مساحة بيتي أربعمئة وثمانون متراً ، يتكلمها ويقبض وجهه أيضاً ، إذا طغيت في كسب المال فأكلته حراماً ، ثم طغيت في إنفاقه فأحزنت كلَّ من حولك ، ثم ماذا ؟ .
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾
(سورة القصص)
3 – إنك لا تملك شيئا :
هل تعلم من هو المالك الحقيقي ؟ هو الله عزَّ وجل ، والدليل :
 
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
(سورة آل عمران)
       عينك لا تملكها ، أنت تستمتع بهذا البصر مادام الله قد سمح لك بذلك ، فإذا شاءت مشيئته أن يفقد الإنسان بصره لسببٍ تافهٍ جداً ينتهي ، أنت تستمتع بقوتك وحركتك مادام الله قد شاء لك ذلك ، فهو المالك لقوتك ، حتى الحياة ، حتى القوة ، حتى السمع ، حتى البصر ،  حتى العقل ، قد يأخذ الإنسان أعلى شهادة علمية في العالم ، ثم يختل عقله ، فإذا هو في الطرقات يزعج الناس ، ويخافه الناس ، وإذا تمكَّن أهله بوساطةٍ كبيرة أن يدخلوه مستشفى الأمراض العقلية يفعلون ذلك ، فلا عقلك أنت مالكه ، ولا سمعك ، ولا بصرك ، ولا صحتك ، لا قوتك ، ولا صمَّام القلب ، ولا الكبد ، ولا عمل الكليتين ، إلى الآن أمراض كثيرة جداً بلا سبب ، فقر دم لا مُصَنِّع ، ما هذا ؟ فقر الدم اللامصنع ، أي أن معامل كريات الدم في نقي العظام توقَّفت فجأةً عن التصميم من دون أن نعرف السبب ، هذا يحتاج كل يومين لترين من الدم أو ثلاثة إلى أن يموت ، فقر الدم اللامصنع ، هبوطٌ مفاجئ في وظائف الكليتين ، ما هو السبب ؟ لا نعرف ، إذا وقفت الكلى يحتاج كل أسبوع مرتين إلى غسيل ، أو يحتاج إلى إجراء عملية تكلف مليون ليرة ، والنجاح بالمئة ثلاثون .
 
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
      مالِك القلب والشرايين ، والدَسَّامات ، ومالِك العضلات والرئتين ، أحياناً حبة تظهر فتحكها هكذا فتكبر ، بعد شهرين كان تحت التراب ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ يقول :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )) .
[ صحيح البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ]
       أنا أريد أن أقول : لا تعتمد على شيء ، اعتمد على فضل الله عزَّ وجل ، هذه الحركة بيد الله عزَّ وجل ، لك بصر حاد ، التهاب بالعصب السمعي ، لي قريب بأول حياته سمع تشويشا في أذنه ذهب إلى الطبيب ، قال له : والله هذا مرض يأتي في مئة ألف حالةٍ حالةٌ واحدة ، التهاب بالعصب السمعي ينتهي بالصمم ، يا ترى أنا مالك لسمعك ؟ مالك لبصرك ، مالك لعقلك ، مالك لأعصابك ، فقرة تنزلق نصف ميلي تسبب آلامًا لا تحتمل ، يقول لك : معه مرض في الفقرات ، شيء لا يحتمل ، أو عرق النسا ، إذا انسدت القناة الدمعية تصبح الحياة صعبة ، تحتاج دائماً إلى محرمة لكي تمسح السيلان الدائم بالعين أو الأنف ، لو أن المستقيم أصيب بالشلل ، هل تحتمل الحياة ، هذا معنى قوله تعالى :
 
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
       أنت لا تملك شيئاً ، لو أن ذكاءك كلُّه موظف في كسب الرزق ، لو أن هذا العقل سلبه الله عزَّ وجل ، أين بقى مكتبك التجاري ، ومراسلتك ، ومركزك القوي مع الشركات ؟ كله صفر ، لا يبقى لك مكان إلا بالقُصَير .
 
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
(سورة آل عمران)
 
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً
 
يجب أن ترى يد الله عزَّ وجل دائماً :
 
﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً
(سورة القصص)
      اذهب إلى تدمر وانظر ، أكبر دولة في عصرها كانت ، كان الطريق من دمشق إلى تدمر مظللاً بالأشجار كله ، انظر إلى دولة الأنباط ، بيوت ، وحمامات ، وأماكن للحفلات ، كلها محفورة في الصخر ، شيء لا يصدق ، بيت محفور من الصخر له أربعة جدران ، وجدارين للتهوية ، وحمامات ، وقصور ملكية ، ومكاتب ، وقاعات للمحاكمات ، لو أن معي دليلا حتى أريك وظيفة كل مكان ، الأهرامات ، الهرم فيه نافذة مفتوحة بطريقة رائعة جداً ، حيث لا تدخل الشمس منها إلى هذا الهرم إلا يوماً واحداً في العام ، أنت كمهندس هل تستطيع أن تدرس حركة الشمس ، وتضع نافذة ضيقة وعميقة ، حيث تأتي أشعة الشمس على امتداد هذا الشق إلى داخل الهرم يومًا واحدًا فقط ؟ شيء لا يصدَّق ، ليس في مصر أحجار ، من أين أتوا بهذه الأحجار ؟ فقال :
 
﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً
إما أن ذلك بعد ما دمَّرهم الله بقي كم بيت من دون دمار استعمل ، أو معنى آخر على كلٍ :
 
﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً﴾
( قَلِيلاً ) : إما أنه استثناء في الزمن أو في المكان ، وإما بعض المساكن سُكِنَت ، أو سكنت فترة قليلة .
 
﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾
(سورة القصص)
 
وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ
 
       ملكية الإنسان ملكيةٌ شكلية ، لذلك سُئِل بدوي عن قطيع إبل يملكه ، فقيل له : لمن هذا القطيع ؟ قال : " لله في يدي " ، هذه اجعلها في بالك ، لمن هذا البيت ؟ والله لله في يدي ، الله سمح لي أن أسكنه ، لمن هذه المركبة ؟ لله في يدي ، لمن هذا المعمل ؟ لله في يدي ، لمن هذه المزرعة ؟ لله في يدي ، هكذا أجب ، لمن هذه الدكان ؟ لله في يدي .
 
﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾
ربنا عزَّ وجل رد رداً رابعاً ، أول رد :
 
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً
الرد الثاني :
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا
 
 الردُّ الثالث : وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
 
 
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
 
(سورة القصص)
أي في المركز ، في العاصمة ..
 
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
1 – علاقة هذه الآية بما قبلها :
 
ولكن ما علاقة هذه الآية بقوله تعالى :
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
      ما علاقتها ؟ العلاقة : أن يا كفار مكة هذا النبي قد جاءكم من عندي ليبلِّغكم ، فإن كذبتموه استحققتم الهلاك والتدمير النهائيين ، فآمنوا قبل أن تهلكوا :
 
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً
2 – هلاك الاستئصال وهلاك الضعف والهوان :
وها قد بعث في أمِّها رسولاً ، وها قد أرسل النبي محمداً لأم القُرى ومن حولها ، فالخيار أمامكم ، إما أن تؤمنوا ، وإما أن تستحقوا الهلاك ، والهلاك هنا ليس هلاك ضعف ، لأن من علامات قيام الساعة هلاك العرب ، وهو هلاك ضعف ، هلاك تشتت وتشرذُم وتبعثر ،  هناك هلاك الاستئصال ، كما أهلك الله قوم نوحٍ ، وقوم عادٍ ، وثمود ، وقوم فرعون ، فإن هذا هلاك استئصال ، فربنا عزّ وجل فال :
 
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
انظر هذه :
 
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
 
وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
 
تعبير فيه قَصْر وحصر ، أي قطعاً الهلاك أساسه الظُلم ، فإذا سمعت عن نبأ هلاك أمة بزلزال ، بفيضان ، ببركان ، بتسليط الناس بعضهم على بعض ، فهكذا ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ
( سورة الأنعام : آية "65 " )
البراكين ، الحمم ، أو الصواعق ..
 
﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ
الزلازل ..
 
﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
هذا أيضاً نوع من الهلاك ، لذلك ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
 الهلاك سببُه ظلمُ العباد :
 
فَسِّر الأحداث ما شئت ، هذا التفسير الإلهي ، يا أخي هنا منطقة براكين ، شيء جميل ، هنا حدثَ منخفض فتفاعل مع مرتفع جاء من أواسط آسيا ، فنزلت أمطار غزيرة جداً ، هناك أمطار موسمية جرّت سيولاً ، جرفت المحاصيل ، فهلكت القرى :
 
 
﴿إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
هكذا الآية ، فَسِّرها ما شئت ، فَسِّر تفسير جغرافي ، وجيولوجي :
 
 
﴿إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
هذا هو التفسير الصحيح ، هذا تفسير قرآني ، عندما ربنا يريد أن يهلك القرى يجعل لها أسبابًا مادية ، يجعل زلزالَ ، بركانًا ، فيضانًا ، أمطارًا ، رياحًا عاتية ، يأتي إعصار على بعض المقاطعات في أمريكا يُدَمِّر كل شيء ، لا يبقي ولا يذر ، تفسر الإعصار بأنه حركة رياح استثنائية ، وتفاوت في الحرارة ، تفسر الإعصار خلخلة بالأوزون ، فسر ما شئت ، هذا هو التفسير الإلهي :
 
 
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
هذا الرد الثالث .
الرد الرابع ، لو أنكم آمنتم بالله وبرسوله ، واتبعتم كتاب الله وسنة رسوله ، ومن أجل هذا الإيمان خسرتم حياتكم ماذا يكون ؟ أنتم الرابحون .
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
       كما تدعون فرضاً ، إذا آمنتم برسولي وبكتابي واتبعتم هذا الدين الحنيف ، وكان من نتيجة ذلك أنكم خسرتم مركزكم ، أو مالكم ، أو شأنكم ، أو أرضكم ، أو حياتكم ، أكنتم رابحين أم خاسرين ؟
 
وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ
 
اسمع الجواب :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
(سورة القصص : من الآية 60)
شيء .. فأقل كلمةٍ في اللغة تعَبِّر عن أدنى شيء هي كلمة شيء ، النملة شيء ، والقَشَّة شيء ، ونقطة الماء شيء ، نقطة الماء ما قيمتها ؟ هل تروي إنسانًا ظمآنَ ؟ نقطة الماء شيء ، الثانية ، قل : ضاع مني ثانية ، شيء :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ
      ليته قال : شيء ، بل إنه قال : ]مِنْ شَيْءٍ [ ، و( مِن ) للتبعيض ، أيّ إنسان الله آتاه الله بيتًا ، إنسان آتاه متجرًا ، إنسان آتاه معملاً ، هذا آتاه وظيفة ، هذا آتاه ذكاءً ، هذا قلمه سيَّال ، هذا طليق اللسان ، هذا عنده قدرات فنية عالية ، قدرات في التأليف :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ
شكل ، هيئة ، طول ، لون :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ
عنده قدرة لغوية ، عنده قدرة رياضية ، وَرِث أموالاً طائلة ، ملاَّك مثلاً ... إلخ .
 
فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
(القصص : من الآية 60)
 
متعة مؤَقَّتة ، متعة لا ثمرة لها :
 
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾
( سورة النساء : من الآية 77)
أنت تقول : صدق الله العظيم ، فهل ترى أن متاع الدنيا كبير ؟ أو عظيم ؟ جليل ؟ خطير أم قليل ؟ الله يقول : قليل ، هل أنت لك رؤية خاصة غير مقياس الله عزّ وجل ؟
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا
 
       إما أن تستمتع به مباشرةً ، وإما أن تفتخر به ، الإنسان أحياناً يضع ثُرَيَّا في بيته ، إذا كنت تريد الإضاءة فضع بلورتين من مئتي شمعة ، وهذا نفس الشيء ، ثمنها ثلاثون ليرة ، أو أربعون ، لكن الثريا ثمنها ثلاثة عشر ألفا ، ما الهدف ؟ الهدف هو الزينة ، أحياناً الإنسان يعمل في بيته ورقًا ، ويعمل أقواسًا ، وهذه زينة ، الهدف هو الزينة ، يرتب نفسه ، ويدهن ويعتني ، الهدف هو الزينة ، الحياة متعة أو زينة ، إما متعة شيء ممتع ، تأكل وتستمتع ، تقبع في مكان بارد فتستمتع بهذه البرودة في الصيف ، تقبع في مكان دافئ فتستمتع بهذا الدفء في الشتاء ، تأكل الفاكهة الطيبة فتستمتع بها ، تجلس في بيتك مشرفًا على مناظر جميلة فتستمتع بهذه الناظر ، هذه هي المتعة ، أو الزينة لا يوجد فيها متعة لكن فيها افتخار ، فربنا عزّ وجل قال :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا
لذلك النبي الكريم كلما رأى شيئاً أعجبه كان له هذا الدعاء :
(( اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَة )) .
(صحيح البخاري عن سَهْلٍ)
كذلك النبي الكريم يقول :
(( إياك وفضول النظر ، فإنه يبذر في النفس الهوى )) .
[ ورد في الأثر]
قال لي أحدهم : رأيت سيارة ، والله قالها ولا أدري أهو جاد أم غير جاد ، قال لي : والله اشتهيت أن تدهسني من كثرة حبي لها ، (( إياك وفضول النظر ، فإنه يبذر في النفس الهوى )) .
كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَة )) .
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا
        في اللغة العامية أحياناً يقول شخص لآخر : ( خذها وانمحق ) ، خذها وخلصنا ، يأخذها ـ ويفرح بها ، لذلك :
 
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
(سورة الأنعام)
فجأةً من كل شيء إلى لا شيء ، الآية الكريمة :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا
      أي لو آمنتم بمحمد ، وخسرتم هذه الدنيا ، خير إن شاء الله ؟ أنتم الرابحون ، لو أنكم آمنتم بمحمد ، وخُطِفْتُم من أرضكم ، أو خسرتم مكانتكم ، أو دخلكم ، أو تجارتكم ، أو محبَّة الناس لكم ، لو أن الدنيا كلها ذهبت من بين أيديكم لأنكم آمنتم فأنتم الرابحون ، لأن هذا الذي أنتم تخافون عليه لا قيمة له عند الله عزّ وجل ، بل إنه شيء تافه :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
       تحرصون عليه ، وتخافون عليه ، وتعصون الله من أجله ، وتكفرون بمحمد من أجل أن يبقى هذا الشيء بأيديكم :
 
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾
( سورة آل عمران)
 
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
(سورة الزخرف)
 
 وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ
 
       أحياناً يكسب الإنسان رزقه ، وأحياناً يكون رزقه مؤمَّنًا لمئة سنة قادمة ، عنده أموال طائلة ، هوايته ما أصبحت كسب الرزق ، بل الجمع ، يقول لك : أنا كوّنت هذه السنة عامودا ، أو عامودين ، أي مليونين ، الهدف كان كسب الرزق ، أصبح هناك هدف ثانٍ ، وهو الجمع ، هنا المشكلة :
 
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
        هناك شركة في أول العام ، طبعاً بعد شهرين من الجرد ، رقم الأرباح النهائي ، وهذه قصة في أول السبعينيات ثمانية ملايين ، وهذا رقم كبير في السبعينات ، والآن قد يكون الرقم قليلا ، أما في السبعينات فإنه كان رقما كبيرا جداً ، تَلَقَّى النبأ الساعة العاشرة صباحاً ، والساعة الثالثة كان قد توفّي ..
        وإذا أحد حصَّل أموالاً طائلة ، هذه الآية دقيقة كثير ، وجميلة .
 
معنى الآية في السياق :
 
لكن الآية في السياق لها معنى آخر ، أنتم إذا آمنتم تخسرون الدنيا ، ولو فرضاً خسرتموها ماذا خسرتم ؟ خسرتم شيئًا تافهًا جداً ، فالصحابة حينما قُتلوا في بدر وأُحد هل خسروا ؟ سيدنا حمزة أين قتل ؟ قُتِل في أُحد ، وبُقِر بطنه ، ولاكت هِنْدٌ كبده ، هل خسر ؟ أين هو ؟ الدنيا شيء تافه ليس له قيمة :
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
( القصص)
 
 أَفَلَا تَعْقِلُونَ
 
        أين عقلك يا أخي ؟ وقد قلت مرة في خطبة : إن الجماد شيء يشغل حيزا ، له وزن وطول ، وعرض وارتفاع ، وزن أي كثافة ، هذا هو الجماد ، صخرة أو إسمنت كثيف ، يمكن أن تحمل في قارورة فيها سائل فيه ثلاثة سنتيمترات تقع من يدك ، ويكون في القارورة زئبق له وزن ، وكذلك الجماد يشغل حيِّزًا ( طولا وعرضا وارتفاعا ) ، أما النبات فيشغل حيزًا وينمو ، والحيوان يشغل حيزا وينمو ويتحرك ، والإنسان يشغل حيزًا وينمو ويتحرك ويفَكِّر :
 
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
(سورة القلم)
 
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
(سورة القصص)
        المشكلة في نقطتين ، خيرٌ نوعاً ، وأبقى أمداً ، العوام لهم رأي : " ساقية جارية ولا نهر مقطوع " ، كيف إذا كان هناك نهر جارٍ وساقية مقطوعة ؟ بالعكس أتوازن ؟ أي أن حياة الدنيا حياةٌ قصيرةٌ مشحونةٌ بالهموم والآلام ، ومن أجل صحن سلطة تشتغل نصف ساعة ، هذه الطبخة ، ويُؤكل في خمس دقائق ، لكي تأكل يجب أن تشتغل ، من أجل شراء هذا البيت تجمع ثمنه ثلاث عشرة سنة ، وتحتاج لفرشه ثماني سنوات أخرى ، هكذا طبيعة الحياة :
 
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾
(سورة البلد)
        هكذا سنة الله في الخلق ، فهذه الحياة القصيرة كي يقف الإنسان على قدميه بالأربعين ، أربعون سنة للإعداد ، محل اشتغل فيه ، أو أصبح موظفًا أو طبيبًا ، سكن في بيت رتَّبه ونظَّمه ، أمَّن له سيارة صغيرة لكي يصل فيها إلى عمله ، يصل عمره أربعين أو خمسة وأربعين ، بالخمسين أصبح معه مرض أسيد أوريك ، بالخمسة والخمسين انزلاق فقرات ، بالستين نعيه على الطرقات ، وانتهى كل شيء ، كلها على اثني عشرة سنة ، حتى ينظم وضعه بالأربعين ، والمنايا بين الستين والسبعين ، كلما يموت ميت أسأل : كم عمره ؟ فأرى أن العمر يهبط معدَّله ، يقول لك : ثماني وأربعون ، اثنان وخمسون ، واحد وخمسون ، ثماني وثلاثون بالجلطة ، لأن هذه الحياة قصيرة :
 
﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى
(سورة القصص )
 
 الجنة خير وأبقى :
 
        أي أن حياة الجنة في نعيم كبير وأبقى أي إلى أبد الآبدين ، الإنسان في الدنيا لو كانت أموره كما يريد لكن عنده قلق عميق وهو قلق الموت ، كلما كبر سنه قرَّب ، قرب من النهاية، عنده قلق عميق وهو المغادرة ، أما في الآخرة :
 
﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾
(سورة الحجر)
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾
      لو آمنتم بمحمد يا كفار مكة ، وخسرتم دنياكم ، خسرتم دخلكم ، مالكم ، شأنكم ، غناكم ، بلدكم ، حياتكم ، أنتم الرابحين لأن :
 
﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى
ماذا رأى سحرة فرعون ؟ ومضى أمامهم الحق :
 
﴿  قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى
(سورة طه)
اسمعوا الجواب ، سحرة فرعون جاءوا لتعزيز الباطل :
 
﴿  أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
(سورة الشعراء)
 
﴿  قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾
( سورة طه )
كل ما تملك أن تنهي حياتنا ..
 
﴿  إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾
(سورة طه)
الآية الكريمة :
 
﴿  فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى  
( سورة الأعلى )
أي أجمل بكثير وأطول إلى الأبد ، والدنيا ضيقة وقليلة وأقصر:
 
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
﴿  أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
(سورة القصص)
 
 أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ
 
أيتوازنون ؟ واحد موعود من الله عزّ وجل بوعدٍ حسن :
 
﴿  أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
1 – الوعدُ الحسنُ :
الحقيقة أنّ سبب سعادة المؤمن في الدنيا أنه موعودٌ من الله بوعدٍ حسن ، هذا الوعد الحسن الذي وعده الله له يمْتَصُّ كل مشكلةٍ ، كل ضيقٍ ، كل فقرٍ ، كل مرضٍ ، كل خوفٍ ، كل قلقٍ .
مثل بسيط أضربه دائماً : أن إنسانًا فقيرًا جداً ودخله ألف ليرة ، عنده ثمانِية أولاد ، بيته بالأجرة ، مريض ، أي أن مصائب الدنيا كلها اصطلحت عليه ، إذا كان له قريب شاب يملك مئتي مليون ، عم وليس له أبناء ، ومات بحادث ، أليست كل هذه الثروة له ؟ إلى أن يقبضها لابدّ من مرور سنة ، لماذا هو في هذا العام من أسعد الناس ، مع أنه لم يقبض درهماً واحداً ؟ لكن كل هذه الثروة تحوَّلت له ، لكن هناك إجراءات ، وحصر إرث ، وضريبة تركات ، ومشكلات ، حتى يقبض أول مبلغ ، ويبيع البيوت ، لماذا هو في هذا العام لم يأكل طعاما غير طعامه السابق ، ولم يرتدِ ثيابًا جديدة ، لم يقدر أن يضيف إلى حياته شيء ، لكنه دخل في وعدٍ محقق ، هذه هي المشكلة .
2 – الوعدُ الحسنُ يمتصُّ الهموم :
     المؤمن قد يبتليه الله بالفقر أو بالمرض ، أو بزوجة سيئة ، أو بأولاد متعبين ، يمكن أن يكون هذا ابتلاء ، قد يكون الإنسان مغمورا بمرتبة عادية في المجتمع ، قد يكون له مشكلة مع أهله ، على كلٍ ، هذا كله ابتلاء ، لكن ما الذي يمتصُّ كل هذه الهموم ؟ أن الله جلَّ في علاه وعده وعداً حسناً .
إذا وعدتَ صانعا أن يكون شريكا ، أصبح إنسانا آخر على الوعد ، يسر ، وترتفع معنوياته ، لذلك المؤمن له معنويات عالية ، لأن الله وعده وعدا حسنا ، بيته صغير ، كبير ، مظلم ، مشرق ، عال ، منخفض ، أجرة ، ملك ، كله ذلك سواء ، صحته ، شكله ، زوجته درجة أولى ، ثانية ، ثالثة ، خامسة ، هذه كلها فترة مؤقتة :
 
﴿  وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ﴾
قطعاً إن وعد الله حق ، معنى حق أي لابدّ من أن يتحقق :
 
﴿  كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
خذها ، خذ الدنيا كقارون :
 
﴿  إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾
(سورة القصص)
 
﴿  فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ
(سورة القصص : الآية 81)
 
إن شاء الله في الدرس القادم نتابع ردود الله عزّ وجل على قولهم :
 
﴿  وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
 خاتمة :
 
إنه قول قالوه ، لكنه قول خطير جداً ينبئ عن جهلهم ، الرد الأول ، الرد الثاني ، الثالث ، الرابع ، وهناك ردود أخرى تأتي إن شاء الله في الدروس القادمة ، هذه الردود تؤكَّد أن هذه الآيات ليست مفككة ، بل إنها مترابطة ، وأن كلمة سورة تعني مجموعة ذات وحدة موضوعِيَّة ، فالسورة شيء مترابط ، لكن إذا قرأ إنسان القرآن قراءة عابرة يراها مفككة ، وأن كل آية لها معنى ، أما إذا رأيت القرآن الكريم كلام خالق الكون ففيه تسلسل وترابط .
 
 
والحمد لله رب العالمين
 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب