سورة القصص 028 - الدرس (2): تفسير الأيات (08 – 15)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (2): تفسير الأيات (08 – 15)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 008 - 015)

20/12/2011 17:24:00

 
سورة القصص (028)
 
الدّرس: (2)
 
تفسير الآيات: (8 ـ 15)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني من سورة القصص ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
﴿فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾
(القصص  )
 
 القصّة للاستنباط والعبر :
 
قلت لكم في الدرس الماضي : إن القصة إذا وردت في القرآن الكريم فالمقصود منها المغزى أو الاستنباط ، وكل قصةٍ في القرآن الكريم فيها من الحقائق والاستنباطات والمغازي ما تُضيء لنا طريق حياتنا نحن ، لو لم تكن هذه القصة تضيء لنا الطريق طريق الله عزّ وجل لما كان لها من معنى أن تَرِد في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة ، وقد انقضت ، ومات كل أبطالها ، على كلٍ نعود إلى متابعة القصة مع محاولةٍ متواضعة لاستنباط بعض الحقائق .
 
 من العناية الربانيّة بموسى عليه السّلام :
 
 
﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
(القصص )
يُستنبط أن فرعون هذا المعنيَّ بهذه القصة لم يكن له ولدٌ ، وذلك من قوله تعالى :
 
﴿لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
1 – لم يكن لفرعون ولد :
ولكن فرعون أعطى أمراً مشدداً بقتل كل أطفال بني إسرائيل الذُكور ، فكيف نَجَا هذا الغلام مِن القتل ؟ ما الذي حصل ؟
 
﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ﴾
2 – إلقاء محبة موسى في قلب مَن رآه :
أيْ أنَّ الله عزّ وجل ألقى محبته في قلب امرأةِ فرعون ، أحياناً ربنا سبحانه وتعالى يردُّ على تدبيرٍ عظيم بتصرفٍ صغير ، ما الذي نجىَّ النبي عليه الصلاة والسلام من القتل في غار حِراء ؟ عنكبوت ، هذا من آيات الله الدالَّة على عظمته ، لو أن جيشاً كبيراً مدججاً بالسلاح والعتاد هاجم جهةً ما ، ورّدت هذه الجهةُ عليه بجيشٍ آخر ، ودارت معركةٌ طاحنةٌ ، ومات فيها آلاف القتلى ، وأُصيب آلاف الجرْحى ، وأسفرت هذه المعركة عن انتصار الجيش المُدافع ، فإن هذا نصر ، ولكن الله أحياناً يرسل رياحاً عاتية تقلب القدور الله وتقتلع الخِيام الله وربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ﴾
(سورة الأحزاب)
أيْ أن من دلائل عظمة الله عزّ وجل أنه يرد على التدبير العظيم والكيد الكبير بشيءٍ لا يُرى بالعين ، أيْ أن هذا الطفل الذي سيقضي على مُلك فرعون ما سلاحه الشديد ؟ سلاحه عاطفي ، ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى ألقى محبته في قلب امرأة فرعون ، ماذا يُستنبط ؟ يستنبط أنك في تعامُلك مع أي إنسان إما أن يلقي الله محبتك في قلبه ، فإذا هو في خدمتك ، وإما أن يلقي الله في قلبه بغضك ، فإذا هو عدو شرس ، ويؤكد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْأَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)) .
(سنن الترمذي عن أنس)
فأنت في تعاملك مع الناس ؛ إذا أراد الله أن يُكرمك ، وأن يرحمك ألقى حبَّك في قلب الآخرين ، ألقى حبك في قلب شخصٍ لا تعرفه ، تلتقي به لأول مرة ، فإذا هو يتمنَّى أن يقدِّم لك كل شيء ، وإذا أراد الله أن يؤدِّب إنساناً ألقى بغضه في قلب مَن حوله ، فإذا هم يضيِّقون عليه ، إذاً : القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن ، تدبيرٌ عظيم ، فرعون جهَّز جيشاً من القابلات كي تتبع كل قابلةٍ المرأة التي ستلدُ غلاماً ذكراً ، ويجب أن تخبر عنه مسبقاً ، وأن تتابع تطورات الحمل إلى أن يوضع ، فتأخذه القابلة ، فَيُلقى ، أو يذبح ، أو يقتل بشكلٍ أو بآخر ، هذا الإجراء العظيم ، وهذا التدبير الكائد ، كلُّ هذا أخفق مقابل ميل قلب امرأة فرعون إلى هذا الطفل الجديد ، كل كيد قريش باء بالفشل حينما جاءت حمامةٌ على باب غار ثور ، حينما نسج العنكبوت بعض الخيوط ، أي أنّ جيشاً عظيماً ، ومطاردةً هائلة ، وتدبيراً كائداً أُلغي بعنكبوت نسجت بيتها على فوهة غار ثور ، وانتهى الأمر ، ماذا يعني هذا ؟ يعني أن الله عزّ وجل حينما يريد أن ينصرك على خصمك ، حينما يريد أن يكرمك بشيءٍ لا يُرى بالعين يلقي حبك في قلب الناس ، وذلك معنى قوله تعالى :
 
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾
(سورة طه)
3 – الجمالُ الخُلُقي لموسى :
أيْ إذا ألقى الله محبتك في قلوب الخلق أصبح الخلق كلُّهم في خدمتك وفي طاعتك ، أحياناً الزوج المؤمن ، الصادق ، المنيب ، المخلص ، الذي يقفُ عند حدود الله ، يُلقي هيبته في قلب زوجته ، وأحياناً حينما يعصي ، حينما ينحرف ، ويتجاوز حدود الله عزّ وجل تُنْزَع هذه الهيبة من قلب زوجته ، فإذا هي تخاصِمه ، فإذا هي تُنَاجزه ، وإذا هي ترد عليه بكلمات أقسى ، فأين الهيبة ؟ ضاعت الهيبة ، إذاً قلب الزوجة بين أصبعين من أصابع الله عزَّ وجل يقلبه كيف يشاء ، قال الإمام الشعراني رحمه الله تعالى : " إنني أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي " ، وهذا الأمر صحيح  ، لأن قلب الزوجة بيدِ الله عزّ وجل ، ربنا عزّ وجل يقول :
 
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾
( سورة الأنبياء : الآية 90)
أحياناً قلب الشريك في التجارة أو غيرها ينفتح لك مادمت معه صادقاً ، مخلصاً ، وقّافاً عند كتاب الله ، فيلقي محبتك في قلب شريكك ، فتأخذ المودة والمحبة طريقها إلى قلب الشريكين ، فإذا هما متماسكان ، متعاونان ، فهذه لقطة ، ولك أن تقيس عليها آلاف الحالات ..
 
﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾
أيْ أنّ الله عزّ وجل كسا هذا الصبي الصغير من الجمال ، والجلال ، والبهاء ،  والبريق ما جعل قلب امرأة فرعون يذوب حباً لهذا الغلام ، إذاً كل تدبير فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل لئلا يقضوا على ملكه تلاشى ، هذا الذي سيقضي على ملكه اقتحم عليه قصره ، ودخل إلى عُقْرِ داره ، وهو بين الأحضان يدلل ، ويكرَّم ، ويُعتنى به ، لذلك قال الله تعالى :
 
﴿فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾
( سورة القصص )
 
 عندما تكون مستقيما تصيبك العناية الإلهية :
 
البطولة أن تكون على المنهج ، لأنك إن لم تكن على المنهج الصحيح فإنَّ أقرب الناس إليك يقضي عليك ، أقرب الناس إليك يتنكَّر لك ، لأن كل من حولك بيدِ الله عزَّ وجل ، فلذلك الإنسان العاقل لا ينجيه من الله إلا أن يكون مع الله ، لا ينجيه من الله إلا أن يكون وقَّافاً عند أمر الله ، أما ذكاؤه ، حيلته ، خبرته ، قوته ، جَمعه ، هذا كله لا قيمة له عند الله عزّ وجل ، لأنه يؤتى الحذِرُ من مأمنه ، وعلى نفسها جَنَتْ براقش ، وإذا أراد الله إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لبٍ لبَّه ، فأنا أريد من هذه اللُقطة ، أو من هذه الآية الصغيرة أن تعرفوا أن قلوب الخلقِ كلّها بيدِ الله عزّ وجل ، فإذا أراد الله أن يُكرمك ألقى حبك في قلوبهم ، وإذا أراد أن يؤدِّبك ألقى البغض والشك في قلوبهم ، فإذا هم يتنكَّرون لك ، والقصص التي تسمعونها من أقربائكم وأصدقائكم كثيرة .
هناك مشكلة ، أحدهم قال له الموظف : أنت امش ، ولم يدقق ، بينما دقق مع غيره ، فلماذا دقق مع فلان ، وخلق له مشكلة ، وتساهل مع فلان ؟ لو سألت هذا الموظف يقول لك : والله لا أدري ، هكذا ألهمني الله ، أي أنك دائماً في علاقاتك مع الآخرين يلهم الله عزّ وجل من حولك بإكرامك أو بتأديبك ، فالبطولة أن تكون معه ، البطولة أن تكون وقَّافاً عند أمره ، البطولة أن تكون معتمداً عليه ، البطولة أن تتّكِلَ عليه ، البطولة ألا تشرك به شيئاً .
أطع أمرنا نرفع لأجلك حُجبنا      فإنا منحنا بالرضى من أحبنا
و لُذ بحمانا واحتم بجنابنــا      لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
***
 
﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
        إنّ هذا الطفل الذي التقطوه ، والذي ربُّوه ، وأكرموه سيُنهي ملكهم ، وهم لا يشعرون ، لذلك الدُعاء الذي يدعو به بعض خطباء المساجد على الأعداء : " اللهم اجعل تدميرَهم في تدبيرِهم " ، ليس هذا ببعيد ، أيْ أنّ الكافر أحيانا يدبِّر فيكون تدميره في هذا التدبير ، لأن الله عزّ وجل مع المؤمنين دائماً .
 
﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ﴾
 
من النكت والطائف القرآنية :
 
1 – امرأة فرعون :
لكنَّ امرأة فرعون من النسوة اللاتي كَمُلَن ، بنص حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام :
(( كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ )) .                                
[صحيح البخاري عَنْ أَبِي مُوسَىِ]
هؤلاء النسوة اللاتي كملن ، لذلك ماذا قالت امرأة فرعون ؟
 
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
( سورة التحريم )
 
معنى قوله : وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً
 
استنبط بعض العلماء أن على المرأة المؤمنة أن تصبر على زوجها المقصِّر ، أو على زوجها العاصي ، أو على زوجها المنحرف ، أي أن هذه المرأة التي تقول : أنا لا أريده ، ضقت ذرعاً به ، هذه لم تقتدِ بآسية امرأة فرعون :
 
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾
(سورة القصص : آية " 10)
المعنى الأول :
فسر العلماء هذه الآية تفسيراتٍ عدة : أحياناً يكون قلبُ الإنسان ممتلئاً بهمومٍ كثيرة جداً ، أحياناً يكون مهتماً لابنه ولزوجته المريضة ، ولشريكه المسافر ، وللبضاعة التي لم تُبَع معه ، عنده مجموعه هموم ، أحياناً تأتي مشكلة خطيرة جداً تتبدَّد معها كل هذه الهموم ، يصبح القلب فارغاً إلا من هذا الموضوع ، نعم هذا يحدث ، أيْ أنّ الإنسان في الأحوال العادية له هموم كثيرة ، أحياناً من جهة صحته يساوره شيء من القلق ، من جهة أولاده يلازمه خوفٌ من عدم النجاح ، من جهة زوجته يوجد شعور بعدم الرضى ، من جهة عمله يقول لك : الأسواق فيها كساد ، من جهة أقربائه هناك خصومة ، فإذا أراد أن ينام تتبدَّد هذه الهموم همًّا هَمًّا ، من جهة كذا ، ومن جهة كذا ، لكن لا سمح الله ولا قدَّر ؛ لو أصابه مرضٌ عُضال وجاء التحليل بأن هناك مرضاً عُضالاً خطيراً فإنّ همَّ الزوجة ، وهمّ الولد ، وهمّ الشريك تتلاشى ، ويصبح فؤاد هذا الإنسان فارغاً إلا من هذا الهم ، نعوذ بالله من هذا الهم ، العوام يتوسلون إلى الله عزّ وجل أن يجيرهم من ساعة الغفلة ، وبعضهم يقول : هي ساعة الغفلة عن الله عزّ وجل ، الغافل يقتحم الأخطار ، الغافل يقع في المعاصي ، الغافل يقع في الشِرك ، الغافل يقع في الكفر ، فيأتي التأديب فجأةً من دون إنذار ،
 
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾
        هذا هو المعنى الأول .
المعنى الثاني :
        يتراءى من قول ربنا عزّ وجل لأم موسى :
 
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾
(القصص : آية 7 )
من القتل ..
 
﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾
         لا تخافي ، ولا تحزني ، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى أمِّ موسى ألا تخاف ولا تحزن ، إذاً فلا مانع من أن يصبح قلبها فارغاً من الخوف والحزن ، هذا هو المعنى الآخر ، لكن لقد أصبح قلبها فارغاً من الهم ومن الحزن ..
 
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾
( القصص : من الآية 10)
المعنى الثالث :
          أنها حينما ألقت به في اليَمِّ جاءتها الهواجس ، وجاءتها الأحزان ، وجاءتها الهموم ، فخافت أن يغرق ، وخافت أن يُقتل ، وخافت ، وخافت ، ففرغ قلبها من العقل ، فلا عقل ، ولا ذرة عقل ، أي أصبح فارغاً ، أي أصبح قلبها فارغاً من الأمن ، فارغاً من تطمين الله لها ، جاءتها الهواجس ، جاءتها الهموم والمخاوف والأحزان ، هذا هو المعنى الثالث ..
 
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّمُوسَى فَارِغاً﴾
       يقولون : ما من شيءٍ في الأرض أقدس من قلبُ الأُم ، وقد قلت لكم سابقًا : إن قلب الأُم طَبْع ، بينما محبة الابن لأمه تكليف ، أي أن المحبة والبر والإكرام تكليف ، والنبي الكريم e نهى عن أن يُفَرَّقُ بين الشاة وبين ابنتها ، ما قولكم ؟ هذا على مستوى الحيوانات ، لا يجوز أن يُفرق بين الأُم وبين وليدها ، فما قولك إذا كان هذا على مستوى الإنسان ؟ إذا كان الذي يفرِّق بين الشاة وبين وليدها قد وقع في معصيةٍ صريحةٍ بنص حديث رسول الله e ، فكيف بالذي يفرق بين الأم وابنها ؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام :
         (( مَنْ فَرَّقَ فليس منا )) .
[الجامع الصغير عن معقل بن يسار بسند ضعيف]
        عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ :
         (( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَبَيْنَ الْأَخِ وَبَيْنَ أَخِيهِ )) .
[ابن ماجه]
         وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
        (( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) .
 [سنن الترمذي]
هذا الذي يفرِّق بين الأحبة ليس من أمة النبي عليه الصلاة والسلام ..
 
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾
 
كيف تدفع الشّهوة ؟ 
 
إن الشهوات لو رمزنا لها بوزن خمسة كيلو في ميزان ، ولو رمزنا إلى قوة الإيمان بوزن عشرة غرامات ، فإيمانٌ مقداره عشرة غرامات لا يقف في وجه الشهوات ، إذا سمع الإنسان خطبة ، أو قرأ كتابًا ، أو سمع محاضرة في الدين أعجبته ، فهذه عشرة غرامات مثلاً ، الشهوات خمسة كيلو ، فإلى أن تُصْبح كفة الإيمان في مستوى وزن الشهوات ، وإلى أن يتحرك الميزان فستكون أنت في صراع ، أنت في مرتبة مدافعة التدني ، ولكن إذا قوي الإيمان ، وأصبح وزنه مئة كيلو ، والشهوات خمسة كيلو ، عندئذٍ لا تستطيع الشهوة أن يكون لها إلى قلبك سبيلٌ ، هذا نوع .
النبي عليه الصلاة والسلام وُصِف بأنه على خُلقٍ عظيم ، لكنَّ أخلاق المؤمنين بين أخذٍ ورد ، بين شدٍ وإرخاء ، في صراع ، أي أن أحداً إذا تكلم معك كلمةً قاسية تقول : أأردّ عليه ؟ لا ، لن أردَّ عليه ، السكوت أفضل ، أنت في حالة صراع ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام بلغ مرتبةً في قوة الإيمان ، وفي سموِّ الخلق أنه أصبح متمكناً من أخلاقه ..
 
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
(سورة القلم)
 
معنى : إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ
 
المعنى الأول :
      ففؤاد أم موسى أصبح فارغاً ، ما معنى أنه فارغ ؟
 
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾
     قال بعض المفسرين : " عندما ألقته في اليَمّ كادت تصيح : وا ابناه ، وا ابناه ، ماذا فعلت بنفسي ؟ " .
 
﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾
      أي كادت تصيح .
المعنى الثاني :
      وبعضهم قال : " حينما رُدّ إليها ابنها ، ووضعته على ثديها ، وأرضعته كادت تقول : هذا ابني من شدة الفرح " .
المعنى الثالث :
     وبعضهم قال : " حينما سمعت من الناس أنَّ في قصر فرعون غلاماً عزيزاً على فرعون اسمه موسى بن فرعون كادت تقول لهم : لا ، هذا ابني " .
وحينما قال الله تعالى :
 
﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾
(القصص)
         كادت أن تقول للناس : إن ابني سوف يرجِعُ إليّ ، وفي كل هذه الحالات لو تكلَّمت لانتهت ، ولكن الله سبحانه وتعالى سلَّم ، قال عزوجل :
 
﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾
(القصص)
 
لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا
 
       أي ثبتناها بالصبر ، ثبَّتناها بالإيمان ، ثبتناها بالعصمة ، ألهمناها الصبر ، لذلك :
 
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾
(سورة النحل : الآية 127)
 سيدنا عمر كان يقول حينما تصبيه المصيبة: <<الحمد لله ثلاثاً ، الحمد لله إذ لم تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذ أُلْهِمْتُ الصبر عليها >> .
أيْ أن الإنسان إذا أصابته مصيبة ، وصبر فليشكر الله عزّ وجل على أن الله سبحانه مكَّنه من الصبر ، وأعانه على الصبر ، لقول الله عزّ وجل :
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾
(سورة النحل)
إذاً ..
 
﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
(القصص)
 
لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
 
بوعدنا .
         إن درجة الإيمان تحدد درجة التصديق ، والإيمان في بعض تعاريفه تصديقٌ وإقبال ، والكفرُ تكذيبٌ وإعراض ..
 
﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
من المؤمنين ، أيْ من المصدقين بوعد الله ووعيده ، والحقيقة أن بعضهم يقول لك أحياناً : فلان مؤمن ، ثم تجده يفعل بعض المعاصي ، وهو يقرأُ كل يوم أن هذه المعاصي سوف يعاقبُ الله عليها ، إذاً هو كأنه ليس مصدقاً ، وهذا ينقلنا إلى موضوع دقيق :
 
التكذيب اللفظي والتكذيب العملي :
 
هناك تكذيبٌ لفظيٌ ، وهناك تكذيبٌ عملي ، والتكذيب العملي أخطر بكثير من التكذيب اللفظي ، أي أن الطبيب إذا وصف لك دواء ، وأنت شكرته بلسانٍ ذَرِب ، وقولٍ بليغ ، ولم تشترِ الدواء ، فإن عدم شرائك الدواء دليل أنَّك لم تصدِّق هذا الطبيب ، فحينما لا يطبِّق الإنسانُ القول فهذا أحد أنواع التكذيب ، وهو لا يدري ، وما من واحدٍ في العالم الإسلامي بإمكانه أن يصرِّح بأنه غير مؤمنٍ بالآخرة ، هذا الطرح ليس وارداً ، ولكن هذا الذي لا يعمل للآخرة هو أحد أنواع المكذبين بها قطعاً ، هذا الذي يعمل للدنيا فقط ، هذا الذي تربَّعتْ الدنيا على عرش قلبه ، هذا الذي كانت الدنيا أكبر همِّه ومبلغ علمه ، هذا الذي زهد بالآخرة لو قال : أنا مؤمن بالآخرة فهو في الحقيقة مكذب ، لأن عمله يكذب دعواه ، إذاً ..
 
﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
فأنت حينما ترى إنساناً يأكل الربا ماذا تعتقد ؟ لاشك أنك ترى أنه عاصٍ ، وقد يقول قائلٌ من ضِعاف المؤمنين : هنيئاً له ، مالُه وفير ، هذا هو التكذيب ، إنَّك تكذِّب القرآن ، وأنت لا يدري ، يقول ربنا عزّ وجل :
 
﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
(سورة البقرة : من الآية 279)
فهل أنت مصدق أن الله عزّ وجل لابدّ من أن يمحق ماله ؟ يقول لك : والله يا أخي حالته المادية جيدة ، معَ أن دخله حرام ، فالبطولة أن تكون من المؤمنين المصِّدقين بوعد الله ووعيده ، وأنت هل تشعر أن كلَّ إنسان انحرف لابدّ له من عقابٍ في الدنيا أو في الآخرة ؟ هذا اليقين هو الذي يُلْجِمَك عن معاصي الله عزّ وجل ..
 
مبدأ الأخذِ بالأسباب كما جاء في قصة القصص : وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ
 
 
﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾
(القصص : من الآية 11)
أي تتبعي أمره ، يبدو أنها حينما ألقته في اليَم ، وشاطئ النيل بعضه خارج حديقة قصر فرعون ، وبعضه داخل حديقة قصر فرعون ، فلما ألقت أُم موسى طفلها في التابوت ألقته في اليم قالت لأخته : تتبعي هذا التابوت ، تتبعي مسيره ، هذه بعض التأويلات ، فتتبعت مسيره حتى وصل ، أو ساقه الله عزّ وجل إلى مكانٍ فيه شجرةٌ قريبةٌ من اليم ، فهذا التابوت وقف عندها ، وكان هذا على مرأى مِن امرأةِ فرعون .
هناك تفسيرٌ آخر : طبعاً أخذ فرعون الغُلام ، وطلبت امرأته منه ألا يُقتل ، وأحبَّته حباً شديداً ، وقالت له :
 
﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾
(القصص : من الآية 9)
طفلٌ رضيعٌ جائع صار يبكي ، جاءوا له بمرضعٍ فلم يرضع ، ثم بمرضعٍ ثانيةٍ ، وثالثةٍ ، ورابعة فلم يرضع ، لذلك أمر جنودَه أن يبحثوا له عن مرضعٍ في المدينة ، فأخته تتبعت الأخبار ، وهذا تفسير آخر ..
 
﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾
(القصص : الآية 11)
تتبعي أخباره ..
 
﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
 
الذكاء في تتبع الأثر : المراقبة عن بُعْد :
 
رأتهم في حالة ارتباك يبحثون له عن مرضع ، وهم لا يشعرون .
الآن تدبير آخر من تدابير الله عزّ وجل ..
 
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾
(القصص : الآية 12)
 
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ
 
التحريم الكوني : المنع :
العلماء قالوا : " هذا تحريم منعٍ لا تحريم شرعٍ " .
هذا الطفل الصغير بحاجة ماسة إلى حليب ، ومع ذلك كلَّما التقم ثدي امرأة مرضعٍ عافه وأبى أن يشرب منه ، وبقي يبكي .
 إذاً : كل شيء بيد الله عزّ وجل ، الطفل بيدِ الله ، وحركة الماء بيدِ الله ، وقلب امرأة فرعون بيدِ الله ، وفرعون بيدِ الله، فإذا كان الله معك فمن عليك ؟ قال سيدنا هود :
 
 
  ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
أول شيء : قلب امرأة فرعون ، بل أول شيء : أن الله عزّ وجل ألقى على هذا الغلام مسحة جمال ، ومسحة جلال ، ومسحة بهاء ، أحياناً تدخل إلى صف فيه خمسون طالباً ، طالب واحد يَلْفِت النظر ، وأنت لا تعرف ما السر ، هذا الطفل جذبك إليه ، الله عزّ وجل له أسرار ، أحياناً يضع سره في بعض خلقه ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه :
           (( ما أخلص عبدٌ لله عزّ وجل إلا جعل قلوب المؤمنين تنهال إليه بالمودة والرحمة)) .
[ورد في الأثر]
أيْ يجعل سراً ، أحياناً تقول كلاماً يقوله كلُّ الناس ، ويكون لكلامك أنت تأثير عجيب ، ما سر هذا التأثير في هذا الطفل ؟ الله يعلم ذلك ، لكن يمكن أن نستنبط أن الإخلاص والتطبيق يسهمان في قوة التأثير ، على كلٍ ..
 
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾
(القصص : الآية 12)
هذا التحريم تحريم منع لا تحريم شرع .
والشيء الآخر :
 
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾
(القصص : الآية 7)
هذا وحـي إلهام لا وحي رسالة ، وهناك وهي ثالث : وحي غريزة ..
 
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾
(سورة النحل : الآية 68)
فالكلمات في القرآن تأخذ معاني عدة ..
 
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾
(القصص : الآية 12)
أي من قبل أن تأتي أمَّه ، فقالت أخته للجنود القلقين ، الباحثين عن مرضع لهذا الغلام بأمر فرعون :
 
﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾
(القصص : الآية 12)
 
أمارات رجوع موسى إلى أمه :
 
قالوا مَن ؟ قالت : أمي ..
 
﴿وَهُمْ لَهُ َاصِحُونَ ﴾
عندما قالت : وهم له ناصحون شكّوا في أمرها ، كيف عرفتِ أنهم له ناصحون ؟ قالت : أيْ هم للملِك ناصحون ، وليس للغلام ، هي ارتبكت من شدة لهفتها أن يعود أخوها إلى أمه فقالت :
 
﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾
من شدة ولهها ورغبتها في أن يعود هذا الطفل الصغير إلى أمه تكلَّمت كلمات زائدة فشكّوا في أمرها ، قالوا : ومن أدراكِ أنهم له ناصحون ؟ قالت : أردت أنهم أهل بيتٍ ناصحون للملك في أمر هذا الغلام الذي يَحْرص على إرضاعه ، عندئذٍ تمَّ هذا الأمر على هذه الطريقة ..
 
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ﴾
(القصص : الآية 13)
 
رجوع موسى إلى أمه :
 
جيء بأم موسى إلى قصر فرعون ، وعلى مرأى من فرعون كما تروي الكتب أُعطي هذا الطفل ثدي أُمِّ موسى فالتقمه بشغف ، فشكَّ فرعون في الأمر فقال : لماذا قَبِل ثديك ، ولم يقبل أي ثديٍ آخر ؟ قالت : إنني طيبة الريح ، طيِّبة اللبن ، وما من غلامٍ رضع مني إلا التقم ثديي ، وهي أيضاً كانت ذكيةً ، فعلى الإنسان أن يكون على شيء من الذكاء ، ولولا فِطْنتها هذه لقتلها ..
 
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾
(القصص : الآية 13)
 
كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا
 
1 – الذكاء مطلوب في المسلم :
فيما مضى تحدثنا عن أن سيدنا رسول الله أرسل حذيفة بن اليمان في معركة الخندق ، وهي المعركة الحاسمة التي ربما انتهى الإسلام فيها ، أقول : ربما ، حسب تصوِّر أصحاب رسول الله لشدة العدد والعُدد التي توفرت للمشركين ، وما شاكل ذلك ، فالنبي عليه الصلاة والسلام نَدَبَ سيدنا حذيفة ليستطلع في معسكر المشركين ماذا يحدث ؟ ماذا يخططون ؟ المهمة قاسية جداً ؛ أن يتسلل جندي إلى معسكر الشرك ، هو مقتول لا محالة ، فأبو سفيان شعر بحاسةٍ سادسة أن في القومِ أُناساً غُرَبَاء فقال : " لا آمنُ عليكم من عيون لمحمد فليتفقد كلٌّ منكم جليسه وصاحبه " ، انتهى سيدنا حذيفة ، لولا أنه كان ذكياً جداً ، فمباشرةً أمسك بيدِ من بجانبٍه وقال له : من أنت ؟ وما اسمك ؟ فقال : " أنا فلان ، واسمي فلان " .
2 – ذكاءُ أمِّ موسى :
هذا موقف ذكي ، فإذا وقف الإنسان مواقف تدلُّ على فطنته ، فإن هذا من توفيق الله له ، فيبدو أنهم شعروا أن أُم موسى من لهفتها ، ومن حبها للطفل أنها أمه ، فقالت : لا ، لست أمه ، لكنيّ طيبة الرائحة ، طيبة اللبن ، وكل طفلٍ التقم ثديي قبله ..
 
وعد الله ووعيده نافذان ومُحقَّقان مهما كانت الظُّروف :
 
 
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
(القصص)
إن زوال الكون أهون عند الله عزّ وجل مِن ألا يتحقق وعده ، لأن وعده حق .
 
أمثلةٌ من وعدِ الله ووعيده التي لا بد أن تتحقق :
 
المثال الأول :
عندما يقول ربنا عزّ وجل :
 
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
فهذا وعد إلهي مطبَّق في أي مكانٍ ، في أي زمانٍ ، في أي ظرفٍ ، مهما تكن الظروف صعبة ، وَعَدَك الله أيها الشاب المؤمن بحياةٍ طيبة ، في بلد صعب ، في بلد سهل ، في رخاء ، في سنوات الجدب ، في سنوات الخصب ، وعدك الله بحياةٍ طيبة ، هذا وعدٌ إلهي .
المثال الثاني :
وعيد آخر :
 
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
لا يمكن ، ومهما كنت مرموقاً ، مهما كنت ، مهما كنت غنياً ، مهما كنتَ قوياً ، مهما كنت ذكياً ، مهما كنت ذا عصبةٍ كبيرة ، إذا أعرضت عن ذكر الله فلابدّ من المعيشة الضَنْك ، بل إن بعض المفسرين قالوا : " فما بال الأغنياء والملوك معيشتهم الضنك ضيقُ القلب ، في قلوبهم من الضيق ما لو وزِّعَ على أهل بلدٍ لكفاهم " .
المثال الثالث :
وعدٌ آخر :
 
﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الروم)
المثال الرابع :
 
 
﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾
(سورة المجادلة)
المثال الخامس :
هذا وعد آخر ..
 
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
( سورة الأعراف )
وعود الله كثيرة ، وله وعدٌ وله وعيد ..
المثال السادس :
وفي الآية التالية وعيد ، قال تعالى :
 
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾
(سورة البقرة : الآية 276)
هذا وعيد فيه قاصمة للظهر ، المحق والإتلاف .
أما قوله تعالى :
 
 
﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة البقرة )
فهذا وعد ..
 
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
( سورة القصص )
 
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
(سورة القصص)
في سورة يوسف قال ربنا عزّ وجل :
 
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
( سورة يوسف )
أمرُ الله هو النافذ ، " أنت تريد ، وأنا أريد ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتُك ما تريد ، وإذا لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد " .
إن الله عزّ وجل إذا أراد شيئاً وقع ، وأيُّ شيءٍ وقع أراده الله ، فإذا كنت بطلاً فكن مع مشيئة الله ، لأنها هي النافذة ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، إذا لم يشأ الله أمراً تعطَّل لأتفه سبب ، وإذا شاء الله أمراً قام على أضعف سبب ، والله سبحانه وتعالى يخلق من الضعف قوةً ، ومن الضيق فرجاً ، ومن المرض صحةً .
وبعدُ ، فهذه قصة سيدنا موسى وقد وردت في القرآن الكريم برقمٍ كبير ، وردت ثلاثاً وعشرين مرة ، لكن لو قرأتها قراءةً سطحية تظن أنها متكررة ، أما إذا دقّقت فيها تجد أن كل مرةٍ وردت فيها هذه القصة أطلّت عليك من زاوية دقيقة .
 
فقرةٌ زمنية في قصّة موسى : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى
 
تطالعنا الآن في القصة فجوة ، بعد أن رُدّ هذا الطفل إلى أمه التي أرضعته انتقلنا فجأةً إلى سن الرشد ، طيلة ثماني عشرة سنةً أو تزيد لا ندري عنه شيئاً ، يا ترى كم سنة بقي في قصر فرعون ؟ لا ندري ، هل بقي في قصر فرعون كل هذه السنوات ؟ هناك إشاراتٌ دقيقةٌ وخفية تؤكد أنه لم يبقَ في قصره ، بل خرج من قصره ، لعل أمه أخبرته ماذا يفعل فرعون ببني إسرائيل ، لعل أمه أخبرته من هو ، لعله رأى بعينه ما يفعله فرعون في بني إسرائيل من ظلمٍ ، ومن تقتيل أولاد ، على كلٍ المعلومات انقطعت ، إلى أن قال الله عزّ وجل :
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾
(القصص : آية 14)
 
معاني :أَشُدَّهُ
 
المعنى الأول :
العلماء قالوا : " بلغ أشده أي اكتملت قٍواه الجسمية أي في السنة الثامنة عشره ، واستوى أي اكتملت قِواه العقلية " .
المعنى الثاني :
وبعضهم قال : " في سنّ الثلاثين " .
المعنى الثالث :
وبعضهم قال : " في سن الثانية عشرة " .
المعنى الرابع :
على كلٍ ربنا عزّ وجل يؤكد أنه بلغ أشده واستوى ، بلغ أشده في قوته البدنية ، وبلغ أشده في قوته العقلية ..
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
يسأل الإنسان نفسه : ما نصيبي من هذا العطاء ؟ إذا كان نصيبه من المال وفيرًا فإن هذا نصيب قارون ، وإذا كان نصيبه من القوة وفيرًا فإن هذا نصيب فرعون ، أما نصيبه إذا كان من العلم والحكمة فقد ضحكت له الأقدار ..
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
 
معنى الحكم :
 
الحقيقة الحكم بعضهم يقول : " إنه حينما تعلم حقيقةً ، وتضعها موضع التنفيذ فأنت حكيم" .
لا يسمَّى الحكيم حكيماً ذلك الذي تعلم الأشياء النظرية فقط ، لا يسمى الحكيمُ حكيماً إلا إذا طبق الذي عرفه ، لذلك : من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم .
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
 
من صفات الأنبياء : العلم :
 
ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، لو اتخذه لعلمه .. وإن الله عالمٌ يحب كل عالم ، فكن عالماً ، أو متعلماً ، أو مستمعاً ، أو محباً ، ولا تكن الخامس فتهلك ، واعلمْ أن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل .
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
لكن أروع ما في هذه الآية هذا التعقيب الذي يبثّ الأمل في قلب كل مؤمن ..
 
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
 
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
 
إن عطاء ربنا عزّ وجل ليس عطاءً اعتباطياً مزاجياً ، بل هو عطاءٌ منضبط ، عطاء وفق أُسس ثابتة ، أي أنه لو لم يكن محسناً لما آتيناه حكماً وعلماً ، كان محسناً فاستحق العلم والحكمة ، ماذا قال الإمام الشافعي ؟ قال :
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي    فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بأن العلم نــــورٌ    ونـور الله لا يهدى لعـاص
***
بعضهم قال : " لا تعصه في النهار يوقظك في الليل " .
إذاً :
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
يقول ربنا عزّ وجل :
 
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
( سورة البقرة : الآية 269)
 
فضل العالم على العابد :
 
فإذا عبدَ إنسانٌ اللهَ من غير معرفة قد ينجو ، ولكن لا يؤتى خيراً كثيراً ، وأنت إذا عرفت الحكمة ، ودعوت إلى الله وفق الحكمة فلا يستجيب الناس لك إذا قلت لهم : افعلوا كذا وكذا ، أما إذا آتاك الله علماً وحكمةً ، وبيَّنت للناس أوامر الله عزّ وجل والحكمة منها ، ونواهيه والحكمة منها ، وبيَّنت لهم طريق الحق ، والوسائل المعينة على هذا الطريق ، إذا آتاك الله علماً وحكمة ، وهديت الناس ، عندئذٍ يأتيك الخيرُ الكثير ..
 
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
(سورة البقرة)
قد تكون عابداً ، فخيرك محدود ، نعم خيرك محصور محدود ، لا تستطيع إلا أن تنفع نفسك كعابد ، أما كعالم فلك أن تنفع الناس جميعاً ، ولك أن تُحْيي الناس جميعاً ..
 
﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾
( سورة المائدة : الآية 32)
ثمة فرقٌ كبير بين أن تكون عابداً وأن تكون عالماً :
         عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ : ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ : أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
         (( فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ )) .
[الترمذي]
فالطُّموح يجب أن يكون للحكمة ، ربنا عزّ وجل يقول :
 
﴿خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾
( سورة البقرة : الآية 63)
من حكمة .
فإذا أردت أن تعلِّم الناس ، فإذا بيَّنت لهم مثلاً أن إطلاق البصر للحرام سوف يكلِّف صاحبه ثمناً باهظاً ، فليكن بيانك بمثلٍ من واقع الناس وبحكمة .
 
هذا ما يفعله الجهل والطيش :
 
وإليكم هذه الواقعة ، فأنا أعرف صديقاً لي ، وله جار يسكن في بعض أحياء دمشق ، وكان لهذا الجار أولادٌ شباب وشابَّات ، وقد زوَّج بعض بناته الشابات ، له هوايةٌ لا ينفَّكُ عنها طوال سنين ، أن يتجوَّل في بعض شوارع المدينة المزدحمة بالنساء الكاسيات العاريات في أيام الصيف ، لا يفعل شيئاً إلا أنه ينظر ، مهما كان البردُ شديداً ، أو الحر شديداً فهذا الطريق يمشي فيه ذهاباً وإياباً كل يوم ، ولا يفعل شيئاً ، نصحه أصدقاؤه فلم يستجب ، إلى أن أُصيب بمرضٍ اسمه ارتخاء الجفون ، وهو لم يمت بعد ، ولا يستطيع الآن أن يرى إنساناً إلا إذا أمسك جفنيه بيديه ، ورفعهما ، فكثيراً ما يكون الجزاء من جنس العمل ، قال تعالى :
 
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾
( سورة الشورى : من الآية 40)
فإذا أقنعت الإنسان أن إطلاق البصر يسبب شقاء زوجياً ، وأحياناً يسبب انزلاقاً نحو الزنا ، لأن الزنا مبدؤه من النظر ، وإذا أقنعته أن من غض بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوةً في قلبه إلى يوم يلقاه ، إذا أقنعت الناس بالدخل الحلال ، وبيَّنت أن الدخل الحرام لابدّ من أن يدمَّر ، من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه ، ومن أخذ أموال الناسِ يريد إتلافها أتلفه الله ، إذا بيّنت لهم الحكمة استجابوا لك ، إذاً :
 
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
(سورة البقرة : الآية 269)
إذاً فأنت بين المنزلتين : إما أن تكون عابداً ، وإما أن تكون عالماً ، وشتَّان بين الوظيفتين ، العابد خيرُه لنفسه ، العابد يصلي ، ويصوم ، ويحج ، ويزكي ، ويعمل بمقتضى أوامر اللهُ عزّ وجل ، ولكنه لا يستطيع أن يُقْنع أحداً بأحقية الإسلام ، هذا خيره محدود ، وأما العالم فعلمه يحقق الخير الكثير له وللناس ..
 
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
إذاً :
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
هذه ليست له وحده ، يا عبادي ، كلُّكم عندي سواسية ..
 
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
 
الحكم والعلم جزاء للإحسان :
 
هذا الحكم ، وهذا العلم كانا جزاء إحسانه ، وأيٌّ واحدٌ منكم إذا أحسن فسوف أُعطيه الحكم والعلمَ ، وهذه قاعدة ربانيَّة ، ويوضِّح هذا عندما دخل سيدنا يونس في بطن الحوت ..
 
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الأنبياء )
في كل زمان وفي كل مكان ، هذه التعقيبات تقلب القِصص إلى قوانين ، التعقيبات تقلب القصة التي وقعت ، وانتهت إلى قانون مستمر ، ما أروع هذه التعقيبات ..
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
 
أثر الإخلاص في إتيان العلم والحكمة :
 
ورد في بعض الأقوال : " أنه من أخلص لله أربعين صباحاً تفجَّرت ينابيع الحكمة في قلبه ، وأجراها الله على لسانه " ، أي أن الإنسان إذا أخلص لله ، وإذا أطاعه طاعةً تامة ، فهو يحتار ، وهو يعجب من نفسه كيف أصبح طليق اللسان ، يشعر وهو يتكلَّم كأن سيلاً من المعلومات قد تدفَّقت عليه ، لا يدري ماذا يختار منها ، وأحياناً الإنسان العاصي الغارق في شهواته لا يستطيع أن يتكلَّم كلمة ، فمن أخلص لله أربعين صباحاً تفجَّرت ينابيع الحكمة في قلبه ، وأجراها الله على لسانه ، بعضهم يظن هذا حديثاً صحيحاً ، وهو حديث مشكوك في أمره ، أي أنه ضعيف ، فأنا أشرت إلى أنه قول من الأقوال ..
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
 
حذفٌ معمول الإحسان يدل على إطلاق الإحسان :
 
الإحسان مطلق ، وأنا أُؤَكِّدُ لكم أن كلَّ إنسان بفطرته يعرف ما هو الإحسان ، كل واحد يعرف من دون تعليم ، لك أن تُحْسِن ، ولك أن تسيء ، لك أن تسخر ، إذا سخرت من إنسان وأنت أقوى منه حَجَّمْته ، وشعر بالخزي ، وشعر بالألم ، ولك أن تثني عليه ، لك أن تفضح ، ولك أن تستر ، لك أن تَمُنَّ بعطائك ، ولك أن تسكت ، لك أن تستعلي ، ولك أن تتواضع ، لك أن توفِّق ، ولك أن تفرِّق ، لك أن تغتاب ، فالغيبة تتوافق مع شهوة النفس ، ولك أن تسكت ، فأوصيك أن تفعل المحامد ، وأن تحسن النية والعمل ..
 
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
 
الإحسان إلى الحيوان :
 
النبي الكريم رأى رجلاً يذبح شاةً على مرأى من أُختها ، فغضب عليه الصلاة والسلام ، وقال :
(( أتريد أن تميتها مرتين ؟ هلا حجبتها عن أختها )) .
[ ورد في الأثر ]
إذاً حتى عند ذبح الشاة فهناك إحسان .
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ :
(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ )) .
[مسلم]
(( وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ )) .
وكيف يكون الذبح حسناً ؟ قال :
(( وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ )) .
إذاً تعذيب الحيوان إساءة ، أحياناً يدوس الإنسان نباتاً يسبح الله عزّ وجل ، زهرة صغيرة يدوسها ، لماذا فعلت هكذا ؟ أنت لست محسناً ، أحياناً يُطعم حيواناً جائعاً ، وهذا الحيوان قد يكون غير نافع ، قد يكون أحياناً كلباً ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ ، فَقَالَ : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي ، فَمَلَأَ خُفَّهُ ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ، ثُمَّ رَقِيَ ، فَسَقَى الْكَلْبَ ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا ؟ قَالَ : فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ )) .
[متفق عليه]
كلمة ( إحسان ) هذه كلمة شاملة .
هناك آية تقول :
 
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
(سورة العنكبوت)
 
إنَّ الله معَ المحسنين
 
فهو مع المحسنين دائماً ، الله يتولى الصالحين ، يوجد إحسان في القول ، وإحسان بالعمل ، وإحسان بالسكوت ، وإحسان مع الجار ، مع الأخ ، مع القريب ، مع الصاحب ، مع الابن ، مع الزوجة ، مع العدو ، مع الحيوان ، مع النبات ..
 
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
 
لا يجتمع في القلب إيمان وإساءة :
 
أيها الإخوة الأكارم ... المؤمن محسن ، لا يجتمع الإيمان مع الإساءة ، فإنسان مؤذٍ والناس يخشون أذاه ، فهذا مستحيل أن يكون مؤمناً ، المؤمن مصدر أمن ، مصدر سلام ، مصدر إحسان ، مصدر رخاء للناس ، كتلة خير ، خير متنقِّل ، الكافر يحب الأذى ، والناس رجلان : بَرٌ تقيٌ كريمٌ على الله ، وفاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله عزّ وجل ، فلا يوجد حل ثانٍ ، إما أن تكون محسناً ، وإما أن تكون مسيئاً في عملك ، في بيتك ، في كل حركاتك وسكناتك .
 
فصلٌ جديد من قصة موسى :
 
1 ـ دخول موسى المدينة في وقت القيلولة :
 
الآن نحن على عتبة مرحلةٍ جديدةٍ من القصة :
 
﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾
(القصص : الآية 15)
المدينة هي العاصمة ، وفي بعض الكتب أنها مدينة عين شمس الآن ، وهي في مصر ، واسمها عين شمس ، وكانت هي العاصمة على عهد فرعون ..
 
﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾
أي في وقت القيلولة ، في وقت النوم ..
2 ـ موسى وحادثة الرجلين المقتتلين :
 
﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ﴾
إسرائيلي ..
﴿وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾
من أتباع فرعون ..
 
﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ﴾
3 ـ تدخُّل موسى لفضّ النزاع :
معنى وكزه أي : ضربه بجمع يده ..
 
﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾
4 ـ وفاة الرجل الفرعوني بوكزة موسى :
فوقع ميتاً ، أعوذ بالله ! لم يُرِدْ موسى أن يقتله ، إن الله تعالى لم يقل : فقتله ، لا ، لو قال : فقتله ، أيْ أنه أراد قتله .
      
﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾
بل قال :
 
﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾
 
﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴾
وإن شاء الله تعالى في الدرس القادم نتابع هذه القصَّة بَدْءاً من قوله تعالى :
 
﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾
 
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب