سورة القصص 028 - الدرس (10): تفسير الأيات (57 – 59)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (10): تفسير الأيات (57 – 59)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 163 - أنا عند ظن عبدي بي           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 16 - متى تصبح القدس عاصمة الخلافة - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - فضل الدعاء           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 397 - سورة المائدة 028 - 032           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 24 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 15 - معاملةالأسرى في الإسلام - د. راغب السرجاني         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 057 - 059)

16/01/2012 16:49:00

 
سورة القصص (028)
 
الدؤس (10)
 
تفسير الآيات: (57 ـ 59)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
 
 بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس العاشر من سورة القصص ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة القصص)
 
 مقدّمــةٌ :
 
        أيها الإخوة الأكارم ، هذه الآية غنيةٌ جداً ، كيف أن الله عزَّ وجل ، بل كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال مثلاً :
(( لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ )) .
( ابن ماجه عن أَبِي بَكْرَةَ )
لماذا نهى النبي eالقاضي عن أن يقضي وهو غضبان ، لأنه مُغَوَّش ، حكمه غير صحيح ، رؤيته غير صافية ، ذهنه غير صافٍ ، لذلك جاء العلماء ، وحملوا على هذا الحديث حالات كثيرة جداً ، فالقاضي لا ينبغي أن يقضي وهو جوعان ، ولا ينبغي أن يقضي وعنده قضيةٌ تشَوِّشُ ذهنه ، ابنه مريض ، عنده مشكلة ، غضبان ، جائع ، مريض ، كل هذه الحالات مأخوذةٌ من علَّة واحدة ، كيف أن الله سبحانه وتعالى حينما قال :
 
 
﴿  فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا
(سورة الإسراء : الآية 23) 
        ما العلَّة في ذلك ؟
العلَّة ألاّ تؤذي أمك وأباك ، إذاً أيّ شيءٍ آخر غير كلمة أُف يؤذي أمك وأباك أمرٌ محَرَّم ، يُحْمَل على هذا ، القرآن إعجازه في إيجازه .
نعود إلى هذه الآية :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 (سورة القصص : 57)
 
 وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
1 – مناسبة الآية وعلاقتها بواقع المسلمين :
       لهذه الآية مناسبة ، ولهذه الآية سبب نزول ، ولكن هذه الآية تُحَمَّلُ عليها حالاتٌ لا تعَدُّ ولا تحصى ، فلمجرد أن تتوهَّم أن طاعة الله عزَّ وجل تَضُرُّك ، وأن معصيته تنفعك ، فيجب أن تحكم على نفسك حكماً قاطعاً أنك في جهالةٍ عمياء ، بمجرد أن تتوهَّم أن طاعة الله تضرك ، وأن معصيته تنفعك في شَتَّى الميادين ، في كل الاختصاصات ، في كل الظروف الجليلة والحقيرة ، فيما يتعلَّق في رزقك ، بعملك بمهنتك ، بعلاقاتك الاجتماعية ، حينما تعتقد أن الطاعة تضرك ، وأن المعصية تنفعك ، فاحكم على نفسك حكماً قاطعاً أنك في جهالةٍ جهلاء .
2 – الواقع يحكم على جهل الناس :
      فمثلاً : لو أنك طبيبٌ ، ورأيت شخصاً يدَّعي أنه طبيب ، ونصح مريضاً ، قال له المريض : ضغطي مرتفع ، قال له : هذا جيِّد ، كلما ارتفع الضغط فهو حالة طيبة جداً ، ألا تحكم على هذا المُدَّعي أنه جاهلٌ ؟ جهلاً قاطعاً ، هذا الذي يدعي أنه طبيب ، والذي يطمئن مريضه أنه كلما ارتفع الضغط كان إشارةً على صحة الجسم ، تقول : هذا جاهل جهلا قاطعًا .
      والقصة التي تعرفونها جميعاً ؛ أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه كان يُلْقي درساً في الفقه مع طلابه ، ويبدو أن التكلف مرفوع بينه وبين طلابه ، كان متألماً من رجله فمدَّها مرةً ، دخل شخصٌ طويل القامة ، عريض المِنْكَبَين ، ذو هيئة فخمةٍ ، فأُخذ أبو حنيفة بهذا الشخص ، فاستحيا أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه ، ورفع رجله ، هذا الرجل الوقور جلس في حلقته ، وفي أثناء الدرس طرح سؤالاً ، طبعاً الموضوع في صلاة الفجر ، هناك فجرٌ كاذبٌ ، وفجرٌ صادقٌ ، وهناك طلوع الشمس ، وصلاة الفرض بينهما ، فقال له هذا الرجل المهيب : يا سيدي ، كيف نُصَلِّي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر ، فنظر إليه وقال : عندئذٍ يَمُدُّ أبو حنيفة رجله  ، مِن كلمة واحدة حكم عليه أنه جاهل .
لو أن مهندساً مثلاً قلتَ له : إن هناك شَقًّا في الدعامة الأساسية للبناء ، وهذا الشق يتفاقم ، قال لك : لا ، هذا الشيء لا قيمة له إطلاقاً في البناء ، ألا تحكم على هذا الشخص المهندس الذي يدَّعي أنه مهندس أنه جاهل ؟ لو قلت له : إن الحديد سعره مرتفع جداً ، ما قولك يا أستاذ لو نلغي الحديد من البناء ؟ قال لك : لا مانع ، ووجود الحديد أساساً ثانوي في البناء ، ألا تحكم على هذا الإنسان أنه جاهل جهلاً قاطعاً ؟ ألم يعرف أن الإسمنت يتحمَّل قِوى الضغط ، لكِنَّه لا يتحمل قِوى الشد ، فعند الشد لابدّ من تسليح ، فأيّ إنسان قد يتكلم كلمة واحدة فتحكم عليه حكماً قاطعاً أنه جاهل .
        لو أن إنسانًا قال لك : أنا مُخْتَص في اللغة العربية ، فقلت له : أعرب كلمة جاء المعلِّمون ، فقال المعلمون : فاعل منصوب ، ما هذا المنصوب ؟ المعلمونَ ، ألا تحكم على هذا الإنسان أنه جاهل ؟ دون مستوى الكفاءة ، حتى دون مستوى الابتدائية .
           فالأمثلة كثيرة جداً ، الصيدلي لو أن دواءً فيه مرهم اليود ، وقال لك : هذا للاستعمال الداخلي ، فإن هذا الصيدلي مجرم ، وجاهل ، وقد يقضي على هذا المريض ، ففي كل المهن والحرف ؛ طبيب ، مهندس ، مدرس ، محامٍ ، تاجر ، محاسب ، مثلاً قال لك : أخي الربح أساسه ثمن الشراء + ثمن المبيع = الربح ، ما هذا الكلام ؟ معنى ذلك أنه جاهل جهلاً قاطعًا في أمور المحاسبة .
3 – توهم ضرر الطاعة جهلٌ كبير :
       الآن : لِمُجَرَّد أن تتوهَّم أن طاعة الله تضرك ، وأن معصيته تنفعك فهذا هو الجهل بعينه ، مهما حَصَّلت من علوم ، ومهما ارتفع مستواك العلمي ، مهما درست ، مهما اطلعت ، تجد شخصًا يقول : أنا دَيِّن ، والحمد لله ، ويفتخر بأنه ديِّن ، ولكن يتوهَّم أحياناً أنه إذا أطاع الله عزّ وجل في هذا الموضوع خَسِرَ ، هذا هو الجهل بعينه .
فمثلاً : إنسان أراد أن يتزوج ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( من تزوج المرأة لجمالها أذلَّه الله ، ومن تزوجها لمالها أفقره الله ، ومن تزوجها لحسبها أذله الله ، فعليك بذات الدين تربت يداك )) .
[ ورد في الأثر]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ ؛ لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك )) .
(صحيح البخاري)
وهو يخطب عثر على امرأةٍ غنيةٍ ، لكن دينها ضعيفٌ جداً ، قال : أنا أَحُلُّ مشكلتي بغناها ، ولم يعبأ بقول النبي عليه الصلاة والسلام ، ولا بقوله تعالى :
 
 
﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
(سورة البقرة : آية 221)
       هذا إذا توهَّم أن هذه المرأة الغنية تُسْعِدُهُ بمالها ، أو تسعده بجمالها ، أو تسعده بوجاهتها وأسرتها ونسبها ، على حساب رقَّة دينها ، هذا الإنسان في الدين جاهل ، لأنه لم يعبأ بقول الله تعالى ، ولم يعبأ بقول النبي e ، بل توهَّم أن طاعة الله باختيار الزوجة ذات الدين خسارة ، وأن اختيار الزوجة الغنية والجميلة ربحٌ كبير ، وهذا هو الجهل .
      الآن : في معاملة الزوجة ، تزوج امرأةً ما ، في معاملتها لمجرد أن يعتقد أنه إذا قسا عليها قسوةً بالغةً سعد بها ، ولم يعبأ بقوله تعالى :
 
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
(سورةالنساء : آية 19)
        فهذا إنسان جاهل ، فيجب أن تنتبه في أي حركة من حركاتك ، في أي سكنة من سكناتك ، الزوجة لمجرَّد أن تُؤثِر خاطباً غنياً رقيقاً في دينه على خاطب فقيرٍ متينٍ في دينه ، فهذه جاهلة ، يقال لك : أخي ، هي تصلي قيام الليل ، وحافظة للقرآن ، لمجَرَّد أن تختار الغنى مع رقة الدين ، وتدع صلابة الدين مع الكفاف فهي فتاةٌ جاهلة ، لا تعرف أن هذا الزوج المؤمن يسعدها ، والله عزّ وجل معه ، وإن كان فقيراً فسيغنيه الله ، وأن هذا الزوج رقيق الدين سيستهلكها ، وسيستمتع بها ، ثم يلقيها لأدنى سبب ، وسيحملها على معصية الله ، وسيكون طريقاً لها إلى النار ، هذا في الزواج .
      أما في تربية الأولاد : فمن أجل أن يكون ابنك في مركزٍ مرموق تُضَحِّي بدينه ، فأنت غير مُرَبٍّ ، ولا تعرف من التربية الدينية شيئاً ، آثرت دنياه على دينه ، آثرت دنياه على آخرته .
مثلاً : أنت صاحب تجارة ، وهذه البضاعة الآن رائجة جداً ، وهي بضاعة محرمة ، ماذا أفعل ؟
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
(سورة القصص)
        هذا الذي يصنع قِطَعًا مثلاً ، ويوجد قطعة فيها تحريم ، مثل النرد ، أو التمثال ، وهذا التمثال عليه إشكال في الفقه ، فإذا صنعت شيئاً رائجاً ، ولم تعبأ بحرمة ذلك ، ولم تعبأ بأنه محظور عليك أن تفعله فأنت لا تعرف شيئاً ، هذا في مجال الصناعة .
      الطبيب مثلاً : إذا اعتقد أنه إذا أَلْقَى في رُوع المريض أن مرضه خطير ، وأنه عليه أن يزوره كل أسبوع ، إذا اعتقد هذا الطبيب أنه بهذه الطريقة يجلب له رزقاً كثيراً فهو جاهل ، أما إذا اعتقد أن هذا الإنسان يجب أن يخدمه ، وأن يُهَدِّئ من روعه ، وأن يَبُثَّ في نفسه الطمأنينة ، وأن يعطيه العلاج المناسب في الوقت المناسب ، فهذا طبيبٌ يعرف الله عزّ وجل ، ويأتيه رزقٌ وفير من طريقٍ مشروع .
       المحامي مثلاً : إذا اعتقد أنه لو تَكَلَّم الحقيقة المرة للناس لمَا استلم دعوى واحدة ، أما إذا أوهمهم ، وإذا زيف الحقائق أمامهم فيربح ربحاً وفيراً ، إذا اعتقد أن الكذب طريقٌ إلى سعادته ، وإلى وفرة دخله ، وإلى بحبوحته ، وأن الصدق يصرف عنه رزقاً وفيراً ، لمجرد أن تعتقد أن الطاعة تَضُرُّك ، وأن المعصية تنفعك فأنت لا تعرف شيئاً ، واحكُمْ على نفسك بالجهل المُطْبق .
الآية واسعة جداً :
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
        إنّ منطق التاجر مثلاً الذي يبيع بضاعة ، فإذا أراد أن يفرِّق بين الدَين والتقسيط ، وأراد بهذا البيع أن يربح ربحاً وفيراً  ، بينما شعر أنه بهذه الطريقة ربما وقع في مخالفةٍ شرعية ، لكنه يربح ، فآثرها على الطريقة الشرعية المفضلة ، إذاً : هذا التاجر لو صلى وصام فهو لا يعرف الله عزّ وجل ، حينما يؤْثر معصية الله عزّ وجل على طاعته ، حينما يؤثر أن يقترض بالربا ، ويحُل مشكلته ، ولا يعبأ بأمر الله عزّ وجل فهو لا يعرف الله عزّ وجل ، فلاحِظْ أن هذه الآية تدور معك في كل أحوالك ، في كل نشاطاتك ، في كل شؤون حياتك ، في كل مجالات الحياة ، في قطاعات الحياة :
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
      أين الله ؟ أيعقل أن تطيعه ويتخلَّى عنك ؟ أيعقل أن تطيعه في كسب المال ، وتكون فقيراً ؟ أيعقل أن تعصيه في كسب المال وتصبح غنياً ؟ أيجازي الله عباده الطائعين بالحرمان ، ويكافئ عباده العاصين بالإحسان ؟ هل هذا شأن الله عزّ وجل ؟ هذا شأن الإله الذي تعبده ؟ الله سبحانه وتعالى يقول ؟
 
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
(سورة الجاثية : آية 21)
      هذا الإله العظيم الذي تعبده أيعقل أن يتخلى عن عباده المؤمنين ؟ أيعقل أن تكون معصيته طريقاً إلى السعادة ، وأن تكون طاعته طريقاً إلى الهلاك  ؟
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
     هذا كلامٌ فارغ ، الإله ضامن ، الذي يأمرك بكذا وكذا هو خالق الأكوان ، بيده كل الأمر :
 
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
(سورة هود : آية 123)
       لا معنى أن تعبد الله عزّ وجل ، ولن يحميك من خصومك ، لا معنى أن تعبد الله عزّ وجل ، وأن ترى في عبادته خسراناً مبيناً .
إذاً : هذه الآية الكريمة :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
 
 لا تكليف سبيلُهُ معصية :
 
       أي إنسان قال لك : ماذا أفعل ؟ هكذا السوق يحتاج ، أو هكذا ، ظروفنا صعبة ، أو عندي أطفال كثيرون ، أنا مضْطَّر لكسب هذا المال بهذه الطريقة ، إذا قال لك : أنا مضطر فأجبه إجابةً حاسمة ، قال الله تعالى :
 
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا
(سورة البقرة : آية 286)
       الله لم يكلفك من أجل كسب الرزق أن تعصيه ، لم يكلفك من أجل أن تطلب ما أنت بحاجةٍ إليه أن تقع في مخالفةٍ لأمره ، ففي الزواج ، في معاملة الزوج ، في اختيار الزوج ، في اختيار الزوجة ، في معاملة الزوجة ، في تربية الأولاد ، في المِهَن ، فمثلاً تقول : إن هذا الصانع إذا علَّمته هذه الحرفة ربما نافسني ، إذاً : يجب أن أبقيه جاهلاً ، وقد جاء به أبوه إليك ، وهو صديقك من أجل أن تعلِّمه هذه الحرفة ، فإن تُطِع الله عزّ وجل وتكن معه مخلصاً ، وتعلمه هذه الحرفة تقع في خسارة كبيرة ، إذاً : لابدَّ من أن تعصي الله ، وتخون صديقك ، وتَدَع هذا الطفل الذي أخرجه من المدرسة ، ووضعه عندك جاهلاً في هذه الحرفة ، تستغله في خدماتك الشخصية ، لن تفلح أبداً إذا فعلت هذا ، كل واحد بحسب حرفته ، بحسب اختصاصه ، بحسب مهنته ، بحسب عمله ، يعلم كيف تكون الطاعة لله عزّ وجل ، وكيف تكون المعصية .
 
 بين منطق حياة ومقاييس الشرع :
 
        دائماً بمنطق الناس ، بمنطق الحياة هناك مقاييس ، وهناك منطق الإيمان ، وهناك مقاييس أُخرى ، يُمكنك في منطق الحياة كلما خَفَّضت أجر هؤلاء العمال ازداد ربحك ، هذا كلام رياضي ، كلما قَلَّت النفقات ازداد الربح ، أما إذا أعطيتهم رواتب معقولة ، ورفعت من مستواهم المعيشي بدافعٍ من إخلاصك لله عزّ وجل وحبِّك لعباد الله ، الله سبحانه وتعالى في منطق الإيمان يُجْرِي الأمور على نحوٍ خاص ، حيث تزداد أرباحك عما هي عليه قبل أن ترفع رواتبهم ، المشكلة أن صاحب المتجر ، وصاحب المعمل ، والموظَّف ، والطبيب والمحامي ، والمهندس ، والمدرس لا يتعاملون بهذا المنطق .
         المدرّس إذا ألقى في رُوع الطلاب أنهم ضعفاء جداً ، وأعطاهم علامات متدنية جداً لعلهم يأتونه ليأخذوا دروساً خاصة منه فيربح ، هذا منطق الناس ، أما إذا أنصف الطالب الذي بذل جهداً كبيراً ، وله أبٌ ظالم ، أعطاه علامته المستحقة ، وهو لا يرجو إلا أن يرضي الله عزّ وجل ، لعل الله عزّ وجل يجري الأمور على نحوٍ آخر فيأتيه دخلٌ مشروع من طريقةٍ مشروعة ، دائماً حينما يزداد إيمانك تَصْلُح قراراتك ، كلما ارتفع مستوى الإيمان أصبحتَ موَفَّقاً في اتخاذ القرار ، لأنك تتخذ القرار في ضوء قواعد الدين لا في ضوء قواعد الدنيا .
 
عند الله لا يُنال بالحرام :
 
         أيها الإخوة الأكارم ، آيةٌ يجب أن نطبقها في كل شؤون حياتنا ، يجب أن تعتقد أن ما عند الله لا ينال بمعصية الله ، يجب أن تعتقد أنه " من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا ، وأقرب مما اتقى " .
        تقول : إذا كذبتُ على هذا الإنسان أربحُ منه أرباحاً طائلة ، فإذا صدقت ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ ، وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِب )) .
[ سنن أبي داود عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدٍ الْحَضْرَمِيِّ ]
      هذه خيانة كبيرة جداً ، وأنا أتمنى على كل أخ كريم في مهنته ، وفي بيته ، وفي كل علاقاته الاجتماعية ، أن يضع هذه الآية نُصْبَ عينيه :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
( سورة القصص )
 
 لا مساومات في الدين :
 
       أي إذا كنت أريد أن أجعل السهرة غير مختلطة أتكلَّف أكثر ، أما المختلطة ففيها ضيافة واحدة ، أنت آثرت أن توفِّر شيئًا بالضيافة ، آثرت ذلك على طاعة الله عزّ وجل ، وإذا لم أجلس مع أخوات زوجتي فإنها تغضب ، وإذا غضَبْت تعذبني ، فسأرضيها ، والزوجة إن لم تطع زوجها في معصية الله فإنه يطلقها ، هذا هو الجهل بعينه ..
(( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) .
[ أحمد ]
       افعل ما بدا لك ، قالت أم سعد لابنها : << يا بني ، إما أن تكفر بمحمد ، وإما أن أدع الطعام حتى أموت >> ، هذه أم سيدنا سعد ، فقال لها : << يا أمي ، لو أن لك مائة نفسٍ ، فخرجت واحدةً وَاحدةً ما كفرت بمحمد ، فكُلي إن شئت أو لا تأكلي >> .
      إن المؤمن رجل مبدأ ، عنده مسلَّمات في حياته ، مستعد أن يضحي بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس من أجل مبدئه ، ليس عنده مساومات ، رجال المبادئ ليس عندهم مساومات ، ليس تاجرًا حتى نقول له : خفِّض لنا في السعر ، فإنه لا مراعاة في الدين ، لأن هذا شرع الله عزّ وجل .
       تصور لو أن مهندسا متفوِّقا في عمله ، جاءه شخص ، وقال له : أريد أن أعمِّر بناء ، قال له : يلزمك خمسة أطنان من الحديد ، وهذه للأقطار ستة ميلي ، أو ثمانية ميلي ، قال له : أبنيه بلا حديد ، أو أنقص طُنا ، هذا كلام فارغ هنا لا يوجد مساومة لأن هذه قواعد هندسية ، هذا البناء لا يبقى متماسكاً إلا بهذه الأطنان من الحديد ، وبهذه الأقطار ، وبهذا التوزيع ، هنا لا مجاملات .
      البَطْن مفتوح ، والطبيب يجري عملية دقيقة ، وأنت ترجوه أن يغلق البطن ، لا يستطيع حتى تنتهي العملية .
       دائماً قواعد الدين قواعد قَطْعِيَّة لا يوجد فيها مساومة ، واحد يقول لك : هذا التيار الكهربائي فيه خطر الموت ، ستة آلاف فولط ، مرسوم عليه جمجمة وعظمتان ، هذا ليس قيداً ، إنهم يقيدون حريتنا ، وتجد أحد الناس أحب أن يتسلَّق العامود ، وهو يقول : يقولون : ممنوع ، هذا ليس تقييدا للحرية ، بل ضمان لسلامتك ، هذه قضايا قطعية ، هذا شيء ثابت ليس فيه مساومات ، إذا كان لا يرانا أحد هل نصعد ؟ التيار وحده يعاقبك حتى لو لم يَرَك أحد .
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
 الطاعات سبب للسعادة والمعاصي سببُ للشقاء :
 
      الله عزّ وجل جعل الطاعات أسبابًا لسعادتك ، وجعل المعاصي أسبابًا للشقاء  ، فكل طاعة فيها بذور نتائجها ، أي توجد علاقة علمية بين الطاعة ونتائجها ، وتوجد علاقة علمية بين المعصية ونتائجها ،ادفع الثمن ، ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا
(سورة البقرة : آية " 187 " )
 
    وفي آية أخرى :
 
 
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا
( سورة البقرة : آية 229)
 
 كل أوامر الشرع لمصلحة الإنسان :
 
      ويجب أن تعلم أن كل شيءٍ أمرك الله به فهو لمصلحتك ، فإذا أحببت نفسك ، فإذا كنت مسرفاً في حب ذاتك ، وإذا كنت كما فطرك الله عزّ وجل ؛ مفطوراً على حب وجودك وعلى سلامة وجودك وعلى كمال وجودك وعلى استمرار وجودك فعليك أن تطيع الله عزّ وجل ، هذه الأشياء الفطرية لن تتوفر إلا في طاعة الله ، والله عزّ وجل يحفظك من كل مكروه ، ويطمئنك ، ويكرمك ، وتشعر أن الموت مرحلةٌ إلى حياةٍ أبديةٍ أشدُّ سعادةً من هذه الحياة ، هذا الحال وحده يكفي أن تَسْعَد ، فلذلك يمتحن الإنسان نفسه ، ولا يتوهم أنه مؤمن إيمانا كاملا ، سيدنا عمر قال : << من شاء صام ، ومن شاء صلى ، ولكنها الاستقامة >> .
 
 الدِّينُ هو الاستقامة :
 
     يجب أن تكون تصَوُّراتك كلّها متوافقة مع مقاييس القرآن الكريم ، لذلك ما الذي أهلك الناس ؟ أنهم جعلوا الدين صوماً وصلاةً وحجاً وزكاة فقط ، وما سوى ذلك فهم واقعون في شرك ، وفي توَهُّم ، لكن الأمر الإلهي وهذا الشرع ماذا تفعل فيه ؟ فأيهما أهم غضب الله أم غضب أمك ؟ يشعر أنه إذا عصى الله عزّ وجل ، وأطاع أمه يرتاح ، يجب أن تقِيم موازنات ، الله عزّ وجل قال :
 
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً
( سورة الإسراء : آية : 23 " )
     الله سبحانه وتعالى له الطاعة وله العبادة  ، أما الوالدان فلهما الإحسان ، والطاعة والعبادة شيء ، والإحسان شيءٌ آخر :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
 معنى : نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
      إن القرآن الكريم فيه إعجاز ، فالتخطف من الأرض إذا اتبعناك ، فإما أن ينصرف الناس عنا فنفتقر ، وإما أن نحارب فنموت ، والحقيقة الإنسان في الحياة حريص على شيئين ، على وجوده وعلى رزقه ، والإنسان أحرص شيءٍ يحرص عليه هو وجوده ورزقه ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( كلمة الحق لا تقطع رزقاً ، ولا تُقَرِّبُ أجلاً )) .
[ ورد في الأثر]
        يجب أن تعتقد أن رزقك مضمون ، وأن عمرك لا يزيد ولا ينقص ، إذا اعتقدت هذا كانت لك مواقف جريئة ، وكانت لك مواقف مشرّفة ، أما الخوف الشديد من نُقْصَان الرزق ، والخوف الشديد من انتهاء العمر قبْل أوانه فهو أحد أكبر أسباب المعاصي .
إنه بمنطق الناس ، لو جاءك أمر ممن هو فوقك بأن تعصي الله ، ومع الأمر تهديد ، بمنطق الناس أنك إذا أطعت مَن هو فوقك سلمت ونجوت ، وارتحت واسترحت ، وأنك إذا عصيته سببت لنفسك كل المتاعب ، هذا منطق الناس ، لكن منطق القرآن :
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا
( سورة الحج : آية " 38 " )
 
﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الروم )
 
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الأنبياء )
فإذا جئت إلى منطق القرآن ، وقلت :
(( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) .
عندئذِ تجري الأمور على نحوٍ غريب ، ماذا يُلْقى في قلب هذا الإنسان الذي تحديتَه ؟ يشعر بقيمتك ، يشعر بقوَّتك ، يشعر بسموِّك ، يصْغُر أمامك ، يعتذر منك ، أنت كنت متوقعاً غضبه ، عنده حظوظ حمراء ، لا مجال للرجاء وللمساومة والدلال ، والطلب ، ولا مجاملة في أمور الدين ، ولا يوجد حل وسط ، هذا أمر الله عزَّ وجل ، وكلَّما عَظَّمت أمر الله عزَّ وجل أحبك الله .
 
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾
( سورة الحج )
       كلما عَظَّمْتَ أمر الله عزَّ وجل ، إذا أردت أن تعرف مالك عند الله فانظر ما لله عندك ، فشأن الناس اليوم هان الله عليهم فهانوا على الله ، أي طاعته ومعصيته سِيَّان ، كسب المال الحلال كالحرام ، يقول لك : لا تدقق ، ما دام الله قد هان عليهم إذاً هم هانوا على الله ، أي يسوق الله إليهم من الشدائد ما لا يطيقون .
        النبي عليه الصلاة والسلام جاءه أعرابي قال له : " عظني ولا تطل قال :
(( يا أعرابي قل : آمنت بالله ثم استقم ، قال : أريد أخَفَّ من ذلك قال : إذاً فاستعد للبلاء)) .
[ ورد في الأثر ]
 
 لا بد من متابعة المقاييس الشرعية ومراعاتها :
 
                فأنا أتمنى من كل أعماقي أن كل أخ حاضر معنا ، بكل حركة من حركاته يلاحظ مقاييسه ، أي إذا أطاع الله عزَّ وجل يخسر ؟ يقول لك : هذا مطعم ، مطعم درجة أولى ، إذا لم نبع فيه الخمر لا نربح ، ماذا نفعل ، نحن مضطرون ، إذا كنت كذلك فأنت جاهل ، وإيمانك صفر ، إذا كنت تعتقد أن الربح يأتي من معصية الله فأنت لا تعرف من الدين شيئاً ، قيسوا أشياء كثيرة جداً .
أحياناً يغش الإنسان ، الكيلو في بعض المواد الغذائية سعره مرتفع إذا غششتها ، بعض الأشخاص قالوا لي : يضعون مع الطحينة مادة ( إسبيداج ) لتبيضّ ، ويزداد سعرها ليرتين ، فيا صاحب معمل طحينة أتبيع مادة تُخَرِّش الأمعاء من أجل أن تربح ؟ وبعد ذلك يصلي في أول الصف ، هذا جاهل عند الله عزَّ وجل ، هذا ليس ديّناً إطلاقاً ، إذا كنتَ تعطي المسلمين مادة غذائية تؤذيهم من أجل أن يزداد ربحك ، وتصلي فالدين في واد ، والحياة في واد آخر ، الدين هو الحياة ، الدين هو معملك ، الدين في بيتك ، الدين في متجرك ، الدين في وظيفتك ، الدين في عيادتك ، الدين في مكتبك للمحاماة ، هنا الدين ، ليس الدين في المسجد ، المسجد هذه عبادة شعائرية ، هذه من أجل تقويم العبادة التعاملية ، المسجد ، الصلاة ، الصوم الحج ، هذه ثلاث ساعات امتحان .
       لو فرضنا أن طالبًا جاء إلى هذه الساعات الثلاث ، وقد ارتدى أجمل الثياب ، شيء جميل ، جاء بشطيرة لعلَّه يجوع ، وأربعة أقلام احتياطا ، وحبوب من الأسبرين لعلَّه يتألَّم من رأسه ، وماء بارد ، ولكنَّه لم يدرس إطلاقاً ، ما نفعُ هذه الأقلام الأربعة ، وهذه الحبات الأسبرين ، وهذه الشطيرة ، وهذه الثياب الجميلة ؟ شيء مضحك ، هذه الساعات الثلاث أساها الدراسة ، أساسها عام دراسي بأكمله ، فكلما كان هناك جهدٌ كبير في أثناء العام الدراسي ، كانت هذه الساعات الثلاث مجدية ونافعة ، هذه هي المشكلة ، حينما فهم المسلمون أن الدين أن تصلي ، وأن الدين تصوم مع الناس ، هذا رمضان ، وأن الدين أن تحُج البيت ، وانتهى الأمر ، هذا هو الدين ، ثم لا تدقق ، يفعل ما يشاء ، يكذب كما يريد ، يأكل مال كما يشتهي ، ينفق كما يريد ، علاقاته الاجتماعية كلها غير صحيحة ، يعطي نفسه ما تشتهي ، هذا الفهم للدين فهم سقيم ، هذا الفهم للدين جعلنا في مؤخِّرة الأمم ، هذا الفهم للدين جعل للكافرين علينا سبيلاً ، أما حينما يستقيم الإنسان استقامةً تامةً في عمله ، وفي علاقاته ، وفي كسب ماله ، عندئذٍ يعرف ماذا يعني الدين ، الدين أخطر شيءٍ في حياة الإنسان .
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
(سورة القصص آية 57)
قول آخر :
 
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا
( سورة الأنعام آية 148)
 
 احذر هذا النوع مِن الشرك :
 
       لابد أن ينتبه كل إنسان إلى كلامه ، فلمجرَّد أن تقول : الله لا يريد أن يهديني ، لم يشأ الله بعد ، الله ما ألهمني أن أصلي ، لمجرد أن تعتقد هذا فأنت مشرك .
 
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا
       ماذا قال المشركون ؟ قالوا : إن الإيمان بيد الله إلى أن يشاء الله نؤمن ، ولو لم يشاء لم نؤمن ، نحن ليس لنا علاقة ، هذه عقيدةٌ شائعة بين المؤمنين ، إلى أن الله يأذن ، إلى أن سيدك يأذن ، إذا قلت له : ألا تصلي ؟ ألا تغض بصرك ؟ هذا العمل حرام ؟يقول : ليس بيدي ، الله لم يأذن لي الآن ، هذا كلام الشرك ، هذا عين الشرك ، انتبه إلى كلامك :
 
 
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا
بيده الأمر ، الآن :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
(سورة القصص : الآية 57)
       هذا كلام مشركي مكة ، إذا قلت قولاً يشبه هذا القول فأنت مثلهم تماماً ، أخي إذا أطيع الله عزَّ وجل سأخسر مركزي . فما هذا الكلام  أنتظر ، أو يقول : الله عزَّ وجل ليس في الأرض ، ولكنه في السماء فقط،  ماذا قال الله ؟ :
 
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
(سورة الزخرف)
 
﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ
(سورة النحل : الآية 51)
        يقول لك : أنا مضطر ، هكذا يجب أن أعمل لكي أحافظ على مركزي .
لا تنسَ قول هذا التابعي الجليل لأحد ولاة يزيد ، جاءه توجيه خلاف الحق ، فسأل التابعي : ماذا أفعل ؟ قال : " إن الله يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله " ، وأنت قس على هذا القول كل شيء .
 
الردُّ الإلهيُّ : أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً
 
ماذا ردَّ الله عليهم :
 
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً
(سورة القصص : الآية 57)
      أي وأنتم في الكفر والشرك لكم حرمٌ آمن ، فإن آمنتم بي تُتَخطَّفوا من أرضكم ؟! هكذا يفعل الله عزَّ وجل ؟ قبل المعصية كنت في بحبوحة ، الآن بعد التوبة تفتقر ؟ حينما كنت على معصية الله يوفقك الله ويغفر لك ، ويحلم عليك ، فلما عرفته ، واستقمت على أمره إذا فعلت هذا الأمر تخسر دخلك ؟! ما هذا المنطق ؟!! وأنت مقيم في المعصية لك دخل ، فإذا أطعت الله عزَّ وجل تفتقر ؟ لا ..
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آَمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
(سورة العنكبوت : الآية 67)
 
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
(سورة القصص : الآية 57)
       لا يعلمون ، فأنت متى تعلم ؟ تعلم إذا جاءت تصوُّراتك وفق ما في القرآن ، متى تكون مهتدياً ؟ إذا كان هواك قد وافق ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟ قال :
((طوبى لمن وسعته السُّنَّة ، ولم تسْتهوِه البدعة )) .
[ ورد في الأثر ]
      أي أن الشيء الذي أمر به النبي تحبه أنت مؤمن ، أما تحبُّ البدَع ، تحب الصرعات الجديدة ، تحب المُلْهِيات ، تحب الأماكن غير النظيفة ، تحب العلاقات غير الشريفة ، تحب ما يغشاه الناس ، تُحبُّ ما هو فحشاء ، قل لي ما تحب أقل لك من أنت ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )) .
[البغوي في شرح السنة عن عبد الله بن عمرو بسند ضعيف ]
 
لا بد من الأخذ بالمقاييس الشرعية :
 
      القضية دقيقة جداً ، في مقاييسك ، وازنْ بين مقاييسك ومقاييس القرآن ، فهل تعظم أهل المال فقط ؟ وتهمل المؤمن الذي حالته المادية وسط ، هذه مشكلة ، هذا مقياس دنيوي ، أما أن تقيس الأمور بمقاييس الشرع والقرآن ، يجب أن تحترم هذا المؤمن كائناً من كان ، بأي مرتبة اجتماعية ، بأي مستوى اقتصادي ، بأي درجة علمية ، ما دام مؤمناً فهذا جدير أن تحترمه ، فبتقييم الناس لاحظ مقاييسك قرآنية أم شيطانية ، بطرق كسب المال أتتحرى الحلال ؟ فهل تفرح بكسب كبير حرام ؟ وتعدَّ نفسك ذكيًا ، شاطرًا ، دَبَّرت نفسك ، ركزت وضعك ، أمَّنت مستقبلك على معصية الله عزَّ وجل ، أتفرح بدخل حرام حل لك كل مشاكلك ؟ .
      فطبيبٌ مثلاً ، طبيب ناشئ ليس عنده شيء في الحياة ، عُيِّن طبيبًا شرعيًا ، وكُلِّف بفحص جثة ، إذا قال : الموت طبيعي ، أعطوه خمسة ملايين ، وإذا قال : الموت مشبوه بحادث قتل ، لا يأخذ شيئًا ، فهذا الطبيب حسب إيمانه ، إذا كان مؤمنًا بالله عزَّ وجل ، إذا أطاع الله عزَّ وجل الله سيكرمه ، أما إذا قال :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
( سورة القصص آية " 57 " )
       أي نصبح بلا شيء ، في كل شيء ، فالآية دقيقة جداً تدور مع كل الناس ، مع كل المهِن ، مع كل الحِرَف ، مع كل الطبقات ، مع كل الوظائف ، مع كل العصور ، والأمصار والبلدان ، والأمكنة والأزمنة .
 
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا
( سورة القصص )
 
 العلاقة بين الآيتين :
 
هل هناك علاقة بين هاتين الآيتين ؟ لو فرضنا أن الإنسان لميعبأ بشرع الله ، ولا بأمر الله ، ولا بالهدى ، واتبع مصلحته ، واتبع ما يكسبه مالاً وفيراً ، وعاش خمس سنوات أو عشر سنوات إلى أن يأتيه الأجل ، أليس هناك موت بعد هذا الغنى ؟ أنت حَصَّلت الغنى من معصية الله ، وعشت حياةً مرَفَّهةً في بحبوحةٍ كبيرة ، أليس هناك موت؟ هذا الموت ألا ينهي هذه الحياة القائمة على معصية الله عزَّ وجل ، ماذا قال عليه الصلاة والسلام ، والله حديث يقصم الظهر :
(( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا : هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوِ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوِ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
 
[ سنن الترمذي عن أبي هريرة ]
 
ثم ماذا ؟ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا
 
إن اتبعوا الهدى مع النبي يُتخطَّفوا من أرضهم ، إذاً أنكروا الرسالة وكفروا بالنبي ، حفاظاً على مكتسباتهم ومكانتهم وزعامتهم ودخلهم ، وشهواتهم ... إلخ ، ثم ماذا ؟ هنا سؤال ، فكِّر .
       قلت لإنسان : الجماد شيء له طول وعرض وارتفاع ، له حيِّز ، صخرة لها وزن ، ولها أبعاد ، طول عرض ارتفاع ، والنبات شيءٌ يشغل حيزاً وينمو ، الحيوان شيءٌ يشغل حيزً وينمو ويتحرَّك ، الإنسان شيءٌ يشغل حيزاً ، طول وعرض وارتفاع ، وينمو ، ويتحرَّك ويفكر .
      فلو أن إنسانًا غارقًا في المعاصي ، هناك سؤال يوقفه عن حده ، ثم ماذا بعد هذا ؟ إذا جاء ملَك الموت ، فعلت ، ما فعلت ، أكلت ، ما أكلت ، شربت ، ما شربت ، سكنت ، ما سكنت ، ترَفَّهت ، ذهبت ، عُدت ، سهرت ، سَمُرت ، استمتعت ...إلخ ، ثم ماذا ؟ " سبحان من قهر عباده بالموت " .
كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت .
الليل مهـما طـال       فلابدَّ من طلوع الفجر
و العمر مهما طال        فلا بدَّ من نزول القبر
***
      أي أنتم يا أيها المشركون تعتقدون أنَّكم إذا اهتديتم ، أو اتبعتم الهدى مع النبي تُتَخطَّفون من أرضكم ، إذاً اكفروا ، وبعد أن تكفروا ، ثم ماذا ؟
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا
(سورة القصص : الآية 58)
       لو أن الإنسان أقام على معصية الله ، وحَصَّل مالاً وفيراً ، تمسَّك بالكفر ليبقى في مركزه الكبير ، تمسك بالمعصية ليصبح ذا شأنٍ كبير،  وهذا الشأن الكبير إلى متى ؟ إلى ما لا نهاية ؟ وهذا الغنى إلى متى ؟ بل كلّه إلى نهاية ، انظر إلى سوق من أسواق دمشق الرائجة ، كل خمسين سنة تجر جُدُد ، المحل سلَّمه ، أو أعطاه إلى ابنه ، أو ابنه سلّمه ، أو أعطاه إلى صهره ، تجد تُجَّار سوق الحميدية من خمسين سنة غير الحاليين الآن ، وبعد خمسين سنة قادمة ، أو خمس وعشرون غير الحاليين ، يختلفون ، ثم ماذا ؟ ترك الدنيا ، ثم ماذا ؟ القبر ؟ ثم ماذا ؟ الحساب ، لو أنَّكم آثرتم الدنيا ، آثرتم المال وأبيتم الهُدى ، قال الله :
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا
(سورة القصص : الآية 58 )
 معنى : بَطِرَتْ :
أي فسدت أُتْرِفَت ، استعلت .
 
﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ
( سورة القصص : الآية 58)
 
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ
 
        عندك آلاف الأمثلة ، يمكن أن يكون الهلاك الجماعي ، يمكن أن يكون الزلازل ، والفيضانات ، والبراكين ، حالات معينة ، لكن في بكل بلدة حالات فردية ، تحت سمعك وبصرك ، كرجل عَمَّر بناء ، ولم يسكنه ، وعندنا رجل آخر اشترى بيتًا فلم يعجبه ، فكسر البلاط ، وكسر السيراميك ، وغَيَّر التمديدات ، وغيّر الأبواب ، هذه الكسوة الكاملة خرَّبها كلها ، فتح الحيطان ، أنشأ أقواسًا ، صنع أبوابًا جرارة ،  وستائر متحركة على الكهرباء ، وطاولات رخام ، وتحته إضاءة ، سنتين ونصفًا وهو يكسو هذه البلاطة حتى أصبحت مثاراً للعجب ، شيء لا يصدَّق ، أقسم بالله جاره بعد أن انتهت بشهرين توفَّاه الله عزَّ وجل .
     تسمع عن أشخاص قد يعود أحدهم إلى بلده ومعه شهادة عُليا فلا يمارسها ، يتزوَّج فلا يدخل ، يعمر بيتا فلا يسكن ، هذه حالات يومية :
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾
( سورة القصص )
 
 هذه هي نهاية الملكية : وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ
 
     البيت في النهاية ليس لك ، لاحِظْ في النعي : وسيشيَّع إلى مثواه الأخير ، وبيت  الدنيا مؤَقَّت ، وهذا الذي هلكنا أنفسنا من أجله ، اعتن به ما شئت ، إن كان كبيرا فهو مؤقَّت ، أو كان صغيرا فهو موَقَّت ، أو مزَيَّنا فهو مؤقت ...
 
﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾
( سورة القصص )
 
 الإهلاك الإلهي جزائيٌّ موافقٌ لحجم الجريمة :
 
      أما هذا الإهلاك ليس إهلاكاً عشوائياً ، ولا مزاجياً ، ولا خبطة عشواء كما يقول بعض الجهلة ، قال :
 
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
(سورة القصص)
      أنت تتألم أن قرية أصابها زلزال ، قرية أصابها فيضان ، بركان سار فقتل كل من في هذه البلدة ، هذا هلاك ، لكن هذا كلام الله ، هذا كلام خالق الكون ، هذا كلام الفعَّال الوحيد في الكون ، تقول لي :  زلزال مثلاً ، تقول إن الزلزال حركات باطنية غير مستقرة ، صحيح، لكن هذا التفسير العلمي لا ينفي التفسير الديني ، أن هذا فعل الله عزَّ وجل ، وأن الله عزَّ وجل يقول :
 
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
(سورة القصص)
والآية المعروفة لديكم :
 
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ
( سورة الأنعام : آية " 65 " )
       هذا البراكين ، هناك قرية في إيطاليا ، الساعة الثانية بعد الظهر ثار بركانٌ اسمه (فيزوف fethof ) ، هذا البركان ثار ، وصَبَّ على قريةٍ تقع في سفحه هذا السائلَ البركاني ، فغمر القرية ، وغطَّاها بارتفاع ثمانية أمتار ، بعد مئات السنين في أثناء التنقيب في هذه المنطقة وجدوا أحجارًا على شكل أشخاص ، حقنوها بجبس سائل ، ثم كَسَّروا هذه المستحثات ، فإذا هي بلدةٌ جاءها هذا البركان ، وقد مات أهلها عن آخرهم ، حتى ملامح الناس ، حتى الأم مع طفلها ، حتى من في البيوت الغنية يجمعون الحلِي :
 
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ
( سورة الأنعام : الآية 65 )
        هذه الزلازل ، أفسق مدينة في المغرب العربي ( أغادير ) ، في خلال ثلاث ثوانٍ انتهت ، يقولون : سبع درجات على سُلّم ريختر ، أي زلزال مدمِّر .
 
﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
( سورة الأنعام : آية " 65 " )
هذا كلام خالق الكون ، إن شاء الله في الدرس القادم نتابع هذه الآيات ، الآية اليوم :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
 خلاصة الدرس :
 
        هذه آية هذا الدرس ، وهي الآية تقريباً الوحيدة ، وهذه الآية واسعة جداً غنية جداً ، طبعاً النص محدود ، أما العلة واسعة ، علَّتها إذا توهَّمت أن معصية الله تنفعك ، وأن طاعته تَضُرُّك فهذا منتهى الجهل ، ومنتهى ضعف اليقين وضعف الإيمان ، فإذا فهِم الإنسان هكذا فعليه أن يجتهد اجتهادًا كبيرًا ، وعليه أن يجدد إيمانه ، وعليه أن يسعى لكي تكون مقاييسه موافقةً لمقاييس القرآن الكريم .
 
أسئلة في الموضوع :
 
1 ـ السؤال الأول :
وردني سؤال ؟
هل نستطيع أن نحكم على كل من نرى عليه مصيبة أن هذا من ذنبٍ فعله ؟
2 – الجواب :
 
أنواع المصائب
 
1 – مصائب المؤمنين دفعٌ ورفعٌ وكشفٌ :
هذا الحكم خاطئ ، لأن المصائب أنواع منوَّعة ، هناك مصائب ، القصم ، وهناك مصائب الردع ، وهناك مصائب الدفع ، وهناك مصائب الرفع وهناك مصائب الكَشف ، كل مؤمن له مصيبة خاصة به ،  قد يكون مؤمنًا مستقيمًا على أمر الله ، لكن ربنا عزَّ وجل يحبُّ أن يحثَّ الخُطى إلى الله ، هذه دفع ، قد يكون المؤمن لو جاءته مصيبة فصبر عليها يرتفع عند الله أكثر ، هذه مصيبة رفع ، وقد يكون الكمال منطوياً في نفس إنسان لا يظهر إلا بظرف صعب ، هذه مصيبة كشف ، هناك دفع ، وهناك رفع ، وهناك كشف ، هذه مصائب المؤمنين .
1 – مصائب غير المؤمنين قصم وردعٌ :
أما مصائب غير المؤمنين ، إما قصم وإما ردع .
 
ليس من الشرع الحكمُ على الناس :
 
فما كل إنسان شاهدتَ عليه مصيبة بإمكانك أن تحكم عليه ، هذا من شأن الخالق ، دائماً عوِّد نفسك الأدب ، لا تحكم على الأشخاص ، هذا ليس من شأنك ، هذا من شأن خالق الأشخاص ، فإذا رأيت إنسانًا مصابًا تقول : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه ، من دون أن تُسمعه هذا الدعاء ، ومن منتهى الفظاظة أن تُسمعه هذا الدعاء .
رأيت إنسانًا مبتلىً بعاهة ، بمشكلة ، بفقر ، يجب أن ترحمه ، يجب أن تعطف عليه ، أن تساعده ، هذا كلام العوام : ( إن رأيت الأعمى طُبُّه ) ، هذا كلام الجهلة ، يجب أن تساعده إلى أقصى درجة ، وأن تدعو هذا الدعاء ، أما أن تحكم عليه فهذا منتهى الجهل .
 
موقف المؤمن إذا أصابته مصيبة :
 
       لذلك المؤمن الكامل إذا ألمَّت به مصيبة يتَّهِم نفسه ، فإذا حلت بأخيه يحسن الظن به ، هذه قاعدة ، ومهما بالغت في اتهامك نفسك كان هذا أفضل ، قل مع نفسك : " ما من عثرةٍ ، ولا اختلاج عرقٍ ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدمت أيديكم ، وما يعفو الله أكثر " ، ومهما أسرفت في اتهامك فهو أفضل ، أما أخوك فإيَّاك أن تفعل معه ذلك ، أخوك لعل مصيبته  رفعٌ له ، لعلها دفع ، لعلها كشف ، لعلها رُقِيّ ، لذلك ماذا قيل ؟ قال ابن عطاء الله السكندري : " رُبَّ معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً " .
والحديث المعروف والمشهور عندكم ، أي إذا الإنسان أخوه وقع بذنب ، قال النبي الكريم :
(( الذنب شؤمٌ على غير صاحبه ، إن ذكره فقد اغتابه ، وإن رضي به فقد شاركه في الإثم ، وإن عَيَّره ابتلي به )) .
[ الجامع الصغير عن أنس بسند ضعيف ]
 
 موقف المؤمن إذا أصابته المصيبة أخاه المؤمن :
 
خذ موقفًا دقيقًا جداً ، إذا وقع أخوك بذنب أو بمصيبة ، الله عزَّ وجل يحميني من أن أقع كما وقع ، ادعُ لنفسك بالحفظ وله بالمغفرة ، أما أن تشمت به فإنك تبتلى بهذا الذنب ، أما أن تعَيِّره فإنك ستبتلى به ، وإنْ تذكره للناس اغتبته ، وإن ترضه عنه شاركته في الإثم .
عندك آية :
 
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
( سورة البقرة : آية " 155 " )
هذه مصائب المؤمنين .
 
﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾
(سورة البقرة)
فليس لك حق أن تتهم إنسان بمشكلة أنه مذنب ، لا تعرف ، والدليل :
 
﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾
(  سورة الإسراء )
       أنت لست الخبير الله الخبير ، أنت لست خبيرًا .
1 ـ السؤال الثاني :
ما المقصود بكلمة وردت في هذه الآية :
 
﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
( سورة محمد : آية " 15 " )
2 ـ الجواب :
        ليس لخمر الآخرة من خمر الدنيا إلا الاسم فقط ، لا غولٌ فيها ، خمر الجنة لا تغتال العقل ، لكن هذا تقريب لأذهان الناس ، ففي الجاهلية كانوا غارقين في شرب الخمر ، وليس لخمر الآخرة من خمر الدنيا إلا الاسم فقط ، وهو من نوع آخر .
 
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب