سورة البقرة (002)
الدرس (23)
تفسير الآيات: (43-46)
الإيمان بالآخرة
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثالث والعشرين من دروس سورة البقرة .
يمكن أن نجمع الدين كله بكلمتين ؛ اتصال بالخالق ، وإحسان للمخلوق :
مع الآية الثالثة والأربعين :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ﴾ .
الإنسان له علاقتان ؛ علاقةٌ مع الخلق ، وعلاقةٌ مع الحق ، العلاقة مع الحق الاتصال به عن طريق الاستقامة على أمره ، وعلاقته مع الخلق الإحسان إليهم ، فإذا أردت أن تجمع الدين كلَّه ففي كلمتين : اتصالٌ بالخالق وإحسانٌ إلى المخلوق ، وإن أردت أن تبحث عن علاقةٍ بينهما ، فهناك علاقة ترابطيَّة بينهما ، فكل اتصالٍ بالخالق يعينك على أن تُحْسِنْ إلى المخلوق ، إنك بهذا الاتصال تشتقُّ من كمال الله ، وكل إحسانٍ إلى المخلوق يعينك على الاتصال بالخالق ، أي أن كلاً من الاتصال بالخالق والإحسان إلى المخلوق سبب ونتيجة ، يُعَبَّر عن هذا بالعلاقة الترابطيَّة ، كلٌ منهما سبب ونتيجة ، فالإحسان يجعلك تثق برضاء الله عنك فتُقْبِلُ عليه ، والاتصال يجعلك تصطبغ بصبغة الكمال فتُحسن إلى المخلوقات ، فإذا أردنا أن نضغط الدين كلَّه في كلمتين نقول : اتصال بالخالق ، وإحسان للمخلوق .
أما الكفر فهو إعراض عن الخالق ، وإساءة إلى المخلوق ، إن أردت أيضاً وصفين جامعين مانعين لأهل الكفر ، إعراضٌ عن الله وإساءةٌ إلى الخلق ، فالمؤمن يبني حياته على العطاء والكافر يبنيها على الأخذ ، المؤمن بالإحسان والكافر بالإساءة ، المؤمن بالاستقامة والكافر بالانحراف ، المؤمن بالصدق والكافر بالكذب ، المؤمن بالإنصاف والكافر بالجحود ، هوية المؤمن مجموعة قيم أخلاقيَّة وهوية الكافر مجموعة نقائص أخلاقيَّة ، والكافر على نوعين ؛ كافر ذكي وكافر غبي ، الكافر الذكي يخفي نقائصه ويضع أقنعة مزيَّفة على وجهه ، هو يغُشُّك ، يغريك أنه على حق ، وهو كافر منحرف ، والكافر الغبي يُظْهِر نقائصه صراحةً ، على كلٍ كلمة .
المؤمن بين خيارين صَعبين إما الدنيا وإما الآخرة :
قال تعالى :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ (43) ﴾ .
هي الدين كلُّه ، أي أحسنوا إلى المخلوقات واتصلوا بي ، أو اتصلوا بي كي تُحْسِنوا إلى المخلوقات ، والإحسان إلى الخلق ثمن الجنَّة وهي السعادة الأبديَّة ، نحن مخلوقون لدار إكرام ثمنها الإحسان للخلق ، فلذلك حينما تؤمن بالآخرة لك ميزان آخر ، ميزان آخر بخلاف موازين الدنيا ، مثلاً إذا أُتيح لك مغنم كبير ولم تأخذه يتهمك أهل الدنيا بالجنون ، أما أهل الإيمان فيضعون الدنيا تحت أقدامهم ابتغاء مرضاة ربِّهم ، ولله حكمةٌ بالغة حينما يضع المؤمن بين خيارين صَعبين ، إما الدنيا وإما الآخرة ، إما مصالحه الماديَّة وإما طاعة ربِّه ، أما أن تتوافق مصالحك الماديَّة توافقاً تامَّاً مع طاعة الله هذا شيء لا تحلم به أبداً ، مستحيل ، مستحيل أن تجد أن كل مصالحك وكل رغباتك موفَّرةٌ في طريق الجنَّة ، لا بد أن تضحِّي ، لا بد من أن توضع في خيارٍ صعب إما الدين وإما الدنيا ، إما طاعة الله وإما مكاسب الدنيا ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ (43) ﴾ .
أمَّا معنى :
﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ﴾ .
أي أنك ينبغي أن تكون ضمن جماعة ، لأن الجماعة رحمة والفرقة عذاب :
(( عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ إِنَمَا يَأْكُلُ الذِئبُ القَاصيَّةَ )).
[ النسائي عن أبي داود]
النبي معصومٌ بمفرده بينما أمَّته معصومةٌ بمجموعها :
هناك منافسة ضمن الجماعة ، وهناك تصحيح مسار دائماً ضمن الجماعة ، وهناك رغبة بالتفوُّق ، هل سمعت بكل حياتك مسابقة بلا جماعة ، هل يمكن لإنسان أن يركض وحده ويقول لك : أنا كنت الأول ، على من فزت بالأول ؟ المسابقة فيها مجموع ، هناك فريق ، فلمَّا قال الله تعالى :
﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾ .
(سورة الحديد : من آية " 21")
معنى هذا أنك ضمن جماعة ، كلمة مسابقة تعني أنك ضمن جماعة :
﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ﴾ .
الجماعة رحمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام طمأننا :
(( إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ )).
[ ابن ماجة عن ابن مالك ]
النبي معصومٌ بمفرده بينما أمَّته معصومةٌ بمجموعها :
(( إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ )).
[ ابن ماجة عن ابن مالك ]
إذا تكلَّم الإنسان وفق الحق والكل ساكتون هذا اسمه إجماع سكوتي ، الآن كتاب يُطْرَح في الأسواق صحيح ، أدلَّته قويَّة ، وفق منهج الله ، وفيه روح الدين الإسلامي ، تحقَّقت فيه مقاصد الشريعة ، لا تجد أحداً يحكي عليه ، ولكنهم يثنون عليه ، الثناء على هذا الكتاب دليل أن الناس تلقَّوْه بالقبول ، أما لو كان فيه انحراف عقائدي لهاجمه الناس ، فسكوت الناس عن شيء صحيح هذا اسمه إجماع ولكنَّه سكوتي ، إجماع سلبي ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ )).
[ ابن ماجة عن ابن مالك ]
على المؤمن أن يكون مع جمهور المؤمنين لا مع مطلق الجمهور :
قال تعالى :
﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ﴾ .
أي أن صومكم يوم تصومون ، لا يوجد انفراد ، فطركم يوم تفطرون ، كن مع المجموع ، حتى إذا قرأت في الكتب كن مع الجمهور لا مع الآراء الشاذَّة النادرة القليلة ، هناك آراء شاذة ، لها أدلَّة ضعيفة ، كن مع الجمهور ؛ مع جمهور العلماء ، لأن الجمهور رحمة ، طبعاً جمهور العلماء وليس الجمهور العادي :
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
(سورة الأنعام : من آية " 116" )
كن مع جمهور المؤمنين لا مع مطلق الجمهور :
(( لا تكونوا إمَّعة )).
[الترمذي عن حذيفة]
من هو الإمَّعة ، قال : " إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت " ، هذا ليس صحيحاً ، يجب أن تكون لك استقامتك ، ويجب أن لا تعبأ بقول الناس إذا كانوا على انحرافٍ لا يرضي الله عزَّ وجل :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ﴾ .
يتوهم الإنسان بالعُزلة أوهاماً مضحكة ، يبني قصوراً من الأوهام ، ولكنه يتحجم عندما يقيم مع الآخرين ، وهذا التحجيم صحِّي ، قد تتوهِّم أنك أكبر مؤمن ، فعندما تجلس مع مؤمن أكبر منك ترى أن عملك لا شيء أمام عمله ، إخلاصك أقل من إخلاصه ، طموحك أقل من طموحه ، تتحجَّم ، فهذا التحجيم ضروري جداً للإنسان ، هذا التحجيم منطلق العطاء ، منطلق التفوّق ، أما لو أنك توهَّمت أنك في مستوى رفيع جداً ، وأنت بعيد عن المجتمع هذا الوهم غير صحيح ، هذا يُقْعِدُكَ عن طلب العُلا .
من فوائد الجماعة :
من فوائد الجماعة أنها رحمة ؛ أولاً تصحِّح لك المسار ، ثانياً تحفزك على التفوُّق، ثالثاً تأخذ بيدك إذا تعثَّرت ، إذا كان للإنسان أخوان كرام يأخذون بيده إن أخطأ ، ويعيدونه إلى الصواب إن شرد ، يجتهد اجتهاداً مغلوطاً فيصحِّحون له اجتهاده ، ولذلك صلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بسبعٍ وعشرين ضعفاً ، السبب ؟ الصلاة هي الصلاة ، السبب هو الاجتماع ، وكم من أخ يأتي إلى بيتٍ من بيوت الله فينزل على قلبه من السّكينة والراحة النفسية والطمأنينة ، يلتقي بأخوانه ، ينسى همومه ، هذه ساعات النفحات الإلهيَّة ؛ نفحات تعين على مصاعب الحياة :
﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ﴾ .
كن مع المجموع ، اتبع لا تبتدع ، اتضع لا ترتفع ، الورع لا يتَّسع ، النقطة الدقيقة جداً :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) ﴾ .
أي أن العلم في الإسلام وسيلة وليس هدفاً ، سهل جداً أن تتكلَّم عن الأخلاق ، وسهل جداً أن تتحدَّث عن العبادات ، ومن السهل جداً أن تجلس والناس يتحلَّقون حولك وتحدِّثهم ، لكن البطولة أن تكون إماماً لهم ، فيجب أن يكون الإمام أمام المؤْتَمّين لا وراءهم ، يجب أن يكون الإمام في الأمام قدوة :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ (44) ﴾ .
أن تأمر الناس بالبر قضيَّة لا تكلِّف شيئاً ، وسهلة جداً ، لاحظ الناس إذا أصيب إنسان بمصيبة كل من حوله يقولون له : بسيطة ، لا توجد مشكلة ، طوِّل بالك ، سهل عليك أن تُصَبِّره ، ولكن لو وقعت معك هذه المصيبة قد تفعل أكثر مما فعل ، فالتصبير سهل ، والكلام سهل ، أما أن تكون في مستوى كلامك هذا الشيء الذي يجعلك بطلاً .
الكلمة الطيّبة بضاعة الأنبياء والكلمة الخبيثة تنتشر لكنَّ ما لها من قرار :
عظمة الأنبياء أن الذي قالوه فعلوه ، وأنهم ما أمروا بأمرٍ إلا كانوا سبَّاقين إليه ، ولا نهوا عن شيءٍ إلا كانوا أبعد الناس عنه ، لم يكن في حياتهم ازدواجيَّة أبداً ، لا تجد في حياتهم تناقضاً بين أقوالهم وأفعالهم ، حينما ينطلق الإنسان من مصداقيَّة يعيد للكلمة تألُّقها ، وقد ذكرت في درسٍ سابق : بماذا جاء الأنبياء ؟ بالكلمة ، جاؤوا بكلمة صادقة غيَّرت مفاهيم الحياة ، نشروا الحق في العالَم ، الأنبياء بمصداقيّتهم أعطوا الكلمة قدسيَّتها ، كلمة ، أما الطُغاة فجاؤوا بأسلحة فتَّاكة ، جاؤوا بأجهزة دقيقة جداً ، بطائرات فتَّاكة ، جاؤوا بمخترعات مذهلة ، لكنَّهم مع كل هذه الإنجازات ما قدَّموا للإنسان السعادة ، بل قدَّموا له الشقاء ، فالأنبياء أعطوا كل شيء من خلال كلمةٍ صادقة ، لذلك قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24)تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)﴾ .
( سورة إبراهيم )
الكلمة الطيّبة هي بضاعة الأنبياء ، والكلمة الخبيثة تنتشر لكنَّ ما لها من قرار ، ما لها أساس علمي ، ما لها أساس واقعي :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ (44) ﴾ .
(( أوحى الله إلى عيسى "عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني ")).
[أحمد عن مالك بن دينار]
حينما يُطَبِّق الإنسان ما يقول يجعل الله لكلامه قوَّةً تأثيريَّةً عجيبة :
إنها وقاحةً بالإنسان أن ينصح بشيءٍ لا يفعله ، فدعوة الغني المُتْرَف إلى التَقَشُّف دعوةٌ مضحكة ، ودعوة المنحرف إلى الاستقامة دعوة مخجلة ، ودعوة الإنسان اللاأخلاقي إلى الخُلق دعوة ساخرة ، وهذا ما جعل الناس ينفرون من الدين ، إن صحَّ التعبير :
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(2)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(3)﴾ .
(سورة النصر)
حينما تنشأ مسافة كبيرة جداً بين أقوالهم وأفعالهم يخرج الناس من دين الله أفواجاً، وحينما لا يرون المصداقيَّة في الدعاة يخرج الناس من دين الله أفواجاً ، وحينما لا يرون في الداعية المَثَل الأعلى يخرج الناس من دين الله أفواجاً :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) ﴾ .
يا أيها الرجل المُعَلِّم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
***
يجب أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه ، وحينما يُطَبِّق ما يقول يجعل الله لكلامه قوَّةً تأثيريَّةً عجيبة حينما ينطلق من واقع يفعل فعل السحر في كلماته ، تجد الدعاة إلى الله في التاريخ لهم أعمال كالجبال .
الصفة الجامعة المانعة في مَنْ يدعو إلى الله عزَّ وجل ألا تأخذه في الله لومة لائم :
يروى أن عالِماً جليلاً كان له تلميذ ، وهذا التلميذ له عبد ، هذا العبد عندما رأى سيِّده يحترم شيخه احتراماً لا حدود له رجاه أن يعطي إشارةً لتلميذه أن يُعْتِقه ، فقال له الشيخ: " إن شاء الله أفعل هذا " ، مضى شهر ، وشهران ، وثلاثة أشهر ولا توجد هناك أي حركة ، من شدَّة ما رأى محبّة هذا التلميذ لشيخه ، اعتقد العبد أن الشيخ لو أعطاه إشارة أن أعتق هذا العبد يعتقه على الفور ، والشيخ وعده لكن لم يحصل شيء ، ثم زاره مرَّةً ثانية وذكَّره فقال له الشيخ : " إن شاء الله أفعل هذا " ، ولم يحدث شيء خلال أشهر ، ثم زاره مرَّةًثالثة ، وقد مضى على طلبه سنة ، فقال له : " أفعل هذا إن شاء الله " ، بعد أيَّام استدعاه سيِده وأعتقه تنفيذاً لتوجيه شيخه ، فلمَّا التقى العبد بالشيخ قال له : " يا سيدي كلمةٌ منك تدعو سيدي إلى إعتاقي فلماذا تأخَّرت كل هذه المدَّة ؟ " قال له : " يا بني حمَّلتنا فوق ما نطيق ، لقد وفَّرت من مصروف البيت مالاً أعتقت به عبداً ، ثم أمرت سيدك أن يعتقك " ، أي أنا ما أمرته أن يعتقك إلا بعد أن كنت قدوةًُ له .
لو أن الدعاة لا يتكلَّمون كلمة واحدة إلا وطبَّقوها لكنَّا في حالٍ آخر غير هذا الحال . قلت لكم فيالدرس الماضي قوله تعالى :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً(39)﴾ .
(سورة الأحزاب)
أي أن هذا الذي يبلِّغُ رسالات الله ينبغي أن يخشى الله وحده ، فإذا خشي غير الله فسكت عن الحق إرضاءً لمن خشيه ونطق بالباطل إرضاءً لمن خشيه ، ماذا بقي من دعوته ؟ انتهت دعوته ، لذلك الصفة الجامعة المانعة في مَنْ يدعو إلى الله عزَّ وجل ألا تأخذه في الله لومة لائم .
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) ﴾ .
أكبر وسيلة فعَّالة فيالتربية أن تأمر ابنك بما تفعله لا بما لا تفعله :
ذكرت لكم من قبل : كيف أن الله عزَّ وجل استخدم الأسلوب التربوي الفَعَّال في الحديث عن أمراض بني إسرائيل ، مع أن هذه الأمراض في مُجْمَلِها قد تلبَّسنا بها ، فنحن مُعَرَّضون أن نصاب بأمراضهم تماماً ، حدَّثني شخص كطرفة ، قال لي : في أحد المعاهد الشرعية رجل له باع طويل في إلقاء الدروس ، ألقى درساً عن التواضع ببيان رائع ووصف دقيق جداً ، ولكنه بعد ما خرج من الدرس كان جالساً بغرفة المدرِّسين بدرجة من الاستعلاء لا تُحْتَمَل !!! هو أتقن درس التواضع لكنَّه لم يتواضع ، الناس يتعلَّمون بعيونهم لا بآذانهم ، ماذا يرى ؟ يجب أن ترى التواضع ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( ... وعليّ جمع الحطب ـ سيد الخلق ـ قالوا له : نكفيك ذلك ، قال : أعلم أنكم تكفونني ، ولكنَّ الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه )) .
[ ورد في الأثر ]
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) ﴾ .
هذا الكلام موجَّه للآباء في الدرجة الأولى ، أكبر وسيلة فعَّالة في التربية أن تكون أنت قدوته ، أكبر وسيلة فعَّالة فيالتربية أن تأمر ابنك بما تفعله لا بما لا تفعله ، فبالتعليم إذا ضُبِطَ طالب يدخِّن يُعَاقب عقاباً شديداً ، وأستاذه يدخِّن أمامه ، وإذا دخَّن الطالب يعاقبه ، وهو المثل الأعلى ، أخطر شيء يفعله الآباء أنهم لا يطبِّقون توجيهاتهم ، إذاً سقطت الكلمة كقيمة ، الأنبياء جاءوا بالكلمة ، فإن لم تُطَبَّق سقطت هذه الكلمة ، وعندئذٍ لا جدوى منها ، والدليل يقولون لك : كلام بكلام ، وإذا تلاسن اثنان يقول لك : بلا فلسفة ، لأن الكلمة سقطت ، ولم يعد لها قيمة ، يمكن أن تتكلَّم كلاماً ليس له معنى ، وتتكلَّم كلاماً كلَّه كذب ، وتتكلّم كلاماً غير واقعي ، وتتكلَّم كلاماً لا تفعله أنت ، وتتكلَّم كلاماً أنت بعيدٌ عنه بعد الأرض عن السماء ، فالكلام حينما يبتعد عن الواقع وعن التطبيق لم يكن له قيمة ، لذلك الآن أزمَّة المسلمين في العالَم أن العالَم لا يقنع بالكلام ، أعطه مجتمعاً إسلامياً طُبِقَ فيه الإسلام وقُطِفَت ثماره كلها لكي يسلم ، يأتي الذين أسلموا من الكتب إلى الشرق الأوسط فيرون العكس ، يحمدون الله على أنهم أسلموا قبل أن يأتوا إلى هنا ، الإسلام بالكتب سهل ، كلام جميل ودقيق ، يأتي إلى هنا يجد أن هناك كذباً ، وانحرافاً ، وتقصيراً ، وازدواجيَّة ، و نِفاقاً .
حينما يتصل الإنسان بالله تصطبغ نفسه بالكمال :
قال تعالى :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ (44) ﴾
المنهج بين أيديكم ، الكتاب بين أيديكم ، افعل ولا تفعل بين يديك في متناول كل إنسان ، الأمر والنهي سهل جداً :
﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (45) ﴾ .
الآية دقيقة جداً ، حينما يتصل الإنسان بالله تصطبغ نفسه بالكمال ، يضعف الجهد في حمل النفس على طاعة الله ، صارت الاستقامة سهلة ، شخص نظيف جداً لا يحتاج إلى معاكسة لنفسه من أجل تنظيف جسمه ، هو نظيف ، يمارس النظافة مع راحةٍ نفسيَّة ، أما إذا كان بعيداً عن النظافة ، ويوجد عليه ضغط من أبيه أن غسِّل ، واعتنِ بنفسك ، صار عليه عبء شديد ، فالإنسان قبل أن يصل إلى الله عزَّ وجل ، أو قبل أن يصطبغ بصبغة الكمال يحتاج إلى صبر ، يحتاج إلى مجاهدة ، هناك مثل أوضح من ذلك :
إذا كان الإنسان قبل أن يتوب متعلِّقاً ببعض الأغنيات ، ثم هو تاب إلى الله وامتنع عن سماع الغناء كلِّياً ، لكن نفسه تتوق لهذه الأغنية ، فلو سمعها في مركبةٍ عامَّة تجاوب معها تجاوباً عجيباً ، هو لا يسمعها بقصد ، ولكنه سمعها عَرَضَاً ، لكن بعد حين ، بعد سنوات ، بعد أن تصطبغ نفسه بالكمال يحتقر هذه الأغنيات ، ويشمئز منها ، ويترفَّع عنها ، هذا الإنسان مرَّ بمرحلة المجاهدة يوم كانت نفسه بعيدةً عن مثله الأعلى ، ثم انتقل إلى مرحلة الانسجام يوم أصبح مصطبغاً بالكمال .
إذا كان بينك وبين الكمال مسافة استعن بالله والصبر إلى أن تصل إليها :
ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (45) ﴾ .
الاتصال بالله يكسبك الكمال وعندها لا تحتاج إلى مجاهدة كبيرة ، فالصادق الحليم فعلاً لا يحتاج إلى بذل جهد في الحلم ، أما الذي يتحلَّم ، " إنما العلم بالتعلُّم ، وإنما الحلم بالتحلُّم " ، يقول لك الذي يتصنَّع الحلم : كنت أغلي من داخلي كالمرجل ولكني ضبطت أعصابي ، هذا يتحلَّم ، وليس حليماً ، إذاً يوجد جهد كبير بالضبط ، ومعنى هذا هناك مسافة بينك وبين الكمال ، ولكنه أمر جيد على كل حال ، جيد جداً أن تحمل نفسك على الكمال عن طريق التصنُّع ، لكن بعد حين عندما تتصل بالله عزَّ وجل وتصطبغ النفس بالكمال صار الحلم عندك سهلاً جداً ، صار جزءاً من طبيعتك ، صار جزءاً من جبلَّتك ، فأنت حليم بحكم سجيَّتك الطيّبة الطاهرة ، الآية دقيقة ، فإذا كان بينك وبين الكمال مسافة استعن بالله والصبر إلى أن تصل إليها ، فإذا وصلت إليها يعينك اتصالك بالله عزَّ وجل المحكم على تطبيق هذا المنهج الكامل :
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ (45) ﴾
الصلاة كبيرة ، كبيرة على المنافق :
﴿ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى ﴾ .
( سورة التوبة : من آية " 54")
كبيرة عليه ، يصعب عليه أن يصلي ، قد يمضي ساعات طويلة في كلام فارغ أما أن يصلي التراويح فهي صعبة عليه ، لا يحتمل ، أنا والله أعرف أناساً في التراويح كأنهم في جنَّة ، في جنَّة من جنَّات القُرب ، واقف يستمع إلى القرآن الكريم وكأن الله يحدِّثنا ، قال : " إن أردت أن تحدِّث الله فادعه ، وإن أردت أن يحدِّثك الله فاقرأ القرآن " ، أنت حينما تقرأ القرآن أو تستمع إليه تشعر وكأن الله يحَدِّثك ، فالتراويح فيها راحة للنفس ، والفرق بين صلاة المنافق وصلاة المؤمن أن صلاة المنافق أرحنا منها ، والمؤمن أرحنا بها ، هذا هو الفرق بين (من) وبين (الباء) ، المنافق يقول : أرحنا منها ، والمؤمن يقول : أرحنا بها .
الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين :
قال تعالى :
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) ﴾ .
الإنسان المتفلِّت يُطلق بصره في الحرام ، ماله حرام ، عمله سيِّئ ، فإذا وقف ليصلي تجد أنه محجوب عن الله عزَّ وجل ، فصلاته حركات ليس لها معنى بالنسبة له ، أحياناً تجد صلاة سريعة جداً غير معقولة إطلاقاً ، فالصلاة السريعة أو الصلاة التي لا يوجد فيها خشوع سببها الحجاب ، فإذا صلى الإنسان ولم يشعر بشيء ، قرأ القرآن ولـم يشعر بشيء ، ذكر الله ولم يشعر بشيء ، فعنده مشكلة كبيرة جداً ، إذا انقطع عند مريض خروج البول هذه ليست مشكلة عرضيَّة ولكنها علامة كبيرة جداً ، هذا عنده مشكلة ، عنده فشل كلوي وسيعاني معاناة كبيرة ، يوجد في الجسم أعراض يمكن أن يقول الناس : ليس فيها شيء ، مع أنها خطيرة جداً ، وتوجد أعراض مؤلمة ولكنَّها غير خطيرة ، فإذا صلى الإنسان ولم يشعر بقربه من الله عز وجل ، وقرأ القرآن لم يشعر أيضاً ، وذكر الله وما شعر بشيء ، فمشكلته كبيرة جداً ، أي أن الطريق مقطوع ، وهو واقع بحجاب شديد .
هذه الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين ، إذا تحرّى الإنسان الحلال فوجهه أبيض ، وخدم الخلق وأحسن إليهم وأنصفهم ، وما أكل مالاً حراماً ، وما ابتزَّ أموال الناس ، وما استغلَّ جهلهم فوجهه يبقى دائماً أبيضاً ، هناك نقطة لا ينتبه إليها أحد ، قد تكون شاطراً ، وقد تحقِّق نجاحاً كبيراً جداً في الحياة بأساليب غير أخلاقيَّة ، وعندما يسلك الإنسان طريقاً غير أخلاقي يحدث عنده انهيار داخلي ، فتجد ردود فعله عنيفة جداً وغير متوازنة ، لأنه عندما خالف فطرته عذَّبته فصار عنده انهيار داخلي ، الذي يراعي راحة نفسه الأخلاقيَّة ، يراعي أنه منسجم تماماً مع نفسه هذا مؤمن ، فهذه الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين ، من هم هؤلاء الخاشعون ؟
المفتاح الدقيق للآيـة أن تؤمن بالآخرة :
قال :
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ (46) ﴾ .
كل عمل يعمله يتصوَّر أنه واقفٌ بين يدي الله عزَّ وجل ، لماذا فعلت كذا ؟ لماذا أعطيت ظلماً ؟ لماذا منعت ؟ لماذا طلَّقت ؟ لماذا غدرت ؟ لماذا كذبت ؟ لماذا احتلت ؟ لماذا اغتصبت هذا البيت ؟ لماذا لم تنصح فلاناً ؟ أما إذا كان كل يومه أخطاء ومعاصي وآثاماً فأي صلاة هذه ؟! نقول له : صل ، ولكن استقم من أجل أن تتصل بالله عزَّ وجل :
﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾
المفتاح الدقيق للآية أن تؤمن بالآخرة ، أن تؤمن أنه لا بد أن تقف بين يدي الله عزَّ وجل ليسألك : لـماذا فعلت هذا ؟ دخلت زوجة سـيدنا عمر بن عبد العزيز عليه وهو يبكي في مصلاَّه ، فقالت له : " ما يبكيك ؟ قال لها : " دعيني وشأني " ، ألحَّت عليه ما يبكيك؟ فلمَّا ألحَّت عليه قال : " يا فلانة إني نـظرت إلى الفقير البائس ، والشيخ الكبير ، وذي العـيال الكثير ، وابن الـسبيل ، والمرأة الأرملة ، والشيخ الفاني ـ ذكَّر أصنافاً من المعذَّبين في الأرض ـ كل هؤلاء سيسألني الله عنهم جميعاً ."
إذا تعثرت بغلة في العراق قال : " لو تعثَّرت بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عنها : " لمَ لمْ تُصْلِح لها الطريق يا عمر ؟ " ، عمر حاسب نفسه على بغلة تعثَّرت في العراق ، لِمَ لمْ يصلح لها الطريق .
عندما تدخل الآخرة بحساباتك اليوميَّة تنعكس كل موازينك :
عندما يؤمن الإنسان بالآخرة يتصوَّر أنه سوف يُسأل عن كل عمل ، هذا الإنسان إذا صلَّى فصلاته مقبولة ، وصلاته مجدية ، وصلاته طيّبة ، وصلاته مسعدة لأن وجهه أبيض ، سأحضر مثالين واضحين : رجل في الحي محترم جداً ، يحتل أعلى منصب في الجيش فرضاً ، قائد فرقة ، وله ابن ، وعنده جندي غر التحق بالخدمة قبل يومين ، هذا الجندي الغر لا يستطيع أن يقابل لواء ولا في المنام ، توجد عنده مئة رتبة يقابلها قبله ؛ لو وجد هذا الجندي ابن هذا اللواء يغرق في مسبح وأنقذه ، وفي اليوم الثاني يدخل ويقابله بكل جرأة بلا استئذان ، يقول للحاجب : قل له فلان ويدخل على الفور لأنه عمل عملاً طيّباً ، العمل الطيب يلغي الروتين كلَّه ، يلغي طريق التسلسل المقابلات . أما لو كان ابنه معه باللعب وضربه ضرباً مبرِّحاً ، وعطبه ، وهو لا يعرف أنه ابن معلِّمه ، وعرف في اليوم التالي أنه ابن معلِّمه وقال له : تعال عندي ، كيف يدخل عنده في المكتب ؟ لا يستطيع أن يدخل عنده .
هذه القصَّة كلها ، قصة كل الخلق وعباد الله عزَّ وجل ، غشّهم ولكن الله حجبك عنه ، قد تبتز مالهم بأسلوب ذكي ، هناك ألف أسلوب ذكي لابتزاز الأموال ، ولكن الله كاشفك وأنت كاشف نفسك :
﴿ بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾ .
(سورة القيامة)
قد تصبح غنياً كبيراً بالكذب والاحتيال ، قد تبيع بيعة سيِّئة جداً بأعلى سعر ، قد تستغل جهل إنسان ، وقد تأكل مالاً بالحرام ، أعطى أحدهم لإنسان عشرين مليوناً ومات بحادث على الفور ، ولا أحد يعلم ، ولا توجد ورقة ، بعد حين سمع هذا الأخ الذي معه المبلغ درساً من الدروس في جامع العثمان عن الأمانة ، أرسل لي ورقة كتب فيها : والله رددت عشرين مليوناً لورثة صديق لي ، وهم لا يعلمون عنها شيئاً ، خاف من الله ، عندما تدخل الآخرة بحساباتك تنعكس كل موازينك ، عندما تدخل الآخرة بحساباتك اليوميَّة تنعكس كل موازينك ، أما إن لم تدخل الآخرة في حساباتك تعد نفسك ذكياً لو أكلت مالاً حراماً ، توجد ألف قصَّة ، مليون قصَّة ، إنسان اغتصب شركة ، واغتصب بيتاً ، يرى نفسه أنه ذكي ، وكِّل محامياً قوياً ، قدَّم وثيقة مزوَّرة ، ويعد نفسه بطلاً ، لأنه استطاع أن يغتصب ، ولكنه أمام الله عزَّ وجل محتقر ، لماذا يتصل المؤمن بالله ؟ لأنه لم يعمل شيئاً أبداً ، ينام على فراش وثير من استقامته ، أما المنافق ينام على شوك من ذنوبه وأخطائه .
البطل الذي يحل مشكلته مع الله وليس مع عبد الله :
يوجد فندق في ألمانيا ذكرت عنه كثيراً مكتوب على السرير : " إذا لم تستطع النوم فالعلَّة ليست في فراشنا بل في ذنوبك " ، العلَّة بالذنوب ، إذا عمل الإنسان عملاً سيِّئاً ، كسب مالاً حراماً ، أخطأ مع فتاة ـ فرضاً ـ باع بيعة سيئة جداً بسعر عالٍ جداً ، إنه حلَّ مشكلته الماديَّة ولكن مشكلته مع الله لم تُحَل ، هو في انهيار .
قال له : " بعني هذه الشاة وخذ ثمنها " ، قال : " ليست لي " ، قال له : " خذ ثمنها " ، قال : " والله إني لفي أشدِّ الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لصاحبها : ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني ، فإني عنده صادقٌ أمين ، ولكن أين الله ؟!! "
توجد حالات كثيرة لاسيما عند أصحاب المصالح ، قد يحفر عشرة أمتار ويقول لك : حفرت أربعين متراً ، يضع القمصان أثناء غيابك ويعطيك حساباً عالياً ، هو حلَّ مشكلته الماديَّة ولكنه لم يحلَّها مع الله ؟ البطل الذي يحل مشكلته مع الله وليس مع عبد الله ، هنا :
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) ﴾
إنك لن تستقيم إلا إذا آمنت باليوم الآخر ، إن أردت كلاماً دقيقاً ، واضحاً ، جلياً ، بسيطاً ، علمياً ، واقعيَّاً عن أسباب الاستقامة الحقيقية فهو إيمانك أن الله سيحاسبك تقول لي : ضمير ، هذا كلام فارغ ، وحينما تؤمن أن هناك حساباً لن تعصي الله أبداً ، وحينما تؤمن أن هناك حساباً وأن الله لا تخفى عليه خافية ، وأن الله سيسأل الناس جميعاً :
﴿ فَو َرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾ .
(سورة الحجر)
انتهى الأمر ، قضية إيمان بالآخرة ، إيمان بأنك لا بد من أن تقف بين يدي الله عزَّ وجل ، ولا يخفى على الله شيء ، وسيعرض الله عليك كل أعمالك مصوَّرة ، المخالفة مع صورتها ، والصورة مسكتة ، تجاوز شخص القوانين فبعثوا له المخالفة فقال : أنا لم أكن في المكان الفلاني ، فعندما رأى الصورة ـ صورة سيَّارته ـ والتاريخ ، والسرعة ، الصورة مسكتة ، لذلك في الآخرة توجد صور المخالفات ، شريط :
﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً(49)﴾ .
(سورة الكهف)
لماذا اتصلوا بالله ؟
﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) ﴾
وفي درسٍ آخر إن شاء الله نتابع هذا الموضوع .
والحمد لله رب العالمين