سورة البقرة 002 - الدرس (23): تفسير الآية (43 - 46 ) الإيمان بالآخرة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (23): تفسير الآية (43 - 46 ) الإيمان بالآخرة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - الآية: (43 - 46) - الإيمان بالآخرة

20/03/2011 17:58:00

سورة البقرة (002)
الدرس (23)
تفسير الآيات: (43-46)
الإيمان بالآخرة
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثالث والعشرين من دروس سورة البقرة .
 يمكن أن نجمع الدين كله بكلمتين ؛ اتصال بالخالق ، وإحسان للمخلوق :
 
مع الآية الثالثة والأربعين  :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
الإنسان له علاقتان ؛ علاقةٌ مع الخلق ، وعلاقةٌ مع الحق ، العلاقة مع الحق الاتصال به عن طريق الاستقامة على أمره ، وعلاقته مع الخلق الإحسان إليهم ، فإذا أردت أن تجمع الدين كلَّه ففي كلمتين : اتصالٌ بالخالق وإحسانٌ إلى المخلوق ، وإن أردت أن تبحث عن علاقةٍ بينهما ،  فهناك علاقة ترابطيَّة بينهما ، فكل اتصالٍ بالخالق يعينك على أن تُحْسِنْ إلى المخلوق ، إنك بهذا الاتصال تشتقُّ من كمال الله ، وكل إحسانٍ إلى المخلوق يعينك على الاتصال بالخالق ، أي أن كلاً من الاتصال بالخالق والإحسان إلى المخلوق سبب ونتيجة ، يُعَبَّر عن هذا بالعلاقة الترابطيَّة ، كلٌ منهما سبب ونتيجة ، فالإحسان يجعلك تثق برضاء الله عنك فتُقْبِلُ عليه ، والاتصال يجعلك تصطبغ بصبغة الكمال فتُحسن إلى المخلوقات ، فإذا أردنا أن نضغط الدين كلَّه في كلمتين نقول : اتصال بالخالق ، وإحسان للمخلوق .
أما الكفر فهو إعراض عن الخالق ، وإساءة إلى المخلوق ، إن أردت أيضاً وصفين جامعين مانعين لأهل الكفر ، إعراضٌ عن الله وإساءةٌ إلى الخلق ، فالمؤمن يبني حياته على العطاء والكافر يبنيها على الأخذ ، المؤمن بالإحسان والكافر بالإساءة ، المؤمن بالاستقامة والكافر بالانحراف ، المؤمن بالصدق والكافر بالكذب ، المؤمن بالإنصاف والكافر بالجحود ، هوية المؤمن مجموعة قيم أخلاقيَّة وهوية الكافر مجموعة نقائص أخلاقيَّة ، والكافر على نوعين ؛ كافر ذكي وكافر غبي ، الكافر الذكي يخفي نقائصه ويضع أقنعة مزيَّفة على وجهه ، هو يغُشُّك ، يغريك أنه على حق ، وهو كافر منحرف ، والكافر الغبي يُظْهِر نقائصه صراحةً ، على كلٍ كلمة .
 المؤمن بين خيارين صَعبين إما الدنيا وإما الآخرة :
 
قال تعالى :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ (43) .
هي الدين كلُّه ، أي أحسنوا إلى المخلوقات واتصلوا بي ، أو اتصلوا بي كي تُحْسِنوا إلى المخلوقات ، والإحسان إلى الخلق ثمن الجنَّة وهي السعادة الأبديَّة ، نحن مخلوقون لدار إكرام ثمنها الإحسان للخلق ، فلذلك حينما تؤمن بالآخرة لك ميزان آخر ، ميزان آخر بخلاف موازين الدنيا ، مثلاً إذا أُتيح لك مغنم كبير ولم تأخذه يتهمك أهل الدنيا بالجنون ، أما أهل الإيمان فيضعون الدنيا تحت أقدامهم ابتغاء مرضاة ربِّهم ، ولله حكمةٌ بالغة حينما يضع المؤمن بين خيارين صَعبين ، إما الدنيا وإما الآخرة ، إما مصالحه الماديَّة وإما طاعة ربِّه ، أما أن تتوافق مصالحك الماديَّة توافقاً تامَّاً مع طاعة الله هذا شيء لا تحلم به أبداً ، مستحيل ، مستحيل أن تجد أن كل مصالحك وكل رغباتك موفَّرةٌ في طريق الجنَّة ، لا بد أن تضحِّي ، لا بد من أن توضع في خيارٍ صعب إما الدين وإما الدنيا ، إما طاعة الله وإما مكاسب الدنيا ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ (43) .
أمَّا معنى :
﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
أي أنك ينبغي أن تكون ضمن جماعة ، لأن الجماعة رحمة والفرقة عذاب :
(( عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ إِنَمَا يَأْكُلُ الذِئبُ القَاصيَّةَ )).
[ النسائي عن أبي داود]
 النبي معصومٌ بمفرده بينما أمَّته معصومةٌ بمجموعها :
 
هناك منافسة ضمن الجماعة ، وهناك تصحيح مسار دائماً ضمن الجماعة ، وهناك رغبة بالتفوُّق ، هل سمعت بكل حياتك مسابقة بلا جماعة ، هل يمكن لإنسان أن يركض وحده ويقول لك : أنا كنت الأول ، على من فزت بالأول ؟ المسابقة فيها مجموع ، هناك فريق ، فلمَّا قال الله تعالى :
﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾ .
(سورة الحديد : من آية " 21")
       معنى هذا أنك ضمن جماعة ، كلمة مسابقة تعني أنك ضمن جماعة :
﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
الجماعة رحمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام طمأننا  :
(( إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ )).
[ ابن ماجة عن ابن مالك ]
النبي معصومٌ بمفرده بينما أمَّته معصومةٌ بمجموعها :
(( إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ )).
[ ابن ماجة عن ابن مالك ]
إذا تكلَّم الإنسان وفق الحق والكل ساكتون هذا اسمه إجماع سكوتي  ، الآن كتاب يُطْرَح في الأسواق صحيح ، أدلَّته قويَّة ، وفق منهج الله ، وفيه روح الدين الإسلامي ، تحقَّقت فيه مقاصد الشريعة ، لا تجد أحداً يحكي عليه ، ولكنهم يثنون عليه ، الثناء على هذا الكتاب دليل أن الناس تلقَّوْه بالقبول ، أما لو كان فيه انحراف عقائدي لهاجمه الناس ، فسكوت الناس عن شيء صحيح هذا اسمه إجماع ولكنَّه سكوتي ، إجماع سلبي ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام : 
(( إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ )).
[ ابن ماجة عن ابن مالك ]
 
على المؤمن أن يكون مع جمهور المؤمنين لا مع مطلق الجمهور :
 
قال تعالى :
﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
أي أن صومكم يوم تصومون ، لا يوجد انفراد ، فطركم يوم تفطرون ، كن مع المجموع ، حتى إذا قرأت في الكتب كن مع الجمهور لا مع الآراء الشاذَّة النادرة القليلة ، هناك آراء شاذة ، لها أدلَّة ضعيفة ، كن مع الجمهور ؛ مع جمهور العلماء ، لأن الجمهور رحمة ، طبعاً جمهور العلماء وليس الجمهور العادي :
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
(سورة الأنعام : من آية " 116" )
كن مع جمهور المؤمنين لا مع مطلق الجمهور :
(( لا تكونوا إمَّعة )).
[الترمذي عن حذيفة]
من هو الإمَّعة ، قال : " إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت " ، هذا ليس صحيحاً ، يجب أن تكون لك استقامتك ، ويجب أن لا تعبأ بقول الناس إذا كانوا على انحرافٍ لا يرضي الله عزَّ وجل :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
يتوهم الإنسان بالعُزلة أوهاماً مضحكة ، يبني قصوراً من الأوهام ، ولكنه يتحجم عندما يقيم مع الآخرين ، وهذا التحجيم صحِّي ، قد تتوهِّم أنك أكبر مؤمن ، فعندما تجلس مع مؤمن أكبر منك ترى أن عملك لا شيء أمام عمله ، إخلاصك أقل من إخلاصه ، طموحك أقل من طموحه ، تتحجَّم ، فهذا التحجيم ضروري جداً للإنسان ، هذا التحجيم منطلق العطاء ، منطلق التفوّق ، أما لو أنك توهَّمت أنك في مستوى رفيع جداً ، وأنت بعيد عن المجتمع هذا الوهم غير صحيح ، هذا يُقْعِدُكَ عن طلب العُلا .
 من فوائد الجماعة :
 
من فوائد الجماعة أنها رحمة ؛ أولاً تصحِّح لك المسار ، ثانياً تحفزك على التفوُّق، ثالثاً تأخذ بيدك إذا تعثَّرت ، إذا كان للإنسان أخوان كرام يأخذون بيده إن أخطأ ، ويعيدونه إلى الصواب إن شرد ، يجتهد اجتهاداً مغلوطاً فيصحِّحون له اجتهاده ، ولذلك صلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بسبعٍ وعشرين ضعفاً ، السبب ؟ الصلاة هي الصلاة ، السبب هو الاجتماع ، وكم من أخ يأتي إلى بيتٍ من بيوت الله فينزل على قلبه من السّكينة والراحة النفسية والطمأنينة ، يلتقي بأخوانه ، ينسى همومه ، هذه ساعات النفحات الإلهيَّة ؛ نفحات تعين على مصاعب الحياة :
﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
كن مع المجموع ، اتبع لا تبتدع ، اتضع لا ترتفع ، الورع لا يتَّسع ، النقطة الدقيقة جداً :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) .
أي أن العلم في الإسلام وسيلة وليس هدفاً ، سهل جداً أن تتكلَّم عن الأخلاق ، وسهل جداً أن تتحدَّث عن العبادات ، ومن السهل جداً أن تجلس والناس يتحلَّقون حولك وتحدِّثهم ، لكن البطولة أن تكون إماماً لهم ،  فيجب أن يكون الإمام أمام المؤْتَمّين لا وراءهم ، يجب أن يكون الإمام في الأمام قدوة :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ (44) .
أن تأمر الناس بالبر قضيَّة لا تكلِّف شيئاً ، وسهلة جداً ، لاحظ الناس إذا أصيب إنسان بمصيبة كل من حوله يقولون له : بسيطة ، لا توجد مشكلة ، طوِّل بالك ، سهل عليك أن تُصَبِّره ، ولكن لو وقعت معك هذه المصيبة قد تفعل أكثر مما فعل ، فالتصبير سهل ، والكلام سهل ، أما أن تكون في مستوى كلامك هذا الشيء الذي يجعلك بطلاً .
 الكلمة الطيّبة بضاعة الأنبياء والكلمة الخبيثة تنتشر لكنَّ ما لها من قرار :
 
عظمة الأنبياء أن الذي قالوه فعلوه ، وأنهم ما أمروا بأمرٍ إلا كانوا سبَّاقين إليه ، ولا نهوا عن شيءٍ إلا كانوا أبعد الناس عنه ، لم يكن في حياتهم ازدواجيَّة أبداً ، لا تجد في حياتهم تناقضاً بين أقوالهم وأفعالهم ، حينما ينطلق الإنسان من مصداقيَّة يعيد للكلمة تألُّقها ، وقد ذكرت في درسٍ سابق : بماذا جاء الأنبياء ؟ بالكلمة ، جاؤوا بكلمة صادقة غيَّرت مفاهيم الحياة ، نشروا الحق في العالَم ، الأنبياء بمصداقيّتهم أعطوا الكلمة قدسيَّتها ، كلمة ، أما الطُغاة فجاؤوا بأسلحة فتَّاكة ، جاؤوا بأجهزة دقيقة جداً ، بطائرات فتَّاكة ، جاؤوا بمخترعات مذهلة ، لكنَّهم مع كل هذه الإنجازات ما قدَّموا للإنسان السعادة ، بل قدَّموا له الشقاء ، فالأنبياء أعطوا كل شيء من خلال كلمةٍ صادقة ، لذلك قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24)تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)﴾ .
( سورة إبراهيم )
الكلمة الطيّبة هي بضاعة الأنبياء ، والكلمة الخبيثة تنتشر لكنَّ ما لها من قرار ، ما لها أساس علمي  ، ما لها أساس واقعي :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ (44) .
(( أوحى الله إلى عيسى "عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني ")).
[أحمد عن مالك بن دينار]
 حينما يُطَبِّق الإنسان ما يقول يجعل الله لكلامه قوَّةً تأثيريَّةً عجيبة :
 
إنها وقاحةً بالإنسان أن ينصح بشيءٍ لا يفعله ، فدعوة الغني المُتْرَف إلى التَقَشُّف دعوةٌ مضحكة ، ودعوة المنحرف إلى الاستقامة دعوة مخجلة ، ودعوة الإنسان اللاأخلاقي إلى الخُلق دعوة ساخرة ، وهذا ما جعل الناس ينفرون من الدين ، إن صحَّ التعبير  :
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(2)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(3).
 (سورة النصر)
حينما تنشأ مسافة كبيرة جداً بين أقوالهم وأفعالهم يخرج الناس من دين الله أفواجاً، وحينما لا يرون المصداقيَّة في الدعاة يخرج الناس من دين الله أفواجاً ، وحينما لا يرون في الداعية المَثَل الأعلى يخرج الناس من دين الله أفواجاً :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) .
 
 يا أيها الرجل المُعَلِّم غيره         هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها       فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
***
يجب أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه ، وحينما يُطَبِّق ما يقول يجعل الله لكلامه قوَّةً تأثيريَّةً عجيبة حينما ينطلق من واقع يفعل فعل السحر في كلماته ، تجد الدعاة إلى الله في التاريخ لهم أعمال كالجبال .
 
الصفة الجامعة المانعة في مَنْ يدعو إلى الله عزَّ وجل ألا تأخذه في الله لومة لائم :
 
يروى أن عالِماً جليلاً كان له تلميذ ، وهذا التلميذ له عبد ، هذا العبد عندما رأى سيِّده يحترم شيخه احتراماً لا حدود له رجاه أن يعطي إشارةً لتلميذه أن يُعْتِقه ، فقال له الشيخ: " إن شاء الله أفعل هذا " ، مضى شهر ، وشهران ، وثلاثة أشهر ولا توجد هناك أي حركة ، من شدَّة ما رأى محبّة هذا التلميذ لشيخه ، اعتقد العبد أن الشيخ لو أعطاه إشارة أن أعتق هذا العبد يعتقه على الفور ، والشيخ وعده لكن لم يحصل شيء ، ثم زاره مرَّةً ثانية وذكَّره فقال له الشيخ : " إن شاء الله أفعل هذا " ، ولم يحدث شيء خلال أشهر ، ثم زاره مرَّةًثالثة ، وقد مضى على طلبه سنة ، فقال له : " أفعل هذا إن شاء الله " ، بعد أيَّام استدعاه سيِده وأعتقه تنفيذاً لتوجيه شيخه ، فلمَّا التقى العبد بالشيخ قال له : " يا سيدي كلمةٌ منك تدعو سيدي إلى إعتاقي فلماذا تأخَّرت كل هذه المدَّة ؟ "  قال له : " يا بني حمَّلتنا فوق ما نطيق ، لقد وفَّرت من مصروف البيت مالاً أعتقت به عبداً ، ثم أمرت سيدك أن يعتقك " ، أي أنا ما أمرته أن يعتقك إلا بعد أن كنت قدوةًُ له .
لو أن الدعاة لا يتكلَّمون كلمة واحدة إلا وطبَّقوها لكنَّا في حالٍ آخر غير هذا الحال . قلت لكم فيالدرس الماضي قوله تعالى  :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً(39).
(سورة الأحزاب)
أي أن هذا الذي يبلِّغُ رسالات الله ينبغي أن يخشى الله وحده ، فإذا خشي غير الله فسكت عن الحق إرضاءً لمن خشيه ونطق بالباطل إرضاءً لمن خشيه ، ماذا بقي من دعوته ؟ انتهت دعوته ، لذلك الصفة الجامعة المانعة في مَنْ يدعو إلى الله عزَّ وجل ألا تأخذه في الله لومة لائم .
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) .
 أكبر وسيلة فعَّالة فيالتربية أن تأمر ابنك بما تفعله لا بما لا تفعله :
 
ذكرت لكم من قبل : كيف أن الله عزَّ وجل استخدم الأسلوب التربوي الفَعَّال في الحديث عن أمراض بني إسرائيل ، مع أن هذه الأمراض في مُجْمَلِها قد تلبَّسنا بها ، فنحن مُعَرَّضون أن نصاب بأمراضهم تماماً ، حدَّثني شخص كطرفة ، قال لي : في أحد المعاهد الشرعية رجل له باع طويل في إلقاء الدروس ، ألقى درساً عن التواضع ببيان رائع ووصف دقيق جداً ، ولكنه بعد ما خرج من الدرس  كان جالساً بغرفة المدرِّسين بدرجة من الاستعلاء لا تُحْتَمَل !!! هو أتقن درس التواضع لكنَّه لم يتواضع ، الناس يتعلَّمون بعيونهم لا بآذانهم ، ماذا يرى ؟ يجب أن ترى التواضع ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال :
 (( ... وعليّ جمع الحطب ـ سيد الخلق ـ قالوا له : نكفيك ذلك ، قال : أعلم أنكم تكفونني ، ولكنَّ الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه )) .
[ ورد في الأثر ]
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) .
هذا الكلام موجَّه للآباء في الدرجة الأولى ، أكبر وسيلة فعَّالة في التربية أن تكون أنت قدوته ، أكبر وسيلة فعَّالة فيالتربية أن تأمر ابنك بما تفعله لا بما لا تفعله ، فبالتعليم إذا ضُبِطَ طالب يدخِّن يُعَاقب عقاباً شديداً ، وأستاذه يدخِّن أمامه ، وإذا دخَّن الطالب يعاقبه ، وهو المثل الأعلى ، أخطر شيء يفعله الآباء أنهم لا يطبِّقون توجيهاتهم ، إذاً سقطت الكلمة كقيمة ، الأنبياء جاءوا بالكلمة ، فإن لم تُطَبَّق سقطت هذه الكلمة ، وعندئذٍ لا جدوى منها ، والدليل يقولون لك : كلام بكلام ، وإذا تلاسن اثنان يقول لك : بلا فلسفة ، لأن الكلمة سقطت ، ولم يعد لها قيمة ، يمكن أن تتكلَّم كلاماً ليس له معنى ، وتتكلَّم كلاماً كلَّه كذب ، وتتكلّم كلاماً غير واقعي ، وتتكلَّم كلاماً لا تفعله أنت ، وتتكلَّم كلاماً أنت بعيدٌ عنه بعد الأرض عن السماء ، فالكلام حينما يبتعد عن الواقع وعن التطبيق لم يكن له قيمة ، لذلك الآن أزمَّة المسلمين في العالَم أن العالَم لا يقنع بالكلام ، أعطه مجتمعاً إسلامياً طُبِقَ فيه الإسلام وقُطِفَت ثماره كلها لكي يسلم ، يأتي الذين أسلموا من الكتب إلى الشرق الأوسط فيرون العكس ، يحمدون الله على أنهم أسلموا قبل أن يأتوا إلى هنا ، الإسلام بالكتب سهل ، كلام جميل ودقيق ، يأتي إلى هنا يجد أن هناك كذباً ، وانحرافاً ، وتقصيراً ، وازدواجيَّة ، و نِفاقاً .
 حينما يتصل الإنسان بالله تصطبغ نفسه بالكمال :
 
قال تعالى :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ (44)
المنهج بين أيديكم ، الكتاب بين أيديكم ، افعل ولا تفعل بين يديك في متناول كل إنسان ، الأمر والنهي سهل جداً :
﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (45) .
الآية دقيقة جداً ، حينما يتصل الإنسان بالله تصطبغ نفسه بالكمال ، يضعف الجهد في حمل النفس على طاعة الله ، صارت الاستقامة سهلة ، شخص نظيف جداً لا يحتاج إلى معاكسة لنفسه من أجل تنظيف جسمه ، هو نظيف ، يمارس النظافة مع راحةٍ نفسيَّة ، أما إذا كان بعيداً عن النظافة ، ويوجد عليه ضغط من أبيه أن غسِّل ، واعتنِ بنفسك ، صار عليه عبء شديد ، فالإنسان قبل أن يصل إلى الله عزَّ وجل ، أو قبل أن يصطبغ بصبغة الكمال يحتاج إلى صبر ، يحتاج إلى مجاهدة ، هناك مثل أوضح من ذلك :
إذا كان الإنسان قبل أن يتوب متعلِّقاً ببعض الأغنيات ، ثم هو تاب إلى الله وامتنع عن سماع الغناء كلِّياً ، لكن نفسه تتوق لهذه الأغنية ، فلو سمعها في مركبةٍ عامَّة تجاوب معها تجاوباً عجيباً ، هو لا يسمعها بقصد ، ولكنه سمعها عَرَضَاً ، لكن بعد حين ، بعد سنوات ، بعد أن تصطبغ نفسه بالكمال يحتقر هذه الأغنيات ، ويشمئز منها ، ويترفَّع عنها ، هذا الإنسان مرَّ بمرحلة المجاهدة يوم كانت نفسه بعيدةً عن مثله الأعلى ، ثم انتقل إلى مرحلة الانسجام يوم أصبح مصطبغاً بالكمال .
 إذا كان بينك وبين الكمال مسافة استعن بالله والصبر إلى أن تصل إليها :
 
ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (45) .
الاتصال بالله يكسبك الكمال وعندها لا تحتاج إلى مجاهدة كبيرة ، فالصادق الحليم فعلاً لا يحتاج إلى بذل جهد في الحلم ، أما الذي يتحلَّم ، " إنما العلم بالتعلُّم ، وإنما الحلم بالتحلُّم " ، يقول لك الذي يتصنَّع الحلم : كنت أغلي من داخلي كالمرجل ولكني ضبطت أعصابي ، هذا يتحلَّم ، وليس حليماً ، إذاً يوجد جهد كبير بالضبط ، ومعنى هذا هناك مسافة بينك وبين الكمال ، ولكنه أمر جيد على كل حال ، جيد جداً أن تحمل نفسك على الكمال عن طريق التصنُّع ، لكن بعد حين عندما تتصل بالله عزَّ وجل وتصطبغ النفس بالكمال صار الحلم عندك سهلاً جداً ، صار جزءاً من طبيعتك ، صار جزءاً من جبلَّتك ، فأنت حليم بحكم سجيَّتك الطيّبة الطاهرة ، الآية دقيقة ، فإذا كان بينك وبين الكمال مسافة استعن بالله والصبر إلى أن تصل إليها ، فإذا وصلت إليها يعينك اتصالك بالله عزَّ وجل المحكم على تطبيق هذا المنهج الكامل :
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ (45)
الصلاة كبيرة ، كبيرة على المنافق :
﴿ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى ﴾ .
( سورة التوبة : من آية " 54")
كبيرة عليه ، يصعب عليه أن يصلي ، قد يمضي ساعات طويلة في كلام فارغ أما أن يصلي التراويح فهي صعبة عليه ، لا يحتمل ، أنا والله أعرف أناساً في التراويح كأنهم في جنَّة ، في جنَّة من جنَّات القُرب ، واقف يستمع إلى القرآن الكريم وكأن الله يحدِّثنا ، قال : " إن أردت أن تحدِّث الله فادعه ، وإن أردت أن يحدِّثك الله فاقرأ القرآن " ، أنت حينما تقرأ القرآن أو تستمع إليه تشعر وكأن الله يحَدِّثك ، فالتراويح فيها راحة للنفس ، والفرق بين صلاة المنافق وصلاة المؤمن أن صلاة المنافق أرحنا منها ، والمؤمن أرحنا بها ، هذا هو الفرق بين (من) وبين (الباء) ، المنافق يقول : أرحنا منها ، والمؤمن يقول : أرحنا بها .
 
الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين :
 
قال تعالى :
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) .
الإنسان المتفلِّت يُطلق بصره في الحرام ، ماله حرام ، عمله سيِّئ ، فإذا وقف ليصلي تجد أنه محجوب عن الله عزَّ وجل ، فصلاته حركات ليس لها معنى بالنسبة له ، أحياناً تجد صلاة سريعة جداً غير معقولة إطلاقاً ، فالصلاة السريعة أو الصلاة التي لا يوجد فيها خشوع سببها الحجاب ، فإذا صلى الإنسان ولم يشعر بشيء ، قرأ القرآن ولـم يشعر بشيء ، ذكر الله ولم يشعر بشيء ، فعنده مشكلة كبيرة جداً ، إذا انقطع عند مريض خروج البول هذه ليست مشكلة عرضيَّة ولكنها علامة كبيرة جداً ، هذا عنده مشكلة ، عنده فشل كلوي وسيعاني معاناة كبيرة ، يوجد في الجسم أعراض يمكن أن يقول الناس : ليس فيها شيء ، مع أنها خطيرة جداً ، وتوجد أعراض مؤلمة ولكنَّها غير خطيرة ، فإذا صلى الإنسان ولم يشعر بقربه من الله عز وجل ، وقرأ القرآن لم يشعر أيضاً ، وذكر الله وما شعر بشيء ، فمشكلته كبيرة جداً ، أي أن الطريق مقطوع ، وهو واقع بحجاب شديد .
هذه الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين ، إذا تحرّى الإنسان الحلال فوجهه أبيض ، وخدم الخلق وأحسن إليهم وأنصفهم ، وما أكل مالاً حراماً ، وما ابتزَّ أموال الناس ، وما استغلَّ جهلهم فوجهه يبقى دائماً أبيضاً ، هناك نقطة لا ينتبه إليها أحد ، قد تكون شاطراً ، وقد تحقِّق نجاحاً  كبيراً جداً في الحياة بأساليب غير أخلاقيَّة ، وعندما يسلك الإنسان طريقاً غير أخلاقي يحدث عنده انهيار داخلي ، فتجد ردود فعله عنيفة جداً وغير متوازنة ، لأنه عندما خالف فطرته عذَّبته فصار عنده انهيار داخلي ، الذي يراعي راحة نفسه الأخلاقيَّة ، يراعي أنه منسجم تماماً مع نفسه هذا مؤمن ، فهذه الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين ، من هم هؤلاء الخاشعون ؟
 المفتاح الدقيق للآيـة أن تؤمن بالآخرة :
 
قال :
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ (46) .
كل عمل يعمله يتصوَّر أنه واقفٌ بين يدي الله عزَّ وجل ، لماذا فعلت كذا ؟ لماذا أعطيت ظلماً ؟ لماذا منعت ؟ لماذا طلَّقت ؟ لماذا غدرت ؟ لماذا كذبت ؟ لماذا احتلت ؟ لماذا اغتصبت هذا البيت ؟ لماذا لم تنصح فلاناً ؟ أما إذا كان كل يومه أخطاء ومعاصي وآثاماً فأي صلاة هذه ؟! نقول له  : صل ، ولكن استقم من أجل أن تتصل بالله عزَّ وجل :
﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
المفتاح الدقيق للآية أن تؤمن بالآخرة ، أن تؤمن أنه لا بد أن تقف بين يدي الله عزَّ وجل ليسألك : لـماذا فعلت هذا ؟ دخلت زوجة سـيدنا عمر بن عبد العزيز عليه وهو يبكي في مصلاَّه ، فقالت له : " ما يبكيك ؟ قال لها : " دعيني وشأني " ، ألحَّت عليه ما يبكيك؟ فلمَّا ألحَّت عليه قال : " يا فلانة إني نـظرت إلى الفقير البائس ، والشيخ الكبير ، وذي العـيال الكثير ، وابن الـسبيل ، والمرأة الأرملة ، والشيخ الفاني ـ ذكَّر أصنافاً من المعذَّبين في الأرض ـ كل هؤلاء سيسألني الله عنهم جميعاً ."
إذا تعثرت بغلة في العراق قال : " لو تعثَّرت بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عنها : " لمَ لمْ تُصْلِح لها الطريق يا عمر ؟ " ، عمر حاسب نفسه على بغلة تعثَّرت في العراق ، لِمَ لمْ يصلح لها الطريق .
 عندما تدخل الآخرة بحساباتك اليوميَّة تنعكس كل موازينك :
 
عندما يؤمن الإنسان بالآخرة يتصوَّر أنه سوف يُسأل عن كل عمل ، هذا الإنسان إذا صلَّى فصلاته مقبولة ، وصلاته مجدية ، وصلاته طيّبة ، وصلاته مسعدة لأن وجهه أبيض ، سأحضر مثالين واضحين : رجل في الحي محترم جداً ، يحتل أعلى منصب في الجيش فرضاً ، قائد فرقة ، وله ابن ، وعنده جندي غر التحق بالخدمة قبل يومين ، هذا الجندي الغر لا يستطيع أن يقابل لواء ولا في المنام ، توجد عنده مئة رتبة يقابلها قبله ؛ لو وجد هذا الجندي ابن هذا اللواء يغرق في مسبح وأنقذه ، وفي اليوم الثاني يدخل ويقابله بكل جرأة بلا استئذان ، يقول للحاجب : قل له فلان ويدخل على الفور لأنه عمل عملاً طيّباً ، العمل الطيب يلغي الروتين كلَّه ، يلغي طريق التسلسل المقابلات . أما لو كان ابنه معه باللعب وضربه ضرباً مبرِّحاً ، وعطبه ، وهو لا يعرف أنه ابن معلِّمه ، وعرف في اليوم التالي أنه ابن معلِّمه وقال له : تعال عندي ، كيف يدخل عنده في المكتب ؟ لا يستطيع أن يدخل عنده .
هذه القصَّة كلها ، قصة كل الخلق وعباد الله عزَّ وجل ، غشّهم ولكن الله حجبك عنه ، قد تبتز مالهم بأسلوب ذكي ، هناك ألف أسلوب ذكي لابتزاز الأموال ، ولكن الله كاشفك وأنت كاشف نفسك :
﴿ بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15).
 (سورة القيامة)
قد تصبح غنياً كبيراً بالكذب والاحتيال ، قد تبيع بيعة سيِّئة جداً بأعلى سعر ، قد تستغل جهل إنسان ، وقد تأكل مالاً بالحرام ، أعطى أحدهم لإنسان عشرين مليوناً ومات بحادث على الفور ، ولا أحد يعلم ، ولا توجد ورقة ، بعد حين سمع هذا الأخ الذي معه المبلغ درساً من الدروس في جامع العثمان عن الأمانة ، أرسل لي ورقة كتب فيها : والله رددت عشرين مليوناً لورثة صديق لي ، وهم لا يعلمون عنها شيئاً ، خاف من الله ، عندما تدخل الآخرة بحساباتك تنعكس كل موازينك ، عندما تدخل الآخرة بحساباتك اليوميَّة تنعكس كل موازينك ، أما إن لم تدخل الآخرة في حساباتك تعد نفسك ذكياً لو أكلت مالاً حراماً ، توجد ألف قصَّة ، مليون قصَّة ، إنسان اغتصب شركة ، واغتصب بيتاً ، يرى نفسه أنه ذكي ، وكِّل محامياً قوياً ، قدَّم وثيقة مزوَّرة ، ويعد نفسه بطلاً ، لأنه استطاع أن يغتصب ، ولكنه أمام الله عزَّ وجل محتقر ، لماذا يتصل المؤمن بالله ؟ لأنه لم يعمل شيئاً أبداً ، ينام على فراش وثير من استقامته ، أما المنافق ينام على شوك من ذنوبه وأخطائه .
 البطل الذي يحل مشكلته مع الله وليس مع عبد الله :
 
يوجد فندق في ألمانيا ذكرت عنه كثيراً مكتوب على السرير : " إذا لم تستطع النوم فالعلَّة ليست في فراشنا بل في ذنوبك " ، العلَّة بالذنوب ، إذا عمل الإنسان عملاً سيِّئاً ، كسب مالاً حراماً ، أخطأ مع فتاة ـ فرضاً ـ باع بيعة سيئة جداً بسعر عالٍ جداً ، إنه حلَّ مشكلته الماديَّة ولكن مشكلته مع الله لم تُحَل ، هو في انهيار .
قال له : " بعني هذه الشاة وخذ ثمنها " ، قال : " ليست لي " ، قال له : " خذ ثمنها " ، قال : " والله إني لفي أشدِّ الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لصاحبها : ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني ، فإني عنده صادقٌ أمين ، ولكن أين الله ؟!! "
توجد حالات كثيرة لاسيما عند أصحاب المصالح ، قد يحفر عشرة أمتار ويقول لك : حفرت أربعين متراً ، يضع القمصان أثناء غيابك ويعطيك حساباً عالياً ، هو حلَّ مشكلته الماديَّة ولكنه لم يحلَّها مع الله ؟ البطل الذي يحل مشكلته مع الله وليس مع عبد الله ، هنا :
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
إنك لن تستقيم إلا إذا آمنت باليوم الآخر ، إن أردت كلاماً دقيقاً ، واضحاً ، جلياً ، بسيطاً ، علمياً ، واقعيَّاً عن أسباب الاستقامة الحقيقية فهو إيمانك أن الله سيحاسبك تقول لي : ضمير ، هذا كلام فارغ ، وحينما تؤمن أن هناك حساباً لن تعصي الله أبداً ، وحينما تؤمن أن هناك حساباً وأن الله لا تخفى عليه خافية ، وأن الله سيسأل الناس جميعاً :
﴿ فَو َرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93).
(سورة الحجر)
انتهى الأمر ، قضية إيمان بالآخرة ، إيمان بأنك لا بد من أن تقف بين يدي الله عزَّ وجل ، ولا يخفى على الله شيء ، وسيعرض الله عليك كل أعمالك مصوَّرة ، المخالفة مع صورتها ، والصورة مسكتة ، تجاوز شخص القوانين فبعثوا له المخالفة فقال : أنا لم أكن في المكان الفلاني ، فعندما رأى الصورة ـ صورة سيَّارته ـ والتاريخ ، والسرعة ، الصورة مسكتة ، لذلك في الآخرة توجد صور المخالفات ، شريط :
﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً(49).
(سورة الكهف)
لماذا اتصلوا بالله ؟
﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
وفي درسٍ آخر إن شاء الله نتابع هذا الموضوع .
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب