سورة البقرة (002)
الدرس (40)
تفسير الآيات: (105 ـ 106)
لا نسخ في العقائد بل في الأحكام فقط
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق
حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الأربعين من دروس سورة البقرة .
الشارد عن الله عزَّ وجل لا يتمنَّى الخير للمؤمن بينما المؤمن يتمنَّى الخير لغيره :
مع الآية الخامسة بعد المئة ، وهي قوله تعالى :
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ﴾
أيها الأخوة الكرام ، يتضح في هذه الآية أن الشارد عن الله عزَّ وجل لا يتمنَّى الخير للمؤمن ، بينما المؤمن يتمنَّى الخير لغيره ، وذلك لأن المؤمن منضبطٌ بمنهج الله ، وقد سَمَت نفسه باتصالها بالله فصار يحب
الخير لكل الخلق ، المؤمن يتمنَّى الخير لكل الخلق حقيقةً .
في قصة سيدنا عمر مع عمير بن وهب شاهد على ذلك : " كان عمير من ألدِّ أعداء النبي أراد قتل النبي ، فلمَّا وصل إلى المدينة وقد توشَّح سيفه ، أخذه عمر وقيَّده بحمَّالة سيفه وساقه إلى النبي ، فقال : "
يا رسول الله هذا عمير جاء يريد شرَّاً " ـ والقصَّة معروفة عندكم ـ قال : " دعه يا عمر ـ أطلقه ـ اقترب مني يا عمير ، ما الذي جاء بك إلينا يا عمير ؟ " ، قال له : " جئت لأفدي ابني " ، فقال
له : " وما هذه السيف التي على عاتقك ؟ " قال : " قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر ؟ " ، قال له : " ألم تقل لصفوان : لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها ، ولولا أولاد أخشى عليهم العنت
من بعدي لذهبت وقتلت محمداً ، وأرحتكم منه ؟ " فوقف عمير وقال : " أشهد أنَّك رسول الله ، لأن هذا الذي قلتُه لصفوان لا يعلمه أحدٌ إلا الله وأنت رسوله " . وآمن .
تعليقي على القصة أن سيدنا عمر قال : " دخل عميرٌ على النبي الكريم والخنزير أحبَّ إليَّ منه ، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليَّ من بعض أولادي " ، المؤمن يتمنى الخير لكل الخلق ، وإذا كره الكافر يكره
عمله ، لا يكره ذاته بل يكره عمله ، بينما الكافر ـ كما ترون وكما تسمعون ـ لا يتمنَّى الخير للمؤمن .
لك أن تفعل الخير مع كل الناس ولكنك لا تود إلا من تحب لأن الود متعلق بالحب :
قال تعالى :
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ (105) ﴾ .
﴿من﴾ في اللغة تفيد استغراق أفراد النوع ، جُزئيات النوع ، أي لو قلت لي : ألك رغبةٌ أن تشاركني في تجارةٍ عريضة ؟ أقول لك : لا مال عندي ، ما عندي هذا المال ، تطلب مني ملايين لا مال عندي ،
أما إذا قلت لك : ما عندي من مالٍ أي ولا ليرةٍ واحدة ، ﴿من﴾ تفيد استغراق أفراد النوع :
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (105) ﴾ .
الحقيقة لك أن تصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله ، وقد ورد في الأثر :
((اصنع المعروف إلى من هو أهله ، وإلى غير أهله ، فإن أصبت أهله أصبت أهله ، وإن لم تصب أهله كنت أنت أهله )) .
[ رواه ابن النجار عن علي ] .
لك أن تفعل الخير مع كل الناس ، ولكنك لا تود إلا من تحب ، الود متعلِّق بمن تحب ، فـالمؤمن يتمنَّى الخير لكل الخلق ، بينما غير المؤمن لا يتمنى ولا يحب الخير للمؤمن مهما قَلَّ .
المؤمن يتمنى الخير لغير المؤمن وبغضه له بغضٌ لعمله لا لذاته :
قال تعالى :
﴿ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (22)﴾ .
(سورة المجادلة )
كلامي دقيق ، قلت : المؤمن يتمنى الخير لكل الخلق ، ولكن المؤمن ما يكون له أن يتودَّد لغير المؤمن . التودُّد أساسه الحب ، فإذا كان الله لا يحب الكافرين ، ولا يحب الفاسقين ، ولا يحب الظالمين فكيف تحبُّ من لا يحبُّه الله ؟ يقول الله عزَّ وجل :
﴿ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (22)﴾ .
(سورة المجادلة )
النقطة الثانية :
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ (105) ﴾ .
لا يتمنَّون الخير لكم ، ولا يحبونكم . بل إنهم لا يحبونكم في الأصل ، مع أن المؤمن يتمنى الخير لغير المؤمن ، وبغضه له بغضٌ لعمله لا لذاته ، وبمجرَّد أن يعود الشارد عن الله إلى الله يحبه المؤمن ، لمجرَّد أن يؤمن غير المؤمن يصبح له ما للمؤمنين وعليه ما على المؤمنين .
الخير لا يخضع لرغبة الخلق بل هو بيد الله يعطيه لمن يشاء باستحقاقٍ وبطلب :
هناك لفتةٌ في الآية دقيقةٌ :
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ (105) ﴾ .
الخير من الله ، لا من الغرب ولا من الشرق ، وحينما توقَّعنا الخير من الشرق خاب ظنُّنا ، وإذا توقَّعنا الخير من الغرب سيخيب ظنُّنا ، الخير من الله وحده ، هذه حقيقة .
أيها الأخوة ، الخير الذي من عند الله وحده لا يخضع لرغبة أحد ، فأنت إذا تمنيت الخير لفلان أو لم تتمن له الخير لا تمنِّيك يعطيه الخير ولا عدم تمنيك يمنع عنه الخير.
﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ .
(سورة فاطر)
أي إذا أراد الله أن يكرمك وأراد أهل الأرض مجتمعين عكس ذلك ما استطاعوا ، وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مردَّ له لو أن معك أهل الأرض جميعاً ما انتفعت بهم ، الله وحده هو الذي يعطي وهو الذي يمنع ،
هو الذي يرفع وهو الذي يخفض ، وهذا هو التوحيد ، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ، الخير لا يخضع لرغبة الخلق ، الخير بيد الله يعطيه لمن يشاء باستحقاقٍ وبطلب .
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ .
(سورة الزخرف)
وقال :
﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (105) ﴾ .
آيات من الذكر الحكيم دالة على أن الخير بيد الله يختص به من يشاء :
كلامٌ دقيقٌ أيها الأخوة ، رحمة الله من الله وحده ، والخير وهو رحمة الله يختص به من يشاء . قال تعالى في آياتٍ كثيرة :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(6) ﴾ .
( سورة المنافقون)
وقال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)﴾ .
( سورة المائدة)
وقال :
﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (105) ﴾ .
الشيء الثاني : رحمة الله لمن طلبها :
﴿ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ (218)﴾ .
( سورة البقرة)
رحمة الله لمن طلبها وقدّم موجباتها وهي محجوبة عن الكافرين والظالمين والفاسقين :
رحمة الله لمن قدَّم موجباتها ، رحمة الله محجوبةٌ عن الكافرين ، ومحجوبةٌ عن الظالمين ، ومحجوبةٌ عن الفاسقين ، ورحمة الله لمن طلبها :
﴿ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ (218)﴾ .
( سورة البقرة)
رحمة الله للمحسنين :
﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ﴾ .
( سورة الأعراف )
رحمةالله للطائعين ، رحمة الله للمُصَّلين ، رحمة الله للعابدين ، رحمة الله للمُخلصين ، رحمة الله للتائبين ، فربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (105) ﴾ .
هذه آيةٌ محكمة جاءت تفصيلاتها في آياتٍ كثيرة ، إنه لا يهدي القوم الفاسقين ولا الكافرين ولا الظالمين ، بل يُعطي رحمته لمن يطلبها ، ويعطيها لمن دفع موجباتها ، كان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الأدب وهو يقول :
((اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ )) .
[من الأذكار النوويَّة عن أم سلمة]
وقال :
﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ﴾ .
تقنين الله تقنين تأديبٍ وتربيةٍ لا تقنين عجزٍ وبخلٍ :
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي :
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر)) .
[ مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه ]
أي لو أن البشر جميعاً من لدن آدم إلى يوم القيامة ، كل هؤلاء البشر وقفوا على صعيدٍ واحد ، وسألني كل واحدٍ منكم مسألته ؛ واحد يريد خمسة أطنان من الذهب ، خذ ، ألف قصر خذ ، مليون سيارة خذ .
(( مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
[ مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه ]
إذا كان يبدو لكم أن في الأرض تقنيناً ؛ الأمطار قليلة ، المكاسب قليلة ، المطالب كثيرة ، هناك فقر ، نقص مياه ، ونقص مواد غذائيَّة ، لا يمكن أن يكون تقنين من الله عزَّ وجل إلا تقنين تأديب ، أما أن
يكون تقنين الله عزَّ وجل تقنين عجزٍ ، أو تقنين بُخْلٍ هذا لا يليق بحضرة الله عزَّ وجل :
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ .
( سورة الشورى الآية : 27 )
هذه حقيقة في التوحيد ، قرأت في مجلَّةٍ علميَّة أنه تمَّ اكتشاف سحابةٍ عن طريق مراصد تعمل بالأشعَّة تحت الحمراء ، هذه السحابةيمكن أن تملأ محيطات الأرض كلَّها ستين مرَّةً في الأربع والعشرين ساعة ، أي
أن كل أربعة وعشرين ساعة هذه السحابة فيها مخزون من الماء ما يملأ محيطات الأرض مجتمعةً ستين مرَّة في اليوم :
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) ﴾
( سورة الحجر )
اعتقد هذا ، تقنين الله تقنين تأديبٍ وتربيةٍ لا تقنين عجزٍ وبخلٍ ، إذاً :
﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ﴾ .
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر)) .
[ مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه ]
لهذا الحديث روايات عدَّة : ذلك لأن عطائي كلام ـ كن فيكون ـ وأخذي كلام ، أخطر ما في الحديث :
(( فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزّ َوَجَلّ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))
[ رواه مسلم عن أبي ذر ]
الله عزَّ وجل أجلّ وأعظم من أن يكلك إلى مخلوقٍ مثلك فالأمر كله بيده وحده سبحانه :
أيها الأخوة الكرام الآية أصبحت :
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ (105) ﴾ .
المؤمن يتمنى الخير لكل الخلق ، وإيمانه يقيِّده عن أن يفتك بأحد :
(( إِنَّ الْإِيمَانَ قَيْدُ الْفَتْكِ ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ )) .
[مسند أحمد عن ابن الزبير]
لا يحب غير المؤمن الخير مهما كان قليلاً للمؤمنين ، وهم يفتكون بهم ـ كما ترون ـ هذه حقيقة ، لكن رحمة الله لا يمكن أن تكون بمشيئة أحد من خلقه ، أي أن الله عزَّ وجل أجل وأعظم من أن يكلك إلى
مخلوقٍ مثلك ، ولو أنه وكلك إلى مخلوقٍ مثلك كيف يأمرك أن تعبده ؟ قال تعالى :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾ .
( سورة هود الآية : 123 )
ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كلَّه بيده .
من الشرك أن تعقد الآمال على غير الله أو أن تتوجه إلى غيره :
قال تعالى :
﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (105) ﴾ .
رحمته تابعةٌ لمشيئته ، والخير من الله وحده ، لا يوجد خير في الأرض إلا من الله ، وكل مسلم يعقد الآمال على غير الله سيخيب ظنُّه ، وكل مسلم يتوجَّه إلى غير الله لينال منه الخير سيخيب ظنه ، وهذا نوعٌ من الشرك :
﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (105) ﴾ .
هذه المشيئة مفصَّلة في آيات أخرى ، رحمة الله عزَّ وجل محجوبةٌ عن الفاسقين ، محجوبةٌ عن الكافرين ، محجوبةٌ عن الظالمين ، محجوبةٌ عن المتكبِّرين ، محجوبةٌ عن المشركين ، لمن هي مبذولة ؟ لمن يطلبها ، لمن
يقدِّم موجباتها ، لمن يكون صادقاً ، لمن يكون مخلصاً ، لمن يكون تائباً ، لمن يكون متطهِّراً .
﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ﴾ .
النسخ في اللغة أن تنقُل النص لنسخةٍ ثانية وهذا المعنى ليس مطلوباً في هذه الآية :
أيها الأخوة ، الآية التي بعدها :
﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)﴾ .
النسخ في اللغة أن تنقُل النص لنسخةٍ ثانية ، استنسخت هذا الكتاب أي كتبت نسخةً ثانيةً عنه ، هذا المعنى الأول ، هذا المعنى هنا غير وارد :
﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(29) ﴾
( سورة الجاثية)
نستنسخ أي كل أعمالكم مسطَّرة عندنا :
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ﴾
( سورة إبراهيم )
الاستنساخ بمعنى أن كل أعمال الإنسان محفوظةٌ عند الله عزَّ وجل ، سوف تُعرض عليه يوم القيامة عرضاً تفصيلياً :
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً(14) ﴾ .
( سورة الإسراء)
سمعت أن أحدث وسائل التحقيق مع المتهم توفيراً للوقت وإقامةً للحُجَّة أن تعرض عليه فيلماً يصوِّر انحرافه وجريمته ، يسكت ، هل كنت في هذا الطريق مخالفاً لنظام السير ؟ لا لم أكن ، خذ هذه الصورة ،
الصورة مسكتة ، هذه صورة مركبتك ، وهذا رقمها ، وهذا التاريخ ، فربنا عزَّ وجل يعرض على الإنسان كتاب أعماله .
آيات من القرآن عن كل صغيرة وكبيرة تعرض على الإنسان في كتاب أعماله يوم القيامة :
قال تعالى :
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً(14) ﴾ .
( سورة الإسراء)
وقال :
﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ (49) ﴾ .
( سورة الكهف)
كتاب الأعمال :
﴿ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً (49) ﴾ .
( سورة الكهف)
يوجد في بعضالبلاد المتقدِّمة صفحة بالكمبيوتر لكل مواطن ، تسجَّل عليه مخالفة السير ، ويسجل عليه تخلفه عن دفع دين ، شيء محيِّر ، فكل حركاته ، وسكناته ، وأعماله ، ومخالفاته مسجَّلة عليه ، إذا أراد
أن يسافر لا يسافر حتى يسدد ، إن أراد أن يبحث عن وظيفة عليه أن يسدِّد ، صار عند الإنسان بحكم التقدُّم التكنولوجي ـ إن صحَّ التعبير ـ تسجيل لكل شيء . فكيف بالواحد الديَّان ؟!!
لا تكن وعاءً للعلم بل كن واعياً له فهناك فرق كبير بينهما :
قال تعالى :
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً(14) ﴾ .
( سورة الإسراء)
وقال :
﴿ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً (49) ﴾ .
( سورة الكهف)
الاستنساخ أي أخذ صورة عن كتاب ، كتابة نسخة ثانية . هذا المعنى ليس مطلوباً في هذه الآية .
قيل للإمام الغزالي رحمه الله تعالى : إن فلاناً حفظ كتاب الأم ـ كتاب دقيق جداً بالفقه ـ تبسَّم الإمام الغزالي وقال : " زادت نسخة " ، كونوا للعلم وعاةً ، لا تكن وعاءً للعلم بل كن واعياً له ، فرقٌ
كبير بين أن تكون واعياً وبين أن تكون وعاءً ، إذا كنت وعاءً زادت نسخة ، والنسخة الأصلية أدق منك بكثير ، إذا حفظت الكتاب بصماً فالكتاب الأصلي أدق منك ولكن المطلوب أن تكون واعياً
أحكامه ، وعلى كلٍ هذه المعاني ليست مطلوبةً في هذه الآية .
النسخ بالمعنى الثاني إلغاء الحكم ، ضوء الشمس ينسخ الظلام ، ألغى الظلام ، الظلام ينسخ ضوء الشمس ، الإلغاء ، آيةٌ منسوخة أي توقَّف حُكمها .
بادئ ذي بدء اعترض اليهود على المسلمين كيف أن القبلة تحوَّلت من مكَّة إلى بيت المقدس ، ثم رجعت إلى مكَّة ، ما هذا التبديل ؟!!
الاختلاف بين الناس على أنواعٍ ثلاثة :
بالمناسبة هناك موضوع دقيق جداً هو أن الاختلاف بين الناس على أنواعٍ ثلاثة :
1ـ اختلافٌ طبيعي وهو لا محمود ولا مبغوض :
اختلافٌ طبيعي سببه نقص المعلومات :
﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا (19)﴾ .
( سورة يونس)
وقال :
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (213) ﴾ .
( سورة البقرة)
هذا الخلاف طبيعي لا يُمدح ولا يُذَم ، خلاف نقص المعلومات حلُّه المعلومات ، فنحن بيوم وقفة سمعنا صوت مدفع ، نتساءل : هل هو صوت مدفع أم هو تدمير بالجبل ؟ طريق فيه صخرة ففجَّروها أم مدفع
العيد ؟ وقعنا في اختلاف ، اختلفنا ، سمعنا في الأخبار أن غداً العيد ، هذا الخبر الصادق حسم الخلاف :
﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا (19)﴾ .
( سورة يونس)
وقال :
﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (213) ﴾ .
( سورة البقرة)
بهذه البعثة ـ ببعثة النبيين ـ حُسِمَ الخلاف .
2ـ اختلاف الحسد والبغي وهو اختلاف مبغوض :
الآن بعد أن جاء النبيون وأُنزلت عليهم الكتب اختلف الناس ، هذا اختلاف قذر ، اختلاف الحسد والبغي :
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ (19)﴾ .
( سورة آل عمران)
دقِّق . قد نختلف لنقص المعلومات ونحن صادقون ، ونحن مخلصون ، ونحن أحباب ، لكننا اختلفنا في هذا الموضوع لنقصٍ في معلوماتنا ، ولكن قد نختلف ونحن آثمون ، ونحن بعيدون عن الله عزَّ وجل ، قد
نختلف بسبب الحسـد ، والبغي ، وجلب المكاسب ، وتحطيم الخصوم ، هذا اختلافٌ قذر لا يحبه الله عزَّ وجل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (159) ﴾ .
( سورة الأنعام )
هذا دليل عدم الإخلاص ، حينما تختلف مع أخيك والكتاب واحد ، والسُنَّة واحدة ، والمنهج واحد ، والإله واحد فهذا اختلاف بغيٍ وعدوانٍ وحسد ، وهذا خلافٌ يبغضه الله عزَّ وجل ، قال تعالى :
﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ (213) ﴾ .
( سورة البقرة )
3ـ اختلاف التنافُس وهو خلاف محمود :
الخلاف الثالث خلاف محمود ، خلاف التنافُس ، هذا يعتقد أن أفضل شيء تعليم العلم ، هذا يعتقد أن أفضل شيء تأليف الكتب ، هذا يعتقد أن أفضل شيء الدعوة إلى الله ، هذا يعتقد أن أفضل شيء بناء
المساجد ، هذا اختلاف محمود ، قال تعالى :