سورة البقرة 002 - الدرس (59): تفسير الآيات (177 - 177) الإسلام منطلق نظري وتطبيق عملي

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (59): تفسير الآيات (177 - 177) الإسلام منطلق نظري وتطبيق عملي

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - استكمال تفسيرالآية: (177 - 177) - الإسلام منطلق نظري وتطبيق عملي

20/03/2011 18:38:00

سورة البقرة (002)
الدرس (59)
تفسير الآية: (177)
الإسلام منطلق نظري وتطبيق عملي
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب  النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
للآية التالية جانبان عقدي وحركي :
 
أيها الأخوة المؤمنون... مع الدرس التاسع والخمسين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السابعة والسبعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾.
هذه الآية أيها الأخوة تمَّ شرح نِصفها الأول في الدرس الماضي، بل شُرِح نصفها العَقَدِيّ وبقي نصفها الحَرَكِي، الدين اعتقاد وعمل، اعتقاد وسلوك، منطلق نظري وسلوك عملي، هذان الجانبان الكبيران..
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾.
[ سورة الأنبياء: 25 ]
الجانب العَقَدِي، ﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ﴾، والجانب العملي: ﴿ فَاعْبُدُونِ ﴾.
 
الإسلام إيمانٌ وعمل :
 
الإيمان اعتقاد وسلوك، وأيُّ إنسانٍ، أو أية جهةٍ، أو أية جماعةٍ اكتفت بأحد الشطرين فقد ضلَّت سواء السبيل؛ هناك من يقول: أنا عملي طيِّب، والله لن يحاسبني لا على عقيدتي، ولا على عباداتي. وهناك من يقول: أنا إيماني بالله قوي، ولا أحتاج بعده إلى شيء. كلاهما ضلَّ سواء السبيل، الإسلام إيمانٌ وعمل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾
[ سورة البينة: 7 ]
﴿ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ
[ سورة المؤمنون: 32 ]
العمل:
﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾
[ سورة المؤمنون: 32 ]
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾.
[ سورة الأنبياء: 25 ]
كلٌ منهما؛ الاعتقاد والعمل شرطٌ لازمٌ غير كافٍ، فالذي يُرَكِّز على الاعتقاد فقط ويضعف عمله لم يُصِب الهدف، والذي اعتنى بعمله ولم يصحَّ اعتقاده، أو لم تصحَّ نيَّته لم يُصِب الهدف، فالله عزَّ وجل يقول:
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ ﴾.
هذه الشكليَّات، وتلك الجُزْئيات، وهذه التفاصيل إنها مطلوبة، ولكن أن تكتفي بها ليس براً، لا بد من أن تضع يدك على جوهر الدين.
هذا الأعرابي الراعي الذي امتحنه ابن عمر.. قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها. قال له: ليست لي. قال: قل لصاحبها ماتت، ليست لي. خذ ثمنها.ليست لي.ثم قال له: إنني في أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟! هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين.
 
هذه الآية من الآيات التي جمعت أركان العقيدة وأركان السلوك :
 
أيها الأخوة... هذه الآية من الآيات الجامعة المانعة؛ جمعت أركان العقيدة، وأركان السلوك.أركان العقيدة..
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾.
ذكرت في الدرس الماضي أن هناك حقائق حسيَّة أداتُها الحواسُّ الخمس، وأن هناك حقائق عقليَّة أداتها العقل، وأن هناك حقائق إخباريَّة أداتها الخبر الصادق، والمؤمن الصادق يضع كل قضيةٍ في مكانها الصحيح، فإن كان مكانها العقل أعمل عقله وآمن، وإن كان مكانها الخبر أصغى إلى الخبر وآمن، وإن كان مكانها الحِس استعمل حواسَّه وآمن، فهذا الدرس الماضي.
 
الإسلام حركة :
 
أما اليوم..
﴿ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾.
ما قيمة الإيمان إن لم تتحرَّك؟ أنت في أمسَّ الحاجة إلى أشعة الشمس وأنت قابعٌ في غرفةٍ مظلمةٍ قميئة، وجلدك بحاجةٍ ماسة لأشعة الشمس، وقلت متفاصحاً: إنَّ الشمس ساطعة. بل أقسمت إن الشمس ساطعة، بل قلت: إن كل خليةٍ في جسمي، وكل قطرةٍ في دمي تؤمن أن الشمس ساطعة، ماذا فعلت؟
أنت لم تفعل شيئاً لأنها في الأصلِ ساطعة، لم تَزِد شيئاً إلا أنك اعترفت بحقيقةٍ صارخةٍ أمامك،ولكن الشيء الذي يُجدي أن يشفى مرضك الجلدي من خلال أشعة الشمس، فإن لم تتحرَّك لعرضِ جلدك على أشعة الشمس لا قيمة لإيمانك بها إطلاقاً، هذه أهم نقطة في الدرس أيها الأخوة.
الإسلام حركة، الإسلام صدق، الإسلام أمانة، الإسلام دعوة، الإسلام وفاء، الإسلام أداء للحقوق، الإسلام إتقان للعمل، الإسلام رأبُ الصَدع، الإسلام إنفاق المال، الإسلام حركة. لا يوجد إسلام سكوني، إنسان هكذا قابع في بيته؛ لا يعمل، ولا يقدِّم، ولا يؤخِّر، ولا يُعطي، ولا يمنع، ولا يغضب، ولا يرضى ويقول إنه مسلم، هذا إسلام سكوني، هذا إسلام لا جدوى منه إطلاقاً.
الإسلام عقيدة وسلوك، الإسلام جانب عَقَدِي، وجاني حَركي، الإسلام مُنطلق نظري وتطبيق عملي، الإسلام توحيد وعبادة، هذان جناحا الإسلام، والطائر لا يطير إلا بجناحين، بجناحٍ واحدٍ لا يطير، وأيُّ اعتمادٍ على جانبٍ دون الآخر، وأي تركيزٍ على جانبٍ دون الآخر إنما هو خللٌ في الفهم، وخللٌ في السلوك.
 
حياة المؤمن مبنيةٌ على العطاء :
 
أيها الأخوة الكرام:
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى ﴾.
أولاً: لو رجعنا إلى أول آيةٍ في سورة البقرة:
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
[ سورة البقرة: 2-3 ]
حياة المؤمن مَبنيةٌ على العمل الصالح، حياةُ المؤمن مبنيةٌ على الإنفاق، حياة المؤمن مبنيةٌ على العطاء. إن صحَّ التعبير له سياسة أساسيَّة، لها مصطلح عصري ـ الإستراتيجية ـ إستراتيجية المؤمن أنه يعيش ليُعطي، يكسب المال لينفِقه، يتعلَّم ليعلِّم، يتزوَّج لينجب أولاداً صالحين، يعمل عملاً حِرفياً لينفع المسلمين، بُنيت حياته على العطاء، لذلك أحد كُتَّاب السيرة ـ يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام ـ قال: " يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ ".
المنحرفون يأخذون ولا يعطون، المؤمن يعطي ولا يأخذ لأنه يأخذ من الله عزَّ وجل جنَّةً عرضها السماوات والأرض، فإن أراد أن يأخذ على عطائه فكأنما اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً.
مَلِك عظيم كلَّف معلِّماً أن يعطي ابنه دروساً، وقالله: أنا سأكافئك، والملك بماذا يُكافئ؟ أقلُّ شيء يعطي عطاءً كبيراً جداً، فهذا المُعَلِّم سأل هذا الطالب أن يُعطيه الأجر، فأعطاهُ مبلغاً محدوداً جداً، هل في رأس هذا المعلم ذرَّة عقل؟ لا. لو أخذ الأجر من المَلك لكان أجراً كبيراً جداً، فهذا الذي يطلُب على عمله الصالح عطاءً، يطلب على عمله الصالح أجراً، يطلب على تعليم الحَق للناس أجراً، يطلب على خيرٍ أجراً، هذا زهد بما عند الله، وطمع بما عند المخلوقين فهذا خاسر خسراناً كبيراً.
 
حبّ المال أودعه الله في قلوب البشر ليكون إنفاقه قربةً إلى الله :
 
أيها الأخوة الكرام... ولكن﴿البر من آتى﴾، آتى بمعنى أعطى، لكن يُقال: آتى لمن كان المال من كسبه، أو أتاه بطريقٍ مشروع، آتيتُه مالاً من مالي، المال ما يُنتفع به، ما يتموَّل، وقد أودع الله في قلوب البشر حبَّ المال:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[ سورة آل عمران: 14 ]
لولا أن الله حبَّب المال إلينا لما كان هناك جدوى من إنفاقه، ولما كان إنفاقه قربةً إلى الله عزَّ وجل، لأن الله حبَّب المال إلينا كان إنفاقه قربةً إلى الله؛ لأنك تنفق شيئاً تحبه، لأنك تنفق شيئاً أنت حريصٌ عليه:
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً *إلاّ الُمُصَلّيِنَ﴾
[ سورة المعارج ]
يحبُّ المال، يحب جمعه، يحب ادّخاره، يحب كَنْزَهُ، يحب أن يتباهى به، لأن الله ركَّب في الإنسان حُب المال، وأمرنا بإنفاق المال كي نصل إلى الله تعالى، وكي نرتقي إليه، ونصل به إلى الجنة.
 
الحركة المعاكسة لميل النفس هي ثمن الجنة :
 
أيها الأخوة الكرام...
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾.
هذا الجانب العقَدي، الاعتقادي، العقيدة، الجانب الحركي، السلوكي الذي يجسِّد الجانب الاعتقادي، الذي يؤكِّد..
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾
أيها الأخوة الكرام... دقِّقوا في كلمة"على حُبِّه "، آتى المال، وهو يحب المال، الشيء إن أحببته وأردت أن يكون لك، أردت أن تقتنيه، أردت أن تضمَّه إليك، أردت أن تدَّخره لأنك تحبه. العمل حركة مُعاكسة لمَيل النفس، وهذه الحركة المعاكسة لميل النفس هي ثمن الجنة، حركة معاكسة لمَيل النفس؛ امرأةٌ جميلة، إن نظرت إليها، مشيت مع رغبة النفس، مع هوى النفس، فإن غضضت البصر عنها قُمت بحركةٍ معاكسةٍ لميل النفس، هذا هو ثمن الجنَّة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾.
[ سورة النازعات: 40-41 ]
 
المال قيمةٌ مطلقة لكل الجهد البشري :
 
الله عزَّ وجل أودع في الإنسان حُبَّ المال بنص قوله تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ  ﴾.
[ سورة آل عمران : 14 ].
ذلك أن المال كما قال بعضهم: مادة الشهوات. أنت بالمال تشتري أي شيء؛ تشتري البيت، والسيارة، والأثاث، وتجلس في المَطعم وتأكل، وتلبس أجمل الثياب، وبالمال تسافر، فالمال قيمة مُطلقة، المال هو قيمة الجهد البشري، إنسان صنع شيئاً بجهد عضلي، أو جهد فني، أو جهد علمي، واستغرق مالاً ووقتاً، أنت تشتري هذا الجهد بألف ليرة، هذه القطعة اشتريتها بألف ليرة، أنت ماذا فعلت؟ اشتريت جهداً علمياً أو فنياً أو عضلياً بهذا المبلغ، إذاً المال قيمةٌ مطلقة لكل الجهد البشري.
الهاتف يُشترى بالمال، والثلاَّجة تشترى بالمال، وأن تجلس في فندق وأنت مسافر هذا مقابل مال تدفعه، فالمال قيمة مُطلقة، ما يتموَّله الإنسان، ما يدَّخره، ما كان محبَّباً إليه، ما جعله الله قيمةً مطلقةً لكل شيء لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل.
بتعريف الفقهاء: المال ما يُنتفع به، له معنى واسع جداً؛ البيت مال، الكُرسي مال ينتفع به، كأس الماء مال، هذه المسجِّلة مال ينتفع به مباشرةً، على كلٍ إذا أُطلق المال انصرف إلى النَقْد، كهذه الورقة التي كُتِبَ عليها ألف ليرة، أو إلى الليرة الذهبيَّة، أو الفضيَّة، أو الأوراق الأخرى ـ العملات الأخرى ـ فهذا اختزال للشيء الذي ينتفع به، أو قيمةٌ مطلقةٌ لما ينتفع به، هو هذا الورق، أو هذا النقد، أو هذا الذهب، أو تلك الفضة.
 
للآية التالية عدة معانٍ:
 
قال تعالى:
﴿ وَآَتَى الْمَالَ ﴾.
آتى المال وهو يحبُّ المال، إذاً هذا الإيتاء فيه قرب إلى الله عزَّ وجل، ما دام هناك حركة معاكسة لرغبة النفس فأنت بها ترقى إلى الله عزَّ وجل، ولولا أن هناك شيئاً ممنوعاً يجب أن تمتنع عنه وأنت تحبُّه، أو أن شيئاً ينبغي أن تفعله على كرهٍ منك، لما ارتقيت إلى الله عزَّ وجل.
 
1 ـ يحب الإنسان المال فينفقه فيرتقي بإنفاقه :
 
المعنى الأول:
﴿ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾.
أي يحب المال، فأنفقه، فارتقى بإنفاقه.
 
2 ـ آتى المال أي آتى من المال ما يحب :
 
المعنى الثاني: آتى المال؛ آتى من المال ما يحبه، لم يطعم طعاماً فاسداً، أو يقدِّم شيئاً بالياً، أو يقدم شيئاً سقط من عينيه، لا، آتى المال أي آتى من المال ما يحب. النبي عليه الصلاة والسلام لقي السيدة فاطمة وهي تنظِّف ديناراً، قال: " لِمَ تفعلين هذا يا بنيتي؟ قالت: لأنني أريد أن أتصدَّق به ".
يعطي أفضل شيءٍ من ماله؛ أطيب طعامٍ، أجود ثيابٍ، حتى الصدقة فإنه يعطي العملة الجديدة. لدينا قاعدةاقتصادية أن العملة الجديدة تطرُد العملة الرديئة، فالإنسان أحياناً يدفع العملة المهترئة، أما المؤمن فعلى عكس ذلك، إن أراد أن يدفع صدقةً ينتقي الشيء الجديد منها، هذا المعنى الثاني.
 
3 ـ آتى المال وهو يحب الإيتاء :
 
المعنى الثالث:آتى المال على حبه أي؛ على حب الإيتاء، هو لماذا يؤتي المال؟ لكسب مرضاة الله عزَّ وجل. إذاً آتى المال وهو يحبه، وآتى من المال ما يحب، وآتى المال وهو يحب الإيتاء، أحد الكرماء سألتْه امرأةٌ عطاءً، فأعطاها فوق ما تتمنَّى، فعاتبه بعضهم، وقال: إنه كان يرضيها القليل، وهي لا تعرف أنك كريم، فقال: إن كان يرضيها القليل فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
﴿ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾.
على حب المال، وعلى أحب شيءٍ من المال، أو على حب الإيتاء تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل. والمال الشيء الذي يُنتفع به، وبين قوسين [العلماء فرَّقوا بين الكسب، وبين الرزق،الرزق ما انتفعت به فقط، والكسب ما كسبته، ولم تنتفع به ]، أي أن القميص الذي ترتديه هو رزق، والسرير الذي تنام عليه هو رزق، وهذه الزوجة هي رزق، وهذه الصحَّة هي رزق، أما المُدَّخرات التي في اسمك، أو في حسابك، أو في صندوقك، ولم تنتفع بها، هذا كسبٌ وليس برزقٍ، لأن الكسب تحاسبُ عليه ولم تنتفع به، بينما الرزق تحاسب عليه، وقد انتفعت به.
 
الله عزَّ وجل جعل أولى الناس بعطائك من هم حولك من الأقارب :
 
أيها الأخوة...
﴿ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾.
مَنْ أحق الناس بالعطاء؟ ذوو القُربى. حتى أن بعض الفقهاء يقول: لا تقبل زكاة مالٍ من مزكٍّ، وله أقارب محاويج، والإنسان أعلم بأهل بيته، أعلم بأقربائه، يعلمهم حقيقةً، أوراقهم مكشوفة، لا توجد مشكلة، لا يوجد احتيال، لا يوجد كذب، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام شجَّع المؤمنين على أن يتكافل بعضهم بعضاً عن طريق إعطاء الأقارب، لأن العطاء للقريب هو صدقةٌ وصلةٌ في وقتٍ واحد، وليس من الضروري أن تقول لقريبك، لأخيك، لأختك، لابنة أخيك: هذه صدقات، أو هذا من زكاة مالي.. هذا شيءٌ لا يرضي الله عزَّ وجل، فلك أن تقدم هذا المبلغ الذي هم في أمس الحاجة إليه بطريقةٍ أو بأخرى، بطريقة هديةٍ في مناسبة ولادةٍ، في مناسبة نجاح ابنٍ، في مناسبة شراء بيتٍ، في مناسبة عَقْدِ قرانٍ، من قال لك ينبغي أن تقول لهذا القريب وهو قريبك أقرب الناس إليك: هذا من زكاة مالي، الله عزَّ وجل جعل أولى الناس بعطائك من هم حولك، تعرفهم حقَّ اليقين، تعرف حاجتَهم، تعرف خفاياهم، أوراقهم مكشوفة، كل شيء تعرفه، فإن أعطيت هذا القريب جعلت المال في موقعه.
لكن هناك انحرافان في إعطاء المال: أناسٌ لا يحبون أن يعطوا أقرباءهم إطلاقاً، كل أموالهم للآخرين، هذا ابن أخيك على مشارف الزواج، هذه بنت أخيك تحتاج إلى عمليَّة جراحيَّة، ووالدها موظَّف، ودخله محدود، هي أولى الناس بهذا،يحب أن يعطي الآخرين، وهذه الحالات والله موجودة بعدد كبير، تجده شديد البخل على من يلوذ به، كثير السخاء على من لا يعرفه.
بالمقابل لا يمكن أن يعطي شيئاً من ماله لغير أقربائه، من أجل تأمين الأشياء الثانويَّة غير الأساسيَّة، من أجل أن يحُل مشكلاتهم الفرعيَّة والتحسينَّية لا الضرورية، في رمضان أُسأل مئات الأسئلة: أنه هل أعطي لابنتي لأنه ينقصها براد ـ مثلاً ـ؟ أأعطي ابنتي لأنه ينقصها تجديد غرفة ضيوفها؟ يريد أن يضع هذا المال في أقربائه، ولو كانوا غير مستحقين، هذا انحراف ثانٍ، فلا بد من الموازنة.
 
في الإسلام ضمان اجتماعي أساسه القرابة أو الموقع :
 
أيها الأخوة... أكادُ أقول: إن في الإسلام ضماناً اجتماعياً أساسه القرابة أو الموقع، الله أمرنا أن نتكفَّل جيراننا.
(( ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم به )).
[البزار والطبراني عن أنس]
هناك علاقة موقع جغرافيَّة،وهناك علاقة قرابة، فإذا تكفَّل كل واحد منا بأقربائه، إذا أكرم الله عزَّ وجل أحدنا بمالٍ وفير، وتعهَّد الشباب في أقربائه فزوجهم، هيَّأ لهم أعمالاً، هذا من أعظم الأعمال عند الله عزَّ وجل، لأنه يحقق التكافل الاجتماعي، إذاً:
﴿ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ﴾.
المساكين والفقراء كما قال علماء التفسير: الفقراء والمساكين هاتان الكلمتان، أو هذان المصطلحان إن اجتمعا تفرَّقا، وإن تفرَّقا اجتمعا، أي إذا قال الله: المساكين فقط فيعني بهذا الفقراء والمساكين، وإذا قال: الفقراء فقط فيعني الفقراء والمساكين، وإذا قال: الفقراء والمساكين، على اختلافٍ بين العلماء، بعضهم يقول: الفقير هو الذي لا يملك شيئاً، والمسكين هو الذي لا يكفيه دخله.
هناك رأي معكوس المسكين هو الذي لا يملك شيئاً، والفقير هو الذي لا يجد حاجته، على كلٍ هناك إنسان دخله أقل بكثير من حاجاته الأساسيَّة، سَمِّهِ مسكيناً أو فقيراً فلا فرق، وهناك إنسان لا يملك شيئاً، عاجز، يحتاج إلى إنفاق كامل، على كلٍ مصارف الصدقة..
﴿ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ﴾.
المنقطع في الطريق، والذي يسألك:
(( لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُُ)).
[الجامع الصغير عن السيدة عائشة].
﴿  وَفِي الرِّقَابِ ﴾.
كان زمن الفتوحات الإسلاميَّة، وإنسان أُخِذَ أسيراً، ودخل مدرسة الإسلام العملية، فأصبح مؤمناً، ينبغي أن يُعتق نفسه بمالٍ يدفعه لسيده أحياناً، قد يعتقه سيده بلا مال، بلا مقابل، على كلٍ إنفاق المال على نقل الإنسان من العبوديَّة إلى الحريَّة هذا أيضاًمما أُمرنا به.
 
إيتاء المال عبادة ماليَّة أما الصلاة فعبادة شعائريَّة :
 
لكن هناك إشارة لطيفة جداً، فحينما كُلِّفنا بعض الكفَّارات لإعتاق رقبة فقال:
﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾.
[ سورة النساء: 92 ].
أي سيأتي يوم وينتهي هذا النظام في الأرض، كان هناك نظام عبودية الأفراد، الآن يوجد نظام عبودية الشعوب بأكملها..
     
﴿ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾.
الآن:
﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾.
الصلاة حركة، الإنسان أحياناً يقول لك: أنا أتأمل بالله، ولكن التأمُّل ليس بحركة، أما الصلاة: توضَّأ وصلَّى، وقد يصلي وهو متعب، وقد يصلي وهو مسافر، فالصلاة حركة. وإيتاء المال عبادة ماليَّة، أما الصلاة عبادة شعائريَّة، في عبادة بدنية ومالية كالحج، وهناك عبادة مالية كالزكاة والصدقة، هناك عبادة شعائريَّة كالصيام والصلاة، وهناك عبادة تعامُلية كالصدق، والأمانة، والإحسان إلى الجار، والوفاء بالعهد. صار عندنا عبادة تعامليَّة، وعبادة بدنيَّة، وعبادة ماليَّة، وعبادة شعائريَّة..
﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾.
 
الفرق بين الزكاة والإنفاق أي الصدقة :
 
الآن دقِّقوا، فهذا..
﴿ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ ﴾.
إيتاء الزكاة شيءٌ لا علاقة له بالآية السابقة، هذه فرضٌ على كل غني، وللتوضيح: أنت عليك ضريبة لا بد من دفعها، وإلا توجد غرامات، يوجد جزاء، توجد مساءلة قانونية، فإذا أديت زكاة مالك أنت نجوت من العقاب فقط، هذه فرض، فرضٌ في مال الأغنياء للفقراء، الزكاة تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ إلى فقرائهم، الزكاة أيها الأخوة تؤخذ ولا تعطى، بدليل قوله تعالى:
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ  لَهُمْ ﴾.
[ سورة التوبة: 103 ].
تطهرهم؛ تطهر الغني من الشُح والفقير من الحِقد، تطهر المال من تعلُّق حق الغير به، تزكِّي الفقير، يشعر بقيمته في المجتمع، تنمو نفسه، هناك من يهتمُّ به، هناك من يرعى حاله، هناك من يساعده، هناك من يقلق له، وتزكِّي نفس الغني فيرى أثر عمله؛ ابتسامة الأطفال حينما تعطي أباهم مالاً وفيراً في أيام العيد ـ مثلاً ـ عند الحاجة، في أوقات المِحَن  فالزكاة فرضٌ واجبٌ على كل غني، بينما إنفاق المال إما على حب الله عزَّ وجل، أو حباً للمال، أو إنفاق أحب المال إليك، أو الإنفاق حباً بالإنفاق.
أربعة معانٍ: إما لأنك تحب الله أنفقت هذا المال، أو لأنك تحب المال أنفقته وأنت تحبه، وبهذا ترقى، أو لأنك أنفقت أحب المال إليك، أو لأنك أنفقت المال حباً بالإنفاق وهذا تصعيدٌ رائعٌ جداً للإنفاق، على كلٍ هذا الإنفاق لا علاقة له بالزكاة، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّ فِي الْمَالِ حَقّاً سِوَى الزَّكَاةِ )).
[الترمذي عن فاطمة بنت قبيس ].
 
الزكاة قسرية أما الصدقة فهي طوعيَّة :
 
هناك سؤال الآن: أنت أديت زكاة مالك بالتمام والكمال، ولك جار مسلم بحاجة ماسَّة إلى عمليَّة جراحيَّة،ماذا تقول له؟ أنا أديت زكاة مالي. لا.. "إِنَّ فِي الْمَالِ حَقّاً سِوَى الزَّكَاة ". وقد استنبط العلماء من قوله تعالى :
﴿ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﴾.
[ سورة المعارج: 24].
هي الزكاة: ﴿ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ ﴾.
﴿ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾.
[ سورة المعارج: 25].
من غير كلمةمعلوم، هي الصدقة، إنسان دفع الضريبة هل تقام له حفلة تكريم؟ لا أبداً عليك ضريبة للماليَّة أديتها، وأخذت إيصالاً بالوقت المناسب، فلا يقدم لك كتاب شُكر، ولا حفل تكريم، أما إذا أنشأت مستوصفاً وقدَّمته لوزارة الصحَّة، هناك إنسان قدَّم بناًء ضخماً ليكون جامعة في بعض المحافظات، واللهِ هذا يقام له حفل تكريم ويُشْكَر بكتاب شُكر، فالزكاة فرض إن أديتها نجوت من العقاب لكن الصدقة تطوُّع، الزكاة قسرية أما الصدقة فهي طوعيَّة، فلذلك جاءت كلمة " الحب " في إنفاق المال الذي تتجاوز به الزكاة المفروضة هذا دليل حبك لله عزَّ وجل، ودليل تعلُّقك بما عند الله عزَّ وجل، ومن قدَّم ماله أمامه سرَّه اللحاق به.
﴿ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ ﴾.
 
المسلم يوفي بعهده :
 
الآن أيضاً توجد حركة؛ الحركة الأولى ماليَّة، الحركة الثانية شعائريَّة ـ أقام الصلاة ـ الحركة الثالثة ماليَّة ولكنها مفروضة ـ وآتى الزكاة ـ الحركة الرابعة وَعَدَّت أن تنفق يجب أن تنفق..
((لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُـ دقِّقوا الآن ـ وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ)).
[أحمد عن أنس بن مالك ].
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾.
المسلمون عند شروطهم، والمسلم يوفي بعهده ولو كلَّفه ما كلَّفه، والمُنافق لا يفي بعهده ولو جُعلت سمعته في الوحل.
الآن هناك حركة سلبيَّة، جاءك ضغط، ضغط صحي، مرض لا سمح الله، استسلمت لله، صبرت، أو جاءتك فاقة ماليَّة، حاجة للمال شديدة ونفسك عزيزة، فصبرت، أو جاءك تهديد لتعصي الله فصبرت، أو جاءك إغراء كي تخرُج عن منهج الله فصبرت..
﴿ وَالصَّابِرِينَ ﴾.
متى؟ قال:
﴿ فِي الْبَأْسَاءِ ﴾.
في الفقر الشديد، وفي..
﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾.
في الألم الشديد..
﴿ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾.
في ساحة المعركة.
 
الآية التالية آيةٌ جامعةٌ مانعة :
 
يصبر وهو مفتقر، يقول لك: والله لا أملك ثمن أجرة طريق، هذا صبر،والآخرون ينفقون الأموال جُزافاً، هذا صبر ولصاحبه أجر كبير..
﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾.
والله أيها الأخوة هذه آيةٌ جامعةٌ مانعة، فيها جانب عَقَدِي وجانب حركي، والحركي جانب مالي أساسه الحب، وجانب شعائري، وجانب مالي أساسه الفَرض، وفيها جانب أخلاقي أساسه الوفاء بالعهد، وفيها جانب سلبي أساسه الصبر في ثلاث حالاتٍ كبيرة؛ في حالة الفقر الشديد، وفي حالة الألم الشديد، وحين البأس أي حين لقاء العدو.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾.
هؤلاء الذين صدقوا في إيمانهم، هذا مِصداق إيمانهم، هذا يؤكِّد صدقهم لله عزَّ وجل..
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾.
الذين اتقوا أن يعصوا ربَّهم،أو اتقوا سَخَطَ ربِّهم، أو اتقوا عذاب ربهم.
 
على المؤمن أن يجمع بين صحة العقيدة وانضباط السلوك :
 
أيها الأخوة... جميلٌ بالمؤمن أن يكون وقَّافاً عند حدود الله، وعند كلام الله. فهذه الآية منهج؛ يجب أن تؤمن بكذا وكذا، وأن تفعل كذا وكذا، فإن جمعت بين الإيمان والعمل، لا كما قلتُ في مطلع الدرس: الناس يركِّزون على الاعتقاد فقط، يقول لك: ـ وهذه أشياء كلها جديدة ـ فلان له أرضية إسلامية، أو خلفيَّة إسلامية، أو نزعة إسلامية، أو شعور إسلامي، أو انتماء إسلامي، لم يفعل شيئاً، سلوكه صفر؛ لا يوجد التزام، ولا يوجد عمل صالح، ولكن أفكاره، ومشاعره، وعواطفه، وأرضيته، وخلفيته، واتجاهه، ونزعته إسلاميَّة، ماذا يجدي؟! إنسان آخر يقول لك: أنا لا أؤذي أحداً، أنا عملي طيِّب، ولن أحاسب على أي شيء آخر. أيضاً هذا انحراف. يجب أن يجمع بين صحة العقيدة وانضباط السلوك، أن تجمع بين الاعتقاد الصحيح والإحسان للخلق، بل إن السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال:
﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ  ﴾
[ سورة مريم: 31 ]
الدين حركتان؛ حركة نحو الله اتصالاً، وتعبُّداً، ودُعاءً، واستسلاماً، وحركة نحو الخلق إحساناً:
﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾
[ سورة لقمان: 22 ]
أيها الأخوة... بالجانب الأخير في الآية:
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾.
هذه صفات المتقين، فكم من إنسان يعطي عهداً موثقاً ولايَفي، يُعطي وعداً دقيقاً ولا يفي بوعده، أين هو من الإيمان؟ الخطأ الكبير أن الناس توهَّموا أن كل إنسان صلَّى فهو ديِّن، أو كل إنسان دخل المسجد فهو ديِّن، لا، هذه صفات المؤمنين حقاً.
  
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب